الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَكِنْ يُقَالُ لَا رَيْبَ أَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْإِطْعَامَ الْمَعْرُوفَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَلِأَنَّ ذَاكَ إنَّمَا يُقَالُ إذَا ذَكَرَ الْمُطْعَمَ فَيُقَالُ أَطْعَمَهُ كَذَا، فَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ وَقِيلَ أَطْعَمَ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينَ، فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا نَفْسُ الْإِطْعَامِ، لَكِنْ لَمَّا كَانُوا يَأْكُلُونَ مَا يَأْخُذُونَهُ سُمِّيَ التَّمْلِيكُ لِلطَّعَامِ إطْعَامًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِطْعَامُ، أَمَّا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مَصْرِفًا غَيْرَ الْأَكْلِ فَهَذَا لَا يُسَمَّى إطْعَامًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.
[مَسْأَلَةٌ تَصَرُّفَاتِ السَّكْرَانِ]
835 -
4 مَسْأَلَةٌ: فِي تَصَرُّفَاتِ السَّكْرَانِ قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَفِيهِ النِّزَاعُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَجْوِبَةِ أَحْمَدَ فِيهِ كَانَ التَّوَقُّفُ وَالْأَقْوَالُ الْوَاقِعَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ تَصَرُّفَاتِهِ مُطْلَقًا أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ، وَالْقَوْلَ بِفَسَادِهَا مُطْلَقًا، وَالْفَرْقَ بَيْنَ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا، وَالْفَرْقَ بَيْنَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ وَمَا لَا يَنْفَرِدُ بِهِ، وَهَذَا التَّنَازُعُ مَوْجُودٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.
ثُمَّ تَنَازَعُوا فِيمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِغَيْرِ سُكْرٍ: كَالْبَنْجِ، هَلْ يُلْحَقُ بِالسَّكْرَانِ أَوْ الْمَجْنُونِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَكُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ يَتَمَسَّكُ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِ وَلَيْسَ عَنْهُ رِوَايَةٌ وَوَجْهٌ، بَلْ رِوَايَتَانِ مُتَأَوَّلَتَانِ.
وَتَنَازَعُوا فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ هَلْ يَأْثَمُ بِذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ كَالْخَلَّالِ مَنْ يَنْصُرُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقُهُ، وَمِنْهُمْ كَالْقَاضِي مَنْ يَنْصُرُ وُقُوعَ طَلَاقِهِ، وَاَلَّذِينَ أَوْقَعُوا طَلَاقَهُ لَهُمْ ثَلَاثَةُ مَآخِذَ.
أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُ، وَصَاحِبُ هَذَا قَدْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُعَاقِبْ أَحَدًا بِهَذَا الْجِنْسِ مِنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ أَوْ عَدَمِ إيقَاعِهِ. وَلِأَنَّ فِي هَذَا مِنْ الضَّرَرِ عَلَى زَوْجَتِهِ الْبَرِيئَةِ وَغَيْرِهَا مَا لَا يَجُوزُ.
فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ الشَّخْصُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ السَّكْرَانَ عُقُوبَتُهُ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْجَلْدِ وَنَحْوِهِ، فَعُقُوبَتُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِحُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا عَاقَبَتْهُ بِمَا السُّكْرُ مَظِنَّتُهُ وَهُوَ الْهَذَيَانُ وَالِافْتِرَاءُ فِي الْقَوْلِ، عَلَى أَنَّهُ إذَا سَكِرَ هَذَى،
وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ، فَبَيَّنَ أَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى السُّكْرِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الِافْتِرَاءِ يُلْحِقُهُ بِالْمُقْدِمِ عَلَى الِافْتِرَاءِ، وَإِقَامَةٌ لِمَظِنَّةِ الْحِكْمَةِ مَقَامَ الْحَقِيقِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ هُنَا خَفِيَّةٌ مُنْتَشِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُعْلَمُ افْتِرَاؤُهُ، وَلَا مَتَى يَفْتَرِي، وَلَا عَلَى مَنْ يَفْتَرِي. كَمَا أَنَّ الْمُضْطَجِعَ يُحْدِثُ وَلَا يَدْرِي هَلْ أَحْدَثَ أَمْ لَا، فَقَامَ النَّوْمُ مَقَامَ الْحَدَثِ، فَهَذَا فِقْهٌ مَعْرُوفٌ، فَلَوْ كَانَتْ تَصَرُّفَاتُهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَطْلُقَ امْرَأَتُهُ، سَوَاءٌ طَلَّقَ أَوْ لَمْ يُطَلِّقْ، كَمَا يُحَدُّ حَدَّ الْمُفْتَرِي، سَوَاءٌ افْتَرَى أَوْ لَمْ يَفْتَرِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ.
الْمَأْخَذُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ زَوَالُ عَقْلِهِ إلَّا بِقَوْلِهِ، وَهُوَ فَاسِقٌ بِشُرْبِهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ الْعَقْلِ وَالسُّكْرِ، وَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْبَاطِنِ، وَلَكِنْ فِي الظَّاهِرِ لَا يُقْبَلُ دَعْوَى الْمُسْقِطِ. وَمَنْ قَالَ هَذَا قَدْ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ.
الْمَأْخَذُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَأْخَذُ الْأَئِمَّةِ مَنْصُوصًا عَنْهُمْ، الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ أَنَّ حُكْمَ التَّكْلِيفِ جَارٍ عَلَيْهِ لَيْسَ كَالْمَجْنُونِ الْمَرْفُوعِ عَنْهُ الْقَلَمُ، وَلَا النَّائِمِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْ الْمَجْنُونِ، وَالسَّكْرَانُ مُعَاقَبٌ كَمَا ذَكَرَهُ الصَّحَابَةُ، وَلَيْسَ مَأْخَذٌ أَجْوَدَ مِنْ هَذَا.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ مَا قِيلَ فِيهِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ وَقْتَ السُّكْرِ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى، فَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا يَفْهَمُ الْخِطَابَ لَمْ يَدْرِ بِشَرْعٍ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى، بَلْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ تَنْفِي أَنْ يُخَاطَبَ مِثْلُ هَذَا، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ قَدْ يُؤَاخَذُ بِمَا يَفْعَلُهُ فِي سُكْرِهِ، فَهَذَا صَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّ هَذَا؛ خُوطِبَ فِي صَحْوِهِ، بِأَنْ لَا يَشْرَبَ الْخَمْرَ الَّذِي يَقْتَضِي تِلْكَ الْجِنَايَاتِ، فَإِذَا فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ، كَمَا قُلْت فِي سُكْرِ الْأَحْوَالِ الْبَاطِنَةِ إذَا كَانَ سَبَبُ السُّكْرِ مَحْذُورًا لَمْ يَكُنْ السَّكْرَانُ مَعْذُورًا. هَذَا الَّذِي قُلْته قَدْ يَقْتَضِي أَنَّهُ فِي الْحُدُودِ كَالصَّاحِي، وَهَذَا قَرِيبٌ، وَأَنَا إنَّمَا تَكَلَّمْت عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ صِحَّتِهَا وَفَسَادِهَا.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فَهُوَ نَهْيٌ لَهُمْ أَنْ
يَسْكَرُوا سُكْرًا يُفَوِّتُونَ بِهِ الصَّلَاةَ، أَوْ نَهْيٌ لَهُمْ عَنْ الشُّرْبِ قَرِيبَ الصَّلَاةِ أَوْ نَهْيٌ لِمَنْ يَدِبُّ فِيهِ أَوَائِلُ النَّشْوَةِ. وَأَمَّا فِي حَالِ السُّكْرِ فَلَا يُخَاطَبُ بِحَالٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِاسْتِنْكَاهِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ.
الثَّانِي: أَنَّ عِبَادَتَهُ كَالصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْ قُرْبِ الصَّلَاةِ مَعَ السُّكْرِ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقُولُهُ، وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى هَذَا بِخِلَافِ الشَّارِبِ غَيْرِ السَّكْرَانِ، فَإِنَّ عِبَادَتَهُ تَصِحُّ بِشُرُوطِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ صَلَاتَهُ إنَّمَا لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَنَقُولُ: كُلُّ مَنْ بَطَلَتْ عِبَادَتُهُ لِعَدَمِ عَقْلِهِ، فَبُطْلَانُ عُقُودِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى كَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهُ قَدْ تَصِحُّ عِبَادَاتُ مَنْ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ لِنَقْصِ عَقْلِهِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّ جَمِيعَ الْأَقْوَالِ وَالْعُقُودِ مَشْرُوطَةٌ بِوُجُودِ التَّمْيِيزِ وَالْعَقْلِ، فَمَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ وَلَا عَقْلَ لَيْسَ لِكَلَامِهِ فِي الشَّرْعِ اعْتِبَارٌ أَصْلًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» .
فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ قَدْ زَالَ عَقْلُهُ الَّذِي بِهِ يَتَكَلَّمُ وَيَتَصَرَّفُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، أَوْ إثْبَاتُ مِلْكٍ، أَوْ إزَالَةٌ؟ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ مَعَ تَقْرِيرِ الشَّارِعِ لَهُ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْعُقُودَ وَغَيْرَهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَشْرُوطَةٌ بِالْمَقْصُودِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَقَدْ قُرِّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي كِتَابِ: (بَيَانُ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ) وَقَرَّرَتْ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ لِسَهْوٍ وَسَبْقِ لِسَانٍ أَوْ عَدَمِ عَقْلٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ.
وَأَمَّا إذَا قُصِدَ اللَّفْظُ وَلَمْ يُقْصَدْ مَعْنَاهُ: كَالْهَازِلِ، فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ. وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْقَصْدِ: الْعَقْلُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْعَقْلِ، فَأَمَّا الْقَصْدُ الْحَيَوَانِيُّ
الَّذِي يَكُونُ لِكُلِّ حَيَوَانٍ، فَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي وُجُودِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَفْعَالِ، وَهَذَا وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ فِي صِحَّةِ الْعُقُودِ وَالْأَقْوَالِ، فَإِنَّ الْمَجْنُونَ وَالصَّبِيَّ وَغَيْرَهُمَا لَهُمَا هَذَا الْقَصْدُ كَمَا هُوَ لِلْبَهَائِمِ، وَمَعَ هَذَا فَأَصْوَاتُهُمْ وَأَلْفَاظُهُمْ بَاطِلَةٌ مَعَ عَدَمِ التَّمْيِيزِ، لَكِنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ وَالْمَجْنُونَ الَّذِي يُمَيِّزُ أَحْيَانَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ حِينَ التَّمْيِيزِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْأَخْبَارِ، لَا مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ السَّكْرَانِ مُعَاقَبًا، أَوْ غَيْرَ مُعَاقَبٍ، لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِصِحَّةِ عُقُودِهِ وَفَسَادِهَا، فَإِنَّ الْعُقُودَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُثَابُ عَلَيْهَا، وَلَا الْجِنَايَاتِ الَّتِي يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، بَلْ هِيَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ وُجُوبِ الْخُلُقِ، فَإِنَّ الْعُهُودَ وَالْوَفَاءَ بِهَا أَمْرٌ لَا يَتِمُّ مَصْلَحَةُ الْآدَمِيِّينَ إلَّا بِهَا، لِاحْتِيَاجِ بَعْضِ النَّاسِ إلَى بَعْضٍ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، وَإِنَّمَا تَصْدُرُ عَنْ الْعَقْلِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقْلٌ وَلَا تَمْيِيزٌ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَاهَدَ، وَلَا حَلَفَ، وَلَا بَاعَ، وَلَا نَكَحَ، وَلَا طَلَّقَ، وَلَا أَعْتَقَ.
يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَانَ كَلَامُ السَّكْرَانِ بَاطِلًا بِالِاتِّفَاقِ، وَلِهَذَا لَمَّا تَكَلَّمَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه فِي سُكْرِهِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ: وَهَلْ أَنْتُمْ إلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي، لَمْ يَكُنْ مُؤَاخَذٌ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ لَمَّا خَلَطَ الْمُخْلِطُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] قَبْلَ النَّهْيِ لَمْ يُعْتَبْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ لَوْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَعَاهَدُوا وَشَرَطُوا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَنْ سَكِرَ سُكْرًا لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يَشْرَبَ مَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُسْكِرُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَأَمَّا مَنْ سَكِرَ بِشُرْبٍ مُحَرَّمٍ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِذَلِكَ وَيَسْتَحِقُّ مِنْ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا جَاءَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى.
فَهَذَا الْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ سَكِرَ سُكْرًا يُعْذَرُ فِيهِ، فَأَمَّا كَوْنُ عَهْدِهِ الَّذِي يُعَاهِدُ بِهِ الْآدَمِيِّينَ مُنْعَقِدًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، وَيَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُهُ، فَهَذَا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ سُكْرِ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ؛ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا كَانَ الْمُوجِبُ لِصِحَّتِهِ أَنَّ صَاحِبَهُ فَعَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ مُمَيِّزٌ، لَا أَنَّهُ بَرٌّ وَفَاجِرٌ، وَالشَّرْعُ لَمْ يَجْعَلْ السَّكْرَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّاحِي أَصْلًا.