الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ: لَيْسَتْ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ. وَالْجَهْمِيَّةُ نُفَاةُ الصِّفَاتِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا حَيَاةَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْمُتَفَلْسِفَةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ.
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: هُمَا صِنْفَانِ، فَاحْذَرْهُمَا: الْجَهْمِيَّةُ وَالرَّافِضَةُ.
فَهَذَانِ الصِّنْفَانِ شِرَارُ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَمِنْهُمْ دَخَلَتْ الْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ كَالنُّصَيْرِيَّةِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيَّة، وَمِنْهُمْ اتَّصَلَتْ الِاتِّحَادِيَّةُ، فَإِنَّهُمْ مِنْ جِنْسِ الطَّائِفَةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ.
وَالرَّافِضَةُ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ مَعَ الرَّفْضِ جَهْمِيَّةٌ قَدَرِيَّةٌ، فَإِنَّهُمْ ضَمُّوا إلَى الرَّفْضِ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ، ثُمَّ قَدْ يَخْرُجُونَ إلَى مَذْهَبِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالِاتِّحَادِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ الْأَقْضِيَة هَلْ هِيَ مُقْتَضِيَةُ الْحِكْمَةِ أَمْ لَا]
833 -
2 - مَسْأَلَةٌ:
فِي الْأَقْضِيَةِ، هَلْ هِيَ مُقْتَضِيَةُ الْحِكْمَةِ أَمْ لَا؟ فَإِذَا كَانَتْ مُقْتَضِيَةَ الْحِكْمَةِ أَرَادَ رَبُّك مِنْ النَّاسِ مَا هُمْ فَاعِلُوهُ. وُجُوبُ الْقَدَرِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَدْ أَحَاطَ رَبُّنَا سبحانه وتعالى بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَقُدْرَةً وَحُكْمًا، وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، فَمَا مِنْ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي إلَّا وَهُوَ شَاهِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِتَمَامِ الْعِلْمِ وَالرَّحْمَةِ. وَكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ. وَمَا خَلَقَ الْخَلْقَ بَاطِلًا وَلَا فَعَلَ شَيْئًا عَبَثًا، بَلْ هُوَ الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ سبحانه وتعالى، ثُمَّ مِنْ حِكْمَتِهِ مَا أَطْلَعَ خَلْقَهُ بَعْضَهُمْ - وَمِنْهُ مَا اسْتَأْثَرَ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِهِ.
وَإِرَادَتُهُ قِسْمَانِ: إرَادَةُ أَمْرٍ وَتَشْرِيعٍ، وَإِرَادَةُ قَضَاءٍ وَتَقْدِيرٍ.
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالطَّاعَاتِ دُونَ الْمَعَاصِي، سَوَاءٌ وَقَعَتْ أَوْ لَمْ تَقَعْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 26] وَقَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ إرَادَةُ التَّقْدِيرِ فَهِيَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، مُحِيطَةٌ بِجَمِيعِ الْحَادِثَاتِ، وَقَدْ أَرَادَ مِنْ الْعَالِمِ مَا هُمْ فَاعِلُوهُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] وَفِي قَوْلِهِ: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ} [هود: 34] .
وَفِي قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.
وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ تَتَنَاوَلُ مَا حَدَثَ مِنْ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي دُونَ مَا لَمْ يَحْدُثْ، كَمَا أَنَّ الْأُولَى تَتَنَاوَلُ الطَّاعَاتِ، حَدَثَتْ أَوْ لَمْ تَحْدُثْ، وَالسَّعِيدُ مَنْ أَرَادَ مِنْهُ تَشْرِيعًا مَا أَرَادَ بِهِ تَقْدِيرًا. وَالْعَبْدُ الشَّقِيُّ مَنْ أَرَادَ بِهِ تَقْدِيرًا مَا أَرَادَ بِهِ تَشْرِيعًا، وَالْحُكْمُ يَجْرِي عَلَى وَفْقِ هَاتَيْنِ الْإِرَادَتَيْنِ.
فَمَنْ نَظَرَ إلَى الْأَعْمَالِ بِهَاتَيْنِ الْعَيْنَيْنِ كَانَ بَصِيرًا، وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْقَدَرِ دُونَ الشَّرْعِ، أَوْ الشَّرْعِ دُونَ الْقَدَرِ، كَانَ أَعْوَرَ، مِثْلَ قُرَيْشٍ الَّذِينَ قَالُوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا أَنَّ كُلَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وُجُودَهُ وَكَوْنَهُ، وَهِيَ الْإِرَادَةُ الْقَدَرِيَّةُ، فَقَدْ أَمَرَ بِهِ وَرَضِيَهُ دُونَ الْإِرَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ ثُمَّ رَأَوْا أَنَّ شِرْكَهُمْ بِغَيْرِ شَرْعٍ مِمَّا قَدْ شَاءَ اللَّهُ وُجُودَهُ، قَالُوا فَيَكُونُ قَدْ رَضِيَهُ وَأَمَرَ بِهِ، قَالَ اللَّهُ: هَكَذَا كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِالشَّرَائِعِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا، قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا بِأَنَّ اللَّهَ شَرَعَ الشِّرْكَ وَتَحْرِيمَ مَا حَرَّمْتُوهُ، إنْ تَتَّبِعُونَ فِي هَذَا إلَّا الظَّنَّ، وَهُوَ تَوَهُّمُكُمْ أَنَّ كُلَّ مَا قَدَّرَهُ فَقَدْ شَرَّعَهُ، وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ، أَيْ تَكْذِبُونَ وَتَفْرُونَ بِإِبْطَالِ شَرِيعَتِهِ. {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] عَلَى خَلْقِهِ حِينَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إلَيْهِمْ فَدَعَوْهُمْ إلَى تَوْحِيدِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَمَعَ هَذَا فَلَوْ شَاءَ هَدَى الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ إلَى مُتَابَعَةِ شَرِيعَتِهِ، لَكِنَّهُ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَيَهْدِيهِ فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا، وَيَحْرِمُ مَنْ يَشَاءُ؛ لِأَنَّ الْمُتَفَضِّلَ لَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ وَلَهُ أَنْ لَا يَتَفَضَّلَ، فَتَرْكُ تَفَضُّلِهِ عَلَى، مَنْ حَرَمَهُ عَدْلٌ مِنْهُ وَقِسْطٌ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَهُوَ يُعَاقِبُ الْخَلْقَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَإِرَادَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَإِرَادَتُهُ الْقَدَرِيَّةُ، فَإِنَّ الْقَدَرَ كَمَا جَرَى بِالْمَعْصِيَةِ جَرَى أَيْضًا بِعِقَابِهَا، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ يُقَدِّرُ عَلَى الْعَبْدِ أَمْرَاضًا تُعْقِبُهُ آلَامًا فَالْمَرَضُ بِقَدَرِهِ وَالْأَلَمُ بِقَدَرِهِ.
فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: قَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِرَادَةُ بِالذَّنْبِ فَلَا أُعَاقَبُ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْمَرِيضِ: قَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِرَادَةُ بِالْمَرَضِ فَلَا أَتَأَلَّمُ، أَوْ قَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِرَادَةُ بِأَكْلِ الْحَارِّ فَلَا يُحَمُّ مِزَاجِي، أَوْ قَدْ تَقَدَّمَتْ بِالضَّرْبِ فَلَا يَتَأَلَّمُ الْمَضْرُوبُ، وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ جَهْلٌ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ، بَلْ اعْتِلَالُهُ بِالْقَدَرِ ذَنْبٌ ثَانٍ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا اعْتَلَّ بِالْقَدَرِ إبْلِيسُ حَيْثُ قَالَ:{بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [الحجر: 39] .
وَأَمَّا آدَم فَقَالَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] .
فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ سَعَادَتَهُ أَلْهَمَهُ أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ آدَم، أَوْ نَحْوُهُ، وَمَنْ أَرَادَ شَقَاوَتَهُ اعْتَلَّ بِعِلَّةِ إبْلِيسَ، أَوْ نَحْوِهَا، فَيَكُونُ كَالْمُسْتَجِيرِ مِنْ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ.
وَمَثَلُهُ مَثَلُ رَجُلٍ طَارَ إلَى دَارِهِ شَرَارَةُ نَارٍ، فَقَالَ لَهُ الْعُقَلَاءُ: أَطْفِئْهَا لِئَلَّا تَحْرِقَ