الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَفِي رِوَايَةٍ لِعَائِشَةَ «فَصَلُّوا حَتَّى يُفَرِّجَ اللَّهُ مَا بِكُمْ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَسْجِدِ، فَقَامَ وَكَبَّرَ وَصَفَّ النَّاسَ وَرَاءَهُ، فَاقْتَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِرَاءَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ ثُمَّ قَامَ فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً هِيَ أَدْنَى مِنْ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا هُوَ أَدْنَى مِنْ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى اسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَانْجَلَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ» .
وَقَدْ جَاءَ إطَالَتُهُ لِلسُّجُودِ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ، وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ، لَكِنْ رُوِيَ فِي الْقِرَاءَةِ الْمُخَافَتَةُ، وَالْجَهْرُ أَصَحُّ، وَأَمَّا تَطْوِيلُ السُّجُودِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ الْحَدِيثُ، لَكِنْ فِي كُلِّ حَدِيثٍ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ لَا تَخْتَلِفُ.
[مَسْأَلَةٌ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي عِلْم وَفِقْه أَبُو بكر وعمر]
1019 -
7 مَسْأَلَةٌ:
فِي رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما أَعْلَمُ وَأَفْقَهُ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَعْلَمُ وَأَفْقَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَصْوَبُ. وَهَلْ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ وَهُمَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«أَقْضَاكُمْ عَلَيَّ» ، وَقَوْلُهُ:«أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا» صَحِيحَانِ. وَإِذَا كَانَا صَحِيحَيْنِ هَلْ فِيهِمَا دَلِيلُ أَنَّ عَلِيًّا أَعْلَمُ وَأَفْقَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ -، وَإِذَا ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أَعْلَمُ وَأَفْقَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ - يَكُونُ مُحِقًّا أَوْ مُخْطِئًا.
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُعْتَبَرِينَ إنَّ عَلِيًّا أَعْلَمُ
وَأَفْقَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، بَلْ وَلَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَحْدَهُ. وَمُدَّعِي الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَكْذَبِهِمْ، بَلْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَعْلَمُ مِنْ عَلِيٍّ، مِنْهُمْ الْإِمَامُ مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّار السَّمْعَانِيُّ الْمَرْوَزِيِّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ " تَقْوِيمُ الْأَدِلَّةِ " عَلَى الْإِمَامِ إجْمَاعَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ مِنْ عَلِيٍّ، وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ، وَكَيْفَ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ كَانَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُفْتِي، وَيَأْمُرُ، وَيَنْهَى، وَيَقْضِي، وَيَخْطُبُ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا خَرَجَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ يَدْعُو النَّاسَ إلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمَّا هَاجَرَا جَمِيعًا وَيَوْمَ حُنَيْنٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَشَاهِدِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاكِتٌ يُقِرُّهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَرْضَى بِمَا يَقُولُ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ لِغَيْرِهِ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مُشَاوَرَتِهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالرَّأْيِ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَدِّمُ فِي الشُّورَى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَهُمَا اللَّذَانِ يَتَقَدَّمَانِ فِي الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ عَلَى سَائِرِ أَصْحَابِهِ، مِثْلُ قِصَّةِ مُشَاوَرَتِهِ فِي أَسْرَى بَدْرٍ. فَأَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَكَذَلِكَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمَا:«إذَا اتَّفَقْتُمَا عَلَى أَمْرٍ لَمْ أُخَالِفْكُمَا» وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُمَا حُجَّةً فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ.
وَفِي السُّنَنِ: عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» . وَلَمْ يَجْعَلْ هَذَا لِغَيْرِهِمَا، بَلْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ، وَخَصَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا، وَمَرْتَبَةُ الْمُقْتَدَى بِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَفِيمَا سَنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَوْقَ سُنَّةِ الْمُتَّبَعِ فِيمَا سَنَّهُ فَقَطْ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا مَعَهُ فِي سَفَرٍ فَقَالَ: إنْ يُطِعْ الْقَوْمُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا» .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِمَا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَفْتَى بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ. وَابْنُ عَبَّاسٍ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَأَعْلَمُ الصَّحَابَةِ وَأَفْقَهُهُمْ فِي زَمَانِهِ، وَهُوَ يُفْتِي بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، مُقَدِّمًا لِقَوْلِهِمَا عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» .
وَأَيْضًا فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما كَانَ اخْتِصَاصُهُمَا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوْقَ اخْتِصَاصِ غَيْرِهِمَا، وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ أَكْثَرَ اخْتِصَاصًا فَإِنَّهُ كَانَ يَسْمُرُ عِنْدَهُ عَامَّةَ اللَّيْلِ يُحَدِّثُهُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثِنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ «رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْمُرُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْأَمْرِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَا مَعَهُ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ «أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا نَاسًا فُقَرَاءَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ بِسَادِسٍ» . وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ، وَانْطَلَقَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَشَرَةِ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صَلَّيْتُ الْعِشَاءَ ثُمَّ رَجَعَ، فَلَبِثَ حَتَّى نَعَسَ رَسُولُ اللَّهِ فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَتْ امْرَأَتُهُ: مَا حَبَسَك عَنْ أَضْيَافِك؟ قَالَ أَوَ عَشَّيْتِهِمْ، قَالَتْ أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ الْعَشَاءَ فَغَلَبُوهُمْ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ يَتَحَدَّثُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى اللَّيْلِ. وَفِي سَفَرِ الْهِجْرَةِ لَمْ يَصْحَبْ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ، وَيَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ فِي الْعَرِيشِ
غَيْرُهُ، وَقَالَ:«إنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيْنَا فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا» . وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ فِي الصِّحَاحِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ «قَالَ: كُنْت جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ فَسَلَّمَ وَقَالَ: إنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْت إلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْت فَسَأَلْته أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ فَأَتَيْتُك، فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَك ثَلَاثًا» . ثُمَّ إنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَتَمَعَّرُ، وَغَضِبَ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ:«أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا» . قَالَ الْبُخَارِيُّ: غَامَرَ: سَبَقَ بِالْخَيْرِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُضِعَ عُمَرُ عَلَى سَرِيرِهِ فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ وَيُثْنُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ، وَأَنَا فِيهِمْ، فَلَمْ يَرُعْنِي إلَّا رَجُلٌ قَدْ أَخَذَ بِمَنْكِبِي مِنْ وَرَائِي، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ وَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ، وَقَالَ: مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ عز وجل بِعَمَلِهِ مِنْك، وَاَيْمُ اللَّهِ إنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَك اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْك، وَذَلِكَ أَنِّي كُنْتُ كَثِيرًا مَا أَسْمَعُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «يَقُولُ: جِئْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» ، فَإِنْ كُنْت أَرْجُو أَوْ أَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَك اللَّهُ مَعَهُمَا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: «أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ، لَمَّا أُصِيبَ
الْمُسْلِمُونَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ، أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ، أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُجِيبُوهُ. فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُجِيبُوهُ. فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ، أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ، أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُجِيبُوهُ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُمْ. فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ: كَذَبْتَ عَدُوَّ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لَأَحْيَاءٌ، وَقَدْ بَقِيَ لَك مَا يَسُوءُك» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَهَذَا أَمِيرُ الْكُفَّارِ فِي تِلْكَ الْحَالِ إنَّمَا سَأَلَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، دُونَ غَيْرِهِمْ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ رُءُوسُ الْمُسْلِمِينَ: النَّبِيُّ وَوَزِيرَاهُ. وَلِهَذَا سَأَلَ الرَّشِيدُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ مَنْزِلَتِهِمَا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ، فَقَالَ: مَنْزِلَتُهُمَا فِي حَيَاتِهِ كَمَنْزِلَتِهِمَا مِنْهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ. وَكَثْرَةُ الِاخْتِصَاصِ وَالصُّحْبَةِ مَعَ كَمَالِ الْمَوَدَّةِ وَالِائْتِلَافِ وَالْمَحَبَّةُ وَالْمُشَارَكَةُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ تَقْتَضِي أَنَّهُمَا أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمَا.
وَهَذَا ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لِمَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِأَحْوَالِ الْقَوْمِ. أَمَّا الصِّدِّيقُ فَإِنَّهُ مَعَ قِيَامِهِ بِأُمُورٍ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ عَجَزَ عَنْهَا غَيْرُهُ حَتَّى بَيَّنَهَا لَهُمْ لَمْ يُحْفَظْ لَهُ قَوْلٌ مُخَالِفٌ نَصًّا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْبَرَاعَةِ. وَأَمَّا غَيْرُهُ فَحَفِظَتْ لَهُ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ خَالَفَتْ النَّصَّ، لَكِنَّ تِلْكَ النُّصُوصَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، وَاَلَّذِي وُجِدَ مِنْ مُوَافَقَةِ عُمَرَ لِلنُّصُوصِ أَكْثَرُ مِنْ مُوَافَقَةِ عَلِيٍّ، وَهَذَا يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَ مَسَائِلَ الْعِلْمِ وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ: نَفَقَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَإِنَّ قَوْلَ عُمَرَ هُوَ الَّذِي وَافَقَ النَّصَّ، دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْحَرَامِ قَوْلُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ فِيهَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِالنُّصُوصِ مِنْ الْقَوْلِ الْآخَرِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت كَأَنِّي أُتِيَتْ بِقَدَحٍ لَبَنٌ فَشَرِبْت حَتَّى إنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ مِنْ أَظْفَارِي، ثُمَّ نَاوَلْتُ فَضْلِي عُمَرَ، فَقَالُوا: مَا أَوَّلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْعِلْمُ» . وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ عُمَرَ» .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الصِّدِّيقَ اسْتَخْلَفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى إقَامَةِ الْمَنَاسِكِ الَّتِي لَيْسَ فِي مَسَائِلِ الْعِبَادَاتِ أَشَكْلُ مِنْهَا، وَأَقَامَ الْمَنَاسِكَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَادَى:«أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» فَأَرْدَفَهُ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، لِيَنْبِذَ الْعَهْدَ إلَى الْمُشْرِكِينَ فَلَمَّا لَحِقَهُ قَالَ: أَمِيرًا أَوْ مَأْمُورًا؟ قَالَ: بَلْ مَأْمُورًا. فَأَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَكَانَ عَلِيٌّ مِمَّنْ أَمَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْمَعَ وَيُطِيعَ فِي الْحَجِّ وَأَحْكَامِ الْمُسَافِرِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ هَذَا بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ الَّذِي اسْتَخْلَفَ عَلِيًّا فِيهَا عَلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الرِّجَالِ إلَّا مُنَافِقٌ أَوْ مَعْذُورٌ أَوْ مُذْنِبٌ فَلَحِقَهُ عَلِيٌّ فَقَالَ أَتَخْلُفُنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَقَالَ:«أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى» .
بَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْتِخْلَافَ عَلِيٍّ عَلَى الْمَدِينَةِ لَا يَقْتَضِي نَقْصَ الْمَرْتَبَةِ، فَإِنَّ مُوسَى قَدْ اسْتَخْلَفَ هَارُونَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَائِمًا يَسْتَخْلِفُ رِجَالًا، لَكِنْ كَانَ يَكُونُ بِهَا رِجَالٌ. وَعَامَ تَبُوكَ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْغَزَاةِ لِأَنَّ الْعَدُوَّ كَانَ شَدِيدًا، وَالسَّفَرُ بَعِيدًا، وَفِيهَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ بَرَاءَةٌ. وَكِتَابُ أَبِي بَكْرٍ فِي الصَّدَقَاتِ آخِرُ الْكُتُبِ وَأَوْجَزُهَا، وَلِهَذَا عَمِلَ بِهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ، وَكِتَابُ غَيْرِهِ فِيهِ مَا هُوَ مُتَقَدِّمٌ مَنْسُوخٌ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عُلِمَ بِالسُّنَّةِ النَّاسِخَةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَيْضًا فَالصَّحَابَةُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يَكُونُوا يَتَنَازَعُونَ فِي مَسْأَلَةٍ إلَّا فَصَّلَهَا بَيْنَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَارْتَفَعَ النِّزَاعُ، فَلَا يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ فِي زَمَانِهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ تَنَازَعُوا فِيهَا إلَّا ارْتَفَعَ النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِهِ كَتَنَازُعِهِمْ فِي وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَدْفِنِهِ وَفِي مِيرَاثِهِ، وَفِي تَجْهِيزِ جَيْشِ أُسَامَةَ، وَقِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْكِبَارِ، بَلْ كَانَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ يُعَلِّمُهُمْ وَيُقَوِّمُهُمْ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا تَزُولُ مَعَهُ الشُّبْهَةُ. فَلَمْ يَكُونُوا مَعَهُ يَخْتَلِفُونَ. وَبَعْدَهُ لَمْ يَبْلُغْ عِلْمُ أَحَدٍ وَكَمَالُهُ عِلْمَ أَبِي بَكْرٍ وَكَمَالَهُ. فَصَارُوا يَتَنَازَعُونَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ كَمَا تَنَازَعُوا فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، وَفِي الْحَرَامِ، وَفِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَعْرُوفَةِ مِمَّا لَمْ يَكُونُوا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ.
وَكَانُوا يُخَالِفُونَ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا فِي كَثِيرٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، وَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُمْ خَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ فِي شَيْءٍ مِمَّا كَانَ يُفْتِي فِيهِ وَيَقْضِي، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْعِلْمِ، وَقَامَ مَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَقَامَ الْإِسْلَامَ، فَلَمْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْهُ، بَلْ دَخَلَ النَّاسُ مِنْ الْبَابِ الَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ مَعَ كَثْرَةِ الْمُخَالِفِينَ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَكَثْرَةِ الْخَاذِلِينَ، فَكُلُّ بِهِ مِنْ عِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ مَا لَا يُقَاوِمُهُ فِيهِ أَحَدٌ حَتَّى قَامَ الدِّينُ كَمَا كَانَ. وَكَانُوا يُسَمُّونَ أَبَا بَكْرٍ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بَعْدَ هَذَا سَمَّوْا عُمَرَ وَغَيْرَهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ: ظَهَرَ قَوْلُهُ: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] فِي أَبِي بَكْرٍ فِي اللَّفْظِ كَمَا ظَهَرَ فِي الْمَعْنَى، فَكَانُوا يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ، ثُمَّ انْقَطَعَ هَذَا الِاتِّصَالُ اللَّفْظِيُّ بِمَوْتِهِ، فَلَمْ يَقُولُوا لِمَنْ بَعْدَهُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ. وَأَيْضًا فَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ تَعَلَّمَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ بَعْضَ السُّنَّةِ، بِخِلَافِ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي فِي السُّنَنِ: حَدِيثُ صَلَاةِ التَّوْبَةِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «كُنْتُ إذَا سَمِعْت مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا يَنْفَعُنِي اللَّهُ مِنْهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي، فَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْته، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْته، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» .
وَمِمَّا يُبَيِّنُ لَك هَذَا أَنَّ أَئِمَّةَ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ الَّذِينَ صَحِبُوا عُمَرَ وَعَلِيًّا: كَعَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدِ، وَشُرَيْحٍ الْقَاضِي، وَغَيْرِهِمْ كَانُوا يُرَجِّحُونَ قَوْلَ عُمَرَ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ.
وَأَمَّا تَابِعُو أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ، فَهَذَا عِنْدَهُمْ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، وَإِنَّمَا الْكُوفَةُ ظَهَرَ فِيهَا فِقْهُ عَلِيٍّ وَعِلْمُهُ بِحَسَبِ مُقَامِهِ فِيهَا مُدَّةَ خِلَافَتِهِ، وَكُلُّ شِيعَةِ عَلِيٍّ الَّذِينَ صَحِبُوهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَدَّمَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، لَا فِي فِقْهٍ وَلَا عِلْمٍ وَلَا غَيْرِهِمَا، بَلْ كُلُّ شِيعَتِهِ الَّذِينَ قَاتَلُوا مَعَهُ عَدُوَّهُ كَانُوا مَعَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ يُقَدِّمُونَ أَبَا بَكْرٍ، إلَّا طَائِفَةٌ غَلَتْ فِيهِ كَاَلَّتِي ادَّعَتْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ، وَهَؤُلَاءِ حَرَّقَهُمْ عَلِيٌّ بِالنَّارِ، وَطَائِفَةٌ كَانَتْ تَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ، وَكَانَ رَأْسُهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَأٍ، فَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا ذَلِكَ طَلَبَ قَتْلَهُ فَهَرَبَ، وَطَائِفَةٌ كَانَتْ تُفَضِّلُهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، قَالَ: لَا يَبْلُغُنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ أَنَّهُ فَضَّلَنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْتُهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا وَأَكْثَرَ أَنَّهُ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ: خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، مِنْ رِوَايَةِ رِجَالِ هَمْدَانَ خَاصَّةً الَّتِي يَقُولُ فِيهَا عَلِيٌّ:
وَلَوْ كُنْت بَوَّابًا عَلَى بَابِ جَنَّةٍ
…
لَقُلْت لِهَمْدَانَ اُدْخُلِي بِسَلَامِ
مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ وَكِلَاهُمَا مِنْ هَمْدَانَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ. قَالَ: ثِنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ثِنَا جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ ثِنَا أَبُو يَعْلَى مُنْذِرٌ الثَّوْرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ قُلْت لِأَبِي: يَا أَبَتِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا بُنَيَّ أَوَمَا تَعْرِفُ؟ فَقُلْت: لَا، فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ، وَهَذَا يَقُولُهُ لِابْنِهِ الَّذِي لَا يَتَّقِيه وَلِخَاصَّتِهِ، وَيَتَقَدَّمُ بِعُقُوبَةِ مَنْ يُفَضِّلُهُ عَلَيْهِمَا. وَالْمُتَوَاضِعُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِعُقُوبَةِ كُلِّ مَنْ قَالَ الْحَقَّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُفْتَرِيًا وَرَأْسُ الْفَضَائِلِ الْعِلْمُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُ.
قَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] . وَالدَّلَائِلُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: «أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ» فَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَلَا أَهْلِ الْمَسَانِيدِ الْمَشْهُورَةِ لَا أَحْمَدُ وَلَا غَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ، وَإِنَّمَا يُرْوَى مِنْ طَرِيقِ مَنْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ، وَلَكِنْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أُبَيٌّ أَقْرَؤُنَا، وَعَلِيٌّ أَقْضَانَا وَهَذَا قَالَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي بَكْرٍ. وَاَلَّذِي فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَعْلَمُ أُمَّتِي بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَعْلَمُهَا بِالْفَرَائِضِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ» وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ عَلِيٍّ.
وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ عَلِيٍّ مَعَ ضَعْفِهِ فِيهِ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَعْلَمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَعْلَمُ بِالْفَرَائِضِ، فَلَوْ قُدِّرَ صِحَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ لَكَانَ الْأَعْلَمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَوْسَعَ عِلْمًا مِنْ الْأَعْلَمِ بِالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْقَضَاءِ، إنَّمَا هُوَ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ فِي الظَّاهِرِ، مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْبَاطِنُ بِخِلَافِهِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» . فَقَدْ أَخْبَرَ سَيِّدُ الْقُضَاةِ أَنَّ قَضَاءَهُ لَا يُحِلُّ الْحَرَامَ، بَلْ يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَ بِقَضَائِهِ مَا قُضِيَ لَهُ بِهِ مِنْ حَقِّ الْغَيْرِ، وَعِلْمُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ يَتَنَاوَلُ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ، فَكَانَ الْأَعْلَمُ بِهِ أَعْلَمَ بِالدِّينِ. وَأَيْضًا فَالْقَضَاءُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْحُكْمُ عِنْدَ تَجَاحُدِ الْخَصْمَيْنِ مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا أَمْرًا يُكَذِّبُهُ الْآخَرُ فِيهِ، فَيَحْكُمُ فِيهِ بِالْبَيِّنَةِ وَنَحْوِهَا.
وَالثَّانِي: مَا لَا يَتَجَاحَدَانِ فِيهِ يَتَصَادَقَانِ، وَلَكِنْ لَا يَعْلَمَانِ مَا يَسْتَحِقُّ كُلٌّ مِنْهُمَا كَتَنَازُعِهِمَا فِي قَسْمِ فَرِيضَةٍ، أَوْ فِيمَا يَجِبُ لِكُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، أَوْ فِيمَا
يَسْتَحِقُّهُ كُلٌّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا الْبَابُ هُوَ مِنْ أَبْوَابِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَإِذَا أَفْتَاهُمَا مَنْ يَرْضَيَانِ بِقَوْلِهِ كَفَاهُمَا ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْتَاجَا إلَى مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يَحْتَاجَانِ إلَى حَاكِمٍ عِنْدَ التَّجَاحُدِ، وَذَاكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَغْلَبِ مَعَ الْفُجُورِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ النِّسْيَانِ، فَأَمَّا الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فَيَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَمَا يَخْتَصُّ بِالْقَضَاءِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ الْأَبْرَارِ.
وَلِهَذَا لَمَّا أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ النَّاسِ مَكَثَ حَوْلًا لَمْ يَتَحَاكَمْ اثْنَانِ فِي شَيْءٍ، وَلَوْ عُدَّ مَجْمُوعُ مَا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذَا النَّوْعِ لَمْ يَبْلُغْ عَشْرَ حُكُومَاتٍ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ كَلَامِهِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. الَّذِي هُوَ قِوَامُ دِينِ الْإِسْلَامِ. يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ.
وَقَوْلُهُ: «أَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» أَقْرَبُ إلَى الصِّحَّةِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ: «أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ» لَوْ كَانَ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ أَصَحَّ إسْنَادًا وَأَظْهَرَ دَلَالَةً عُلِمَ أَنَّ الْمُحْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا أَعْلَمُ مِنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ جَاهِلٌ، فَكَيْفَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ اللَّذَيْنِ هُمَا أَعْلَمُ مِنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ مُعَاذٍ وَزَيْدٍ يُضَعِّفُهُ بَعْضُهُمْ وَيُحَسِّنُهُ بَعْضُهُمْ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ «مَدِينَةِ الْعِلْمِ» فَأَضْعَفُ وَأَوْهَى، وَلِهَذَا إنَّمَا يُعَدُّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ الْمَكْذُوبَاتِ، وَإِنْ كَانَ التِّرْمِذِيُّ قَدْ رَوَاهُ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ "، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ مِنْ سَائِرِ طُرُقِهِ، وَالْكَذِبُ يُعْرَفُ مِنْ نَفْسِ مَتْنِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ فِي إسْنَادِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إذَا كَانَ مَدِينَةَ الْعِلْمَ، لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْمَدِينَةِ إلَّا بَابٌ وَاحِدٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَلِّغُ عَنْهُ وَاحِدًا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَلِّغُ عَنْهُ أَهْلُ التَّوَاتُرِ الَّذِينَ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ لِلْغَائِبِ، وَرِوَايَةُ الْوَاحِدِ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ إلَّا مَعَ قَرَائِنَ، وَتِلْكَ الْقَرَائِنُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُنْتَفِيَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ خَفِيَّةً عَنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ، فَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ الْعِلْمُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِخِلَافِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ. وَهَذَا الْحَدِيثُ إنَّمَا افْتَرَاهُ زِنْدِيقٌ أَوْ جَاهِلٌ ظَنَّهُ مَدْحًا، وَهُوَ مَطْرَقُ الزَّنَادِقَةِ إلَى الْقَدْحِ فِي عِلْمِ الدِّينِ إذَا لَمْ يُبَلِّغْهُ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ.
ثُمَّ إنَّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالتَّوَاتُرِ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ بَلَغَهُمْ الْعِلْمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ عَلِيٍّ رضي الله عنه. أَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ فَالْأَمْرُ فِيهِمْ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا يَرْوُونَ عَنْ عَلِيٍّ إلَّا شَيْئًا قَلِيلًا، وَإِنَّمَا غَالِبُهُ كَانَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ كَانُوا تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَلَّى عُثْمَانُ فَضْلًا عَنْ خِلَافَةِ عَلِيٍّ، وَكَانَ أَفْقَهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَعْلَمُهُمْ تَعَلَّمُوا الدِّينَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَقَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا إلَّا مَنْ تَعَلَّمَ مِنْهُ لَمَّا كَانَ بِالْيَمَنِ، كَمَا تَعَلَّمُوا حِينَئِذٍ مِنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. وَكَانَ مُقَامُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ وَتَعْلِيمُهُ لَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ مُقَامِ عَلِيٍّ وَتَعْلِيمِهِ.
وَلِهَذَا رَوَى أَهْلُ الْيَمَنِ عَنْ مُعَاذٍ أَكْثَرَ مِمَّا رَوَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ. وَشُرَيْحٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ إنَّمَا تَفَقَّهُوا عَلَى مُعَاذٍ. وَلَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ الْكُوفَةِ كَانَ شُرَيْحٌ قَاضِيًا فِيهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَعَلِيٌّ وَجَدَ عَلَى الْقَضَاءِ فِي خِلَافَتِهِ شُرَيْحًا وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيَّ وَكِلَاهُمَا تَفَقَّهَ عَلَى غَيْرِهِ. فَإِذَا كَانَ عِلْمُ الْإِسْلَامِ انْتَشَرَ فِي مَدَائِنِ الْإِسْلَامِ بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ إلَى الْكُوفَةِ، لَمَا صَارَ إلَى الْكُوفَةِ عَامَّةُ مَا بَلَغَهُ مِنْ الْعِلْمِ بَلَّغَهُ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَخْتَصَّ عَلِيٌّ بِتَبْلِيغِ شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا وَقَدْ اخْتَصَّ غَيْرُهُ بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ، فَالتَّبْلِيغُ الْعَامُّ الْحَاصِلُ بِالْوِلَايَةِ حَصَلَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِمَّا حَصَلَ لِعَلِيٍّ.
وَأَمَّا الْخَاصُّ فَابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ أَكْثَرَ فُتْيَا مِنْهُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَكْثَرُ رِوَايَةً مِنْهُ، وَعَلِيٌّ أَعْلَمَ مِنْهُمَا كَمَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ أَعْلَمُ مِنْهُمَا أَيْضًا، فَإِنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ قَامُوا مِنْ تَبْلِيغِ الْعِلْمِ الْعَامِّ بِمَا كَانَ النَّاسُ أَحْوَجَ إلَيْهِ مِمَّا بَلَغَهُ مَنْ بَلَغَ بَعْضُ الْعِلْمِ الْخَاصِّ.
وَأَمَّا مَا يَرْوِيه أَهْلُ الْكَذِبِ وَالْجَهْلِ مِنْ اخْتِصَاصِ عَلِيٍّ بِعِلْمٍ انْفَرَدَ بِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ فَكُلُّهُ بَاطِلٌ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ؟ فَقَالَ: لَا وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيه اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَكَانَ فِيهَا عُقُولُ الدِّيَاتِ، أَيْ أَسْنَانُ الْإِبِلِ الَّتِي تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ، وَفِيهَا فِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَفِيهَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ.