المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل القاعدة الثانية في العقود حلالها وحرامها] - الفتاوى الكبرى لابن تيمية - جـ ٤

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الْبُيُوعِ] [

- ‌قَوَاعِدُ فِي الْعُقُودِ] [

- ‌الْقَاعِدَة الْأُولَى صِفَةُ الْعُقُودِ]

- ‌[فَصْلٌ الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْعُقُودِ حَلَالِهَا وَحَرَامِهَا]

- ‌[الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوط فِيهَا فِيمَا يَحِلُّ مِنْهَا وَيَحْرُمُ]

- ‌[الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ الشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْعَقْدِ]

- ‌[الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ]

- ‌[فَصَلِّ نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ]

- ‌[فَصَلِّ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ]

- ‌[فَصَلِّ مُوجِبُ نَذْرِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ]

- ‌[قَاعِدَةٌ فِي الْوَقْفِ الَّذِي يُشْتَرَى بِعِوَضِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ]

- ‌[قَاعِدَةٌ فِيمَا يَشْتَرِطُ النَّاسُ فِي الْوَقْفِ]

- ‌[الْمَسَائِلُ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ شِرَاء الْجِفَان لِعَصِيرِ الزَّيْتِ أَوْ لِلْوَقِيدِ أَوْ لَهُمَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مُسْلِمٌ مِنْ ذِمِّيٍّ عَقَارًا ثُمَّ رَمَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مُقَرّ عَلَى وَظِيفَةٍ سَافَرَ وَاسْتَنَابَ شَخْصًا]

- ‌[بَابُ اللُّقَطَةِ] [

- ‌مَسْأَلَةٌ وَجَدَ لُقَطَةً وَعَرَّفَ بِهَا بَعْضَ النَّاسِ سِرًّا أَيَّامًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حُجَّاج الْتَقَوْا مَعَ عَرَبٍ قَدْ قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى النَّاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ سَفِينَة غَرِقَتْ فِي الْبَحْرِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حُكْم مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَقِيَ لَقِيَّةً فِي وَسَطِ فَلَاةٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَجَدَ طِفْلًا وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَجَدَ فَرَسًا لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ]

- ‌[بَابُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْعَطَايَا وَالْهَدَايَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَقْطَعَ فَدَّانَ طِينٍ وَتَرَكَهُ بِدِيوَانِ الْأَحْبَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي الرَّجُلِ يَهَبُ الرَّجُلَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَتْ زَوْجَتُهُ وَخَلَّفَتْ أَوْلَادًا لَهُمْ مَوْجُودَاتٌ تَحْتَ يَدِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَهَبَتْ لِزَوْجِهَا كِتَابَهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَبٌ سِوَى إخْوَةٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَعْطَى أَوْلَادَهُ الْكِبَارَ شَيْئًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ قَدَّمَ لِأَمِيرٍ مَمْلُوكًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَمْلِكُ زِيَادَةً عَنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَوَتْ أَنْ تَهَبَ ثِيَابَهَا لِبِنْتِهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَهُ جَارِيَةٌ فَأَذِنَ لِوَلَدِهِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَهَبَ لِأَوْلَادِهِ مَمَالِيكَ ثُمَّ قَصَدَ عِتْقَهُمْ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَاتَ وَخَلَّفَ وَلَدَيْنِ وَبِنْتًا وَزَوْجَةً]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَهُ أَوْلَادٌ وَهَبَ لَهُمْ مَالَهُ وَوَهَبَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ لِوَلَدِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَعْطَاهَا زَوْجُهَا حُقُوقَهَا فِي حَيَاتِهِ وَمَبْلَغًا عَنْ صَدَاقِهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ دَار لِرَجُلِ تَصَدَّقَ مِنْهَا بِالنِّصْفِ وَالرُّبُعِ عَلَى وَلَدِهِ لِصُلْبِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَهْدَى الْأَمِيرَ هَدِيَّةً لِطَلَبِ حَاجَةٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَبَرَّعَ وَفَرَضَ لِأُمِّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى عَبْدًا وَوَهَبَهُ شَيْئًا حَتَّى أَثْرَى الْعَبْدُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَهَبَ لِإِنْسَانٍ فَرَسًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَصَدَّقَ عَلَى وَلَدِهِ بِصَدَقَةٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُل أَعْطَاهُ أَخٌ لَهُ شَيْئًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَهَبَ لِزَوْجَتِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَهُ أَوْلَادٌ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ فَنَحَلَ الْبَنَاتِ دُونَ الذُّكُورِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الصَّدَقَة وَالْهَدِيَّة أَيُّهُمَا أَفْضَلُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَهَبَ لِابْنَتِهِ مَصَاغًا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِأَحَدٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَهْدَى إلَى مَلِكٍ عَبْدًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَهَا أَوْلَادٌ غَيْر أَشِقَّاءَ فَخَصَّصَتْ أَحَدَهُمْ وَتَصَدَّقَتْ عَلَيْهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَصَدَّقَتْ عَلَى وَلَدِهَا بِحِصَّةٍ مِنْ كُلِّ مَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَلَّكَ بِنْتَه مِلْكًا ثُمَّ مَاتَتْ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَهَبَ لِابْنِهِ هِبَةً ثُمَّ تَصَرَّفَ فِيهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَدَّمَ لِبَعْضِ الْأَكَابِرِ غُلَامًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ مَالٌ يَسْتَغْرِقُ الدَّيْنَ وَأَوْهَبَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَهُ بِنْتَانِ وَمُطَلَّقَةٌ حَامِلٌ وَكَتَبَ لِابْنَتَيْهِ أَلْفَيْ دِينَارٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ صَدَاقُ الْمَرْأَةِ تَعَوَّضَتْ عَنْهُ بِعَقَارٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ دَفَعَ مَالَ يَتِيمٍ إلَى عَامِلٍ يَشْتَرِي بِهِ ثَمَرَةً مُضَارَبَةً]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مُضَارِب رَفَعَهُ صَاحِبُ الْمَالِ إلَى الْحَاكِمِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ضَمَان بَسَاتِينَ]

- ‌[أَعْتَقَتْ جَارِيَةً دُونَ الْبُلُوغِ وَكَتَبَتْ لَهَا أَمْوَالَهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الصَّدَقَة عَلَى الْمُحْتَاجِينَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَاجِر يُخْرِج مِنْ زَكَاتِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ صِنْفًا يَحْتَاجُ إلَيْهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ بَيْعُ الْمَغْشُوشِ الَّذِي يُعْرَفُ قَدْرُ غِشِّهِ]

- ‌[كِتَابُ الشَّهَادَةِ وَالْأَقْضِيَةِ وَالْأَمْوَالِ] [

- ‌مَسْأَلَةٌ الشَّهَادَة عَلَى الْعَاصِي وَالْمُبْتَدِعِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْأَقْضِيَة هَلْ هِيَ مُقْتَضِيَةُ الْحِكْمَةِ أَمْ لَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَصَرُّفَاتِ السَّكْرَانِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جَمَاعَةٍ اشْتَرَكُوا شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ بِغَيْرِ رِضَا بَعْضِهِمْ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْأَمْوَالِ الَّتِي يُجْهَلُ مُسْتَحِقُّهَا مُطْلَقًا أَوْ مُبْهَمًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ وُلِّيَ عَلَى مَالِ يَتَامَى وَهُوَ قَاصِرٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ عِنْدَهُ يَتِيمٌ وَلَهُ مَالٌ تَحْتَ يَدِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَ اسْتَقَرَّ إطْلَاقُهُ مِنْ الْمُلُوكِ الْمُتَقَدِّمِينَ]

- ‌[كِتَابُ الْوَقْفِ] [

- ‌مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ احْتَكَرَ مِنْ رَجُلٍ قِطْعَةَ أَرْضِ بُسْتَانٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ بَنَى مَسْجِدًا وَأَوْقَفَ حَانُوتًا عَلَى مُؤَذِّنٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ بِنَاء طَبَقَة عَلَيَّ الْمِحْرَاب لِمِنْ يَسْكُنهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَبَنَى فِيهَا دَارًا وَدُكَّانًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ وَصَّى أَوْ وَقَفَ عَلَى جِيرَانِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ مُعَرِّفٍ عَلَى الْمَرَاكِبِ وَبَنَى مَسْجِدًا وَجَعَلَ لِلْإِمَامِ فِي كُلِّ الْمَرَاكِبِ شَهْرَ أُجْرَةٍ مِنْ عِنْدِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَوْمٍ بِيَدِهِمْ وَقْفٌ مِنْ جَدِّهِمْ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى مَدْرَسَةٍ وَاشْتَرَطَ شرطا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ وَقَفَ مَدْرَسَةً وَشَرَطَ مَنْ يَكُونُ لَهُ بِهَا وَظِيفَةٌ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِوَظِيفَةٍ أُخْرَى بِغَيْرِ مَدْرَسَتِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُل وَقَفَ وَقْفًا عَلَى مَسْجِدٍ وَأَكْفَانِ الْمَوْتَى وَشَرَطَ فِيهِ الْأَرْشَدَ فَالْأَرْشَدَ مِنْ وَرَثَتِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ أَوْقَفَ وَقْفًا وَشَرَطَ التَّنْزِيلَ فِيهِ لِلشَّيْخِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ أَوْقَفَ وَقْفًا عَلَى مَدْرَسَةٍ وَشَرَطَ فِيهَا أَنَّ رِيعَ الْوَقْفِ لِلْعِمَارَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَقَفَ تُرْبَةً وَشَرَطَ الْمُقْرِي عَزَبًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى عَدَدٍ مَعْلُومٍ مِنْ النِّسَاءِ وَالْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَشَرَطَ شُرُوطًا وَمَاتَ الْوَاقِفُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ أَوْقَفَ وَقْفًا وَشَرَطَ فِي بَعْضِ شُرُوطِهِ أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ مَا تَيَسَّرَ وَيُسَبِّحُونَ وَيُهَلِّلُونَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا وَشَرَطَ فِيهِ شُرُوطًا عَلَى جَمَاعَةِ قُرَّاءٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَوْقَفَ رِبَاطًا وَجَعَلَ فِيهِ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَقَفَ مَدْرَسَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَشَرَطَ عَلَى أَهْلِهَا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِيهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَاقِفٍ وَقَفَ رِبَاطًا عَلَى الصُّوفِيَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَنَاةِ سَبِيلٍ لَهَا فَائِضٌ يَنْزِلُ عَلَى قَنَاةِ الْوَسَخِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الشُّرُوطِ الَّتِي قَدْ جَرَتْ الْعَوَائِدُ فِي اشْتِرَاطِ أَمْثَالِهَا مِنْ الْوَاقِفِينَ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ سُكْنَى الْمَرْأَةِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالرِّجَالِ بَيْنَ النِّسَاءِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَاظِرِ وَقْفٍ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَبِالْوَقْفِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي نَاظِرَيْنِ هَلْ لَهُمَا أَنْ يَقْتَسِمَا الْمَنْظُورَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَنْظُرُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي نِصْفِهِ فَقَطْ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ وَقَفَ وَقْفًا وَشَرَطَ لِلنَّاظِرِ جِرَايَةً]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ وَفِيهِمْ مَنْ قَرَّرَ الْوَاقِفُ لِوَظِيفَتِهِ شَيْئًا مَعْلُومًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ لَهُ مَزْرَعَةٌ وَبِهَا شَجَرٌ وَقْفٌ لِلْفُقَرَاءِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي مَسَاجِدَ وَجَوَامِعَ لَهُمْ أَوْقَافٌ وَفِيهَا قَوَّامٌ وَأَئِمَّةٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ بَنَى مَدْرَسَةً وَأَوْقَفَ عَلَيْهَا وَقْفًا عَلَى فُقَهَاءٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي دَارِ حَدِيثٍ شَرَطَ وَاقِفُهَا فِي كِتَابِ وَقْفِهَا مَا صُورَتُهُ بِحُرُوفِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي النَّاظِرِ مَتَى يَسْتَحِقُّ مَعْلُومَهُ مِنْ حِينَ فُوِّضَ إلَيْهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضَ وَقْفٍ مِنْ النَّاظِرِ عَلَى الْوَقْفِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَوْمٍ وُقِفَ عَلَيْهِمْ حِصَّةٌ مِنْ حَوَانِيتَ وَبَعْضُهُمْ وَقَفَ عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ أَقَرَّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ أَنَّ جَمِيعَ الْحَانُوتِ وَالْأَعْيَانِ الَّتِي بِهَا وَقْفٌ عَلَى وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْقُرُبَاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ صُورَةِ كِتَابِ وَقْفٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَقْفٍ عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ فَاقْتَسَمَهُ الْفَلَّاحُونَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اتِّخَاذ الْبِيعَةِ مَسْجِدًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَسْجِدٍ مُجَاوِرِ كَنِيسَةٍ مُغْلَقَةٍ خَرَابٍ سَقَطَ بَعْضُ جُدْرَانِهَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ هَلْ تهدم]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَسْجِدٍ لَيْسَ لَهُ وَقْفٌ وَبِجِوَارِهِ سَاحَةٌ هَلْ يَجُوزُ أَنْ تُعْمَلَ سَكَنًا لِلْإِمَامِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ هُوَ فِي مَسْجِدٍ يَأْكُلُ وَقْفَهُ وَلَا يَقُومُ بِمَصَالِحِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ مَسْكَنًا لِيَأْوِيَ فِيهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِمَصَالِحِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَسْجِدٍ أَعْلَاهُ طَبَقَةٌ وَهُوَ عَتِيقُ الْبِنَاءِ وَالطَّبَقَةَ لَمْ يَسْكُنْهَا أَحَدٌ فَهَلْ يَجُوزُ نَقْضُ الطَّبَقَةِ أَوْ يُغْلَقُ الْمَسْجِدُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مَوْقُوفَةً وَبَنَى عَلَيْهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُغَيِّرَ صُورَةَ الْوَقْفِ مِنْ صُورَةٍ إلَى صُورَةٍ أَصْلَحَ مِنْهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَغْيِيرِ صُورَةِ الْوَقْفِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ امْرَأَةٍ أَوْقَفَتْ وَقْفًا عَلَى تُرْبَتِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي أَوْقَافٍ بِبَلَدٍ عَلَى أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قِطَعَ أَرْضِ وَقْفٍ وَغَرَسَ فِيهَا غِرَاسًا وَأَثْمَرَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ مُتَوَلِّي إمَامَةَ مَسْجِدٍ وَخَطَابَتَهُ وَنَظَرَ وَقْفِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَاقِفٍ وَقَفَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَهَلْ يَجُوزُ لِنَاظِرِ الْوَقْفِ أَنْ يَصْرِفَ جَمِيعَ رِيعِهِ إلَى ثَلَاثَةٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ وَلَّى ذَا شَوْكَةٍ عَلَى وَقْفٍ مِنْ مَسَاجِدَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْوَقْفِ الَّذِي أُوقِفَ عَلَى الْأَشْرَافِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ بِيَدِهِ مَسْجِدٌ بِتَوَاقِيعِ إحْيَاءِ سُنَّةٍ شَرْعِيَّةٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَدْرَسَةٍ وُقِفَتْ عَلَى الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ الْفُلَانِيَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ مَلَّكَ إنْسَانًا أَنْشَابًا قَائِمَةً عَلَى الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَاقِف وَقَفَ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَقَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي وَاقِفٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى وَلَدَيْهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى ابْنِ ابْنِهِ فُلَانٍ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَقَفَ إنْسَانٌ شَيْئًا عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ زَيْدٍ الثَّمَانِيَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ ذَكَرٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي قَرْيَةٍ وَقَفَهَا السُّلْطَانُ فَجَعَلَ رِيعَهَا وَقْفًا عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ مِنْ بَعْدِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قِسْمَةِ الْوَقْفِ وَمَنَافِعِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَقْفٍ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَسَّمَهُ قَاسِمٌ حَنْبَلِيٌّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَقْفٍ عَلَى جَمَاعَةٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي وَقْفٍ لِمَصَالِحِ الْحَرَمِ وَعِمَارَتِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ اشْتَرَى دَارًا وَلَمْ يَكُنْ فِي كُتُبِهِ غَيْرُ ثَلَاثِ حُدُودٍ وَالْحَدُّ الرَّابِعُ لِدَارٍ وَقْفٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ سَاكِنٍ فِي خَانِ وَقْفٍ وَلَهُ مُبَاشِرٌ لِرَسْمِ عِمَارَتِهِ وَإِصْلَاحِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي مَالٍ مَوْقُوفٍ عَلَى فِكَاكِ الْأَسْرَى]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ تَحْتَهُ حِصَّةٌ فِي حَمَّامٍ وَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي وَقْفٍ عَلَى تَكْفِينِ الْمَوْتَى]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي فَقِيهٍ مُنَزَّلٍ فِي مَدْرَسَةٍ ثُمَّ غَابَ مُدَّةَ الْبَطَالَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي مُقْرِئٍ عَلَى وَظِيفَةٍ سَافَرَ وَاسْتَنَابَ شَخْصًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ فَلَمَّا عَادَ قَبَضَ الْجَمِيعَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ عَمَّنْ وَقَفَ وَقْفًا مُسْتَغَلًّا ثُمَّ مَاتَ فَظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ قَالَ فِي مَرَضِهِ إذَا مِتّ فَدَارِي وَقْفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ الْفُلَانِيِّ فَتَعَافَى]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى ضَرِيحِ رَسُولِ اللَّه]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي الْوَقْفِ إذَا فَضَلَ مِنْ رِيعِهِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ صَالِحٍ فَرَضَ لَهُ الْقَاضِي بِشَيْءٍ مِنْ الصَّدَقَاتِ لِأَجْلِهِ وَأَجْلِ الْفُقَرَاءِ الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي وَقْفِ أَرْضٍ عَلَى مَسْجِدٍ فِيهَا أَشْجَارٌ مُعَطَّلَةٌ مِنْ الثَّمَرِ وَتَعَطَّلَتْ الْأَرْضُ مِنْ الزِّرَاعَةِ بِسَبَبِهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي مَصِيفِ مَسْجِدٍ بُنِيَ فِيهِ قَبْرُ فَسْقِيَّةٍ وَهُدِمَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَلِلْمَسْجِدِ بَيْتُ خَلَاءٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي مَسْجِدٍ مُغْلَقٍ عَتِيقٍ فَسَقَطَ وَهُدِمَ وَأُعِيدَ مِثْلَ مَا كَانَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي مَسَاجِدَ وَجَامِعٍ يَحْتَاجُ إلَى عِمَارَةٍ وَعَلَيْهَا رَوَاتِبُ مُقَرَّرَةٌ عَلَى الْقَابِضِ وَالرِّيعُ لَا يَقُومُ بِذَلِكَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي حَاكِمٍ خَطِيبٍ رُتِّبَ لَهُ عَلَى فَائِضِ مَسْجِدِ رِزْقُهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي الْوَاقِفِ وَالنَّاذِرِ يُوقِفُ شَيْئًا ثُمَّ يَرَى غَيْرَهُ أَحَظَّ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنْهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ أَوْقَفَ وَقْفًا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَهُوَ مِنْ كُرُومٍ يَحْصُلُ لِأَصْحَابِهَا ضَرَرٌ بِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حَوْضِ سَبِيلٍ وَعَلَيْهِ وَقْفٌ إسْطَبْلٌ وَقَدْ بَاعَهُ النَّاظِرُ وَلَمْ يَشْتَرِ بِثَمَنِهِ شَيْئًا مِنْ مُدَّةِ سِتِّ سِنِينَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي قَرْيَةٍ بِهَا عِدَّةُ مَسَاجِدَ لَا تُقَامُ الصَّلَاةُ إلَّا فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَلَهَا وَقْفٌ عَلَيْهَا كُلِّهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي وَقْفٍ عَلَى جَمَاعَةٍ تُوُفِّيَ بَعْضُهُمْ وَلَهُ شَقِيقٌ وَوَلَدٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْوَقْفِ الَّذِي يُشْتَرَى بِعِوَضِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَاصَبَ عَلَى أَرْضِ وَقْفٍ عَلَى أَنَّ لِلْوَقْفِ ثُلُثَيْ الشَّجَرِ الْمَنْصُوبِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ امْرَأَةٍ وَقَفَتْ عَلَى وَلَدَيْهَا دَكَاكِينَ وَدَارًا ثُمَّ بَعْدَ بَنِيهَا وَبَنِي أَوْلَادِهَا يَرْجِعُ عَلَى وَقْفِ مَدْرَسَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ بَنَى حَائِطًا فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُ نَفْعَهُ لِدَفْنِ مَوْتَاهُ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ لَهُ مَوْتَى تَحْتَ الْحَائِطِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حَمَّامٍ أَكْثَرُهَا وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْفُقَهَاءِ]

- ‌[كِتَابُ الْوَصَايَا] [

- ‌مَسْأَلَةٌ قَالَ يُدْفَعُ هَذَا الْمَالُ إلَى يَتَامَى فُلَانٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مُودَعٍ مَرِضَ مُودِعُهُ فَقَالَ لَهُ أَمَا يَعْرِفُ ابْنُك بِهَذِهِ الْوَدِيعَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ وَذَكَرَ فِي وَصِيَّتِهِ أَنَّ فِي ذِمَّتِهِ لِزَوْجَتِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَلَمْ تَكُنْ زَوْجَته تَعْلَم]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ تَصَدَّقَ عَلَى ابْنَتِهِ لِصُلْبِهِ وَأَسْنَدَ وَصِيَّتَهُ لِرَجُلٍ فَآجَرَهُ مُدَّةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ أَوْصَى لِأَوْلَادِهِ بِسِهَامٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ وَفَاتِهِ بِذَلِكَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ لَهُ زَرْعٌ وَنَخْلٌ فَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ لِأَهْلِهِ أَنْفِقُوا مِنْ ثُلُثِي عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَوْصَى لِأَوْلَادِهِ الذُّكُورِ بِتَخْصِيصِ مِلْكٍ دُونَ الْإِنَاثِ وَأَثْبَتَهُ عَلَى يَدِ الْحَاكِمِ قَبْلَ وَفَاتِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ امْرَأَةٍ وَصَّتْ لِطِفْلَةٍ تَحْتَ نَظَرِ أَبِيهَا بِمَبْلَغٍ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا وَتُوُفِّيَتْ الْمُوصِيَةُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ امْرَأَةٍ وَصَّتْ فِي حَالِ مَرَضِهَا وَلِزَوْجِهَا وَلِأَخِيهَا بِشَيْءٍ ثُمَّ وَضَعَتْ وَلَدًا ذَكَرًا وَبَعْدَ ذَلِكَ تُوُفِّيَتْ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ سِوَى ابْنِ أُخْتٍ لِأُمٍّ وَقَدْ أَوْصَتْ بِصَدَقَةٍ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ مَاتَ وَخَلَّفَ سِتَّةَ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ وَابْنَ ابْنٍ وَبِنْتَ ابْنٍ وَوَصَّى لِابْنِ ابْنِهِ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَوْلَادِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَوْصَى فِي حَالِ مَرَضِهِ أَنْ يُبَاعَ فَرَسُهُ الْفُلَانِيُّ وَيُعْطَى ثَمَنَهُ كُلَّهُ لِمَنْ يَحُجُّ عَنْهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ خَلَّفَ أَوْلَادًا وَأَوْصَى لِأُخْتِهِ كُلَّ يَوْمٍ بِدِرْهَمٍ فَأُعْطِيَتْ ذَلِكَ حَتَّى نَفَذَ الْمَالُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَتْ وَكَانَتْ قَدْ أَوْصَتْ لزوجها وَعَمّهَا بِكُلِّ التَّرِكَة وَلَمْ تُوصِي لِأَبِيهَا وَجَدتها]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَوْصَتْ قَبْلَ مَوْتِهَا بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ بِأَشْيَاءَ مِنْ حَجٍّ وَقِرَاءَةٍ وَصَدَقَةٍ فَهَلْ تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَوْصَى زَوْجَتَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّهَا لَا تُوهِبُ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا لِمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُهْدِي لَهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَسْجِدٍ عَلَيْهِ وَقْفٌ وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ حِكْرٌ وَأَوْصَى قَبْلَ وَفَاتِهِ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ الثُّلُثِ وَيُشْتَرَى الْحِكْرُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَوْصَى فِي مَرَضِهِ الْمُتَّصِلِ بِمَوْتِهِ بِأَنْ يُبَاعَ شَرَابٌ فِي حَانُوتِ الْعِطْرِ]

- ‌[بَابُ الْمُوصَى إلَيْهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَصِيٍّ عَلَى أَيْتَامٍ بِوَكَالَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَلِلْأَيْتَامِ دَارٌ فَبَاعَهَا وَكِيلُ الْوَصِيِّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْظُرَهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ جَلِيلِ الْقَدْرِ لَهُ تَعَلُّقَاتٌ كَثِيرَةٌ مَعَ النَّاسِ وَأَوْصَى بِأُمُورٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَصِيٍّ عَلَى أَوْلَادِ أَخِيهِ وَتُوُفِّيَ وَخَلَفَ أَوْلَادًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَصِيٍّ عَلَى مَالِ يَتِيمٍ وَقَدْ قَارَضَ فِيهِ مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ فَرِبْح فَهَلْ يَحِلّ لَهُ الْأَخذ مِنْ الرِّبْح]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَصِيٍّ تَحْتَ يَدِهِ أَيْتَامٌ أَطْفَالٌ وَوَالِدَتُهُمْ حَامِلٌ فَهَلْ يُعْطِي الْأَطْفَالَ نَفَقَةً]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَصِيٍّ عَلَى أُخْتَيْهِ وَقَدْ كَبِرَتَا وَوَلَدَيْهِمَا وَآنَسَ مِنْهُمَا الرُّشْدَ فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَصِيٍّ قَضَى دَيْنًا عَنْ الْمُوصِي بِغَيْرِ ثُبُوتٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَصْرَانِيٍّ تُوُفِّيَ وَخَلَفَ تَرِكَةً وَأَوْصَى وَصِيَّتَهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْوَصِيِّ وَنَحْوِهِ إذَا كَانَ بَعْضُ مَالِ الْوَصِيِّ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَصِيٍّ عَلَيْهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَصِيٍّ يَتِيمٍ وَهُوَ يَتَّجِرُ لَهُ وَلِنَفْسِهِ بِمَالِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَيْتَامٍ تَحْتَ الْحَجْرِ وَلَهُمْ وَصِيٌّ وَكَفِيلٌ وَلِأُمِّهِمْ زَوْجٌ أَجْنَبِيٌّ فَهَلْ لَهُ عَلَيْهِمْ حُكْمٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَوْصَى وَصِيَّةً بِحَضْرَتِهِ إنَّ هَذِهِ الدَّارَ نِصْفُهَا لِلْحَرَمِ الشَّرِيفِ وَنِصْفُهَا لِمَمْلُوكِيٍّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ تَحْتَ حَجْرٍ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ وَالْوَصِيَّ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ وَلَدَهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَصِيٍّ تَحْتَ يَدِهِ مَالٌ لِأَيْتَامٍ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ حِصَّتَهُ وَمِنْ مَالِهِمْ حِصَّتَهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَيْتَامٍ تَحْتَ يَدِ وَصِيٍّ وَلَهُمْ أَخٌ مِنْ أُمٍّ وَقَدْ بَاعَ الْوَصِيُّ حِصَّتَهُ عَلَى إخْوَتِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ وَلَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ خَمْسَةٌ وَأَوْدَعَ عِنْدَ إنْسَانٍ دَرَاهِمَ وَقَالَ لَهُ إنْ أَنَا مِتُّ تُعْطِيهَا الدَّرَاهِمَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَصِيٍّ نَزَلَ عَنْ وَصِيَّتِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَصَّى لِرَجُلَيْنِ عَلَى وَلَدِهِ ثُمَّ إنَّهُمَا اجْتَهَدَا فِي ثُبُوتِ الْوَصِيَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَ صَاحِبٌ لَهُ فِي الْجِهَادِ فَجَمَعَ تَرِكَتَهُ بَعْدَ تَعَبٍ فَهَلْ يَجِبُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أُجْرَةٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ خَصَّ بَعْضَ الْأَوْلَادِ عَلَى بَعْضٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ فِي صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ أَنَّ وَارِثِي هَذَا لَمْ يَرِثْنِي غَيْرُهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَصَّى أَوْ وَقَفَ عَلَى جِيرَانِهِ فَمَا الْحُكْمُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ خَلَفَ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا تَقَاسَمَهُ أَوْلَادُهُ وَأَعْطَوْا أُمَّهُمْ كِتَابَهُمْ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَعْطَاهَا الْمَهْرَ وَكَتَبَ عَلَيْهِ صَدَاقًا أَلْفَ دِينَارٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ وَالِدَتُهُ وَخَلَفَتْهُ وَوَالِدَهُ وَكَرِيمَتَهُ ثُمَّ مَاتَتْ كَرِيمَتُهُ فَأَرَادَ وَالِدُهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ]

- ‌[كِتَابُ الْفَرَائِضِ] [

- ‌مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا وَخَلَفَ أَوْلَادًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ وَخَلَفَتْ زَوْجًا وَأَبَوَيْنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ عَنْ أَبَوَيْنِ وَزَوْجٍ وَأَرْبَعَةِ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ وَأُنْثَى]

- ‌[مَسْأَلَةٌ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَلَهَا زَوْجٌ وَجَدَّةٌ وَإِخْوَةٌ أَشِقَّاءُ وَابْنٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَتْ وَخَلَفَتْ زَوْجًا وَابْنَتَيْنِ وَوَالِدَتَهَا وَأُخْتَيْنِ أَشِقَّاءَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ وَخَلَفَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأُخْتًا شَقِيقَةً وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأَخًا وَأُخْتًا لِأُمٍّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ وَخَلَفَتْ زَوْجًا وَبِنْتًا وَأُمًّا وَأُخْتًا مِنْ أُمٍّ فَمَا يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَ وَلَهُ عَمٌّ شَقِيقٌ وَلَهُ أُخْتٌ مِنْ أَبِيهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ وَخَلَفَتْ مِنْ الْوَرَثَةِ بِنْتًا وَأَخًا مِنْ أُمِّهَا وَابْنِ عَمّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأَبٍ وَأُمٍّ وَوَلَدَيْنِ ثُمَّ بَعْدَ وَفَاتِهَا تُوُفِّيَ وَالِدُهَا وَتَرَكَ أَبَاهُ وَأُخْتَه وَجَدَّهُ وَجَدَّتَهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَاتَ وَتَرَك أُمّ وَأُخوة لِأُمّ وَأُخوة لِلْأَبِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ وَخَلَفَتْ زَوْجًا وَابْنَ أُخْتٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَاتَ وَتَرَكَ زَوْجَةً وَأُخْتًا لِأَبَوَيْهِ وَثَلَاثَ بَنَاتِ أَخٍ لِأَبَوَيْهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَاتَ وَخَلَفَ بِنْتًا وَلَهُ أَوْلَادُ أَخٍ مِنْ أَبِيهِ وَهُمْ صِغَارٌ وَلَهُ ابْنُ عَمٍّ رَاجِلٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَعَمَّهُ أَخَا أَبِيهِ مِنْ أُمِّهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَ وَخَلَفَ أَخًا لَهُ وَأُخْتَيْنِ شَقِيقَيْنِ وَبِنْتَيْنِ وَزَوْجَةً]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ لَهُ خَالَةٌ مَاتَتْ وَخَلَفَتْ مَوْجُودًا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ]

- ‌[لَهُ بِنْتُ عَمٍّ وَابْنُ عَمٍّ فَتُوُفِّيَتْ بِنْتُ الْعَمِّ وَتَرَكَتْ بِنْتًا ثُمَّ تُوُفِّيَ ابْنُ الْعَمِّ وَتَرَكَ وَلَدَيْنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ خَلَفَ زَوْجَةً وَثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ مِنْهَا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمْ وَخَلَفَ أُمَّهُ وَأَخَوَيْهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلَيْنِ إخْوَةٍ لِأَبٍ وَكَانَتْ أُمُّ أَحَدِهِمَا أُمَّ وَلَدٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَ وَخَلَفَ ابْنَيْنِ وَبِنْتَيْنِ وَزَوْجَةً وَابْنَ أَخٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يَتِيمٍ لَهُ مَوْجُودٍ تَحْتَ أَمِينِ الْحُكْمِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَاثْنَانِ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ وَحَمْلٌ مِنْ الْأَبِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةً وَهِيَ مُقِيمَةٌ عِنْدَهُ تَخْدُمُهُ وَبَعْدَ عِشْرِينَ يَوْمًا تُوُفِّيَ الزَّوْجُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ طَلَّقَ الزَّوْجَةَ لِيَمْنَعَهَا مِنْ الْمِيرَاثِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَ وَخَلَفَ مُسْتَوْلَدَةً لَهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تُوُفِّيَتْ الْمُسْتَوْلَدَةُ وَخَلَفَتْ وَلَدًا ذَكَرًا وَبِنْتَيْنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ زني بِجَارِيَةِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ وَنَسَبَتْهُ إلَى وَلَدِهِ فَاسْتَلْحَقَهُ وَرَضِيَ السَّيِّدُ فَهَلْ يَرِثُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَهُ وَالِدَةٌ وَلَهَا جَارِيَةٌ فَوَاقَعَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدَتِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ هَلْ يَرِثُ الِابْنُ الَّذِي مِنْ الْجَارِيَةِ مَعَ بِنْتِ زَوْجَتِهِ]

- ‌[أَقَرَّتْ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لِأَوْلَادِهَا الْأَشِقَّاءَ بِدَيْنِ لَهُمْ وَقَصَدَتْ بِذَلِكَ إحْرَامَ وَلَدِهَا وَزَوْجِهَا مِنْ الْإِرْثِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَتْ وَخَلَفَتْ بِنْتَيْنِ وَزَوْجًا وَوَالِدَةً وَثَلَاثَ إخْوَةٍ رِجَالٍ وَأُخْتًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تُوُفِّيَتْ وَخَلَفَتْ زَوْجًا وَبِنْتًا وَأُمًّا وَأُخْتًا مِنْ أُمٍّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَاتَتْ وَلَهَا أَبٌ وَأُمٌّ زَوْجٌ وَهِيَ رَشِيدَةٌ]

- ‌[كِتَابُ الْفَضَائِلِ] [

- ‌مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ قَالَ تُرْبَةَ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ أَفْضَلُ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي]

- ‌[مَسْأَلَةٌ هَلْ يَصِحُّ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَلِيًّا قَاتَلَ الْجِنَّ فِي الْبِئْرِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ يَعْمَلُ كُلَّ سَنَةٍ خِتْمَةً فِي لَيْلَةِ مَوْلِدِ النَّبِيِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي قَوْلِ أَهْلِ التَّقَاوِيمِ فِي أَنَّ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ يُخْسَفُ الْقَمَرُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي عِلْم وَفِقْه أَبُو بكر وعمر]

- ‌[مَسْأَلَةٌ خَيْرَ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الرُّوحِ الْمُؤْمِنَةِ الْمَلَائِكَةَ تَتَلَقَّاهَا وَتَصْعَدُ بِهَا مِنْ سَمَاءٍ إلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَيُّمَا أَفْضَلُ يَوْمٍ عَرَفَةَ أَوْ الْجُمُعَةِ أَوْ الْفِطْرِ أَوْ النَّحْرِ]

- ‌[كِتَابُ الْمَلَاهِي] [

- ‌مَسْأَلَةٌ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رَجُلٍ لَعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ وَقَالَ هُوَ خَيْرٌ مِنْ النَّرْد]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَا غِيبَةَ لِفَاسِقٍ]

الفصل: ‌[فصل القاعدة الثانية في العقود حلالها وحرامها]

[فَصْلٌ الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْعُقُودِ حَلَالِهَا وَحَرَامِهَا]

فَصْلٌ

الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْعُقُودِ حَلَالِهَا وَحَرَامِهَا

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ فِي كِتَابِهِ أَكْلَ أَمْوَالِنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَذَمَّ الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَذَمَّ الْيَهُودَ عَلَى أَخْذِ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ، وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ مَا يُؤْكَلُ بِالْبَاطِلِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ، وَمَا يُؤْخَذُ بِغَيْرِ رِضَى الْمُسْتَحِقِّ وَالِاسْتِحْقَاقِ.

فَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ نَوْعَانِ، ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ هُمَا: الرِّبَا وَالْمَيْسِرُ، فَذَكَرَ تَحْرِيمَ الرِّبَا الَّذِي هُوَ ضِدُّ الصَّدَقَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَالرُّومِ، وَالْمُدَّثِّرِ. وَذَمَّ الْيَهُودَ عَلَيْهِ فِي النِّسَاءِ، وَذَكَرَ تَحْرِيمَ الْمَيْسِرِ فِي الْمَائِدَةِ.

ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَّلَ مَا جَمَعَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، فَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَالْغَرَرُ هُوَ الْمَجْهُولُ الْعَاقِبَةِ، فَإِنَّ بَيْعَهُ مِنْ الْمَيْسِرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَبَقَ، وَالْبَعِيرَ أَوْ الْفَرَسَ إذَا شَرَدَ فَإِنَّ صَاحِبَهُ إذَا بَاعَهُ إنَّمَا يَبِيعُهُ مُخَاطَرَةً، فَيَشْتَرِيهِ الْمُشْتَرِي بِدُونِ ثَمَنِهِ بِكَثِيرٍ، فَإِنْ حَصَلَ لَهُ، قَالَ الْبَائِعُ: قَمَرْتَنِي وَأَخَذْتَ مَالِي بِثَمَنٍ قَلِيلٍ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ، قَالَ الْمُشْتَرِي: قَمَرْتَنِي وَأَخَذْتَ الثَّمَنَ بِلَا عِوَضٍ، فَيُفْضِي إلَى مَفْسَدَةِ الْمَيْسِرِ الَّتِي هِيَ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، الَّذِي هُوَ

ص: 16

نَوْعٌ مِنْ الظُّلْمِ، فَفِي بَيْعِ الْغَرَرِ ظُلْمٌ وَعَدَاوَةٌ وَبَغْضَاءُ، وَمِنْ نَوْعِ الْغَرَرِ مَا نَهَى عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَالْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ، وَهُنَّ بَيْعُ اللَّبَنِ، وَبَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَبَيْعُ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الرِّبَا فَتَحْرِيمُهُ فِي الْقُرْآنِ أَشَدُّ وَلِهَذَا قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] وَذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَبَائِرِ كَمَا خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الَّذِينَ هَادُوا طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ، بِظُلْمِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا، وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ، وَكِلَاهُمَا أَمْرٌ مُجَرَّبٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرِّبَا أَصْلٌ إنَّمَا يَفْعَلُهُ الْمُحْتَاجُ وَإِلَّا فَالْمُوسِرُ لَا يَأْخُذُ أَلْفًا حَالَّةً بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ مُؤَجَّلَةٍ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَاجَةٌ بِتِلْكَ الْأَلْفِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الْمَالَ بِمِثْلِهِ وَزِيَادَةٍ إلَى أَجَلِ مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ، فَتَقَعُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ ظُلْمًا لِمُحْتَاجٍ بِخِلَافِ الْمَيْسِرِ.

فَإِنَّ الْمَظْلُومَ فِيهِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ وَلَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْعَقْدِ، وَقَدْ يَخْلُو بَعْضُ صُوَرِهِ عَنْ الظُّلْمِ إذَا وُجِدَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْمُتَّبَعُ عَلَى الصِّيغَةِ الَّتِي ظَنَّاهَا، وَالرِّبَا فِيهِ ظُلْمٌ مُحَقَّقٌ لِمُحْتَاجٍ، وَلِهَذَا كَانَ ضِدَّ الصَّدَقَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَدَعْ الْأَغْنِيَاءَ حَتَّى أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ إعْطَاءَ الْفُقَرَاءِ، فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لَا تَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ، فَإِذَا أَرْبَى مَعَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَمَنَعَهُ دَيْنَهُ، وَظُلْمُهُ زِيَادَةٌ أُخْرَى، وَالْغَرِيمُ مُحْتَاجٌ إلَى دَيْنِهِ، فَهُوَ مِنْ أَشَدِّ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، وَلِعَظَمَتِهِ لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم آكِلَهُ وَهُوَ الْآخِذُ، وَمُوَكِّلُهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ الْمُعْطِي لِلزِّيَادَةِ، وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ لِإِعَانَتِهِمْ عَلَيْهِ.

ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ أَشْيَاءَ مِنْهَا مَا يَخْفَى فِيهَا الْفَسَادُ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْفَسَادِ الْمُحَقَّقِ، كَمَا حَرَّمَ قَلِيلَ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا، مِثْلُ: رِبَا الْفَضْلِ فَإِنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ قَدْ تَخْفَى إذْ عَاقِلٌ لَا يَبِيعُ دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ إلَّا لِاخْتِلَافِ الصِّفَاتِ، مِثْلُ كَوْنِ الدِّرْهَمِ صَحِيحًا، وَالدِّرْهَمَيْنِ مَكْسُورَيْنِ، أَوْ كَوْنِ الدِّرْهَمِ مَصُوغًا أَوْ مِنْ نَقْدٍ نَافِقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ص: 17

وَكَذَلِكَ خَفِيَتْ حِكْمَةُ تَحْرِيمِهِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمَا، فَلَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا حَتَّى أَخْبَرَهُمْ الصَّحَابَةُ الْأَكَابِرُ، كَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَغَيْرِهِمَا، بِتَحْرِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِرِبَا الْفَضْلِ.

وَأَمَّا الْغَرَرُ، فَإِنَّهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الْمَعْدُومُ، كَحَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَاللَّبَنُ، وَالْمَعْجُوزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ: كَالْآبِقِ، وَالْمَجْهُولِ الْمُطْلَقِ، أَوْ الْمُعَيَّنِ الْمَجْهُولِ جِنْسُهُ، أَوْ قَدْرُهُ كَقَوْلِهِ: بِعْتُك عَبْدًا، أَوْ بِعْتُك مَا فِي بَيْتِي، أَوْ بِعْتُك عَبِيدِي.

أَمَّا الْمُعَيَّنُ الْمَعْلُومُ جِنْسُهُ وَقَدْرُهُ الْمَجْهُولُ نَوْعُهُ أَوْ صِفَتُهُ، كَقَوْلِهِ: بِعْتُك الثَّوْبَ الَّذِي فِي كُمِّي، أَوْ الْعَبْدَ الَّذِي أَمْلِكُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ يُلْتَفَتُ إلَى مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَايِبَةِ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ:

إحْدَاهُنَّ: لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِحَالٍ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدِ.

وَالثَّانِيَةُ: يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يُوصَفْ وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، وَكَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى رَوَى عَنْ أَحْمَدَ لَا خِيَارَ لَهُ.

وَالثَّالِثَةُ: وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالصِّفَةِ وَلَا يَصِحُّ بِدُونِهَا، كَالْمُطْلَقِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَمَفْسَدَةُ الْغَرَرِ أَقَلُّ مِنْ الرِّبَا، فَكَذَلِكَ رُخِّصَ فِيمَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ، فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ كَوْنِهِ غَرَرًا، مِثْلُ: بَيْعِ الْعَقَارِ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ دَوَاخِلُ الْحِيطَانِ وَالْأَسَاسِ، وَمِثْلُ بَيْعِ الْحَيَوَانِ الْحَامِلِ أَوْ الْمُرْضِعِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ الْحَمْلِ وَاللَّبَنِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْ بَيْعِ الْحَمْلِ مُفْرَدًا، وَكَذَلِكَ اللَّبَنُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَمِثْلُ بَيْعِ الثَّمَرَةِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مُسْتَحِقُّ الْإِبْقَاءِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ، وَذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَإِنْ كَانَتْ الْأَجْزَاءُ الَّتِي يَكْمُلُ بِهَا الصَّلَاحُ لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ.

وَجُوِّزَ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ ثَمَرَتَهَا، فَيَكُونُ قَدْ اشْتَرَى ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، لَكِنْ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ لِلْأَصْلِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ الْغَرَرِ الْيَسِيرِ ضِمْنًا وَتَبَعًا مَا لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ،

وَلَمَّا احْتَاجَ النَّاسُ إلَى الْعَرَايَا أُرْخِصَ فِي بَيْعِهَا بِالْخَرْصِ، وَلَمْ يُجَوَّزْ الْفَاضِلُ الْمُتَيَقَّنُ، بَلْ صَوْغُ الْمُسَاوَاةِ بِالْخَرْصِ فِي الْقَلِيلِ الَّذِي

ص: 18

تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ

، وَهُوَ قَدْرُ النِّصَابِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، أَوْ مَا دُونَهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ مَا دُونَ النِّصَابِ، إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَأُصُولُ مَالِكٍ فِي الْبُيُوعَاتِ أَجْوَدُ مِنْ أُصُولِ غَيْرِهِ، أُخِذَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، الَّذِي كَانَ يُقَالُ هُوَ أَفْقَهُ النَّاسِ فِي الْبُيُوعِ، كَمَا كَانَ يُقَالُ عَطَاءٌ أَفْقَهُ النَّاسِ فِي الْمَنَاسِكِ؛ وَإِبْرَاهِيمُ أَفْقَهُهُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَالْحَسَنُ أَجْمَعُهُمْ كَذَلِكَ.

وَلِهَذَا وَافَقَ أَحْمَدُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ فِي أَغْلَبِ مَا فُضِّلَ فِيهِ لِمَنْ اسْتَقْرَأَ ذَلِكَ مِنْ أَجْوِبَتِهِ؛ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ مُوَافِقٌ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ، يُحَرِّمَانِ الرِّبَا وَيُشَدِّدَانِ فِيهِ حَقَّ التَّشْدِيدِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شِدَّةِ تَحْرِيمِهِ وَعِظَمِ مَفْسَدَتِهِ، وَيَمْنَعَانِ الِاحْتِيَالَ عَلَيْهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ حَتَّى قَدْ يَمْنَعَا الذَّرِيعَةَ الَّتِي تُفْضِي إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حِيلَةٌ، وَإِنْ كَانَ مَالِكٌ يُبَالِغُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ مَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَحْمَدَ فِيهِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: لَكِنْ يُوَافِقُهُ بِلَا خِلَافٍ مِنْهُ عَلَى مَنْعِ الْحِيَلِ كُلِّهَا

وَجِمَاعُ الْحِيَلِ نَوْعَانِ: إمَّا أَنْ يَضُمُّوا إلَى أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ، أَوْ يَضُمُّوا إلَى الْعَقْدِ عَقْدًا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ

فَالْأَوَّلُ: مَسْأَلَةُ مُدِّ عَجْوَةٍ، وَضَابِطُهَا أَنْ يَبِيعَ رِبَوِيًّا بِجِنْسِهِ، وَمَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، كَمَنْ يَكُونُ غَرَضُهُمَا بَيْعَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ مُتَفَاضِلًا وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَضُمُّ إلَى الْفِضَّةِ الْقَلِيلَةِ عِوَضًا آخَرَ، حَتَّى قَدْ يَبِيعُ أَلْفَ دِينَارٍ فِي مِنْدِيلٍ بِأَلْفَيْ دِينَارٍ، فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا حَرُمَتْ مَسْأَلَةُ مُدِّ عَجْوَةٍ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَنَحْوِهِمَا، إنَّمَا يُسَوِّغُ مِثْلَ هَذَا مَنْ جَوَّزَ الْحِيَلَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ، وَإِنْ كَانَ قُدَمَاءُ الْكُوفِيِّينَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ هَذَا.

وَأَمَّا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَقْصُودًا كَمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ أَوْ بِمُدَّيْنِ أَوْ دِرْهَمَيْنِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْمَنْعُ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجَوَازُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ غَيْرَ الْجِنْسِ الرِّبَوِيِّ، كَبَيْعِ شَاةٍ ذَاتِ صُوفٍ أَوْ لَبَنٍ بِصُوفٍ أَوْ لَبَنٍ، فَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ الْجَوَازُ.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَضُمَّا إلَى الْعَقْدِ الْمُحَرَّمِ عَقْدًا غَيْرَ مَقْصُودٍ، مِثْلُ أَنْ

ص: 19

يَتَوَاطَآ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ الذَّهَبَ بِخَرَزَةٍ، ثُمَّ يَبْتَاعَ الْخَرَزَةَ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الذَّهَبِ، أَوْ يَتَوَاطَآ ثَالِثًا عَلَى أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا عَرْضًا، ثُمَّ يَبِيعَهُ الْمُبْتَاعُ لِمُعَامَلَةِ الْمُرَابِي، ثُمَّ يَبِيعَهُ الْمُرَابِي لِصَاحِبِهِ، وَهِيَ الْحِيلَةُ الْمُثَلَّثَةُ، أَوْ يُقِرُّونَ بِالْقَرْضِ مُحَابَاةً فِي بَيْعٍ، أَوْ إجَارَةٍ أَوْ مُسَاقَاةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِثْلُ أَنْ يُقْرِضَهُ أَلْفًا وَيَبِيعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي عَشَرَةً بِمِائَتَيْنِ، أَوْ يَكْتَرِيَ مِنْهُ دَابَّةً تُسَاوِي ثَلَاثِينَ بِخَمْسَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ الْحِيَلِ لَا تَزُولُ بِهِ الْمَفْسَدَةُ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَجْلِهَا الرِّبَا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُ قَالَ:«لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحٍ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ حِيَلِ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَحَلُّوا الرِّبَا بِالْحِيَلِ، وَيُسَمُّونَهُ الْمُشْكِلَ، وَقَدْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ.

وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ؛ أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ تَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنْ تَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ» . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» .

وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ وَدَلَائِلُ تَحْرِيمِ الْحِيَلِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاعْتِبَارِ كَثِيرَةٌ؛ ذَكَرْنَا مِنْهَا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ دَلِيلًا فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرْنَا مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُجَوِّزُهَا كَيَمِينِ أَيُّوبَ، وَحَدِيثِ تَمْرِ خَيْبَرَ، وَمَقَارِيضِ السَّلَفِ، وَذَكَرْنَا

ص: 20

جَوَابَ ذَلِكَ؛ وَمِنْ ذَرَائِعِ ذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْعِينَةِ، وَهُوَ بِأَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَبْتَاعَهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَهَذَا مَعَ التَّوَاطُؤِ يَبْطُلُ الْبَيِّعَانِ؛ لِأَنَّهَا حِيلَةٌ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادَيْنِ جَيِّدَيْنِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَرْفَعُهُ عَنْكُمْ حَتَّى تُرَاجِعُوا دِينَكُمْ» . وَإِنْ لَمْ يَتَوَاطَأْ يَظَلُّ الْبَيْعُ.

الثَّانِي: سَدُّ الذَّرِيعَةِ، وَلَوْ كَانَتْ عَكْسَ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ عَنْ تَوَاطُؤٍ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهِيَ أَنْ يَبِيعَهُ حَالًّا، ثُمَّ يَبْتَاعَ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مُؤَجَّلًا، وَأَمَّا مَعَ التَّوَاطُؤِ فَرِبًا مُحْتَالٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُ الْمُشْتَرِي الدَّرَاهِمَ وَابْتَاعَ السِّلْعَةَ إلَى أَجَلٍ لِيَبِيعَهَا؛ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهَا، فَهَذَا يُسَمِّي التَّوَرُّقَ وَفِي كَرَاهَتِهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، وَالْكَرَاهَةُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٍ فِيمَا أَظُنُّ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي الَّذِي غَرَضُهُ التِّجَارَةُ، أَوْ غَرَضُهُ الِانْتِفَاعُ وَالْقِنْيَةُ، فَهَذَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ إلَى أَجَلٍ بِالِاتِّفَاقِ، فَفِي الْجُمْلَةِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ مَانِعُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا مَنْعًا مُحْكَمًا مُرَاعِيًا لِمَقْصُودِ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا، وَقَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُؤْثَرُ مِثْلُهُ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَأَمَّا الْغَرَرُ فَأَشَدُّ النَّاسِ قَوْلًا فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ رضي الله عنهما، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ يُدْخِلُ فِي هَذَا الِاسْمِ مِنْ الْأَنْوَاعِ مَا لَا يُدْخِلُ غَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ، مِثْلُ: الْحَبِّ، وَالثَّمَرِ فِي قِشْرِهِ الَّذِي لَيْسَ بِصَوَّانٍ، كَالْبَاقِلَاءِ، وَالْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ فِي قِشْرِهِ الْأَخْضَرِ، وَكَالْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ الْجَدِيدَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَعَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بَاقِلَاءَ خَضْرَاءَ، فَخَرَّجَ ذَلِكَ لَهُ قَوْلًا، وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَأَبِي عُبَيْدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:«نَهَى عَنْ بَيْعِ أُصُولِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ» . فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي سُنْبُلَةٍ، فَقَالَ: إنْ صَحَّ هَذَا أَخْرَجْتُهُ مِنْ الْعَامِّ أَوْ كَلَامًا قَرِيبًا مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: جَوَازُ ذَلِكَ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.

ص: 21

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً: لَا يَجُوزُ ثُمَّ بَلَغَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَرَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ بِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَعْدِلُ عَنْ الْقَوْلِ بِهِ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لَهُ قَوْلَيْنِ، وَأَنَّ الْجَوَازَ هُوَ الْقَدِيمُ حَتَّى مَنَعَ مِنْ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِصِفَةٍ وَبِغَيْرِ صِفَةٍ، مُتَأَوِّلًا أَنَّ الْغَائِبَ غَرَرٌ وَإِنْ وُصِفَ، وَحَتَّى اشْتَرَطَ فِيهَا فِي الذِّمَّةِ لِدَيْنِ السَّلَمِ مِنْ الصِّفَاتِ وَضَبْطِهَا مَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ غَيْرُهُ؛ وَلِهَذَا يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَى النَّاسِ الْمُعَامَلَةُ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَقَاسَ عَلَى بَيْعِ الْغَرَرِ جَمِيعَ الْعُقُودِ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ، فَاشْتَرَطَ فِي أُجْرَةِ الْأَجِيرِ الْمَشْهُورِ، وَفِدْيَةِ الْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ، وَصُلْحِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ، وَجِزْيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَا يَشْتَرِطُهُ فِي الْبَيْعِ عَيْنًا وَدَيْنًا، وَلَمْ يُجَوِّزْ فِي ذَلِكَ جِنْسًا وَقَدْرًا وَصِفَةً إلَّا مَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ لَا تَبْطُلُ بِفَسَادِ أَعْوَاضِهَا، أَوْ يَشْتَرِطُ لَهَا شُرُوطًا أُخْرَى.

وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ بَيْعَ الْبَاقِلَاءِ وَنَحْوِهِ فِي الْقِشْرِ

، وَيُجَوِّزُ إجَارَةُ الْأَجِيرِ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ، وَيُجَوِّزُ أَنْ تَكُونَ جَهَالَةُ الْمَهْلِ كَجَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَيُجَوِّزُ بَيْعَ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِلَا صِفَةٍ مَعَ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ جَهَالَةً، لَكِنَّهُ قَدْ يُحَرِّمُ الْمُسَاقَاةَ، وَالْمُزَارَعَةَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ مُطْلَقًا، وَالشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُ بَعْضَ ذَلِكَ وَيُحَرِّمُ أَيْضًا كَثِيرًا مِنْ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِفُ مُطْلَقَ الْعَقْدِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ بَعْضَ ذَلِكَ وَيُجَوِّزُ مِنْ الْوَكَالَاتِ وَالشَّرِكَاتِ مَا لَا يُجَوِّزُهُ الشَّافِعِيُّ، حَتَّى جَوَّزَ شَرِكَةَ الْمُعَاوَضَةِ وَالْوَكَالَةِ بِالْمَجْهُولِ الْمُطْلَقِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ لَمْ تَكُنْ شَرِكَةُ الْمُعَاوَضَةِ بَاطِلًا فَلَا أَعْلَمُ شَيْئًا بَاطِلًا، فَبَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، لَكِنْ أُصُولُ الشَّافِعِيِّ الْمُحَرَّمَةُ أَكْثَرُ مِنْ أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَأَمَّا مَالِكٌ فَمَذْهَبُهُ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَجَمِيعِ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ، أَوْ يَقِلُّ غَرَرُهُ بِحَيْثُ يُحْتَمَلُ فِي الْعُقُودِ، حَيْثُ يُجَوِّزُ بَيْعَ الْمَقَاثِي جُمْلَةً، وَبَيْعَ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ: كَالْجَزَرِ، وَالْفُجْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَأَحْمَدُ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَيُجَوِّزُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ عَبْدًا مُطْلَقًا، وَعَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَلَا تَزِيدُ جَهَالَتُهُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُجَوِّزُ الْمُبْهَمَ دُونَ الْمُطْلَقِ، كَأَبِي الْخَطَّابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ، فَلَا يُجَوِّزُ فِي الْمَهْرِ وَفِدْيَةِ الْخُلْعِ وَنَحْوِهِمَا إلَّا مَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ،

ص: 22

كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَيَجُوزُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْهُ فِي فِدْيَةِ الْخُلْعِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى مَا يَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الْمَهْرِ، كَقَوْلِ مَالِكٍ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي مَذْهَبِهِ، لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ، لَكِنْ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَغِيبِ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَنَحْوِهِ إلَّا إذْ قُلِعَ، وَقَالَ: هَذَا الْغَرَرُ شَيْءٌ لَا نَرَاهُ فَكَيْفَ نَشْتَرِيهِ.

وَكَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَنَحْوِهِ، إلَّا بَعْدَ قَطْعِهَا لَا يُبَاعُ مِنْ الْمَقَاثِي وَالْمَبَاطِخِ إلَّا مَا ظَهَرَ دُونَ مَا بَطَنَ وَلَا تُبَاعُ الرَّطْبَةُ إلَّا بَعْدَ جَزِّهَا، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَرَرٌ، وَهُوَ بَيْعٌ لِلثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَأَكْثَرُهُمْ أَطْلَقُوا ذَلِكَ فِي كُلِّ مَغِيبٍ، كَالْجَزَرِ، وَالْفُجْلِ، وَالْبَصَلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: إنْ كَانَ مِمَّا يُقْصَدُ فُرُوعُهُ وَأُصُولُهُ كَالْبَصَلِ الْمَبِيعِ أَخْضَرَ وَالْلآبِ وَالْفُجْلِ، أَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ فُرُوعَهُ، فَالْأَوْلَى جَوَازُ بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ ظَاهِرٌ، فَأَشْبَهَ الشَّجَرَ وَالْحِيطَانَ، وَيَدْخُلُ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْمَبِيعِ تَبَعًا، وَإِنْ كَانَ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ أُصُولُهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَغْلَبَ وَإِنْ تَسَاوَيَا لَمْ يَجُزْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ فِي الْأَقَلِّ التَّابِعِ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، فَإِنَّ أَبَا دَاوُد قَالَ: قُلْت لِأَحْمَدَ: بَيْعُ الْجَزَرِ فِي الْأَرْضِ، قَالَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَّا مَا قُلِعَ مِنْهُ، هَذَا الْغَرَرُ شَيْءٌ لَيْسَ نَرَاهُ كَيْفَ نَشْتَرِيهِ، فَعَلَّلَ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ.

فَقَدْ يُقَالُ: إنْ لَمْ يُرَ لَمْ يُبَعْ، وَقَدْ قَالَ: رُؤْيَةُ بَعْضِ الْمَبِيعِ تَكْفِي إذَا دَلَّتْ عَلَى الْبَاقِي، كَرُؤْيَةِ وَجْهِ الْعَبْدِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَقَاثِي إذَا بِيعَتْ بِأُصُولِهَا كَمَا هُوَ الْعَادَةُ غَالِبًا، قَالَ قَوْمُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَيْعَ أُصُولِ الْخَضْرَاوَاتِ كَبَيْعِ الشَّجَرِ، وَإِذَا بَاعَ الشَّجَرَ وَعَلَيْهِ ثَمَرٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ جَازَ، فَكَذَلِكَ هَذَا وَذُكِرَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ.

وَقَالَ الْمُتَقَدِّمُونَ: لَا يَجُوزُ بِحَالٍ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ وَمَنْصُوصُهُ، فَهُوَ إنَّمَا نَهَى عَمَّا يَعْتَادُهُ النَّاسُ، وَلَيْسَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً فِي الْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ أَنْ يُبَاعَ دُونَ عُرُوقِهِ، وَالْأَصْلُ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُ، فَإِنَّ الْأَصْلَ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ فِي الشَّجَرِ الَّذِي عَلَيْهِ ثَمَرٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، أَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ مَقْصُودُهُ الْأَعْظَمُ جَازَ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الثَّمَرَ فَاشْتَرَى الْأَصْلَ مَعَهَا حِيلَةً لَمْ يَجُزْ، وَلِذَلِكَ

ص: 23

إذَا اشْتَرَى أَرْضًا وَفِيهَا زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ مُثْمِرٌ، لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ جَازَ دُخُولُ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ مَعَهَا تَبَعًا، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الثَّمَرُ وَالزَّرْعُ، فَاشْتَرَى الْأَرْضَ لِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، وَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلُهُ فِي ثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْمَقَاثِي وَالْمَبَاطِخِ إنَّمَا هُوَ الْخَضْرَاوَاتُ دُونَ الْأُصُولِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا إلَّا قِيَمٌ يَسِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحِصَّةِ، وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ فِيهَا وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: كَمَا فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمُغَيَّبَاتِ بِنَاءً عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَفِي بَيْعِ مَا لَمْ يَرَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ عَلَى الْمَنْعِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى قَوْلِنَا لَا يَصِحُّ بَيْعُ مَا لَمْ يَرَهُ، فَإِذَا صَحَّحْنَا بَيْعَ الْغَائِبِ، فَهَذَا هُوَ الْغَائِبُ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا مُطْلَقًا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ إلْحَاقًا لَهَا بِلُبِّ الْجَوْزِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْخِبْرَةِ يَسْتَدِلُّونَ بِرُؤْيَةِ وَرَقِ هَذِهِ الْمَدْفُونَاتِ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ أَجْوَدَ مِمَّا يَعْلَمُ الْعَبْدُ بِرُؤْيَةِ وَجْهِهِ، وَالْمَرْجِعُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَى الصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِ، وَهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، كَمَا يُعْرَفُ غَيْرُهَا مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ وَأَوْلَى.

الثَّانِي:

أَنَّ هَذَا مِمَّا تَمَسُّ حَاجَةُ النَّاسِ إلَى بَيْعِهِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُبَعْ حَتَّى قُلِعَ حَصَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ مُبَاشَرَةُ الْقَلْعِ وَالِاسْتِنَابَةِ فِيهِ، وَإِنْ قَطَعُوهُ جُمْلَةً فَسَدَ بِالْقَلْعِ، فَبَقَاؤُهُ فِي الْأَرْضِ كَبَقَاءِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَنَحْوِهِمَا فِي قِشْرِهِ الْأَخْضَرِ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ يُجَوِّزُونَ الْعَرَايَا مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْمُزَابَنَةِ لِحَاجَةِ الْمُشْتَرِي إلَى أَكْلِ الرُّطَبِ، أَوْ الْبَائِعُ إلَى أَكْلِ التَّمْرِ، فَحَاجَةُ الْبَائِعِ هُنَا أَوْكَدُ بِكَثِيرٍ

، وَسَنُقَرِّرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ

، وَجَوَازُ بَيْعِ الْمَقَاثِي بَاطِنِهَا وَظَاهِرِهَا وَإِنْ اشْتَمَلَ ذَلِكَ عَلَى بَيْعِ مَعْدُومٍ إذَا بَدَا صَلَاحُهَا، كَمَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِ نَخْلَةٍ، أَوْ شَجَرَةٍ أَنْ يُبَاعَ جَمِيعُ ثَمَرِهَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَمْ يَصْلُحْ بَعْدُ.

وَغَايَةُ مَا اعْتَذَرُوا بِهِ عَنْ خُرُوجِ هَذَا مِنْ الْقِيَاسِ أَنْ قَالُوا إنَّهُ لَا يَكُنْ أَفْرَادُ الْبَيْعِ لِذَلِكَ مِنْ نَخْلَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ الْبُسْرَةَ بِالْعَقْدِ اخْتَلَطَتْ بِغَيْرِهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ

ص: 24

الْبُسْرَةَ تَصْفَرُّ فِي يَوْمِهَا، وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْمَقْثَاةِ، وَقَدْ اعْتَذَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ عَنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ تَبَعًا بِأَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَرِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ تَابِعًا لِلْمَوْجُودِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي مِلْكِهِ، وَالْجُمْهُورُ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يَعْلَمُونَ فَسَادَ هَذَا الْعُذْرِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ سَقْيُ الثَّمَرَةِ، وَيُسْتَحَقُّ إبْقَاؤُهَا عَلَى الشَّجَرِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَلَوْ لَمْ يُسْتَحَقَّ الزِّيَادَةُ بِالْعَقْدِ لَمَا وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ مَا بِهِ يُوجَدُ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْبَائِعِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ بِوَقْتِهِ الْمَبِيعُ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ، لَا مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمِلْكِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الرِّوَايَةَ اخْتَلَفَتْ عَنْ أَحْمَدَ، إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي حَدِيقَةٍ مِنْ الْحَدَائِقِ، هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِهَا أَمْ لَا يُبَاعُ إلَّا مَا صَلُحَ مِنْهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ:

أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ: أَنَّهُ لَا يُبَاعُ إلَّا مَا بَدَا صَلَاحُهُ، وَهِيَ اخْتِيَارُ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ، كَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ شَاقِلَا.

الثَّانِيَةُ: يَكُونُ بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي الْبَعْضِ صَلَاحًا لِلْجَمِيعِ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ كَابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي مِنْ بَعْدِهِمَا، ثُمَّ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ فِي بُسْتَانٍ بَعْضُهُ بَالِغٌ وَغَيْرُ بَالِغٍ يَبِيعُ إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ الْبُلُوغُ، فَمِنْهُمْ كَالْقَاضِي وَأَبِي حَكِيمٍ النِّهْرَوَانِيِّ وَأَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِمْ، مَنْ قَصَرَ الْحُكْمَ بِمَا إذَا غَلَبَ الصَّلَاحُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الصَّلَاحِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَأَبِي الْخَطَّابِ وَجَمَاعَاتٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَاللَّيْثِ وَزَادَ مَالِكٌ فَقَالَ يَكُونُ صَلَاحًا لِمَا جَاوَرَهُ مِنْ الْأَفْرِحَةِ، وَحَكَوْا ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ هَلْ يَكُونُ صَلَاحُ النَّوْعِ كَالْبَرْنِيِّ مِنْ الرُّطَبِ إصْلَاحًا لِسَائِرِ أَنْوَاعِ الرُّطَبِ، عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ:

أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي ابْنِ عَقِيلٍ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ.

وَالثَّانِي: الْجَوَازُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْخَطَّابِ، وَزَادَ اللَّيْثُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَقَالَ: صَلَاحُ الْجِنْسِ كَالتُّفَّاحِ وَاللَّوْزِ يَكُونُ صَلَاحًا لِسَائِرِ أَجْنَاسِ الثِّمَارِ،

وَمَأْخَذُ مَنْ جَوَّزَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ بَيْعَ بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ يُفْضِي إلَى سُوءِ الْمُشَارَكَةِ، وَاخْتِلَافِ الْأَيْدِي، وَهَذِهِ عِلَّةُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْبُسْتَانِ الْوَاحِدِ وَالْبَسَاتِينِ، وَمَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا.

ص: 25

قَالَ: الْمَقْصُودُ الْأَمْنُ مِنْ الْعَاهَةِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِشُرُوعِ الثَّمَرِ فِي الصَّلَاحِ، وَمَأْخَذُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا يَقْتَضِي بُدُوَّ صَلَاحِ الْجَمِيعِ.

وَالْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ أَنَّ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ الْبُسْتَانِ مِنْ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِبُدُوِّ الصَّلَاحِ فِي بَعْضِهِ، فَقِيَاسُ قَوْلِهِ جَوَازُ بَيْعِ الْمَقْثَاةِ إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهَا وَالْمَعْدُومُ هُنَا فِيهَا كَالْمَعْدُومِ مِنْ أَجْزَاءِ الثَّمَرَةِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ، إذْ تَفْرِيقُ الْأَشْجَارِ فِي الْبَيْعِ أَيْسَرُ مِنْ تَفْرِيقِ الْبِطِّيخَاتِ وَالْقِثَّاتِ وَالْخِيَارَاتِ، وَتَمْيِيزُ اللُّقَطَةِ عَنْ اللُّقَطَةِ لَوْ لَمْ يَشُقَّ فَإِنَّهُ دَامِرٌ لَا يَنْضَبِطُ، فَإِنَّ اجْتِهَادَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتٌ وَالْغَرَضُ بِهَذَا أَنَّ أُصُولَ أَحْمَدَ تَقْتَضِي مُوَافَقَةَ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، كَمَا قَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْجَوَابَاتِ، أَوْ قَدْ خَرَّجَهُ أَصْحَابُهُ عَلَى أُصُولِهِ، وَكَمَا أَنَّ الْعَالِمَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَالْأَئِمَّةِ كَثِيرًا مَا يَكُونُ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ قَوْلَانِ فِي وَقْتَيْنِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ لَهُ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْ الْمَسَائِلِ قَوْلَانِ فِي وَقْتَيْنِ، فَيُجِيبُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ بِجَوَابٍ فِي وَقْتٍ، وَيُجِيبُ فِي بَعْضٍ بِجَوَابٍ آخَرَ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَإِذَا كَانَتْ الْأَفْرَادُ مُسْتَوِيَةً، وَكَانَ لَهُ فِيهَا قَوْلَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَرْقٌ يَذْهَبُ إلَيْهِ مُجْتَهِدٌ فَقَوْلُهُ فِيهَا وَاحِدٌ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا قَدْ يَذْهَبُ إلَيْهِ مُجْتَهِدٌ.

فَقَالَتْ طَائِفَةٌ، مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَخْرُجُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ، كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى: يَخْرُجُ الْجَوَابُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مِمَّنْ يَذْهَبُ إلَى الْفَرْقِ كَمَا اقْتَضَتْهُ أُصُولُهُ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُخَرِّجُ الْجَوَابَ إذَا رَآهُمَا مُسْتَوِيَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَعُمَّ، هَلْ هُوَ مِمَّنْ يُفَرَّقُ أَمْ لَا؟ وَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَ بَعْضِ الْأَفْرَادِ وَبَعْضٍ مُسْتَحْضِرًا لَهُمَا، كَانَ سَبَبُ الْفَرْقِ مَأْخَذًا شَرْعِيًّا كَانَ الْفَرْقُ قَوْلَهُ، وَإِنْ كَانَ مَأْخَذًا عَادِيًا أَوْ حِسِّيًّا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَكُونُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَعْلَمَ بِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَمْ يُبَاشِرُوا ذَلِكَ، فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا شَرْعًا، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْعَالِمُ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ» .

وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ أَوْ نَوْعِهَا مِنْ الْعِلْمِ قَدْ يُسَمَّى تَنَاقُضًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ

ص: 26

التَّنَاقُضَ اخْتِلَافُ مَقَالَتَيْنِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَإِذَا كَانَ فِي وَقْتٍ قَدْ قَالَ إنَّ هَذَا حَرَامٌ، وَقَالَ فِي وَقْتٍ آخَرَ فِيهِ أَوْ فِي مِثْلِهِ إنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، أَوْ قَالَ مَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ فَقَدْ يُنَاقِضُ قَوْلَاهُ، وَهُوَ مُصِيبٌ فِي كِلَاهُمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، كَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْبَاطِنِ حُكْمٌ عَلَى الْمُجْتَهِدِ غَيْرَ مَا اعْتَقَدَهُ.

وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ لِلَّهِ حُكْمًا فِي الْبَاطِنِ عَلِمَهُ الْعَالِمُ فِي إحْدَى الْمَقَالَتَيْنِ، وَلَمْ يَعْلَمْهُ فِي الْمُقْبِلَةِ الَّتِي يُنَاقِضُهَا، وَعَدَمُ عِلْمِهِ مَعَ اجْتِهَادِهِ مَغْفُورٌ لَهُ مَعَ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْ قَصْدِهِ الْحَقَّ وَاجْتِهَادِهِ فِي طَلَبِهِ، وَلِهَذَا شَبَّهَ بَعْضُهُمْ تَعَارُضَ الِاجْتِهَادَاتِ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ، مَعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ الثَّابِتِ بِخِطَابِ حُكْمِ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِخِلَافِ أَحَدِ قَوْلَيْ الْعَالِمِ الْمُتَنَاقِضِ، هَذَا فِيمَنْ يَتَّقِي اللَّهَ فِيمَا يَقُولُهُ مَعَ عِلْمِهِ بِتَقْوَاهُ وَسُلُوكِهِ الطَّرِيقَ الْمُرْسَلَ، وَأَمَّا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْخُصُومَاتِ فَهُمْ مَذْمُومُونَ فِي مُنَاقَضَاتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا قَصْدٍ لِمَا يَجِبُ قَصْدُهُ.

وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ لَازِمَ قَوْلِ الْإِنْسَانِ نَوْعَانِ.

أَحَدُهُمَا: لَازِمُ قَوْلِهِ الْحَقُّ فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ، فَإِنَّ لَازِمَ الْحَقِّ حَقٌّ وَيَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ إذَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِهِ بَعْدَ ظُهُورِهِ. وَكَثِيرًا مَا يُضِيفُ النَّاسُ إلَى مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ.

وَالثَّانِي: لَازِمُ قَوْلِهِ الَّذِي لَيْسَ بِحَقٍّ، فَهَذَا لَا يَجِبُ الْتِزَامُهُ إذْ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ قَدْ تَنَاقَضَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ التَّنَاقُضَ وَاقِعٌ مِنْ كُلِّ عَالِمٍ غَيْرِ النَّبِيِّينَ عليهم السلام.

ثُمَّ إنَّ مَنْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَلْتَزِمُهُ بَعْدَ ظُهُورِهِ لَهُ فَقَدْ يُضَافُ إلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ قَوْلٌ لَوْ ظَهَرَ لَهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ لِكَوْنِهِ قَدْ قَالَ مَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِفَسَادِ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَلَا يُلَازِمُهُ وَهَذَا التَّفْضِيلُ فِي اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي لَازِمِ الْمَذْهَبِ، هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَوْ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ هُوَ أَجْوَدُ مِنْ إطْلَاقِ أَحَدِهِمَا، فَمَا كَانَ مِنْ اللَّوَازِمِ يَرْضَى الْقَائِلُ بَعْدَ وُضُوحِهِ بِهِ فَهُوَ قَوْلُهُ، وَمَا لَا يَرْضَاهُ فَلَيْسَ قَوْلَهُ، وَإِنْ كَانَ مُتَنَاقِضًا وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّازِمِ الَّذِي يَجِبُ الْتِزَامُهُ مَعَ الْمَلْزُومِ، وَاللَّازِمِ الَّذِي يَجِبُ تَرْكُ الْمَلْزُومِ لِلُزُومِهِ، وَهَذَا مُتَوَجَّهٌ فِي اللَّوَازِمِ الَّتِي لَمْ يُصَرِّحْ هُوَ بِعَدَمِ لُزُومِهَا، فَأَمَّا إذَا نَفَى هُوَ اللُّزُومَ لَمْ يَجُزْ

ص: 27

أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ اللَّازِمُ بِحَالٍ، وَإِلَّا أُضِيفَ إلَى كُلِّ عَالِمٍ مَا اعْتَقَدْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ، لِكَوْنِهِ مُلْتَزِمًا لِرِسَالَتِهِ. فَلَمَّا لَمْ يُضِفْ إلَيْهِ مَا نَفَاهُ عَنْ الرَّسُولِ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ، ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّازِمِ الَّذِي لَمْ يَنْفِهِ وَاللَّازِمِ الَّذِي نَفَاهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ نَصَّ عَلَى الْحُكْمِ نَفْيَهُ لِلُّزُومِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَنْ اجْتِهَادٍ فِي وَقْتَيْنِ، وَسَبَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ مَعَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّ الْعَالِمَ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الِاقْتِضَاءِ، وَالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ فِي الظَّاهِرِ بِاعْتِقَادِ مَا قَامَ دَلِيلُهُ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطَابِقًا لَكِنْ اعْتِقَادًا لَيْسَ بِيَقِينٍ، كَمَا يُؤْمَرُ الْحَاكِمُ بِتَصْدِيقِ الشَّاهِدَيْنِ ذَوِي الْعَدْلِ، وَإِنْ كَانَا فِي الْبَاطِنِ قَدْ أَخْطَآ أَوْ كَذَبَا وَكَمَا يُؤْمَرُ الْمُفْتِي بِتَصْدِيقِ الْمُخْبِرِ الْعَدْلِ الضَّابِطِ، أَوْ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ فَيَعْتَقِدُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ مُطَابِقًا فَالِاعْتِقَادُ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ الْعِبَادُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُطَابِقٍ وَلَمْ يُؤْمَرُوا فِي الْبَاطِنِ بِاعْتِقَادٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ قَطُّ فَإِذَا اعْتَقَدَ الْعَالِمُ اعْتِقَادَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فِي قَضِيَّةٍ أَوْ قَضِيَّتَيْنِ مَعَ قَصْدِهِ الْحَقَّ وَاتِّبَاعِهِ لِمَا أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ عُذِرَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ، وَهُوَ الْخَطَأُ الْمَرْفُوعُ هُنَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَإِنَّهُمْ {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم: 23] . وَيُحَرِّمُونَ بِمَا يَقُولُونَ جَزْمًا لَا يَقْبَلُ النَّقِيضَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِجَزْمِهِ، فَيَعْتَقِدُونَ مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِاعْتِقَادِهِ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا، وَيَقْصِدُونَ مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِاقْتِصَادِهِ، وَيَجْتَهِدُونَ اجْتِهَادًا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ، فَلَمْ يُصْدَرْ عَنْهُمْ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالِاقْتِصَادِ مَا يَقْتَضِي مَغْفِرَةَ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ، فَكَانُوا ظَالِمِينَ تَشْبِيهًا بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَجَاهِلِينَ شَبِيهًا بِالظَّالِمِينَ.

وَالْمُجْتَهِدُ الْمَحْضُ الِاجْتِهَادَ الْعِلْمِيَّ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ سِوَى الْحَقِّ وَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَهُ، وَأَمَّا مُتَّبِعُ الْهَوَى الْمَحْضِ فَهُوَ مَنْ يَعْلَمُ الْحَقَّ وَيُعَانِدُ عَنْهُ، وَثَمَّ قِسْمٌ آخَرُ وَهْمٌ غَالِبٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ هَوًى فِيهِ شُبْهَةٌ فَيَجْمَعَ الشَّهْوَةَ وَالشُّبْهَةَ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّاقِدَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ وَيُحِبُّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ» . فَالْمُجْتَهِدُ الْمَحْضُ مَغْفُورٌ لَهُ وَمَأْجُورٌ، وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمَحْضِ مُسْتَوْجِبٌ لِلْعَذَابِ، وَالْمُرَكَّبُ مِنْ شُبْهَةٍ وَهُوَ مُسِيءٌ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ مَا يَغْلِبُ وَبِحَسَبِ الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ، وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى فِقْهٍ أَوْ تَصَوُّفٍ مُبْتَلُونَ بِذَلِكَ.

وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ أُصُولُ

ص: 28

مَالِكٍ وَأُصُولُ أَحْمَدَ وَبَعْضُ أُصُولِ غَيْرِهِمَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ غَالِبُ مُعَامَلَاتِ السَّلَفِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُ النَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ إلَّا بِهِ، وَكُلُّ مَنْ شَرَعَ فِي تَحْرِيمِ مَا يَعْتَقِدُهُ غَرَرًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَضْطَرَّ إلَى إجَازَةِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مَذْهَبِهِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِمَّا أَنْ يَحْتَالَ، وَقَدْ رَأَيْنَا النَّاسَ وَبَلَغَتْنَا أَخْبَارُهُمْ فَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا الْتَزَمَ مَذْهَبَهُ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ مَفْسَدَةَ التَّحْرِيمِ لَا تَزُولُ بِالْحِيلَةِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا، فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُحَرِّمَ الشَّارِعُ عَلَيْنَا أَمْرًا نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ، ثُمَّ لَا يُبِيحُهُ إلَّا بِحِيلَةٍ لَا فَائِدَةَ فِيهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ اللَّعِبِ، وَلَقَدْ تَأَمَّلْتُ أَغْلَبَ مَا وَقَعَ النَّاسُ فِي الْحِيَلِ فَوَجَدْتُهُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ.

إمَّا ذُنُوبٌ جَوَّزُوا عَلَيْهَا تَضْيِيقًا فِي أُمُورِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا دَفْعَهُ إلَّا بِالْحِيَلِ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ الْحِيَلُ إلَّا بَلَاءً كَمَا جَرَى لِأَصْحَابِ السَّبْتِ مِنْ الْيَهُودِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] . وَهَذَا ذَنْبٌ عَمَلِيٌّ.

وَإِمَّا مُبَالَغَةٌ فِي التَّشْدِيدِ لِمَا اعْتَبَرُوهُ مِنْ تَحْرِيمِ الشَّارِعِ فَاضْطَرَّهُمْ هَذَا الِاعْتِقَادُ إلَى الِاسْتِحْلَالِ بِالْحِيَلِ؛ وَهَذَا مِنْ خَطَأِ الِاجْتِهَادِ، وَإِلَّا فَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَأَخَذَ مَا أَحَلَّ لَهُ وَأَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْوِجُهُ إلَى الْحِيَلِ الْمُبْتَدَعَةِ أَبَدًا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. وَإِنَّمَا بُعِثَ نَبِيُّنَا بِالْحَنَفِيَّةِ السَّمْحَةِ، فَالسَّبَبُ الْأَوَّلُ هُوَ الظُّلْمُ، وَالثَّانِي عَدَمُ الْعِلْمِ، وَالظُّلْمُ وَالْجَهْلُ هُوَ وَصْفُ الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} [الأحزاب: 72] .

وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى، إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْأَعْيَانِ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، أَوْ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ كَالْمَيْسِرِ وَالرِّبَا الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ بُيُوعُ الْغَرَرِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي نَبَّهَ اللَّهُ عَلَيْهَا وَرَسُولُهُ، بِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَيْسِرَ يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، سَوَاءٌ كَانَ مَيْسِرًا بِالْمَالِ أَوْ بِاللَّعِبِ، فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِلَا فَائِدَةٍ وَأَخْذَ الْمَالِ بِلَا حَقٍّ يُوقِعُ فِي النُّفُوسِ ذَلِكَ.

ص: 29

وَكَذَلِكَ رَوَى فَقِيهِ الْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه، قَالَ كَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ قَالَ الْمُبْتَاعُ إنَّهُ أَصَابَ الثَّمَرَ دَمَانٌ، أَصَابَهُ مَرَضٌ، أَصَابَهُ قُشَامٌ، عَاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، لَمَّا كَثُرَتْ عِنْدَهُ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ:«وَاَيْمُ اللَّهِ فَلَا تَتَبَايَعُوا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُ الثَّمَرِ» . كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِمْ.

وَذَكَرَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَكُنْ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا فَيَتَبَيَّنَ الْأَحْمَرَ مِنْ الْأَصْفَرِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَأَبُو دَاوُد إلَى قَوْلِهِ خُصُومَتِهِمْ، وَرَوَى أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ «قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَنَحْنُ نَتَبَايَعُ الثِّمَارَ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُصُومَةً فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ هَؤُلَاءِ ابْتَاعُوا الثِّمَارَ يَقُولُونَ أَصَابَهَا الدَّمَانُ وَالْقُشَامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَلَا تَبَايَعُوهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» .

فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ سَبَبَ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ مَا قَضَتْ إلَيْهِ مِنْ الْخِصَامُ، وَهَكَذَا بُيُوعُ الْغَرَرِ وَقَدْ ثَبَتَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ، وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ تَعْلِيلُهُ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهُوَ، قِيلَ: وَمَا تَزْهُو؟ ، قَالَ: حَتَّى تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْت إذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تَزْهُوَ فَقُلْنَا لِأَنَسٍ: مَا زَهْوُهَا، قَالَ: تَحْمَرُّ أَوْ تَصْفَرُّ» .

أَرَأَيْت أَنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيك، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ:

ص: 30

جَعَلَ مَالِكٌ والداروردي قَوْلَ أَنَسٍ أَرَأَيْت أَنْ مَنَعَ اللَّهَ الثَّمَرَةَ مِنْ حَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَدْرَجَهُ فِيهِ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ غَلَطٌ فَهَذَا التَّعْلِيلُ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ فِي بَيَانِ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَكْلًا لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ، حَيْثُ أَخَذَهُ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ بِلَا عِوَضٍ، وَإِذَا كَانَتْ مَفْسَدَةُ بَيْعِ الْغَرَرِ هِيَ كَوْنُهُ مَطِيَّةُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ إذَا عَارَضَهَا الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا، كَمَا أَنَّ السِّبَاقَ بِالْخَيْلِ وَالسِّهَامِ وَالْإِبِلِ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ جَازَ بِالْعِوَضِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ غَيْرُهُ بِعِوَضٍ، وَكَمَا أَنَّ اللَّهْوَ الَّذِي يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مَنْفَعَةٌ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:«كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ رَجُلٌ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ» .

صَارَ هَذَا اللَّهْوُ حَقًّا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الضَّرَرَ عَلَى النَّاسِ بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِمَّا قَدْ يَتَخَوَّفُ مِنْهَا مَنْ تَبَاغَضَ وَأَكَلَ مَالًا بِالْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ فِيهَا يَسِيرٌ، وَالْحَاجَةُ إلَيْهَا مَاسَّةٌ، وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِيَسِيرِ الْغَرَرِ، وَالشَّرِيعَةُ جَمِيعُهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَفْسَدَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلتَّحْرِيمِ إذَا عَارَضَتْهَا حَاجَةٌ رَاجِحَةٌ أُبِيحَ الْمُحَرَّمُ، فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ مَنْفِيَّةً، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَى بَقَائِهَا بَعْدَ الْبَيْعِ عَلَى الشَّجَرِ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ أَبَاحَ الشَّرْعُ ذَلِكَ، وَقَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَا سَنُقَرِّبُ قَاعِدَتَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا إذَا تَلِفَتْ بَعْدَ الْبَيْعِ بِجَائِحَةٍ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيك ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ تَأْخُذَ مَالَ أَخِيك بِغَيْرِ حَقٍّ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْهُ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ» .

وَالشَّافِعِيُّ رضي الله عنه لَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا الْحَدِيثُ وَإِنَّمَا بَلَغَهُ حَدِيثٌ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِيهِ اضْطِرَابٌ، أَخَذَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ الْكُوفِيِّينَ إنَّهَا تَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي لَا

ص: 31

الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَهُ قَبْضٌ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ الْكُوفِيِّينَ أَمْشَى؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ إبْقَاءَهُ عَلَى الشَّجَرِ، وَإِنَّمَا مُوجِبُ الْعَقْدِ عِنْدَهُمْ الْقَبْضُ النَّاجِزُ بِكُلِّ حَالٍ وَهُوَ طَرْدٌ لِقِيَاسٍ سَنَذْكُرُ أَصْلَهُ وَضَعْفَهُ مِنْ أَنَّ مَصْلَحَةَ بَنِي آدَمَ لَا تَقُومُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ ذَلِكَ.

مَعَ أَنِّي لَا أَعْلَمُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سُنَّةً صَرِيحَةً بِأَنَّ الْمَبِيعَ التَّالِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَبْضِ يَكُونُ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ، وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِتَلَفِهِ إلَّا حَدِيثَ الْجَوَائِحِ هَذَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ لَكَانَ الِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ يُوَافِقُهُ، وَهُوَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ» ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلثَّمَرَةِ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ جَدَادِهَا عِنْدَ كَمَالِهَا لَا عَقِبَ الْعَقْدِ، كَمَا أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا فَتَلَفُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْجَدَادِ كَتَلَفِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَفِي الْإِجَارَةِ يَنْفَكُّ ضَمَانُ الْمُؤَجَّرِ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَمْ يَمْلِكْ الْمَنْفَعَةَ، وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَمْلِكْ الْإِبْقَاءَ، وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَقُولُ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَسَنَذْكُرُ أَصْلَهُ.

فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَى عَنْ بَيْعِهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَبَايَعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ وَتَذْهَبَ عَنْهُ الْآفَةُ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنْهُ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ، وَعَنْ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ» ، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُحْرَزَ مِنْ كُلِّ عَارِضٍ» ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ كَوْنَهُ كَانَ مَعْدُومًا فَإِنَّهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَأَمْنِهِ الْعَاهَةَ يُرِيدُ أَجْزَاءَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْأَمْنَ مِنْ الْعَاهَاتِ النَّادِرَةِ، فَإِنَّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ إذْ قَدْ يُصِيبُهَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ:{أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17]{وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] وَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي قَوْلِهِ:

ص: 32

{حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس: 24] وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ ذَهَابُ الْعَاهَةِ الَّتِي يَتَكَرَّرُ وِرْدُهَا؛ وَهَذِهِ إنَّمَا تُصِيبُهُ بَلْ اشْتِدَادُ الْحَبِّ وَقَبْلَ ظُهُورِ النُّضْجِ فِي الثَّمَرِ، إذْ الْعَاهَةُ بَعْدَ ذَلِكَ نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا قَبْلَهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَ بَيْعَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْغَايَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَقْتٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَى حِينِ كَمَالِ الصَّلَاحِ وَبَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ بَعْدَ كَمَالِ صَلَاحِهِ مُتَعَذِّرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْمُلُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَإِيجَابُ قَطْعِهِ عَلَى مَالِكِهِ فِيهِ ضَرَرٌ وَمُرَتَّبٌ عَلَى ضَرَرِ الْغَرَرِ.

فَتَبَيَّنَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدَّمَ مَصْلَحَةَ جَوَازِ الْبَيْعِ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى مَفْسَدَةِ الْغَرَرِ الْيَسِيرِ كَمَا تَقْتَضِيهِ أُصُولُ الْحِكْمَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا صلى الله عليه وسلم وَعَلَّمَهَا أُمَّتَهُ، وَمَنْ طَرَدَ الْقِيَاسَ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ نَاظِرٍ إلَى مَا يُعَارَضُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَانِعِ الرَّاجِحِ أَفْسَدَ كَثِيرًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَضَاقَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَدِينُهُ، وَأَيْضًا فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إبِلٌ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إلَّا خِيَارًا رَبَاعِيًا، فَقَالَ: أَعْطِهِ إيَّاهُ فَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» .

فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اقْتِرَاضِ مَا سِوَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَنَحْوِهِ، كَمَا عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ، وَالْحَدِيثُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ مُوجِبَةٌ رَدَّ الْمِثْلِ، وَالْحَيَوَانُ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا عَنْ مَالٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ مِثْلُ الْحَيَوَانِ تَقْرِيبًا فِي الذِّمَّةِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ تَثْبُتُ الْقِيمَةُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ التَّقْرِيبُ، وَإِلَّا فَيَعِزُّ وُجُودُ حَيَوَانٍ مِثْلِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ وَأَنَّهُ مَضْمُونٌ فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ بِالْقِيمَةِ،

وَأَيْضًا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْجِيلِ الدُّيُونِ إلَى الْحَصَادِ وَالْجَدَادِ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، إحْدَاهُمَا: يَجُوزُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ فِي قَوْله تَعَالَى:{لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] ، وَالسُّنَّةُ فِي حَدِيثِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، وَإِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِدُونِ فَرْضِ الصَّدَاقِ، وَتَسْتَحِقُّ مَهْرَ

ص: 33

الْمِثْلِ إذَا دَخَلَ بِهَا بِإِجْمَاعِهِمْ، وَإِذَا مَاتَ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِحَدِيثِ بِرْوَعَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مُتَقَارِبٌ لَا مَحْدُودٌ، فَلَوْ كَانَ التَّحْدِيدُ مُعْتَبَرًا فِي الْمَهْرِ مَا جَازَ النِّكَاحُ بِدُونِهِ، وَكَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«نَهَى عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَجْرُهُ، وَعَنْ اللَّمْسِ وَالنَّجْشِ وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ» ، فَمَضَتْ الشَّرِيعَةُ بِجَوَازِ النِّكَاحِ قَبْلَ فَرْضِ الْمَهْرِ، وَأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا مَعَ تَبَيُّنِ الْأَجْرِ، فَدَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَسَبَبُهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ غَيْرُ مَحْدُودٍ، بَلْ الْمَرْجِعُ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ فَكَذَلِكَ عِوَضُهُ الْأَجْرُ.

وَلِأَنَّ الْمَهْرَ فِيهِ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ. وَإِنَّمَا هُوَ نَخْلَةٌ تَابِعَةٌ فَأَشْبَهَ الثَّمَرَ التَّابِعَ لِلشَّجَرِ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَكَذَلِكَ «لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ هَوَازِنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ السَّبْيِ وَبَيْنَ الْمَالِ، فَاخْتَارُوا السَّبْيَ، وَقَالَ لَهُمْ: إنِّي قَائِمٌ فَخَاطِبُ النَّاسِ فَقُولُوا إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَنَسْتَشْفِعُ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَقَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ: فَقَالَ: إنِّي قَدْ رَدَدْتُ عَلَى هَؤُلَاءِ سَبْيَهُمْ فَمَنْ شَاءَ طَيَّبَ ذَلِكَ وَمَنْ شَاءَ فَإِنَّا نُعْطِيهِ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ عَشْرَ قَلَائِصَ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِي اللَّهُ عَلَيْنَا» فَهَذَا مُعَاوَضَةٌ عَنْ الْإِعْتَاقِ، كَعِوَضِ الْكِتَابَةِ بِإِبِلٍ مُطْلَقَةٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ مُتَفَاوِتٍ غَيْرِ مَحْدُودٍ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ؛ فِي حَدِيثِ حُنَيْنٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَاتَلَهُمْ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ إلَى قَصْرِهِمْ، وَعَامَلَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخْلِ فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَخْلُوا مِنْهَا، وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ وَالْحَلْقَةُ هِيَ السِّلَاحُ، وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَكْتُمُوا وَلَا يُغَيِّبُوا شَيْئًا، فَإِنْ فَعَلُوا فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ» فَهَذَا مُصَالَحَةٌ عَلَى مَالٍ مُتَمَيِّزٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ. «وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ وَالْبَقِيَّةُ فِي رَجَبٍ، يُؤَدُّونَهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ، وَعَارِيَّةً ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلَاثِينَ فَرَسًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا وَثَلَاثِينَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ السِّلَاحِ يَغْزُونَ بِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ صَامِتُونَ لَهَا حَتَّى يَرُدُّوهَا عَلَيْهِمْ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

فَهَذَا مُصَالَحَةٌ عَلَى ثِيَابٍ مُطْلَقَةٍ مَعْلُومَةِ الْجِنْسِ غَيْرِ مَوْصُوفَةٍ بِصِفَاتِ السَّلَمِ،

ص: 34

وَكَذَلِكَ كُلُّ عَارِيَّةٍ خَيْلٍ وَإِبِلٍ وَأَنْوَاعٍ مِنْ السِّلَاحِ مُطْلَقَةٍ غَيْرِ مَوْصُوفَةٍ عِنْدَ شَرْطٍ، قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ، فَظَهَرَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ الْعِوَضَ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَالصَّدَاقِ وَالْكِتَابَةِ وَالْفِدْيَةِ فِي الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَالْجِزْيَةِ وَالصُّلْحِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ، لَيْسَ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ كَمَا يُعْلَمُ الثَّمَنُ وَالْأُجْرَةُ. وَلَا يُقَاسُ عَلَى بَيْعِ الْغَرَرِ كُلُّ عَقْدٍ عَلَى غَرَرٍ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ إمَّا أَنْ لَا تَجِبَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ، أَوْ لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ فِيهَا، وَمَا لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ إذَا وَقَعَ فِيهِ غَرَرٌ لَمْ يُفْضِ إلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَيْعِ بَلْ يَكُونُ إيجَابُ التَّحْدِيدِ فِي ذَلِكَ فِيهِ مِنْ الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ الْمَنْفِيِّ شَرْعًا مَا يَزِيدُ عَلَى ضَرَرِ تَرْكِ تَحْدِيدِهِ.

فَصْلٌ

وَمِمَّا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَمِنْ مَسَائِلِ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ مَا قَدْ عَمَّ بِهِ الْبَلْوَى فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَكْثَرِهَا، لَا سِيَّمَا دِمَشْقَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ تَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى غِرَاسٍ، وَأَرْضٍ تَصْلُحُ لِلزَّرْعِ، وَرُبَّمَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مَسَاكِنَ فَيُرِيدُ صَاحِبُهَا أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِمَنْ يَسْقِيهَا وَيَزْرَعُهَا أَوْ يَسْكُنُهَا مَعَ ذَلِكَ، فَهَذَا إذَا كَانَ فِيهَا أَرْضٌ وَغِرَاسٌ مِمَّا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ إذًا كَافِي الشَّجَرِ قَلِيلًا فَكَانَ الْبَيَاضُ الثُّلُثَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَكْرَى دَارًا فِيهَا نَخَلَاتٌ قَلِيلَةٌ، أَوْ شَجَرَاتُ عِنَبٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَعَنْ أَحْمَدَ كَالْقَوْلَيْنِ فَإِنَّ الْكَرْمَانِيَّ قَالَ لِأَحْمَدَ: الرَّجُلُ يَسْتَأْجِرُ الْأَرْضَ وَفِيهَا نَخَلَاتٌ، قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ اسْتَأْجَرَ شَجَرًا لَمْ يُثْمِرْ.

وَكَأَنَّهُ لَمْ يُعْجِبْهُ أَظُنُّهُ إذَا أَرَادَ الشَّجَرَ، فَلَمْ أَفْهَمْ عَنْهُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهَا إذَا بَاعَ رِبَوِيًّا بِجِنْسِهِ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْثَرَ هُوَ غَيْرُ الْجِنْسِ، كَشَاةٍ ذَاتِ صُوفٍ أَوْ لَبَنٍ بِصُوفٍ أَوْ لَبَنٍ رِوَايَتَانِ وَأَكْثَرُ أُصُولِهِ عَلَى الْجَوَازِ كَقَوْلِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إذَا ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ وَكَانَ مَقْصُودُهُ الْعَبْدَ جَازَ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مَجْهُولًا أَوْ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ، وَلِأَنَّهُ يَقُولُ إذَا ابْتَاعَ أَرْضًا أَوْ شَجَرًا فِيهَا ثَمَرٌ أَوْ زَرْعٌ لَمْ يُدْرِكْ يَجُوزُ إذَا

ص: 35

كَانَ مَقْصُودُهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ، وَهَذَا فِي الْبَيْعِ نَظِيرَ مَسْأَلَتِنَا فِي الْإِجَارَةِ، فَإِنَّ ابْتِيَاعَ الْأَرْضِ، وَاشْتِرَاءَ النَّخِيلِ وَدُخُولَ الثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تُؤْمِنْ الْعَاهَةَ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ دُخُولِ تَمْرِ النَّخَلَاتِ وَالْعِنَبِ فِي الْإِجَارَةِ تَبَعًا.

وَحُجَّةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَنْعِ مَا ثَبَتَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ «نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ اللَّبَنِ وَبَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ» ، كَمَا خَرَّجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ» ، وَفِيهَا، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشَقِّحَ، قِيلَ: وَمَا تُشَقِّحُ؟ قَالَ: تَحْمَرُّ أَوْ تَصْفَرُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ كَلَامُ سَعِيدِ بْنِ مِينَاءَ الْمُحَدِّثِ عَنْ جَابِرٍ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ وَالْمُخَابَرَةِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا «وَعَنْ بَيْعِ السِّنِينَ» بَدَلَ الْمُعَاوَضَةِ. وَفِيهَا أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ النَّخْلَ حَتَّى يُشَقِّحَ» ، وَالْإِشْقَاحُ أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَالْمُحَاقَلَةُ أَنْ يَبِيعَ الْحَقْلَ بِكَيْلٍ مِنْ الطَّعَامِ مَعْلُومٍ. وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ لِلنَّخْلِ بِأَوْسَاقٍ مِنْ الثَّمَرِ، وَالْمُخَابَرَةُ الثُّلُثُ أَوْ الرُّبْعُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. قَالَ زَيْدٌ: قُلْت: لِعَطَاءٍ أَسَمِعْت جَابِرًا يَذْكُرُهَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ. وَفِيهَا عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ، فَقَالَ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُؤْكَلَ مِنْهُ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ، وَحَتَّى يُوزَنَ» ، فَقُلْت: مَا يُوزَنُ، فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ: حَتَّى تُحْرَزَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَتَبَايَعُوا

ص: 36

الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَلَا تَتَبَايَعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ»

. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ تَمْرِ النَّخْلِ سِنِينَ لَا يَجُوزُ، قَالُوا: فَإِذَا أَكْرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ فَقَدْ بَاعَهُ التَّمْرَ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ وَبَاعَهُ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ، ثُمَّ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ مُطْلَقًا طَرَدَ الْعُمُومَ وَالْقِيَاسَ، وَمَنْ جَوَّزَهُ إذَا كَانَ قَلِيلًا، قَالَ: الْغَرَرُ الْيَسِيرُ يُحْتَمَلُ فِي الْعُقُودِ، كَمَا لَوْ ابْتَاعَ النَّخْلَ وَعَلَيْهَا ثَمَرٌ لَمْ يُؤَبَّرْ أَوْ أُبِّرَ وَلَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ جِدًّا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ابْتِيَاعُ الثَّمَرِ بِشَرْطِ الْبَقَاءِ، وَيَجُوزُ ابْتِيَاعُهُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَمُوجِبُ الْعَقْدِ الْقَطْعُ فِي الْحَالِ، فَإِذَا ابْتَاعَهُ مَعَ الْأَصْلِ، فَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ إبْقَاءَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مِلْكُهُ وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ إجَارَةِ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ إجْمَاعٌ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ، وَدُخُولُ الشَّجَرِ فِي الْإِجَارَةِ مُطْلَقٌ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ، وَإِلَيْهِ مَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ. وَهُوَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ السَّلَفِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ خِلَافَهُ، فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَرَوَاهُ عَنْهُ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ فِي مَسَائِلِهِ.

حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ دَيْنٌ، فَدَعَا عُمَرُ غُرَمَاءَهُ، فَقَبِلَهُمْ أَرْضَهُ سِنِينَ، وَفِيهَا النَّخْلُ وَالشَّجَرُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ضَرَبَ الْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ وَغَيْرِهَا، فَأَقَرَّ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا النَّخْلُ وَالْعِنَبُ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْأَرْضِ، وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ أَجْرِبَةِ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ وَالْبَيْضَاءِ خَرَاجًا مُقَدَّرًا، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى جَرِيبِ الْعِنَبِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ النَّخْلِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الرَّطْبَةِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الزَّرْعِ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا مِنْ طَعَامِهِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ هَذِهِ الْمُخَارَجَةَ تَجْرِي الْمُؤَاجَرَةُ، وَإِنَّمَا لَمْ يُوفِهِ

لِعُمُومِ الْمَصْلَحَةِ

، وَأَنَّ الْخَرَاجَ أُجْرَةُ الْأَرْضِ، فَهَذَا بِعَيْنِهِ إجَارَةُ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ، وَهُوَ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَالْمُسْلِمُونَ فِي زَمَانِهِ وَبَعْدَهُ.

ص: 37

وَلِهَذَا تَعَجَّبَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " كِتَابِ الْأَمْوَالِ " مِنْ هَذَا، فَرَأَى أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ تُخَالِفُ مَا عَلِمَهُ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ، وَحُجَّةُ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّ إجَارَةَ الْأَرْضِ جَائِزَةٌ، وَالْحَاجَةُ إلَيْهَا دَاعِيَةٌ، وَلَا يُمْكِنُ إجَارَتُهَا إذَا كَانَ فِيهَا شَجَرٌ، إلَّا بِإِجَارَةِ الشَّجَرِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْجَائِزُ إلَّا بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَتَبَرَّعُ بِسَقْيِ الشَّجَرِ، وَقَدْ لَا يُسَاقِي عَلَيْهَا، وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ، فَإِذَا سَاقَى الْعَامِلُ عَلَى شَجَرٍ فِيهَا بَيَاضٌ جَوَّزَا الْمُزَارَعَةَ فِي ذَلِكَ الْبَيَاضِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ فَيُجَوِّزُهُ مَالِكٌ إذَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ، كَمَا قَالَ فِي بَيْعِ الشَّجَرِ لِلْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُهُ إذَا كَانَ الْبَيَاضُ قَلِيلًا لَا يُمْكِنُ سَقْيُ النَّخْلِ إلَّا بِهِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا وَالنَّخْلُ قَلِيلًا وَفِيهِ لِأَصْحَابِهِ وَجْهَانِ، هَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ كَالثُّلُثِ، أَوْ الرُّبْعِ، فَإِمَّا إنْ فَاضَلَ بَيْنَ الْجُزْأَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِهِ وَكَذَلِكَ إنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ وَقَدَّمَ الْمُسَاقَاتِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، فَأَمَّا إنْ قَدَّمَ الْمُزَارَعَةَ لَمْ تَصِحَّ الْمُزَارَعَةُ وَجْهًا وَاحِدًا، فَقَدْ جَوَّزَا الْمُزَارَعَةَ الَّتِي لَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ إجَارَةُ الشَّجَرِ تَبَعًا لِإِجَارَةِ الْأَرْضِ، وَقَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ هُوَ قِيَاسُ أَحَدِ وَجْهَيْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِلَا شَكٍّ.

وَلِأَنَّ الْمَانِعِينَ مِنْ هَذَا هُمْ بَيْنَ مُحْتَالٍ عَلَى جَوَازِهِ أَوْ مُرْتَكِبٍ لِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ حَرَامٌ، أَوْ ضَارٍّ مُتَضَرِّرٌ، فَإِنَّ الْكُوفِيِّينَ احْتَالُوا عَلَى الْجَوَازِ تَارَةً بِأَنْ يُؤَجِّرَ الْأَرْضَ فَقَطْ، وَيُبِيحَهُ ثَمَرَ الشَّجَرِ، كَمَا يَقُولُونَ فِي بَيْعِ التَّمْرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، يَبِيعُهُ إيَّاهُ مُطْلَقًا، أَوْ بِشَرْطِ الْقَطْعِ وَيُبِيحُهُ إبْقَاءَهَا، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ مَنْقُولَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَتَارَةً بِأَنْ يُكْرِيَهُ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ، وَيُسَاقِيَهُ عَلَى الشَّجَرِ بِالْمُحَابَاةِ مِثْلُ أَنْ يُسَاقِيَهُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ الثَّمَرَةِ لِلْمَالِكِ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ إنَّمَا يُجَوِّزُهَا مَنْ يُجَوِّزُ الْمُسَاقَاةَ، كَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ.

فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَا يُجَوِّزُهَا بِحَالٍ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ إنَّمَا يُجَوِّزُهَا فِي الْجَدِيدِ فِي النَّخْلِ وَالْعِنَبِ، فَقَدْ اُضْطُرُّوا إلَى ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ إلَى أَنْ يُسَمِّيَ الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، وَيَتَبَرَّعُ لَهُ إمَّا بِإِعْرَاءِ الشَّجَرِ وَإِمَّا بِالْمُحَابَاةِ فِي مُسَاقَاتِهَا، وَلِفَرْطِ الْحَاجَةِ إلَى هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي إبْطَالِ الْحِيَلِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ هَذِهِ الْحِيلَةَ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ الْحِيَلِ - أَعْنِي حِيلَةَ الْمُحَابَاةِ فِي الْمُسَاقَاةِ - وَالْمَنْصُوصُ عَنْ

ص: 38

أَحْمَدُ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ إبْطَالُ هَذِهِ الْحِيلَةِ بِعَيْنِهَا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَالْمَنْعُ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ هُوَ صَحِيحٌ قَطْعًا، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك» رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ الْخَمْسَةُ: أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

فَنَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ، فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ سَلَفٍ وَإِجَارَةٍ فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَلَفٍ وَبَيْعٍ أَوْ مِثْلِهِ؛ وَكُلُّ تَبَرُّعٍ يَجْمَعُهُ إلَى الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ مِثْلُ الْهِبَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْعَرِيَّةِ وَالْمُحَابَاةِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، هُوَ مِثْلُ الْقَرْضِ، فَجِمَاعُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَ مُعَاوَضَةٍ وَتَبَرُّعٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّبَرُّعَ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْمُعَاوَضَةِ لَا تَبَرُّعًا مُطْلَقًا؛ فَيَصِيرُ جُزْءًا مِنْ الْعِوَضِ فَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ جَمَعَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَقْرَضَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ بِأَلْفٍ لَمْ يَرْضَ بِالْإِقْرَاضِ إلَّا بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ لِلسِّلْعَةِ؛ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَرْضَ بِبَدَلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ الزَّائِدِ إلَّا لِأَجْلِ الْأَلْفِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا؛ فَلَا هَذَا بَيْعًا بِأَلْفٍ وَلَا هَذَا قَرْضًا مَحْضًا. بَلْ الْحَقِيقَةُ أَنَّهُ أَعْطَاهُ الْأَلْفَ وَالسِّلْعَةَ بِأَلْفَيْنِ، فَهِيَ مَسْأَلَةُ مُدِّ عَجْوَةٍ فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ أَخْذُ أَلْفٍ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ حَرُمَ بِلَا تَرَدُّدٍ وَإِلَّا خَرَجَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ، وَهَكَذَا مَنْ اكْتَرَى الْأَرْضَ الَّتِي تُسَاوِي مِائَةً بِأَلْفٍ وَأَعْرَاهُ الشَّجَرَ أَوْ رَضِيَ مِنْ ثَمَرِهَا بِجُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ. فَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ إنَّمَا تَبَرَّعَ بِالثَّمَرَةِ لِأَجْلِ الْأَلْفِ. فَالثَّمَرَةُ هِيَ حِلُّ الْمَقْصُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْضُهُ فَلَيْسَتْ الْحِيلَةُ إلَّا ضَرْبًا مِنْ اللَّعِبِ وَالْإِفْسَادِ، فَالْمَقْصُودُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ. وَاَلَّذِينَ لَا يَحْتَالُونَ أَوْ يَحْتَالُونَ وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ فَسَادُ هَذِهِ الْحِيلَةِ، هُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إمَّا أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ فَاعِلُونَ لِلْمُحَرَّمِ كَمَا رَأَيْنَا عَلَيْهِ أَكْثَرَ النَّاسِ، وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ وَيَتْرُكُوا تَنَاوُلَ الثِّمَارِ الدَّاخِلَةِ فِي هَذِهِ الْمَعَامِلِ، فَيَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الضَّرَرِ وَالِاضْطِرَارِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَلْتَزِمَ ذَلِكَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ فَمَا يُمْكِنُ الْمُسْلِمِينَ الْتِزَامُ ذَلِكَ إلَّا بِفَسَادِ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ قَطُّ، فَضْلًا عَنْ شَرِيعَةٍ قَالَ اللَّهُ فِيهَا:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وَقَالَ تَعَالَى:

ص: 39

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وَقَالَ تَعَالَى:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا. لِيَعْلَمَ الْيَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا سَعَةً» .

فَكُلُّ مَا لَا يَتِمُّ الْمَعَاشُ إلَّا بِهِ فَتَحْرِيمُهُ حَرَجٌ وَهُوَ مُنْتَفٍ شَرْعًا، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا أَنَّ تَحْرِيمَ مِثْلِ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْأُمَّةَ الْتِزَامُهُ قَطُّ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ الَّذِي لَا يُطَاقُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ بَلْ هُوَ أَشَدُّ مِنْ الْأَغْلَالِ وَالْآصَارِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَوَضَعَهَا اللَّهُ عَنَّا عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ فِي مَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا وَجَدَهَا مَبْنِيَّةً عَلَى قَوْلِهِ:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] .

فَكُلَّمَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَيْهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً هِيَ تَرْكُ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلُ مُحَرَّمٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَى الْمُضْطَرِّ الَّذِي لَيْسَ بِبَاغٍ وَلَا عَادٍ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً كَالْمُسَافِرِ سَفَرَ مُفْضِيَةٍ اُضْطُرَّ فِيهِ إلَى الْمَيْتَةِ، وَالْمُنْفِقِ لِلْمَالِ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى لَزِمَتْهُ الدُّيُونُ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ وَيُبَاحُ لَهُ مَا يُزِيلُ ضَرُورَتَهُ فَيُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ وَيُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ مِنْ الزَّكَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُحْتَالٌ، كَحَالِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ:{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] . وَقَوْلُهُ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ} [النساء: 160] الْآيَةَ.

وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ، رُبَّمَا نُنَبِّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَيْهَا وَهَذَا الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، هُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَدَ وَبَعْضِ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، بَعْدَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ التَّحْرِيمِ شَرْعًا وَعَقْلًا،

ص: 40

فَإِنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ إنَّمَا تَتِمُّ بَعْدَ الْجَوَابِ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فِعْلِ عُمَرُ فِي قِصَّةِ أُسَيْدَ بْنِ الْحُضَيْرِ، فَإِنَّهُ مَلَكَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ الَّتِي فِيهَا بِالْمَالِ الَّذِي كَانَ لِلْغُرَمَاءِ، وَهَذَا عَيْنُ مَسْأَلَتِنَا، وَلَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّخْلَ وَالشَّجَرَ كَانَ قَلِيلًا، فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ حِيطَانَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْغَالِبِ عَلَيْهَا الشَّجَرُ، وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ كَانَ مِنْ سَادَاتِ الْأَنْصَارِ وَمَيَاسِيرِهِمْ، فَيُقَيَّدُ أَنْ يَكُونَ غَالِبٌ عَلَى حَائِطَةِ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ، ثُمَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تُشْتَهَرَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَهَا فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ مَا ضَرَبَهُ مِنْ الْخَرَاجِ فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُ خَرَاجًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِوَضٌ عَمَّا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ، كَمَا يُسَمِّي النَّاسُ الْيَوْمَ كِرَاءَ الْأَرْضِ لِمَنْ يَغْرِسُهَا خَرَاجًا إذَا كَانَ عَلَى كُلِّ شَجَرَةٍ شَيْءٌ مَعْلُومٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [المؤمنون: 72] وَمِنْهُ خَرَاجُ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ ضَرِيبَةٍ يُخْرِجُهَا مِنْ مَالِهِ، فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَجْرُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ جَوَازَ مِثْلِ هَذِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ ثَمَنٌ أَوْ عِوَضٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُثْبِتُهُ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا جَوَّزَتْهُ الصَّحَابَةُ وَلَا نَظِيرَ لَهُ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ، وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ أَرْضٍ فِيهَا شَجَرٌ، كَالْأَرْضِ الْمُفْتَتَحَةِ فَإِنَّهُ إنْ قِيلَ تُمْكِنُ الْمُسَاقَاةُ أَوْ الْمُزَارَعَةُ قِيلَ وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ عُمَرَ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ، كَمَا فَعَلَ فِي أَبْنَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ.

أَمَّا فِي خِلَافَةِ الْمَنْصُورِ وَأَمَّا بَعْدَهُ فَإِنَّهُمْ نَقَلُوا أَرْضَ السَّوَادِ مِنْ الْخَرَاجِ إلَى الْمُقَاسَمَةِ الَّتِي هِيَ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ.

وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ الْكِرَاءِ بِإِزَاءِ الْأَرْضِ، وَالتَّبَرُّعِ بِمَنْفَعَةِ الشَّجَرِ أَوْ الْمُحَابَاةِ فِيهَا.

قِيلَ: وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ عُمَرَ ذَلِكَ فَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالَ لَهُمْ أَرْضُونَ فِيهَا شَجَرٌ تُكْرَى، هَذَا غَالِبٌ عَلَى أَمْوَالِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَنَعْلَمُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ يَعْمُرُونَ أَرْضَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا غَالِبِهِمْ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ قَدْ لَا تَتَيَسَّرُ كُلَّ وَقْتٍ؛ لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى عَامِلٍ أَمِينٍ، وَمَا

ص: 41

كُلُّ أَحَدٍ يَرْضَى بِالْمُسَاقَاةِ، وَلَا كُلُّ مَنْ أَخَذَ الْأَرْضَ يَرْضَى بِالْمُشَارَكَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا قَدْ كَانُوا يُكْرُونَ الْأَرْضَ السَّوْدَاءَ ذَاتَ الشَّجَرِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاحْتِيَالَ بِالتَّبَرُّعِ أَمْرٌ نَادِرٌ لَمْ يَكُنْ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَفْعَلُونَهُ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رضي الله عنه بِمَالِ أُسَيْدَ بْنِ الْحُضَيْرِ، وَكَمَا يَفْعَلُهُ غَالِبُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ وَإِلَى الْيَوْمِ، فَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا هَذِهِ الْإِجَارَةَ وَلَا أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِحِيلَةِ التَّبَرُّعِ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِفِعْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَفْعَلُونَهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَيَكُونُ فِعْلُهَا كَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ، وَلَعَلَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي كَرْيِ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ وَالْمُزَارَعَةِ عَلَيْهَا، لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي كَرْيِ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ، وَلَا فِي الْمُسَاقَاةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ لَيْسَتْ بِطَائِلٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْفَعَةِ الشَّجَرِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ تَفْسِيرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «الْقَبَالَاتُ رِبًا» ، قَالَ: هُوَ أَنْ يَتَقَبَّلَ الْقَرْيَةَ فِيهَا النَّخْلُ وَالْعُلُوجُ، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَخْلٌ، وَهِيَ أَرْضٌ بَيْضَاءُ، قَالَ: لَا بَأْسَ إنَّمَا هُوَ الْآنَ مُسْتَأْجِرًا.

قِيلَ: فَإِنَّ فِيهَا عُلُوجًا قَالَ فَهَذَا هُوَ الْقُبَالَةُ مَكْرُوهَةٌ

، قَالَ حَرْبٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ جَبَلَةَ، سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ:«الْقَبَالَاتُ رِبًا» ، قِيلَ: الرِّبَا فِيمَا يَجُوزُ تَأْجِيلُهُ، إنَّمَا يَكُونُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِأَجْلِ الْفَضْلِ.

فَإِنْ قِيلَ: فِي الْأُجْرَةِ وَالثَّمَرِ أَوْ نَحْوِهِمَا، إنَّهُ رِبًا مَعَ جَوَازِ تَأْجِيلِهِ فَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا؛ لِأَنَّ الرِّبَا إمَّا رِبَا النَّسَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيمَا يَجُوزُ تَأْجِيلُهُ، وَإِمَّا رِبَا الْفَضْلِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، فَإِذَا انْتَفَى رِبَا النَّسَاءِ الَّذِي هُوَ التَّأْجِيرُ، لَمْ يَبْقَ إلَّا رِبَا الْفَضْلِ الَّذِي هُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا يَكُونُ إذَا كَانَ التَّقَبُّلُ بِجِنْسِ مَعْدِنِ الْأَرْضِ، مِثْلُ: أَنْ يَتَقَبَّلَ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا نَخْلٌ بِثَمَرٍ، فَيَكُونُ مِثْلَ الْمُزَابَنَةِ، فَهُوَ مِثْلُ اكْتِرَاءِ الْأَرْضِ بِجِنْسِ الْخَارِجِ مِنْهَا، إذَا كَانَ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ، مِثْلُ أَنْ يَكْتَرِيَهَا لِيَزْرَعَ فِيهَا حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ مَعْلُومَةٍ.

فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ:

إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ رِبًا كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَهَذَا مِثْلُ الْقُبَالَةِ الَّتِي كَرِهَهَا ابْنُ عُمَرَ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ الْأَرْضَ لِلْحِنْطَةِ بِحِنْطَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَكَأَنَّهُ ابْتَاعَ حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ، يَكُونُ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ

ص: 42

فَيَظْهَرُ الرِّبَا، فَالْقُبَالَاتُ الَّتِي ذَكَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّهَا رِبًا أَنْ يَضْمَنَ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا النَّخْلُ وَالْفَلَّاحُونَ، بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنْ جِنْسٍ مِنْهَا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ قَرْيَةٌ فِيهَا شَجَرٌ وَأَرْضٌ وَفِيهَا فَلَّاحُونَ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَعْمَلُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالثَّمَرِ بَعْدَ أُجْرَةِ الْفَلَّاحِينَ أَوْ نَصِيبِهِمْ، فَيَضْمَنُهُ رَجُلٌ مِنْهُ بِمِقْدَارٍ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالثَّمَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا يَظْهَرُ تَسْمِيَتُهُ بِالرِّبَا، فَأَمَّا ضَمَانُ الْأَرْضِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الرِّبَا بِسَبِيلٍ، وَمَنْ حَرَّمَهُ فَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْغَرَرِ، ثُمَّ إنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ، إذَا كَانَتْ أَرْضًا بَيْضَاءَ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عِنْدَهُ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْخَارِجِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ بِمَنْفَعَتِهِ وَمَالِهِ فَيَكُونُ الْمُغَلُّ بِكَسْبِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِيهَا الْعُلُوجُ وَهُمْ الَّذِينَ يُعَالِجُونَ الْعَمَلَ، فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِيهَا شَيْئًا لَا بِمَنْفَعَتِهِ وَلَا بِمَالِهِ، بَلْ الْعُلُوجُ يَعْمَلُونَهَا، وَهُوَ يُؤَدِّي الْقُبَالَةَ وَيَأْخُذُ بَدَلَهَا، فَهُوَ طَلَبُ الرِّبْحِ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ صِنَاعَةٍ وَلَا تِجَارَةٍ، وَهَذَا هُوَ الرِّبَا، وَنَظِيرُ هَذَا مَا جَاءَ عَنْ.

أَنَّهُ رِبًا، وَهُوَ اكْتِرَاءُ الْحَمَامِ وَالطَّاحُونِ وَالْفَنَادِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا لَا يَنْتَفِعُ الْمُسْتَأْجِرُ بِهِ فَلَا يَتَّجِرُ فِيهِ، وَلَا يَصْطَنِعُ فِيهِ وَإِنَّمَا يَلْتَزِمُهُ لِيُكْرِيَهُ فَقَطْ، فَقَدْ قِيلَ: هُوَ رِبًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رِبًا لِأَجْلِ النَّخْلِ، وَلَا لِأَجْلِ الْأَرْضِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ جِنْسِ الْمُغَلِّ، وَإِنَّمَا كَانَتْ رِبًا لِأَجْلِ الْعُلُوجِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا فَإِنَّ الْعُلُوجَ يَقُومُونَ بِهَا فَيَتَقَبَّلُهَا الْآخَرُ مُرَابَاةً وَلِهَذَا كَرِهَهَا أَحْمَدُ وَإِنْ كَانَتْ بَيْضَاءَ إذْ كَانَ فِيهَا الْعُلُوجُ.

وَقَدْ اسْتَدَلَّ حَرْبٌ عَلَى الْمَسْأَلَةِ «بِمُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ خَيْبَرَ، بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَرْعٍ عَلَى أَنْ يَعْمُرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ» ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا فِي الْمَعْنَى إكْرَاءُ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ بِشَيْءٍ مَضْمُونٍ؛ لِأَنَّ إعْطَاءَ الثَّمَرِ لَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ لَكَانَ إعْطَاءُ بَعْضِهِ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا أَصْلَانِ.

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَتَى كَانَ بَيْنَ الشَّجَرِ أَرْضٌ أَوْ مَسَاكِنُ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى كِرَائِهِمَا جَمِيعًا فَيَجُوزُ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ غَرَرٌ يَسِيرٌ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْبُسْتَانُ وَقْفًا أَوْ مَالَ يَتِيمٍ فَإِنَّ تَعْطِيلَ مَنْفَعَتِهِ لَا يَجُوزُ، وَاكْتِرَاءُ الْأَرْضِ أَوْ الْمَسْكَنِ وَحْدَهُ لَا يَقَعُ فِي الْعَادَةِ، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ اكْتَرَاهُ بِنَقْصٍ كَثِيرٍ عَنْ قِيمَتِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْمُبَاحُ إلَّا بِهِ فَهُوَ مُبَاحٌ، فَكُلَّمَا أَثْبَتَ إبَاحَتَهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ وَجَبَ إبَاحَةُ لَوَازِمِهِ إذَا

ص: 43

لَمْ يَكُنْ فِي تَحْرِيمِهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ، وَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ لَوَازِمِهِ وَمَا لَا يَتِمُّ اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمِ إلَّا بِاجْتِنَابِهِ فَهُوَ حَرَامٌ.

فَهَا هُنَا يَتَعَارَضُ الدَّلِيلَانِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَدْ ثَبَتَ إبَاحَةُ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالسُّنَّةِ، وَاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ الْمَتْبُوعِينَ، بِخِلَافِ دُخُولِ كِرَاءِ الشَّجَرِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَمَتَى اُكْتُرِيَتْ الْأَرْضُ وَحْدَهَا وَبَقِيَ الشَّجَرُ لَمْ يَكُنْ الْمُكْتَرِي مَأْمُونًا عَلَى الثَّمَرِ فَيُفْضِي إلَى اخْتِلَافِ الْأَيْدِي وَسُوءِ الْمُشَارَكَةِ، كَمَا إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ.

وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، مِثْلُ قَوْلِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي جِنْسٍ، وَكَانَ فِي بَيْعِهِ مُتَفَرِّقًا ضَرَرٌ جَازَ بَيْعُ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ لِيَعْسُرَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَشْتَرِ أَحَدٌ الثَّمَرَةَ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ وَالْمَسَاكِنُ لِغَيْرِهِ إلَّا بِنَقْصٍ كَثِيرٍ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا اكْتَرَى الْأَرْضَ، فَإِنْ شُرِطَ عَلَيْهِ سَقْيُ الشَّجَرِ وَالسَّقْيُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ صَارَ الْمُعَوَّضُ عِوَضًا، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِ السَّقْيُ فَإِذَا سَقَاهَا إنْ سَاقَاهُ عَلَيْهَا صَارَتْ الْإِجَارَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِمُسَاقَاةٍ، وَإِنْ لَمْ يُسَاقِهِ لَزِمَ تَعْطِيلُ مَنْفَعَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَدُورُ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ بَعْضَ الْمَنْفَعَةِ، أَوْ لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ إلَّا بِمُسَاقَاةٍ أَوْ بِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْمُسْتَأْجِرِ.

ثُمَّ إنْ حَصَلَ لِلْمُكْرِي جَمِيعُ الثَّمَرَةِ أَوْ بَعْضُهَا فَفِي بَيْعِهَا مَعَ أَنَّ الْأَرْضَ وَالْمَسَاكِنَ لِغَيْرِهِ نَقَصَ لِلْقِيمَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، فَرَجَعَ الْأَمْرُ إلَى أَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا كَانَ فِي تَفْرِيقِهَا ضَرَرٌ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمُعَاوَضَةِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْجَمْعِ يُخَالِفُ حُكْمَ التَّفْرِيقِ.

وَلِهَذَا وَجَبَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا تَعَذَّرَتْ الْقِسْمَةُ أَنْ يَبِيعَ مَعَ شَرِيكِهِ أَوْ يُؤَاجِرَ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِكُ مَنْفَعَةً؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قَوَّمَ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ عَدْلٌ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَقْوِيمِ الْعَبْدِ كُلِّهِ وَبِإِعْطَاءِ الشَّرِيكِ حِصَّتَهُ مِنْ الْقِيمَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِيمَةَ حِصَّتِهِ مُنْفَرِدَةٌ دُونَ حِصَّتِهِ مِنْ

ص: 44

قِيمَةِ الْجَمْعِ، فَعُلِمَ أَنَّ حَقَّهُ فِي نِصْفِ النِّصْفِ، وَإِذَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِالْإِعْتَاقِ فَبِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِتْلَافِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْإِتْلَافِ مَا يَسْتَحِقُّ بِالْمُعَاوَضَةِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمُعَاوَضَةَ نِصْفَ الْقِيمَةِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ عِنْدَ بَيْعِ الْجَمِيعِ، فَتَجِبُ قِسْمَةُ الْعَيْنِ حَيْثُ لَا ضَرَرَ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَرَرٌ قُسِمَتْ الْقِيمَةُ.

فَإِذَا كُنَّا قَدْ أَوْجَبْنَا عَلَى الشَّرِيكِ بَيْعَ نَصِيبِهِ لِمَا فِي التَّفْرِيقِ مِنْ نَقْصِ قِيمَةِ شَرِيكٍ، فَلَأَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، إذَا كَانَ فِي تَفْرِيقِهِمَا ضَرَرٌ أَوْلَى، وَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُ الشَّاةِ مَعَ اللَّبَنِ الَّذِي فِي ضَرْعِهَا، وَإِنْ أَمْكَنَ تَفْرِيقُهُمَا بِالْحَلْبِ وَإِنْ كَانَ بَيْعُ اللَّبَنِ وَحْدَهُ لَا يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَيَجُوزُ مَتَى كَانَ مَعَ الشَّجَرِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ كَمَنْفَعَةِ أَرْضٍ لِلزَّرْعِ أَوْ بِنَاءٍ لِلسَّكَنِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الثَّمَرُ فَقَطْ، وَمَنْفَعَةُ الْأَرْضِ أَوْ الْمَسْكَنِ لَيْسَتْ جُزْءًا مِنْ الْمَقْصُودِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ لِمُجَرَّدِ الْحِيلَةِ كَمَا قَدْ يُفْعَلُ فِي مَسَائِلِ مُدِّ عَجْوَةٍ لَمْ يَجِئْ هَذَا.

الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إكْرَاءُ الشَّجَرِ لِلِاسْتِثْمَارِ يَجْرِي مَجْرَى إكْرَاءِ الْأَرْضِ لِلِازْدِرَاعِ. وَاسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لِلرَّضَاعِ وَذَلِكَ أَنَّ الْفَوَائِدَ الَّتِي تُسْتَخْلَفُ مَعَ بَقَاءِ أُصُولِهَا تَجْرِي مَجْرَى الْمَنَافِعِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْيَانًا وَهِيَ ثَمَرُ الشَّجَرِ وَأَلْبَانُ الْبَهَائِمِ وَالصُّوفُ وَالْمَاءُ الْعَذْبُ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا خُلِقَ مِنْ هَذِهِ شَيْءٌ فَأَخْذُ خَلْقِ اللَّهِ بَدَلَهُ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ، كَالْمَنَافِعِ سَوَاءٌ.

وَلِهَذَا جَرَتْ فِي الْوَقْفِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْمُعَامَلَةِ بِجُزْءٍ مِنْ النَّمَاءِ مَجْرَى

الْمَنْفَعَةِ

، فَإِنَّ الْوَقْفَ لَا يَكُونُ إلَّا فِيمَا يَنْتَفِعُ بِهِ بَقَاءُ أَصْلِهِ، فَإِذَا جَازَ وَقْفُ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ أَوْ الزَّرْعِ لِمَنْفَعَتِهَا فَكَذَلِكَ وَقْفُ الْحِيطَانِ لِثَمَرَتِهَا وَوَقْفُ الْمَاشِيَةِ لِدَرِّهَا وَصُوفِهَا، وَوَقْفُ الْآبَارِ وَالْعُيُونِ لِمَائِهَا، بِخِلَافِ مَا يَذْهَبُ بِالِانْتِفَاعِ كَالطَّعَامِ وَنَحْوِهِ فَلَا يُوقَفُ، وَأَمَّا أَرْبَابُ الْعَارِيَّةِ فَيُسَمُّونَ إبَاحَةً لِلظُّهْرِ إقْرَاضًا يُقَالُ أَقْرَضَ بِهِ الظُّهْرَ. وَمَا أُبِيحَ لَبَنُهُ مَنِيحَةً، وَمَا أُبِيحَ ثَمَرُهُ عَرِيَّةً وَغَيْرُ ذَلِكَ عَارِيَّةٌ.

وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِالْقَرْضِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُقْتَرِضُ ثُمَّ يُرَدُّ مِثْلَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَنِيحَةُ لَبَنٍ أَوْ مَنِيحَةُ وَرِقٍ» ، فَاكْتِرَاءُ الشَّجَرِ، لَأَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا وَيَأْخُذَ ثَمَرَهَا

ص: 45

بِمَنْزِلَةِ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لِأَجْلِ لَبَنِهَا، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إجَارَةٌ مَنْصُوصَةٌ إلَّا إجَارَةُ الظِّئْرِ، فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] .

وَلَمَّا اعْتَقَدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى مَنْفَعَةٍ لَيْسَتْ عَيْنًا، وَرَأَى جَوَازَ إجَارَةِ الظِّئْرِ، قَالَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ وَضْعُ الطِّفْلِ فِي حِجْرِهَا، وَاللَّبَنُ دَخَلَ ضِمْنًا وَتَبَعًا كَنَقْعِ الْبِئْرِ، وَهَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ وَالْحِسِّ، فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ هُوَ اللَّبَنُ، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} [الطلاق: 6] وَضَمُّ الطِّفْلِ إلَى حِجْرِهَا إنْ فُعِلَ فَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ مَا ذَكَرْته مِنْ الْفَائِدَةِ الَّتِي سَتَخْلُفُ

مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهَا يَجْرِي مَجْرَى الْمَنْفَعَةِ.

وَلَيْسَ مِنْ الْبَيْعِ الْخَاصِّ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُسَمِّ الْعِوَضَ إلَّا أَجْرًا لَمْ يُسَمِّهِ ثَمَنًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ حُلِبَ اللَّبَنُ، فَإِنَّهُ لَا يُسَمِّي الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ إلَّا بَيْعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ الْفَائِدَةَ مِنْ أَصْلِهَا، كَمَا يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ مِنْ أَصْلِهَا، فَلَمَّا كَانَتْ الْفَوَائِدُ الْعَيْنِيَّةُ يُمْكِنُ فَصْلُهَا عَنْ أَصْلِهَا، كَانَ لَهَا حَالَانِ: حَالٌ تُشْبِهُ فِيهِ الْمَنَافِعَ الْمَحْضَةَ، وَهِيَ حَالُ اتِّصَالِهَا وَاسْتِيفَائِهَا كَاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ.

وَحَالٌ يُشْبِهُ فِيهِ الْأَعْيَانَ الْمَحْضَةَ، وَهِيَ حَالُ انْفِصَالِهَا وَقَبْضُهَا كَقَبْضِ الْأَعْيَانِ، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الشَّجَرِ، هُوَ الَّذِي يَسْقِيهَا وَيَعْمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى يُصْلِحَ الثَّمَرَةَ، فَإِنَّمَا يَبِيعُ ثَمَرَةً مَحْضَةً كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَشُقُّ الْأَرْضَ وَيَبْذُرُهَا وَيَسْقِيهَا حَتَّى يُصْلِحَ الزَّرْعَ، فَإِنَّمَا يَبِيعُ زَرْعًا مَحْضًا، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يَجِدُ وَيُحَصِّلُ، كَمَا لَوْ بَاعَهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَكَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يَنْقُلُ وَيُحَوِّلُ.

وَلِهَذَا جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا فِي النَّهْيِ، حَيْثُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ» ، فَإِنَّ هَذَا بَيْعٌ مَحْضٌ لِلثَّمَرَةِ وَالزَّرْعِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَالِكُ يَدْفَعُ الشَّجَرَةَ إلَى الْمُكْتَرِي حَتَّى يَسْقِيَهَا وَيُلَقِّحَهَا وَيَدْفَعَ عَنْهَا الْأَذَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِ الْأَرْضِ إلَى مَنْ يَشُقُّهَا وَيَبْذُرُهَا وَيَسْقِيهَا، وَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، فَكَمَا أَنَّ كِرَاءَ الْأَرْضِ لَيْسَ بِبَيْعٍ كَزَرْعِهَا، فَكَذَلِكَ كِرَاءُ الشَّجَرِ لَيْسَ بِبَيْعٍ

ص: 46

لِثَمَرِهَا بَلْ نِسْبَةُ كِرَاءِ الشَّجَرِ إلَى كِرَاءِ الْأَرْضِ كَنِسْبَةِ الْمُسَاقَاةِ إلَى الْمُزَارَعَةِ، هَذَا مُعَامَلَةٌ بِجُزْءٍ مِنْ النَّمَاءِ، وَهَذَا كِرَاءٌ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ.

فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْفَوَائِدُ قَدْ سَاوَتْ الْمَنَافِعَ فِي الْوَقْتِ لِأَصْلِهَا، وَفِي التَّبَرُّعَاتِ بِهَا، وَفِي الْمُشَارَكَةِ بِجُزْءٍ مِنْ نَمَائِهَا وَفِي الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهَا بَعْدَ صَلَاحِهَا، فَكَذَلِكَ يُسَاوِيهَا فِي الْمُعَاوَضَةِ عَلَى اسْتِفَادَتِهَا وَتَحْصِيلِهَا، وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الزَّرْعَ إنَّمَا يَخْرُجُ بِالْعَمَلِ بِخِلَافِ الثَّمَرِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِلَا عَمَلٍ كَانَ هَذَا الْفَرْقُ عَدِيمَ النَّظِيرِ، بِدَلِيلِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ لِلْعَمَلِ تَأْثِيرًا فِي الْإِثْمَارِ كَمَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْإِنْبَاتِ، وَمَعَ عَدَمِ الْعَمَلِ عَلَيْهَا فَقَدْ تُعْدَمُ الثَّمَرَةُ، وَقَدْ تُنْقَضُ، فَإِنَّ مِنْ الشَّجَرِ مَا لَوْ لَمْ يُخْدَمْ لَمْ يُثْمِرْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَمَلِ عَلَيْهِ تَأْثِيرٌ أَصْلًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ إلَى عَامِلٍ بِجُزْءٍ مِنْ ثَمَرِهِ، وَلَمْ يَجُزْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ إجَارَتُهُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، فَإِنَّهُ تَبَعٌ مَحْضٌ لِلثَّمَرَةِ لَا إجَارَةً لِلشَّجَرِ، وَيَكُونُ كَمَنْ أَكْرَى أَرْضَهُ لِمَنْ يَأْخُذُ مِنْهَا مَا يُنْبِتُهُ اللَّهُ بِلَا عَمَلِ أَحَدٍ أَصْلًا قَبْلَ وُجُودِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ هُنَا غَرَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُثْمِرُ قَلِيلًا وَقَدْ يُثْمِرُ كَثِيرًا يُقَالُ وَمِثْلُهُ فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ غَرَرٌ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّهَا قَدْ تُنْبِتُ قَلِيلًا وَقَدْ تُنْبِتُ كَثِيرًا، وَإِنْ قِيلَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَاكَ التَّمَكُّنُ مِنْ الِازْدِرَاعِ لَا نَفْسُ الزَّرْعِ النَّابِتِ؛ قِيلَ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَا التَّمَكُّنُ مِنْ الِاسْتِثْمَارِ لَا نَفْسُ الثَّمَرِ الْخَارِجِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِمَا إنَّمَا هُوَ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ، إنَّمَا يَجِبُ الْعِوَضُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ؛ كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِاكْتِرَاءِ الدَّارِ إنَّمَا هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ السُّكْنَى، وَإِنْ وَجَبَ الْعِوَضُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ فَالْمَقْصُودُ فِي اكْتِرَاءِ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ؛ إنَّمَا هُوَ نَفْسُ الْأَعْيَانِ الَّتِي تَحْصُلُ، لَيْسَ كَاكْتِرَاءِ السُّكْنَى أَوْ لِلْبِنَاءِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ نَفْسُ الِانْتِفَاعِ بِجَعْلِ الْأَعْيَانِ فِيهَا، وَهَذَا بَيِّنٌ عِنْدَ التَّأَمُّلِ لَا يَزِيدُهُ الْبَحْثُ عَنْهُ إلَّا وُضُوحًا يَظْهَرُ بِهِ أَنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ زُهُوِّهَا؛ وَبَيْعُ الْحَبِّ قَبْلَ اشْتِدَادِهِ، لَيْسَ هُوَ إنْ شَاءَ اللَّهُ إكْرَاءَهَا لِمَنْ يَجْعَلُ ثَمَرَتَهَا وَزَرْعَهَا بِعَمَلِهِ وَسَقْيِهِ، وَلَا هَذَا دَاخِلٌ فِي نَهْيِهِ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى.

يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْبَائِعَ لِثَمَرَتِهَا عَلَيْهِ تَمَامُ سَقْيِهَا وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا، حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْجَدَادِ؛ كَمَا عَلَى بَائِعِ الزَّرْعِ تَمَامُ سَقْيِهِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ

ص: 47

الْحَصَادِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ التَّوْفِيَةِ وَمُؤْنَةُ التَّوْفِيَةِ عَلَى الْبَائِعِ، كَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ.

وَأَمَّا الْمُكْرِي لَهَا لِمَنْ خَدَمَهَا حَتَّى يُثْمِرَ فَهُوَ كَمَكْرِي الْأَرْضِ لِمَنْ يَخْدُمُهَا حَتَّى تُنْبِتَ، لَيْسَ عَلَى الْمُكْرِي عَمَلٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّمْكِينُ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الثَّمَرُ وَالزَّرْعُ.

لَكِنْ يُقَالُ: طَرَدَ هَذَا أَنْ يَجُوزَ إكْرَاءُ الْبَهَائِمِ لِمَنْ يَعْلِفُهَا وَيَسْقِيهَا وَيَحْتَلِبُ لَبَنَهَا.

قِيلَ: إنْ جَوَّزْنَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَاشِيَةَ لِمَنْ يَعْلِفَهَا وَيَسْقِيهَا بِجُزْءٍ مِنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا جَازَ دَفْعُهَا إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا لِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا بِشَيْءٍ مَضْمُونٍ.

وَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَازَ إجَارَتُهَا لِاخْتِلَافِ لَبَنِهَا كَمَا جَازَ إجَارَةُ الظِّئْرِ؟

قِيلَ: نَظِيرُ إجَارَةِ الظِّئْرِ أَنْ يُرْضِعَ بِعَمَلِ صَاحِبِهَا لِلْغَنَمِ؛ لِأَنَّ الظِّئْرَ هِيَ تُرْضِعُ الطِّفْلَ، فَإِذَا كَانَتْ هِيَ الَّتِي تُوَفِّي الْمَنْفَعَةَ فَنَظِيرُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَجِّرُ هُوَ الَّذِي يُوفِي مَنْفَعَةَ الْإِرْضَاعِ، وَحِينَئِذٍ فَالْقِيَاسُ جَوَازُهُ؛ فَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ غَنَمٌ فَاسْتَأْجَرَ غَنَمَ رَجُلٍ؛ لَأَنْ تُرْضِعَهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُمْتَنِعًا، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ الَّذِي يَحْتَلِبُ اللَّبَنَ أَوْ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِيهِ فَهَذَا مُشْتَرِي اللَّبَنِ لَيْسَ مُسْتَوْفِيًا لِمَنْفَعَةٍ وَلَا مُسْتَوْفِيًا لِلْعَيْنِ بِعَمَلٍ، وَهُوَ شَبِيهٌ لِاشْتِرَاءِ الثَّمَرَةِ وَاحْتِلَابُهُ كَاقْتِطَافِهَا، وَهُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ لَا تُبَاعُ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لَأَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا وَيَحْتَلِبَ لَبَنَهَا، فَهَذَا نَظِيرُ اكْتِرَاءِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ.

فَصْلٌ

هَذَا إذَا اكْتَرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ أَوْ الشَّجَرَ وَحْدَهَا لَأَنْ يَخْدُمَهَا، وَيَأْخُذَ الثَّمَرَةَ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ، فَإِنْ بَاعَهُ الثَّمَرَةَ فَقَطْ وَأَكْرَاهُ الْأَرْضَ لِلسُّكْنَى فَهَا هُنَا لَا يَجِيءُ إلَّا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ الْمَذْكُورُ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ، وَبَعْضُهُ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ هُوَ السُّكْنَى.

وَهُوَ أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَيَجُوزُ فِي الْجَمْعِ مَا لَا يَجُوزُ فِي التَّفْرِيقِ، كَمَا يُقَدَّمُ مِنْ النَّظَائِرِ، وَهَذَا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ السُّكْنَى وَالثَّمَرَةِ مَقْصُودًا لَهُ كَمَا يَجْرِي فِي حَوَائِطِ دِمَشْقَ، فَإِنَّ الْبُسْتَانَ يُكْتَرَى فِي الْمُدَّةِ الصَّيْفِيَّةِ لِلسُّكْنَى فِيهِ وَأُخِذَ ثَمَرُهُ مِنْ غَيْرِ عَمَلِ الثَّمَرَةِ أَصْلًا، بَلْ الْعَمَلُ عَلَى الْمُكْرِي الْمُضَمَّنِ.

ص: 48

وَعَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ فَيَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ لَمْ يَطْلُعْ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ أَجْنَاسًا مُتَفَرِّقَةً كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَمْعٌ بَيْنَ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ هُوَ إجَارَةٌ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ تَوْفِيَةِ الثَّمَرِ هُنَا عَلَى الْمُضَمَّنِ وَبِعَمَلِهِ يَصِيرُ ثَمَرًا، بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُثْمِرًا بِعَمَلِ الْمُسْتَأْجِرِ.

وَلِهَذَا يُسَمِّيهِ النَّاسُ ضَمَانًا وَلَيْسَ بَيْعًا مَحْضًا وَلَا إجَارَةً مَحْضَةً، فَسُمِّيَ بِاسْمِ الِالْتِزَامِ الْعَامِّ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ الضَّمَانُ، كَمَا سَمَّى الْفُقَهَاءُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ، وَكَذَلِكَ يُسَمَّى الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ضَمَانًا أَيْضًا لَكِنَّ ذَاكَ يُسَمَّى إجَارَةً، وَهَذَا إذَا سُمِّيَ إجَارَةً، أَوْ اكْتِرَاءً فَلَأَنْ نُسَمِّيَهُ إجَارَةً أَوْضَحُ أَوْ اكْتِرَاءً، وَفِيهِ بَيْعٌ أَيْضًا، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً أَصْلًا، وَإِنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ جَدَادِ الثَّمَرَةِ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ عِنَبًا أَوْ نَخْلًا، وَيُرِيدَ أَنْ يُقِيمَ فِي الْحَدِيقَةِ لِقِطَافِهِ.

فَهَذَا لَا يَجُوزُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ إنَّمَا قُصِدَتْ هُنَا لِأَجْلِ الثَّمَرِ، فَلَأَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ تَابِعًا لَهَا، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إجَارَتِهَا إلَّا إذَا جَازَ بَيْعُ الثَّمَرِ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ إذَا كَانَتْ مَقْصُودَةً احْتَاجَ إلَى اسْتِئْجَارِهَا، وَاحْتَاجَ مَعَ ذَلِكَ إلَى اشْتِرَاءِ الثَّمَرَةِ فَاحْتَاجَ إلَى الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يُمْكِنُهُ إذَا اسْتَأْجَرَ الْمَكَانَ لِلسُّكْنَى أَنْ يَدَعَ غَيْرَهُ يَشْتَرِي الثَّمَرَةَ، وَلَا يَتِمُّ غَرَضُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَمَرَةٌ يَأْكُلُهَا كَانَ مَقْصُودُهُ الِانْتِفَاعَ بِالسُّكْنَى فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَالْأَكْلَ مِنْ الثَّمَرِ الَّذِي فِيهِ، وَلِهَذَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ هُوَ السُّكْنَى، وَإِنَّمَا الشَّجَرُ قَلِيلَةٌ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ نَخَلَاتٌ، أَوْ عَرِيشُ عِنَبٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

فَالْجَوَازُ هُنَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَقِيَاسُ أَكْثَرِ نُصُوصِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مَعَ السَّكَنِ التِّجَارَةُ فِي الثَّمَرِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَالْمَنْعُ هُنَا أَوْجَهُ مِنْهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ السُّكْنَى وَالْأَكْلَ فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا لَوْ قَصَدَ السُّكْنَى وَالشُّرْبَ مِنْ الْبِئْرِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَرُ الْمَأْكُولِ أَكْثَرَ فَهُنَا الْجَوَازُ فِيهِ أَظْهَرُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا وَدُونَ الْأُولَى عَلَى قَوْلِ مَنْ يُفَرِّقُ.

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ الْمَأْثُورِ عَنْ السَّلَفِ فَالْجَمِيعُ جَائِزٌ كَمَا قَرَّرْنَاهُ لِأَجْلِ الْجَمْعِ، فَإِنْ اُشْتُرِطَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَحْرُثَ لَهُ الْمُضَمَّنَ مَعْنَاهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مِنْ

ص: 49

رَجُلٍ لِلزَّرْعِ، عَلَى أَنْ يَحْرُثَهَا الْمُؤَجِّرُ فَقَدْ اسْتَأْجَرَ أَرْضَهُ وَاسْتَأْجَرَ مِنْهُ عَمَلًا فِي الذِّمَّةِ.

وَهَذَا جَائِزٌ كَمَا لَوْ اسْتَكْرَى مِنْهُ جَمَلًا أَوْ حِمَارًا عَلَى أَنْ يَحْمِلَ الْمُؤَجِّرُ لِلْمُسْتَأْجِرِ عَلَيْهِ مَتَاعَهُ، وَهَذَا إجَارَةُ عَيْنٍ وَإِجَارَةٌ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ الْعَمَلَ، فَيَكُونُ قَدْ اسْتَأْجَرَ عَيْنَيْنِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ السُّكْنَى مَقْصُودَةً، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ ابْتِيَاعُ ثَمَرَةٍ فِي بُسْتَانٍ ذِي أَجْنَاسٍ، وَالسَّقْيُ عَلَى الْبَائِعِ.

فَهَذَا عِنْدَ اللَّيْثِ يَجُوزُ وَهُوَ قِيَاسُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَقَرَّرْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ كَالْحَاجَةِ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ بَيْعِ الثَّمَرَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَشَدَّ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُ بَيْعُ كُلِّ جِنْسٍ عِنْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، فَإِنَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ، وَفِي بَعْضِهَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِضَرَرٍ كَثِيرٍ، وَقَدْ رَأَيْت مَنْ يُوَاطِئُ الْمُشْتَرِيَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كُلَّمَا صَلَحَتْ ثَمَرَةٌ يُقَسِّطُ عَلَيْهَا بَعْضَ الثَّمَرِ.

وَهَذَا مِنْ الْحِيَلِ الْبَارِزَةِ الَّتِي لَا يَخْفَى حَالُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَا زَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ ذَوُو الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يُنْكِرُونَ تَحْرِيمَ مِثْلِ هَذَا، مَعَ أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ تُنَافِي تَحْرِيمَهُ، لَكِنْ مَا سَمِعُوهُ مِنْ الْعُمَومَاتِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْقِيَاسِيَّةِ الَّتِي اعْتَقَدُوا شُمُولَهَا هَذَا، مَعَ مَا سَمِعُوهُ مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُدْرِجُونَ هَذَا الْعُمُومَ الَّذِي أَوْجَبَ مَا أُوجِبَ وَهُوَ قِيَاسُ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الْمَقْثَاةِ جَمِيعِهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا؛ لِأَنَّ تَفْرِيقَ بَعْضِهَا مُتَعَسِّرٌ وَمُتَعَذِّرٌ، كَتَعَسُّرِ تَفْرِيقِ الْأَجْنَاسِ فِي الْبُسْتَانِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَشَقَّةُ فِي الْمَقْثَاةِ أَوْكَدَ، وَلِهَذَا جَوَّزَهَا مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فِي الْأَجْنَاسِ كَمَالِكٍ، فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الصُّورَةُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَكْرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ لِيَعْمَلَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَمَا قَرَّرْتُمْ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ إجَارَةٌ لِمَنْ يَعْمَلُ لَا بَيْعٌ لِغَيْرِهِ، وَأَمَّا هَذَا فَبَيْعٌ لِلثَّمَرَةِ فَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، فَكَيْفَ يُخَالِفُونَ النَّهْيَ، فَلِذَا الْجَوَابُ عَنْ هَذَا كَالْجَوَابِ عَمَّا يَجُوزُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ ابْتِيَاعِ الشَّجَرِ مَعَ ثَمَرِهِ الَّذِي لَمْ يَصْلُحْ، وَابْتِيَاعُ الْأَرْضِ مَعَ زَرْعِهَا الَّذِي لَمْ يَشْتَدَّ.

وَمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ ابْتِيَاعِ الْمَقَاثِي مَعَ أَنَّ بَعْضَ خُضَرِهَا لَمْ يُخْلَقْ، وَجَوَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِطَرِيقَيْنِ.

ص: 50

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ إنَّ النَّهْيَ لَمْ يَشْمَلْ بِلَفْظِهِ هَذِهِ الصُّورَةَ؛ لِأَنَّ نَهْيَهُ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ انْصَرَفَ إلَى الْبَيْعِ الْمَعْهُودِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، وَمَا كَانَ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُونَ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ شَخْصٌ مَعْهُودٌ أَوْ نَوْعٌ مَعْهُودٌ انْصَرَفَ الْكَلَامُ إلَيْهِ، كَمَا انْصَرَفَ إلَى الرَّسُولِ الْمُعَيَّنِ فِي قَوْله تَعَالَى:{لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ} [النور: 63] وَقَوْلِهِ: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] ، إلَى النَّوْعِ الْمَخْصُوصِ بِنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالثَّمَرِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّمَرِ هُنَا الرُّطَبُ دُونَ الْعِنَبِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودُ شَخْصٍ وَلَا نَوْعٌ انْصَرَفَ إلَى الْعُمُومِ.

فَالْبَيْعُ الْمَذْكُورُ لِلثَّمَرِ هُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ الَّذِي يَعْهَدُونَهُ دَخَلَ كَدُخُولِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالْقَرْنِ الثَّالِثِ فِيمَا خَاطَبَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ فِي نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ فِي «نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَوْلِ الرَّجُلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» بِحَمْلِهِ عَلَى مَا كَانَ مَعْهُودًا عَلَى عَهْدِهِ مِنْ الْمِيَاهِ الدَّائِمَةِ كَالْآبَارِ وَالْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.

فَأَمَّا الْمَصَانِعُ الْكِبَارُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ نَزْحُهَا الَّتِي أُحْدِثَتْ بَعْدَهُ فَلَمْ يُدْخِلْهُ فِي الْعُمُومِ لِوُجُودِ الْفَارِقِ الْمَعْنَوِيِّ وَعَدَمِ الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعُمُومِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهُوَ، قِيلَ: وَمَا تَزْهُو؟ قَالَ: تَحْمَرُّ أَوْ تَصْفَرُّ» . وَفِي لَفْظٍ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَزْهُوَ» ، وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ:«نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَزْهُوَ» ، وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ:«نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ» .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ ثَمَرُ النَّخْلِ كَمَا جَاءَ مُقَيَّدًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَزْهُو فَيَحْمَرُّ أَوْ يَصْفَرُّ، وَإِلَّا فَمِنْ الثِّمَارِ مَا يَكُونُ نُضْجُهَا بِالْبَيَاضِ، كَالتُّوتِ، وَالتُّفَّاحِ، وَالْعِنَبِ الْأَبْيَضِ، وَالْإِجَّاصِ الْأَبْيَضِ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ دِمَشْقَ الْخَوْخَ، وَالْخَوْخِ الْأَبْيَضِ الَّذِي

ص: 51

يُسَمِّيهِ الْفُرْسُ، وَيُسَمِّيهِ الدِّمَشْقِيُّونَ الدَّرَاقِنَ، أَوْ بِاللَّبَنِ بِلَا تَغَيُّرِ لَوْنٍ كَالتِّينِ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ جَابِرٍ، «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تُشَقِّحَ، قِيلَ: وَمَا تُشَقِّحُ؟ قَالَ: تَحْمَرُّ أَوْ تَصْفَرُّ» وَيُؤْكَلُ مِنْهَا وَهَذِهِ الثَّمَرَةُ هِيَ الرُّطَبُ.

وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَبَايَعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَلَا تَبَايَعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ» ، وَالتَّمْرُ الثَّانِي هُوَ لِلرُّطَبِ بِلَا رَيْبٍ.

فَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ وَاحِدٌ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَبَايَعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَتَذْهَبَ عَنْهُ الْآفَةُ، فَإِنَّ بُدُوَّ صَلَاحِهِ حُمْرَتُهُ أَوْ صُفْرَتُهُ» ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا لَفْظُ الثَّمَرِ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَصَرِيحٌ فِي النَّخْلِ، كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ:«نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ النَّوْلِ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ أَوْ يُؤْكَلَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ:«نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ، وَعَنْ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ، وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ» ، وَالْمُرَادُ بِالنَّخْلِ ثَمَرُهُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَوَّزَ اشْتِرَاءَ النَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ مَعَ اشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي لِثَمَرَتِهِ.

فَهَذِهِ النُّصُوصُ لَيْسَتْ عَامَّةً عُمُومًا لَفْظِيًّا فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ لَفْظًا لِمَا عَهِدَهُ الْمُخَاطَبُونَ وَعَامَّةٌ مَعْنًى لِكُلِّ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَمَا ذَكَرْنَا عَدَمَ تَحْرِيمِهِ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَلَا فِي مَعْنَاهُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ دَلِيلُ الْحُرْمَةِ فَيَبْقَى عَلَى الْحِلِّ، وَهَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ وَبِهِ يَتِمُّ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ أَوَّلًا أَنَّ الْأَدِلَّةَ النَّافِيَةَ لِلتَّحْرِيمِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ والاستصحابية يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ بِشَرْطِ نَفْيِ النَّاقِلِ الْمُغَيِّرِ وَقَدْ بَيَّنَّا انْتِفَاءَهُ.

الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ وَإِنْ سَلَّمْنَا الْعُمُومَ اللَّفْظِيَّ، لَكِنْ لَيْسَتْ مُرَادَةً بَلْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَخُصُّ مِثْلَ هَذَا الْعُمُومِ، فَإِنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ

ص: 52

بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فِي الثَّمَرِ التَّابِعِ لِشَجَرِهِ، حَيْثُ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ ابْتَاعَ نَخْلًا لَمْ تُؤَبَّرْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ الْمُبْتَاعُ» ، أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.

فَجَعَلَهَا لِلْمُبْتَاعِ إذَا اشْتَرَطَهَا بَعْدَ التَّأْبِيرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا حِينَئِذٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُفْرَدَةً، وَالْعُمُومُ الْمَخْصُوصُ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ صُوَرٌ فِي مَعْنَاهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا تَخْصِيصُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالْقِيَاسِ الْقَوِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ آثَارِ السَّلَفِ وَمِنْ الْمَعَانِي مَا يَخُصُّ مِثْلَ هَذَا لَوْ كَانَ عَامًّا، أَوْ بِالِاشْتِدَادِ بِلَا تَغْيِيرِ لَوْنٍ، كَالْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، فَبُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي الثِّمَارِ مُتَنَوِّعٌ تَارَةً يَكُونُ بِالرُّطُوبَةِ بَعْدَ الْيُبْسِ، وَتَارَةً بِلِينِهِ، وَتَارَةً بِتَغَيُّرِ لَوْنِهِ بِحُمْرَةٍ أَوْ صُفْرَةٍ أَوْ بَيَاضٍ، وَتَارَةً لَا يَتَغَيَّرُ.

وَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ عُلِمَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَشْمَلْ جَمِيعَ أَجْنَاسِ الثِّمَارِ، وَإِنَّمَا يَشْمَلُ مَا يَأْتِي فِي الْحُمْرَةِ الصُّفْرَةُ، وَقَدْ جَاءَ مُقَيَّدًا أَنَّهُ النَّخْلُ فَتَدَبَّرْ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهُ عَظِيمُ النَّفْعِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى وَفِي نَظَائِرِهَا، وَانْظُرْ فِي عُمُومِ كَلَامِ اللَّهِ عز وجل، وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لَفْظًا وَمَعْنًى حَتَّى يُعْطِيَ حَقَّهُ، وَأَحْسَنُ مَا اسْتَدَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ بِآثَارِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَقَاصِدِهِ فَإِنَّ ضَبْطَ ذَلِكَ يُوجِبُ تَوَافُقَ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَجَرْيَهَا عَلَى الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] .

وَأَمَّا نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُعَاوَضَةِ الَّتِي جَاءَ مُفَسَّرًا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، بِأَنَّهُ بَيْعُ السِّنِينَ، فَهُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِثْلُ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَإِنَّمَا نَهَى أَنْ يَبْتَاعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَرَةَ الَّتِي يَسْتَثْمِرُهَا رَبُّ الشَّجَرِ، فَأَمَّا اكْتِرَاءُ الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ حَتَّى يَسْتَثْمِرَهَا فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْإِجَارَةِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحِ، مِنْ أَنَّهُ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ وَإِنَّهُ نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ، وَأَنَّهُ نَهَى عَنْ

ص: 53

الْمُزَارَعَةِ، وَأَنَّهُ قَالَ:«لَا تُكْرُوا الْأَرْضَ» ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْكِرَاءُ الَّذِي كَانُوا يَعْتَادُونَهُ مِنْ الْكِرَاءِ وَالْمُعَاوَضَةِ الَّذِينَ يَرْجِعُ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تَصْلُحَ وَإِلَى الْمُزَارَعَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا جُزْءٌ مُعَيَّنٌ: وَهَذَا نَهْيٌ عَمَّا فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ، هَذَا نَهْيٌ عَنْ الْغَرَرِ فِي جِنْسِ الْبَيْعِ. وَذَلِكَ نَهْيٌ عَنْ الْغَرَرِ فِي جِنْسِ الْكِرَاءِ الْعَامِّ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي كِلَيْهِمَا أَنَّ هَذِهِ الْمُبَايَعَةَ وَهَذِهِ الْمُكَارَاةَ كَانَتْ تُفْضِي إلَى الْخُصُومَةِ وَالشَّنَآنِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] .

فَصْلٌ

وَمِنْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي أَدْخَلَهَا قَوْمٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَنْوَاعٌ مِنْ الْإِجَارَاتِ وَالْمُشَارَكَاتِ، كَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ حَرَامٌ بَاطِلٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا عَمَلٌ بِعِوَضٍ وَالْإِجَارَةُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا الْأَجْرُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهَا كَالثَّمَرِ، وَلِمَا رَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُ أَجْرَهُ» ، وَعَنْ النَّجْشِ وَاللَّمْسِ وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ، وَالْعِوَضُ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ قَلِيلًا. وَقَدْ يَخْرُجُ كَثِيرًا، وَقَدْ يَخْرُجُ عَلَى صِفَاتٍ نَاقِصَةٍ، وَقَدْ لَا يَخْرُجُ، فَإِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَقَدْ اسْتَوْفَى عَمَلَ الْعَامِلِ بَاطِلًا.

وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَشَدُّ النَّاسِ قَوْلًا بِتَحْرِيمِ هَذَا، وَأَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فَالْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إدْخَالًا لِذَلِكَ فِي الْغَرَرِ، لَكِنْ جَوَّزَا مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ، فَجَوَّزَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ الْمُسَاقَاةَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ كِرَاءَ الشَّجَرِ لَا يَجُوزُ

ص: 54

لِأَنَّهُ بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَالْمَالِكُ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ سَقْيُ شَجَرَةٍ وَخِدْمَتُهَا فَيَضْطَرُّ إلَى الْمُسَاقَاةِ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِالْأَجْرِ الْمُسَمَّى فَيُغْنِيهِ ذَلِكَ عَنْ الْمُزَارَعَةِ، لَكِنْ جَوَّزَا مِنْ الْمُزَارَعَةِ مَا يَدْخُلُ فِي الْمُسَاقَاةِ تَبَعًا، فَإِذَا كَانَ بَيْنَ الشَّجَرِ بَيَاضٌ، فَلْيَقُلْ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ عَلَيْهِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ زَرْعَ ذَلِكَ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، فَإِنْ شَرَطَاهُ بَيْنَهُمَا جَازَ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَتَجَاوَزْ الثُّلُثَ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يَجْعَلُهُ لِلْعَامِلِ، لَكِنْ يَقُولُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ سَقْيُ الشَّجَرِ إلَّا بِسَقْيِهِ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ عَلَيْهِ، وَلِأَصْحَابِهِ فِي الْبَيَاضِ إذَا كَانَ كَثِيرًا أَكْثَرَ مِنْ الشَّجَرِ وَجْهَانِ، وَهَذَا إذَا جَمَعَهُمْ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي صَفْقَتَيْنِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا جَازَ تَبَعًا، فَلَا يُفْرَدُ بِعَقْدٍ.

وَالثَّانِي: يَجُوزُ إذَا سَاقَى ثُمَّ زَارَعَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَأَمَّا إذَا قَدَّمَ الْمُزَارَعَةَ لَمْ يَجُزْ وَجْهًا وَاحِدًا. وَهَذَا إذَا كَانَ الْجُزْءُ الْمَشْرُوطُ فِيهِمَا وَاحِدًا كَالثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ، فَإِنْ فَاضَلَ بَيْنَهُمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَرُوِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ السَّلَفِ، مِنْهُمْ: طَاوُسٌ، وَالْحَسَنُ وَبَعْضُ الْخَلْقِ: الْمَنْعُ مِنْ إجَارَةِ الْأَرْضِ بِالْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ، وَإِنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ رَوَى حَرْبٌ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ هَلْ يَصْلُحُ احْتِكَارُ الْأَرْضِ، فَقَالَ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَالْجَمَاعَةُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ احْتِكَارَهَا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَكَرِهَ ذَلِكَ آخَرُونَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْغَرَرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجَرَ يَلْتَزِمُ الْأُجْرَةَ بِنَاءً عَلَى مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ، وَقَدْ لَا يَثْبُتُ الزَّرْعُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اكْتِرَاءِ الشَّجَرِ لِلِاسْتِثْمَارِ، وَقَدْ كَانَ طَاوُسٌ يُزَارِعُ وَلِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ أَبْعَدُ عَنْ الْغَرَرِ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَامِلَيْنِ فِي الْمُزَارَعَةِ إمَّا أَنْ يَغْنَمَا جَمِيعًا أَوْ يَغْرَمَا جَمِيعًا فَيَذْهَبُ مَنْفَعَةُ هَذَا وَبَقَرِهِ، وَمَنْفَعَةُ أَرْضِ هَذَا، وَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى أَنْ يَحْصُلَ أَحَدُهُمَا عَلَى شَيْءٍ مَضْمُونٍ، وَيَبْقَى الْآخَرُ بِحَسَبِ الْخَطَرِ، إذْ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ هُوَ الزَّرْعُ لَا الْقُدْرَةُ عَلَى حَرْثِ الْأَرْضِ، وَبَذْرِهَا وَسَقْيِهَا.

وَعُذْرُ الْفَرِيقَيْنِ مَعَ هَذَا الْقِيَاسِ مَا بَلَغَهُمْ مِنْ الْآثَارِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَهْيِهِ عَنْ الْمُخَابَرَةِ، وَعَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ، لِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَحَدِيث جَابِرٍ، فَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُكْرِي مُزَارَعَةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ حَدَّثَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ» ، فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ إلَى رَافِعٍ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ نَهَى النَّبِيُّ عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ،

ص: 55

فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَدْ عَلِمْت أَنَّا كُنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا عَلَى الْأَرْبِعَاءِ، وَشَيْءٍ مِنْ التِّبْنِ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.

وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ حَتَّى بَلَغَهُ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يُحَدِّث فِيهَا بِنَهْيٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَأَنَا مَعَهُ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَنْهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ» ، فَتَرَكَهَا ابْنُ عُمَرَ بَعْدُ، فَكَانَ إذَا سُئِلَ عَنْهَا قَالَ: زَعَمَ ابْنُ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا، وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُكْرِي أَرْضَهُ حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يُحَدِّثُ كَانَ يُنْهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ ابْنُ خَدِيجٍ: مَاذَا يُحَدَّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ؛ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَقَدْ كُنْت أَعْلَمُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّ الْأَرْضَ تُكْرَى، ثُمَّ خَشِيَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ أَحْدَثَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَعْلَمْهُ، فَتَرَكَ كِرَاءَ الْأَرْضِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ فِي آخِرِهِ.

وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ عُمَرَ وَظُهَيْرِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ ظُهَيْرٌ: «لَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا، قُلْت: مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ حَقٌّ، قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ. قُلْت: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبْعِ وَعَلَى الْأَوْسُقِ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، قَالَ: لَا تَفْعَلُوا ازْرَعُوهَا أَوْ زَارِعُوهَا أَوْ امْسِكُوهَا. قَالَ رَافِعٌ قُلْت: سَمْعًا وَطَاعَةً» . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيَمْنَحَهَا أَخَاهُ فَإِنْ أَبَاهَا فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ» أَخْرَجَاهُ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانُوا يَزْرَعُونَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبْعِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحَهَا أَخَاهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ» أَخْرَجَاهُ. وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.

ص: 56

وَلَفْظُ مُسْلِمٍ كُنَّا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَأْخُذُ الْأَرْضَ بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ بِالْمَاذِيَانَاتِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ فَقَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَإِنْ لَمْ يَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَلْيُمْسِكْهَا.

وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ: وَلَا يُكْرِيهَا» ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ:«نَهَى عَنْ كِرَاء الْأَرْضِ» . وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ وَالْمُخَابَرَةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ زَايِدْ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَأَنْ يَشْتَرِيَ النَّخْلَ حَتَّى يُشَقِّحَ» ، وَالْإِشْقَاحُ أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ يُؤْكَلَ مِنْهُ شَيْءٌ؛ وَالْمُحَاقَلَةُ أَنْ يُبَاعَ الْحَقْلُ بِكَيْلٍ مِنْ الطَّعَامِ مَعْلُومٍ وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ النَّخْلُ بِأَوْسَاقٍ مِنْ التَّمْرِ. وَالْمُخَابَرَةُ الثُّلُثُ أَوْ الرُّبْعُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، قَالَ زَيْدٌ: قُلْت لِعَطَاءٍ: أَسَمِعْت جَابِرًا يَذْكُرُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: نَعَمْ.

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَا مَنْ يَنْهَى عَنْ الْمُؤَاجَرَةِ وَالْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ كِرَائِهَا وَالْكِرَاءُ يَعُمُّهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْهَا، فَلَمْ يُرَخِّصْ إلَّا فِي أَنْ يَزْرَعَهَا أَوْ يَمْنَحَهَا لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي الْمُعَاوَضَةِ لَا بِمُؤَاجَرَةٍ وَلَا بِمُزَارَعَةٍ، وَمَنْ يُرَخِّصُ فِي الْمُزَارَعَةِ دُونَ الْمُؤَاجَرَةِ يَقُولُ الْكِرَاءُ هُوَ الْإِجَارَةُ أَوْ الْمُزَارَعَةُ الْفَاسِدَةُ الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَة، الَّتِي سَتَأْتِي أَدِلَّتُهَا الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَامِلُ بِهَا أَهْلَ خَيْبَرَ، وَعَمِلَ بِهَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ الَّذِي تَرَكَ كِرَاءَ الْأَرْضِ لَمَّا حَدَّثَهُ رَافِعٌ كَانَ يَرْوِي حَدِيثَ أَهْلِ خَيْبَرَ رِوَايَةَ مَنْ يُفْتِي بِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ أَوْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ» ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ، وَالْمُؤَاجَرَةُ أَظْهَرُ فِي الْغَرَرِ مِنْ الْمُزَارَعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَنْ يُجَوِّزُ الْمُؤَاجَرَةَ دُونَ الْمُزَارَعَةِ يَسْتَدِلُّ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ الْمُزَارَعَةِ وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا» ، فَهَذَا صَحِيحٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُزَارَعَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمُؤَاجَرَةِ.

وَسَيَأْتِي عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ الَّذِي رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يَنْهَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَائِهَا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مَضْمُونٍ، وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ

ص: 57

الْمُزَارَعَةِ وَذَهَبَ جَمِيعُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الْجَامِعُونَ لِطُرُقِهِ كُلِّهِمْ، كَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ كُلِّهِمْ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْهَاشِمِيِّ، وَأَبِي خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ وَأَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْكُوفِيِّينَ، كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ، وَأَبِي دَاوُد، وَجَمَاهِيرِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: كَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالْخَطَّابِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُؤَاجَرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَعَمَلُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَبَيَّنُوا مَعَانِيَ الْأَحَادِيثِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ اخْتِلَافُهَا فِي هَذَا الْبَابِ، فَمِنْ ذَلِكَ مُعَامَلَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ خَيْبَرَ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ إلَى أَنْ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ، فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ عَامِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَرْعٍ، أَخْرَجَاهُ وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَعْطَى خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا» ، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ، «لَمَّا اُفْتُتِحَتْ خَيْبَرُ سَأَلَتْ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقِرَّهُمْ فِيهَا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا عَلَى نِصْفِ مَا خَرَجَ مِنْهَا مِنْ التَّمْرِ وَالزَّرْعِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُقِرُّكُمْ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا، وَكَانَ الثَّمَرُ عَلَى السَّهْمَانِ مِنْ نِصْفِ خَيْبَرَ، فَيَأْخُذُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخُمُسَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ «دَفَعَ إلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَأَنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَطْرَ ثَمَرَتِهَا» ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى مَأْصِرِ الْكُوفَةِ. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى خَيْبَرَ أَهْلَهَا عَلَى نِصْفِ نَخْلِهَا وَأَرْضِهَا» ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّ «مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَكْرَى الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبْعِ، فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ إلَى يَوْمِك هَذَا» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَطَاوُسٌ كَانَ بِالْيَمَنِ وَأَخَذَ عَنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ الَّذِينَ بِالْيَمَنِ مِنْ أَعْيَانِ الْمُخَضْرَمِينَ، وَقَوْلُهُ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ أَيْ كَانَا يَفْعَلَانِ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَحُذِفَ الْفِعْلُ لِدَلَالَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ مُعَاذًا خَرَجَ مِنْ الْيَمَنِ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ، وَقَدِمَ الشَّامَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَمَاتَ بِهَا فِي خِلَافَتِهِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ

ص: 58

وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ تَعَيَّنَ الْبَاقِرُ بِالْمَدِينَةِ دَارَ الْهِجْرَةِ، فَأَمَرَ أَلَّا يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، قَالَ وَزَارَعَ عَلِيٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ وَعُرْوَةُ وَآلُ أَبِي بَكْرٍ وَآلُ عُمَرَ وَآلُ عَلِيٍّ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ، وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا.

وَهَذِهِ الْآثَارُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ قَدْ رَوَاهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْآثَارِ، فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا يُزَارِعُونَ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَأَكَابِرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ مُنْكِرٌ، لَمْ يَكُنْ إجْمَاعٌ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا، بَلْ إنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا إجْمَاعٌ فَهُوَ هَذَا، لَا سِيَّمَا وَأَهْلُ بَيْعَةِ الرَّضْوَانِ جَمِيعُهُمْ زَارَعُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَعْدَهُ عَلَى أَنْ أَجْلَى عُمَرُ الْيَهُودَ، وَقَدْ تَأَوَّلَ مَنْ أَبْطَلَ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلَاتٍ مَرْدُودَةٍ مِثْلُ أَنْ قَالُوا الْيَهُودُ عَبِيدُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ فَجَعَلُوا لَك مِثْلَ الْمُخَارَجَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ، وَمَعْلُومٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَهُمْ وَلَمْ يَسْتَرِقَّهُمْ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ وَلَمْ يَبِعْهُمْ وَلَا مَكَّنَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ اسْتِرْقَاقِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَمِثْلُ أَنْ قَالَ هَذِهِ مُعَامَلَةٌ مَعَ الْكُفَّارِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَجُوزَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مَرْدُودٌ فَإِنَّ خَيْبَرَ كَانَتْ قَدْ صَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْعَهْدِ مَا يَحْرُمُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ، ثُمَّ إنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ عَامَلَ عَلَى عَهْدِهِ أَهْلَ الْيَمَنِ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُعَامِلُونَ بِذَلِكَ.

وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ مَعَ عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُبِيحَةِ أَوْ

النَّافِيَةِ لِلْحَرَجِ

، وَمَعَ الِاسْتِصْحَابِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ مُشَارَكَةٌ لَيْسَتْ مِثْلَ الْمُؤَاجَرَةِ الْمُطْلَقَةِ، فَإِنَّ النَّمَاءَ الْحَادِثَ يَحْصُلُ مِنْ مَنْفَعَةِ أَصْلَيْنِ، مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ الَّذِي لَيْسَ لِهَذَا كَبَدَنَةٍ وَبَقَرَةٍ، وَمَنْفَعَةِ الْعَيْنِ الَّذِي لِهَذَا كَأَرْضِهِ وَشَجَرِهِ، كَمَا تَحْصُلُ الْمَغَانِمُ بِمَنْفَعَةِ أَبْدَانِ الْغَانِمِينَ وَخَيْلِهِمْ، وَكَمَا يَحْصُلُ مَالُ الْفَيْءِ بِمَنْفَعَةِ أَبْدَانِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُوَّتِهِمْ وَنَصْرِهِمْ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا هُوَ الْعَمَلُ أَوْ الْمَنْفَعَةُ، فَمَنْ اسْتَأْجَرَ الْبِنَاءَ اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ مَقْصُودَهُ بِالْعَقْدِ وَاسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ أَجْرَهُ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي الْإِجَارَةِ اللَّازِمَةِ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَضْبُوطًا، كَمَا يُشْتَرَطُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَبِيعِ، وَهُنَا مَنْفَعَةُ بَدَنِ الْعَامِلِ

ص: 59

وَبَدَنِ بَقَرِهِ وَحَدِيدِهِ، هُوَ مِثْلُ مَنْفَعَةِ أَرْضِ الْمَالِكِ وَشَجَرِهِ لَيْسَ مَقْصُودُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِيفَاءَ مَنْفَعَةِ الْآخَرِ. وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمَا جَمِيعًا مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْمَنْفَعَتَيْنِ، فَإِنْ حَصَلَ نَمَاءٌ اشْتَرَكَا فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ نَمَاءٌ ذَهَبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَنْفَعَتُهُ، فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَفِي الْمَغْرَمِ كَسَائِرِ الْمُشْتَرِكِينَ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ نَمَاءِ الْأُصُولِ الَّتِي لَهُمْ.

وَهَذَا جِنْسٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ يُخَالِفُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَقْصُودِهِ وَحُكْمِهِ الْإِجَارَةَ الْمَحْضَةَ، وَمَا فِيهِ مِنْ شَوْبِ الْمُعَاوَضَةِ مِنْ جِنْسِ مَا فِي الشَّرِكَةِ مِنْ شَوْبِ الْمُعَاوَضَةِ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْعَدْلِيَّةَ فِي الْأَرْضِ جِنْسَانِ مُعَاوَضَاتٌ وَمُشَارَكَاتٌ، فَالْمُعَاوَضَاتُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُشَارَكَاتُ شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ وَشَرِكَةُ الْعَقْدِ، يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ اشْتِرَاكُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَاشْتِرَاكُ النَّاسِ فِي الْمُبَاحَاتِ كَمَنَافِعِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ الْمُبَاحَةِ وَالطُّرُقَاتِ وَمَا يَحْيَا مِنْ الْمَوَاتِ، أَوْ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ وَاشْتِرَاكُ الْوَرَثَةِ فِي الْمِيرَاثِ وَاشْتِرَاكُ الْمُوصَى لَهُمْ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ، وَاشْتِرَاكُ التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ أَبْدَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَهَذَانِ الْجِنْسَانِ هُمَا مَنْشَأُ الظُّلْمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ دَاوُد عليه السلام:{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] وَالتَّصَرُّفَاتُ الْأُخْرَى هِيَ الْفَضْلِيَّةُ كَالْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَإِذَا كَانَتْ التَّصَرُّفَاتُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْمُعَادَلَةِ هِيَ مُعَاوَضَةٌ أَوْ مُشَارَكَةٌ فَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَةِ، لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُعَاوَضَةِ الْمَحْضَةِ وَالْغَرَرِ، إنَّمَا حَرُمَ بَيْعُهُ فِي الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَهُنَا لَا يَأْكُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْبُتْ الزَّرْعُ فَإِنَّ رَبَّ الْأَرْضِ لَمْ يَأْخُذْ مَنْفَعَةَ الْآخَرِ، إذْ هُوَ لَمْ يَسْتَوْفِهَا وَلَا مَلَكَهَا بِالْعَقْدِ، وَلَا هِيَ مَقْصُودَةٌ بَلْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ بَدَنِهِ كَمَا ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ أَرْضِهِ، وَرَبُّ الْأَرْضِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ قَدْ أَخَذَ، وَالْآخَرُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا بِخِلَافِ بُيُوعِ الْغَرَرِ وَإِجَارَةِ الْغَرَرِ، فَإِنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاوِضَيْنِ يَأْخُذُ شَيْئًا وَالْآخَرَ يَبْقَى تَحْتَ الْخَطَرِ فَيُفْضِي إلَى نَدَمِ أَحَدِهِمَا وَخُصُومَتِهِمَا.

وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الْمُعَادَلَةِ الْمَحْضَةِ، الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ظُلْمٌ أَلْبَتَّةَ لَا فِي غَرَرٍ وَلَا فِي غَيْرِ غَرَرٍ، وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا تَبَيَّنَ لَهُ مَأْخَذُ هَذِهِ الْأُصُولِ وَعَلِمَ أَنَّ جَوَازَ هَذِهِ أَشْبَهَ بِأُصُولِ

ص: 60

الشَّرِيعَةِ وَأَعْرَفُ فِي الْعَقْدِ، وَأَبْعَدُ عَنْ كُلِّ مَحْذُورٍ، وَمِنْ جَوَازِ إجَارَةِ الْأَرْضِ بَلْ وَمِنْ جَوَازِ كَثِيرٍ مِنْ الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا حَيْثُ هِيَ

مَصْلَحَةٌ

مَحْضَةٌ لِلْخَلْقِ بِلَا فَسَادٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَ اللَّبْسُ فِيهَا عَلَى مَنْ حَرَّمَهَا مِنْ إخْوَانِنَا الْفُقَهَاءِ بَعْدَمَا فَهِمُوهُ مِنْ الْآثَارِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا هَذَا إجَارَةً عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ، لِمَا فِيهَا مِنْ عَمَلٍ بِعِوَضٍ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَمِلَ لِيَنْتَفِعَ بِعَمَلِهِ يَكُونُ أَجِيرًا، كَعَمَلِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ، وَكَعَمَلِ الشَّرِيكَيْنِ شَرِكَةَ أَبْدَانٍ وَكَاشْتِرَاكِ الْغَانِمِينَ فِي الْمَغَانِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى، نَعَمْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَعْمَلُ بِمَالٍ يَضْمَنُهُ لَهُ الْآخَرُ لَا يَتَوَالَدُ مِنْ عَمَلِهِ كَانَ هَذَا إجَارَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ مِنْ جِنْسِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهَا عَيْنٌ تَنْمُو بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا، فَجَازَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا بِبَعْضِ نَمَائِهَا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَالْمُضَارَبَةُ جَوَّزَهَا الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ اتِّبَاعًا لِمَا جَاءَ فِيهَا عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، مَعَ أَنَّهُ لَا يُحْفَظُ فِيهَا بِعَيْنِهَا سُنَّةً عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ كَانَ أَحْمَدُ يَرَى أَنْ يَقِيسَ الْمُضَارَبَةَ عَلَى الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ لِثُبُوتِهَا بِالنَّصِّ، فَيَجْعَلُ أَصْلًا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِمَا مَنْ خَالَفَ، وَقِيَاسُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ صَحِيحٌ، فَإِنَّ مَنْ يَثْبُتُ عِنْدَهُ جَوَازُ أَحَدِهِمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ حُكْمُ الْآخَرِ لِتَسَاوِيهِمَا. فَإِنْ قِيلَ الرِّبْحُ فِي الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ مِنْ غَيْرِ الْأَصْلِ، بَلْ الْأَصْلُ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ بَدَلُهُ، فَالْمَالُ الْمُقَسَّمُ حَصَلَ نَفْسُ الْعَمَلِ بِخِلَافِ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ، فَإِنَّهُ مِنْ نَفْسِ الْأَصْلِ. قِيلَ هَذَا الْفَرْقُ فَرْقٌ فِي الصُّورَةِ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمَالَ الْمُسْتَفَادَ إنَّمَا حَصَلَ بِمَجْمُوعِ بَدَنِ الْعَامِلِ وَمَنْفَعَةِ رَأْسِ الْمَالِ.

وَلِهَذَا يُرَدُّ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِثْلُ رَأْسِ مَالِهِ وَيَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ كَمَا أَنَّ الْعَامِلَ بَقِيَ بِنَفْسِهِ الَّتِي هِيَ نَظِيرُ الدَّرَاهِمِ وَلَيْسَتْ إضَافَةُ الرِّبْحِ إلَى عَمَلِ بَدَنِ هَذَا بِأَوْلَى مِنْ إضَافَتِهِ إلَى مَنْفَعَةِ مَالِ هَذَا.

وَلِهَذَا فَالْمُضَارَبَةُ الَّتِي يَرْوُونَهَا عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه إنَّمَا حَصَلَتْ بِغَيْرِ عَقْدٍ لَمَّا أَقْرَضَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ لِابْنَيْ عُمَرَ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، فَحَمَلَاهُ إلَى أَبِيهِمَا فَطَلَبَ عُمَرُ جَمِيعَ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ كَالْغَصْبِ حَيْثُ أَقْرَضَهُمَا وَلَمْ يُقْرِضْ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَالُ مُشْتَرِكٌ وَأَحَدُ الشُّرَكَاءِ إذَا اتَّجَرَ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بِدُونِ الْآخَرِ فَهُوَ كَالْغَاصِبِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ، وَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ الضَّمَانُ كَانَ عَلَيْنَا فَيَكُونُ الرِّبْحُ

ص: 61

لَنَا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنْ يَجْعَلَهُ مُضَارَبَةً.

وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَوْجُودَةٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، هَلْ يَكُونُ الرِّبْحُ فِيمَنْ اتَّجَرَ بِمَالُ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِرَبِّ الْمَالِ أَوْ لِلْعَامِلِ أَوْ لَهُمَا، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَأَحْسَنُهَا وَأَقْيَسُهَا أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا كَمَا قَضَى بِهِ عُمَرُ رضي الله عنه؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ يَتَوَلَّدُ عَنْ الْأَصْلَيْنِ، وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْمُضَارَبَةِ الَّذِي اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ وَعَوَاقِبُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الشَّرِكَةِ فَأَخْذُ مِثْلِ الدَّرَاهِمِ يَجْرِي مَجْرَى عَيْنِهَا، وَلِهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ الْقَرْضَ مَنِيحَةً يُقَالُ مَنِيحَةُ وَرِقٍ وَتَقُولُ النَّاسُ أَعِرْنِي دَرَاهِمَك، يَجْعَلُونَ رَدَّ مِثْلِ هَذَا الدَّرَاهِمِ كَرَدِّ عَيْنِ الْعَارِيَّةِ، وَالْمُقْتَرِضُ انْتَفَعَ فِيهَا وَرَدَّهَا، وَسَمَّوْا الْمُضَارَبَةَ قِرَاضًا؛ لِأَنَّهَا فِي الْمُقَابَلَاتِ نَظِيرَ الْقَرْضِ فِي التَّبَرُّعَاتِ.

وَيُقَالُ أَيْضًا لَوْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفَرْقِ مُؤَثِّرًا لَكَانَ اقْتِضَاؤُهُ لِتَجْوِيزِ الْمُزَارَعَةِ دُونَ الْمُضَارَبَةِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ إذَا حَصَلَ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلَيْنِ كَانَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ حُصُولِهِ مَعَ ذَهَابِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ قِيلَ الزَّرْعُ نَمَاءُ الْأَرْضِ دُونَ الْبَذْرِ فَقَدْ يُقَالُ الرِّبْحُ نَمَاءُ الْعَامِلِ دُونَ الدَّرَاهِمِ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ بَلْ الزَّرْعُ حَصَلَ بِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ، وَمَنْفَعَةِ بَدَنِ الْعَامِلِ وَالْبَقَرِ وَالْحَدِيدِ، ثُمَّ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُضَارَبَةِ فَرْقًا فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا بِالْمُضَارَبَةِ أَشْبَهُ مِنْهَا بِالْمُؤَاجَرَةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاجَرَةَ الْمَقْصُودَ فِيهَا هُوَ الْعَمَلُ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَالْأُجْرَةُ مَضْمُونَةٌ فِي الذِّمَّةِ أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، وَهُنَا لَيْسَ الْمَقْصُودُ إلَّا النَّمَاءُ، وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْعَمَلِ، وَالْأُجْرَةُ لَيْسَتْ عَيْنًا وَلَا شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ. وَإِنَّمَا هِيَ بَعْضُ مَا يَحْصُلُ مِنْ النَّمَاءِ، وَلِهَذَا مَتَى عُيِّنَ فِيهَا شَيْءٌ تَعَيَّنَ الْعَقْدُ كَمَا تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ إذَا شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا رِبْحًا مُعَيَّنًا أَوْ أُجْرَةً مَعْلُومَةً فِي الذِّمَّةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْغَايَةِ فَإِذَا كَانَتْ بِالْمُضَارَبَةِ فَضَعِيفٌ، وَاَلَّذِي بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُؤَاجَرَةِ فُرُوقٌ مُؤَثِّرَةٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ إلْحَاقِهَا بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ فَإِلْحَاقُهَا بِمَا هِيَ بِهِ أَشْبَهُ أَوْلَى وَهَذَا أَجْلَى مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهِ إلَى إطْنَابٍ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ نَقُولَ لَفْظُ الْإِجَارَةِ فِيهِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ لِكُلِّ مَنْ بَدَّلَ نَفْعًا لِعِوَضٍ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَهْرُ، كَمَا فِي

ص: 62

قَوْلُهُ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَمَلُ هُنَا مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا وَكَانَ الْأَجْرُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا لَازِمًا أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ.

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِجَارَةُ الَّتِي هِيَ جَعَالَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ النَّفْعُ غَيْرَ مَعْلُومٍ، لَكِنْ الْعِوَضُ مَضْمُونٌ فَيَكُونُ عَقْدًا نَاجِزًا غَيْرَ لَازِمٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ مَنْ رَدَّ عَبْدِي فَلَهُ كَذَا فَقَدْ يَزِدْهُ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبٍ.

الثَّالِثَةُ: الْإِجَارَةُ الْخَاصَّةُ وَهِيَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَيْنًا أَوْ يَسْتَأْجِرَهُ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً فَيَكُونُ الْأَجْرُ مَعْلُومًا وَالْإِجَارَةُ لَازِمَةً، وَهَذِهِ الْإِجَارَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الْبَيْعَ فِي عَامَّةِ أَحْكَامِهِ.

وَالْفُقَهَاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ إذَا أَطْلَقُوا الْإِجَارَةَ أَوْ قَالُوا بَابُ الْإِجَارَةِ أَرَادُوا هَذَا الْمَعْنَى، فَيُقَالُ: الْمُسَاقَاةُ، وَالْمُزَارَعَةُ، وَالْمُضَارَبَةُ، وَنَحْوُهُنَّ مِنْ الْمُشَارَكَاتِ عَلَى مَا يَحْصُلُ، مَنْ قَالَ هِيَ إجَارَةٌ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ أَوْ الْعَامِّ فَقَدْ صَدَقَ، وَمَنْ قَالَ هِيَ إجَارَةٌ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَإِذَا كَانَتْ إجَارَةً بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الَّتِي هِيَ الْجَعَالَةُ، فَهُنَالِكَ إنْ كَانَ الْعِوَضُ شَيْئًا مَضْمُونًا مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ الْعَمَلِ جَازَ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا شَائِعًا، كَمَا لَوْ قَالَ الْأَمِيرُ فِي الْغَزْوِ مَنْ دَلَّنَا عَلَى حِصْنِ كَذَا فَلَهُ مِنْهُ كَذَا، فَحُصُولُ الْجَعْلِ هُنَاكَ الْمَشْرُوطُ بِحُصُولِ الْمَالِ، مَعَ أَنَّهُ جَعَالَةٌ مَحْضَةٌ لَا شَرِكَةَ فِيهِ فَالشَّرِكَةُ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَتَسْلُكُ طَرِيقَةً أُخْرَى فَيُقَالُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قِيَاسُ الْأُصُولِ أَنَّ الْإِجَارَةَ الْخَاصَّةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْعِوَضُ غَرَرًا قِيَاسًا عَلَى الثَّمَنِ.

فَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِالْمَنْفَعَةِ فَلَا تُشْبِهُ هَذِهِ الْإِجَارَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِهَا فَتَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ الْمُبِيحِ، فَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُعْتَقِدَ لِكَوْنِهَا إجَارَةً يَسْتَفْسِرُ عَنْ مُرَادِهِ بِالْإِجَارَةِ، فَإِنْ أَرَادَ الْخَاصَّةَ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ أَرَادَ الْعَامَّةَ فَأَيْنَ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا إلَّا بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ، فَإِنْ ذَكَرَ قِيَاسًا بَيَّنَ لَهُ الْفَرْقَ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِ فَقِيهٍ فَضْلًا عَنْ الْفَقِيهِ، وَأَنْ يَجِدَ إلَى أَمْرٍ يَشْمَلُ مِثْلَ هَذِهِ الْإِجَارَةِ سَبِيلًا فَإِذَا انْتَفَتْ أَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ ثَبَتَ الْحِلُّ، وَسَلَكَ مِنْ هَذَا فِي طَرِيقَةٍ أُخْرَى

ص: 63

وَهُوَ قِيَاسُ الْعَكْسِ، وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْفَرْعِ نَقِيضُ حُكْمِ الْأَصْلِ، لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُكْمِ الْأَصْلِ، فَيُقَالُ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِكَوْنِ الْأُجْرَةِ تَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً مُنْتَفٍ فِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِذَلِكَ أَنَّ الْمَجْهُولَ غَرَرٌ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْغَرَرِ الْمُقْتَضِي أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، أَوْ مَا يُذْكَرُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَنْفِيَّةٌ فِي الْفَرْعِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّحْرِيمِ مُوجِبٌ إلَّا كَذَا وَهُوَ مُنْتَفٍ فَلَا تَحْرِيمَ.

وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ: حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَغَيْرِهِ فَقَدْ جَاءَتْ مُفَسِّرَةً مُبَيِّنَةً لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَمَّا فَعَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي عَهْدِهِ وَبَعْدَهُ، بَلْ الَّذِي رَخَّصَ فِيهِ غَيْرُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ، فَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ:«كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُزْدَرَعًا، كُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا مُسَمَّى لِسَيِّدِ الْأَرْضِ، قَالَ: فِيمَا يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلَمُ الْأَرْضُ، وَمِمَّا يُصَابُ الْأَرْضُ وَيَسْلَمُ ذَلِكَ فَنُهِينَا، فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ: «كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَقْلًا، وَكَانَ أَحَدُنَا يُكْرِي أَرْضَهُ، فَيَقُولُ: هَذِهِ الْقِطْعَةُ لِي وَهَذِهِ لَك، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ، فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ، فَنُهِينَا عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ نُنْهَ عَنْ الزَّرْعِ» ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ رَافِعٍ قَالَ: كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَمْصَارِ حَقْلًا، وَكُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ، عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ وَلَهُمْ هَذِهِ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْوَرِقُ فَلَمْ يَنْهَنَا، وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَأَلْت رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ؟ ، قَالَ: فَلَا بَأْسَ بِهِ، إنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَجِّرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَإِقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَأَشْيَاءَ مِنْ الزَّرْعِ، فَيَهْلَكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا، فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إلَّا هَذَا، فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ.

فَهَذَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الْحَدِيثِ يَذْكُرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كِرَاءٌ إلَّا بِزَرْعِ مَكَان مُعَيَّنٍ مِنْ الْحَقْلِ، وَهَذَا النَّوْعُ حَرَامٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً وَحَرَّمُوا نَظِيرَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ، فَلَوْ اشْتَرَطَ رَبُّ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ، وَهَذَا الْغَرَرُ فِي الْمُشَارَكَاتِ نَظِيرُ الْغَرَرِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذِهِ الْمُعَاوَضَاتِ وَالْمُقَابَلَاتِ هُوَ التَّعَادُلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَإِنْ اشْتَمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى غَرَرٍ أَوْ رِبًا دَخَلَهَا

ص: 64

الظُّلْمُ فَحَرَّمَهَا الَّذِي حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ، وَجَعَلَهُ مُحَرَّمًا عَلَى عِبَادِهِ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا مَلَكَ الثَّمَنَ وَبَقِيَ الْآخَرُ تَحْتَ الْخَطَرِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْعَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا.

فَكَذَلِكَ هَذَا إذَا اشْتَرَطَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مَكَانًا مُعَيَّنًا خَرَجَا عَنْ مُوجِبِ الشَّرِكَةِ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي النَّمَاءِ، فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْمُعَيَّنِ لَمْ يَبْقَ لِلْآخَرِ فِيهِ نَصِيبٌ، وَدَخَلَهُ الْخَطَرُ وَمَعْنَى الْقِمَارِ كَمَا ذَكَرَهُ رَافِعٌ رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ، رُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ فَيَفُوزُ أَحَدُهُمَا وَيَخِيبُ الْآخَرُ، وَهُوَ مَعْنَى الْقِمَارِ، وَأَخْبَرَ رَافِعٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ كِرَاءٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا هَذَا، وَأَنَّهُ إنَّمَا زَجَرَ عَنْهُ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنْ الْمُخَاطَرَةِ وَمَعْنَى الْقِمَارِ، وَأَنَّ النَّهْيَ انْصَرَفَ إلَى ذَلِكَ الْكِرَاءِ الْمَعْهُودِ، لَا إلَى مَا تَكُونُ فِيهِ الْأُجْرَةُ مَضْمُونَةً فِي الذِّمَّةِ.

وَسَأُشِيرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَرَافِعٌ أَعْلَمُ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَيِّ شَيْءٍ وَقَعَ، وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَإِنَّهُ قَالَ لَمَّا حَدَّثَهُ رَافِعٌ قَدْ عَلِمْت أَنَّا كُنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا بِمَا عَلَى الْأَرْبِعَاءِ وَشَيْءٍ مِنْ التِّبْنِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ بِزَرْعِ مَكَان مُعَيَّنٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغَهُ النَّهْيُ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، كَانَ يَرْوِي حَدِيثَ مُعَامَلَةِ خَيْبَرَ دَائِمًا وَيُفْتِي بِهِ، وَيُفْتِي بِالْمُزَارَعَةِ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ، وَأَهْلُ بَيْتِهِ أَيْضًا بَعْدَ حَدِيثِ رَافِعٍ.

فَرَوَى حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْت كُلَيْبَ بْنَ وَائِلٍ، قَالَ: أَتَيْت ابْنَ عُمَرَ، فَقُلْت: أَتَانِي رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ وَمَاءٌ، وَلَيْسَ لَهُ بَذْرٌ وَلَا بَقَرٌ، فَأَخَذْتهَا بِالنِّصْفِ، فَبَذَرْت فِيهَا بَذْرِي وَعَمِلْت فِيهَا بِبَقَرِي فَنَاصَفْته، قَالَ حَسَنٌ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي حَزْمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ سَمِعْت سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ الرَّجُلُ: مِنَّا يَنْطَلِقُ إلَى الرَّجُلِ فَيَقُولُ: أَجِيءُ بِبَذْرِي وَبَقَرِي وَأَعْمَلُ أَرْضَك فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهُ فَلَكَ مِنْهُ كَذَا وَلِي مِنْهُ كَذَا، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ وَنَحْنُ نُضَيِّقُهُ.

وَهَكَذَا أَخْبَرَ أَقَارِبُ رَافِعٍ، فَفِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ رَافِعٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمُومَتِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا يَنْبُتُ عَلَى الْأَرْبِعَاءِ، وَشَيْءٍ يَسْتَثْنِيهِ

ص: 65

صَاحِبُ الْأَرْضِ فَنَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ: لِرَافِعٍ فَكَيْفَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، فَقَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ. وَكَانَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ، وَذَلِكَ مَا لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذُو الْفَهْمِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَمْ يُجْزِئْ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَاطَرَةِ، وَعَنْ أُسَيْدَ بْنِ ظُهَيْرٍ قَالَ: كَانَ أَحَدُنَا إذَا اسْتَغْنَى عَنْ أَرْضِهِ أَعْطَاهَا بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ أَوْ النِّصْفِ، وَيُشْتَرَطُ ثَلَاثُ جَدَاوِلَ، وَالْقُصَارَةُ، وَمَا سَقَى الرَّبِيعُ، وَكَانَ الْعَيْشُ إذْ ذَاكَ شَدِيدًا وَكَانَ يَعْمَلُ فِيهَا بِالْحَدِيدِ وَمَا شَاءَ اللَّهُ وَيُصِيبُ مِنْهَا مَنْفَعَةً، فَأَتَانَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَاكُمْ عَنْ الْحَقْلِ، وَيَقُولُ:«مَنْ اسْتَغْنَى عَنْ أَرْضِهِ فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، أَوْ لِيَدَعْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَادَ أَحْمَدُ «وَيَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُزَابَنَةِ» .

وَالْمُزَابَنَةُ: أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ لَهُ الْمَالُ الْعَظِيمُ مِنْ النَّخْلِ فَيَأْتِيهِ الرَّجُلُ فَيَقُولُ أَخَذْته بِكَذَا وَكَذَا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، وَالْقُصَارَةُ: مَا سَقَطَ مِنْ السُّنْبُلِ، وَهَكَذَا أَخْبَرَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَجَابِرٌ فَأَخْبَرَ سَعْدٌ أَنَّ أَصْحَابَ الْمَزَارِعِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانُوا يُكْرُونَ مَزَارِعَهُمْ بِمَا يَكُونُ عَلَى السَّوَّاقِي مِنْ الزَّرْعِ وَمَا يَتَغَذَّى بِالْمَاءِ مِمَّا حَوْلَ الْبِئْرِ، فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاخْتَصَمُوا فِي ذَلِكَ، فَنَهَاهُمْ أَنْ يُكْرُوا بِذَلِكَ، وَقَالَ «اُكْرُوا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْإِذْنِ بِالْكِرَاءِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا كَانَ عَنْ اشْتِرَاطِ زَرْعِ مَكَان مُعَيَّنٍ، وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنُصِيبُ مِنْ الْقُصَارَةِ وَمِنْ كَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ وَإِلَّا فَلْيَدَعْهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ رَوَوْا عَنْهُ النَّهْيَ قَدْ أَخْبَرُوا بِالصُّورَةِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا، وَالْعِلَّةَ الَّتِي نَهَى مِنْ أَجْلِهَا، وَإِذَا كَانَ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ الْكِرَاءَ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ كَمَا فَهِمُوهُ مِنْ كَلَامِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَقْصُودِهِ، وَكَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا عَنْهُ أَنَّهُ رَخَّصَ غَيْرَ ذَلِكَ الْكِرَاءِ وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ مَا قُرِنَ بِهِ

ص: 66

النَّهْيُ مِنْ الْمُزَابَنَةِ وَنَحْوِهَا، وَاللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ فِي الْمُزَابَنَةِ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ إذَا كَانَ خِطَابًا لِمُعَيَّنٍ فِي مِثْلِ الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالٍ أَوْ عَقِبَ حِكَايَةِ حَالٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَكُونُ مَقِيلًا بِمِثْلِ حَالِ الْمُخَاطَبِ، كَمَا لَوْ قَالَ الْمَرِيضُ لِلطَّبِيبِ: إنَّ بِهِ حَرَارَةً فَقَالَ: لَا تَأْكُلْ الدَّسَمَ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ النَّهْيَ مُقَيَّدٌ بِتِلْكَ الْحَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ إذَا كَانَ لَهُ مُسَمًّى مَعْهُودٌ أَوْ حَالٌ تَقْتَضِيهِ انْصَرَفَ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يُكْرَهُ كَالْمُتَبَايِعِينَ إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا بِعْتُك عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَإِنَّهَا مُطْلَقَةٌ فِي اللَّفْظِ، ثُمَّ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا إلَى الْمَعْهُودِ مِنْ الدَّرَاهِمِ.

فَإِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ لَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ لَفْظَ الْكِرَاءِ إلَّا لِذَلِكَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، ثُمَّ خُوطِبُوا بِهِ لَمْ يَنْصَرِفْ إلَّا إلَى مَا يَعْرِفُونَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ الْعُرْفِيِّ، كَلَفْظِ الدَّابَّةِ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ أَنَّهُ الْفَرَسُ أَوْ ذَوَاتُ الْحَافِرِ فَقَالَ: لَا يَأْتِي بِدَابَّةٍ لَمْ يَنْصَرِفْ هَذَا الْمُطْلَقُ إلَّا إلَى ذَلِكَ، وَنَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ كَانَ مُقَيَّدًا بِالْعُرْفِ وَبِالسُّؤَالِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ ظُهَيْرِ بْنِ رَافِعٍ، قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ، قُلْت: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبْعِ، وَعَلَى الْأَوْسُقِ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا ازْرَعُوهَا أَوْ امْسِكُوهَا» . فَقَدْ خَرَجَ بِأَنَّ النَّهْيَ وَقَعَ عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ.

وَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ الْمَحْضَةُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهَا النَّهْيُ وَلَا ذَكَرَهَا رَافِعٌ وَغَيْرُهُ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ الْكِرَاءِ؛ لِأَنَّهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عِنْدَهُمْ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْكِرَاءِ الْمُعْتَادِ، فَإِنَّ الْكِرَاءَ اسْمٌ لِمَا وَجَبَتْ فِيهِ أُجْرَةٌ مَعْلُومَةٌ إمَّا عَيْنٌ وَإِمَّا دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مَضْمُونًا فَهُوَ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَيْنًا مِنْ غَيْرِ الزَّرْعِ، أَمَّا إنْ كَانَ عَيْنًا مِنْ الزَّرْعِ لَمْ يَجُزْ.

فَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ جَمِيعِ الزَّرْعِ فَلَيْسَ هُوَ الْكِرَاءُ الْمُطْلَقُ، بَلْ هُوَ شَرِكَةٌ مَحْضَةٌ إذْ لَيْسَ جَعْلُ الْعَامِلِ مُكْتَرِيًا لْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِنْ الزَّرْعِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ الْمَالِكِ مُكْتَرِيًا لِلْعَامِلِ بِالْجُزْءِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي هَذَا كِرَاءً أَيْضًا، فَإِنَّمَا هُوَ كِرَاءٌ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِثَالُهُ.

فَأَمَّا الْكِرَاءُ الْخَاصُّ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ رَافِعٌ وَغَيْرُهُ فَلَا، وَلِهَذَا السَّبَبِ بَيَّنَ رَافِعٌ أَحَدَ

ص: 67

نَوْعَيْ الْكِرَاءِ الْجَائِزِ وَبَيَّنَ الْكِرَاءَ الْآخَرَ الَّذِي نُهُو عَنْهُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهَا جِنْسٌ آخَرُ، بَقِيَ أَنْ يُقَالَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ وَإِلَّا فَلْيُمْسِكْهَا» أَمَرَ إذَا لَمْ يَفْعَلْ وَاحِدًا مِنْ الزَّرْعِ وَالْمَنِيحَةِ أَنْ يُمْسِكَهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ وَمِنْ الْمُزَارَعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيُقَالُ الْأَمْرُ بِهَذَا أَمْرُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ لَا أَمْرُ إيجَابٍ فِي الِابْتِدَاءِ لِيَنْزَجِرُوا عَمَّا اعْتَادُوهُ مِنْ الْكِرَاءِ الْفَاسِدِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَقَالَ أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا وَأَكْثَرُهَا وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ سَأَلَهُ عَنْهُمْ أَبُو ثَعْلَبَةَ:«إنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَأَرْخِصُوهَا بِالْمَاءِ» .

وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ إذَا اعْتَادَتْ الْمَعْصِيَةَ فَقَدْ لَا تَنْفَطِمُ عَنْهَا انْفِطَامًا جَيِّدًا إلَّا بِتَرْكِ مَا يُقَارِبُهَا مِنْ الْمُبَاحِ، كَمَا قِيلَ لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ حَاجِزًا مِنْ الْحَلَالِ، كَمَا أَنَّهَا أَحْيَانَا لَا تُتْرَكُ الْمَعْصِيَةُ إلَّا بِتَدْرِيجٍ لَا بِتَرْكِهَا جُمْلَةً، فَهَذَا يَقَعُ تَارَةً وَهَذَا يَقَعُ تَارَةً، وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ خَشِيَ مِنْهُ النَّفْرَةَ عَنْ الطَّاعَةِ الرُّخْصَةُ فِي أَشْيَاءَ يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ الْمُحَرَّمِ، وَلِمَنْ وَثِقَ بِإِيمَانِهِ وَصَبْرِهِ النَّهْيُ عَنْ بَعْضِ مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُهُ مُبَالَغَةً فِي فِعْلِ الْأَفْضَلِ، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَثِقَ بِإِيمَانِهِ وَصَبْرِهِ مِنْ فِعْلِ الْمُسْتَحَبَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ كَالْخُرُوجِ عَنْ جَمِيعِ مَالِهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه مَا لَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ حَالُهُ كَذَلِكَ، كَالرَّجُلِ الَّذِي جَاءَهُ بِبَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَحَدَفَهُ فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ، ثُمَّ قَالَ:«يَذْهَبُ أَحَدُكُمْ فَيُخْرِجُ مَالَهُ ثُمَّ يَجْلِسُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ» .

يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الصَّحِيحَةِ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ الْمُزَارَعَةِ، وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ، وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا» .

وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ سَعْدٍ أَنَّهُ نَهَاهُمْ أَنْ يُكْرُوا بِزَرْعِ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، وَقَالَ: اُكْرُوَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكَذَلِكَ فَهِمَتْهُ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم، فَإِنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ قَدْ رَوَى ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِكِرَائِهَا بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَكَذَلِكَ فُقَهَاءُ الصَّحَابَةِ كَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ قُلْت لِطَاوُسٍ لَوْ تَرَكْت

ص: 68

الْمُخَابَرَةَ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُ، قَالَ ابْنُ عَمْرٍو: إنِّي أُعْطِيهِمْ وَأُعِينُهُمْ وَأَنَا أَعْلَمُهُمْ. أَخْبَرَنِي يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ عَنْهُ، وَلَكِنْ قَالَ: إنْ مَنَحَ أَحَدُهُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ خَرْجًا مَعْلُومًا» ،

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحَرِّمْ الْمُزَارَعَةَ، وَلَكِنْ أَمَرَ أَنْ يُرْفِقَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُجْمَلًا، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَقَدْ أَخْبَرَ طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالرِّفْقِ الَّذِي مِنْهُ وَاجِبٌ وَهُوَ تَرْكُ الرِّبَا وَالْغَرَرِ وَمِنْهُ مُسْتَحَبٌّ كَالْعَارِيَّةِ وَالْقَرْضِ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ التَّبَرُّعُ بِالْأَرْضِ بِلَا أُجْرَةٍ مِنْ بَابِ الِاخْتِبَارِ كَانَ الْمُسْلِمُ أَحَقَّ، فَقَالَ:«لَأَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أَرْضَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا خَرْجًا مَعْلُومًا» ، وَقَالَ:«مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ أَوْ لِيُمْسِكْهَا» .

فَكَانَ الْأَخُ هُوَ الْمَمْنُوحُ، وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَيْسُوا مِنْ الْإِخْوَانِ عَامَلَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَمْنَحْهُمْ، لَا سِيَّمَا وَالتَّبَرُّعُ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ فَضْلِ غِنًى.

فَمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى مَنْفَعَةِ أَرْضِهِ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهَا الْمَنِيحَةُ، كَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُحْتَاجِينَ إلَى مَنْفَعَةِ أَرْضِ خَيْبَرَ، وَكَمَا كَانَ الْأَنْصَارُ مُحْتَاجِينَ إلَى أَرْضِهِمْ حَيْثُ عَامَلُوا عَلَيْهَا الْمُهَاجِرِينَ، وَقَدْ تُوجِبُ الشَّرِيعَةُ التَّبَرُّعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، كَمَا نَهَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ لِأَجْلِ الرَّأْفَةِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ لِيُطْعِمُوا الْجِيَاعَ؛ لِأَنَّ إطْعَامَهُمْ وَاجِبٌ، فَلَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُحْتَاجِينَ إلَى مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَأَصْحَابُهَا أَغْنِيَاءُ نَهَاهُمْ عَنْ الْمُعَاوَضَةِ لِيَجُودُوا بِالتَّبَرُّعِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالتَّبَرُّعِ عَيْنًا كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ الِادِّخَارِ، فَإِنَّ مَنْ نَهَى عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ جَادَ بِبَذْلِهِ إذْ لَا يَتْرُكُ كَذَا، وَقَدْ يَنْهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَلْ اللَّهُ عَنْ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمُبَاحِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَنْفَعَةِ الْمَنْهِيِّ كَمَا نَهَاهُمْ فِي بَعْضِ الْمَغَازِي.

وَأَمَّا مَا رَوَاهُ جَابِرٌ، مِنْ نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُخَابَرَةِ، فَهَذِهِ هِيَ الْمُخَابَرَةُ الَّتِي نَهَى

ص: 69

عَنْهَا، وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَلَمْ تَكُنْ الْمُخَابَرَةُ عِنْدَهُمْ إلَّا ذَلِكَ، بَيَّنَ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا لَا نَرَى بِالْخِبْرَةِ بَأْسًا حَتَّى كَانَ عَامُ أَوَّلٍ، فَزَعَمَ رَافِعٌ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُ فَتَرَكْنَاهُ مِنْ أَجَلِهِ.

فَأَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَافِعًا رَوَى النَّهْيَ عَنْ الْخِبْرَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى حَدِيثِ رَافِعٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْخِبْرَةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْمُخَابَرَةُ، وَالْمُزَارَعَةُ بِالنِّصْفِ، أَوْ الثُّلُثِ وَالرُّبْعِ، وَأَقَلُّ وَأَكْثَرُ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدٍ يَقُولُ لِهَذَا سُمِّيَ الْأَكَّارُ خَبِيرًا؛ لِأَنَّهُ يُخَابِرُ الْأَرْضَ، الْمُخَابَرَةُ هِيَ الْمُؤَاكَرَةُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَصْلُ هَذَا مِنْ خَيْبَرَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَقَرَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى النِّصْفِ، فَقِيلَ خَابَرَهُمْ أَيْ عَامَلَهُمْ فِي خَيْبَرَ، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ فَإِنَّ مُعَامَلَتَهُ بِخَيْبَرَ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا قَطُّ بَلْ فَعَلَهَا الصَّحَابَةُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا رَوَى حَدِيثَ الْمُخَابَرَةِ رَافِعٌ، وَجَابِرٌ، وَقَدْ فَسَّرَا مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَالْخَبِيرُ هُوَ الْفَلَّاحُ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَخْبُرُ الْأَرْضَ.

وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُخَابَرَةِ وَالْمُزَارَعَةِ، فَقَالُوا: الْمُخَابَرَةُ هِيَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ، وَالْمُزَارَعَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ، قَالُوا: وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ لَا الْمُزَارَعَةِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْمُزَارَعَةِ، كَمَا نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ، وَكَمَا نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عَامَّةٌ لِمَوْضِعِ نَهْيِهِ وَغَيْرِ مَوْضِعِ نَهْيِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ مِمَّا يَفْعَلُونَهُ لِأَجْلِ التَّخْصِيصِ الْعُرْفِيِّ لَفْظًا وَفِعْلًا، وَلِأَجْلِ الْقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ وَهِيَ لَامُ الْعَهْدِ، وَسُؤَالِ السَّائِلِ وَإِلَّا فَقَدْ نَقَلَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الْمُخَابَرَةَ هِيَ الْمُزَارَعَةُ وَالِاشْتِقَاقُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

. فَصْلٌ

وَاَلَّذِينَ جَوَّزُوا الْمُزَارَعَةَ، مِنْهُمْ مَنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ، وَقَالُوا: هَذِهِ هِيَ الْمُزَارَعَةُ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ لَمْ يَجُزْ، وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، حَيْثُ يُجَوِّزُونَ الْمُزَارَعَةَ.

وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ قِيَاسُهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَبِذَلِكَ احْتَجَّ أَحْمَدُ أَيْضًا، قَالَ

ص: 70

الْكَرْمَانِيُّ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ دَفَعَ أَرْضَهُ إلَى الْإِكْرَاءِ عَلَى الثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، وَالْبَقَرُ وَالْعَمَلُ وَالْحَدِيدُ مِنْ الْأَكَّارِ، فَذَهَبَ فِيهِ مَذْهَبَ الْمُضَارَبَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَذْرَ هُوَ أَصْلُ الزَّرْعِ، كَمَا أَنَّ الْمَالَ هُوَ أَصْلُ الرِّبْحِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِمَّنْ لَهُ الْأَصْلُ لِيَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمَا الْعَمَلُ وَمِنْ الْآخَرِ الْأَصْلُ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ، وَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِهِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ نَصًّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُكْرِيَ أَرْضَهُ بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ؛ كَمَا عَامَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى: إذَا دَفَعَ أَرْضَهُ لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا بِبَذْرِهِ بِجُزْءٍ مِنْ الزَّرْعِ لِلْمَالِكِ فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُزَارَعَةِ لَمْ يَجُزْ.

وَجَعَلُوا هَذَا التَّفْرِيقَ تَقْرِيرًا لِنُصُوصِهِ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا عَامَّةَ نُصُوصِهِ صَرَائِحَ كَثِيرَةً جِدًّا فِي جَوَازِ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ مِنْهَا، وَرَأَوْا أَنَّ مَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ عِنْدَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْمُزَارَعَةِ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ، كَالْمُضَارَبَةِ، فَفَرَّقُوا بَيْنَ بَابِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَبَابِ الْإِجَارَةِ وَقَالَ آخَرُونَ، مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ يَجُوزُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَرَادَ بِهِ الْمُزَارَعَةَ وَالْعَمَلَ مِنْ الْأَكَّارِ، قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَمُتَّبِعُوهُ فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْعَامِلِ بِمَا شُرِطَ لَهُ، فَقَالُوا فَعَلَى هَذَا مَا يَأْخُذُهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ يَسْتَحِقُّهُ بِبَذْرِهِ، وَمَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْأُجْرَةِ يَأْخُذُهُ بِالشَّرْطِ.

وَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّ نَصَّهُ عَلَى الْمُكَارَاةِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ هُوَ الْمُزَارَعَةُ عَلَى أَنْ يَبْذُرَ الْأَكَّارُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَلَا يَحْتَمِلُ الْفِقْهُ إلَّا هَذَا، أَوْ أَنْ يَكُونَ نَصُّهُ عَلَى جَوَازِ الْمُؤَاجَرَةِ الْمَذْكُورَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَجَوَازُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ مُطْلَقًا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَتَوَجَّهُ غَيْرُهُ أَثَرًا وَنَظَرًا وَهُوَ ظَاهِرُ نُصُوصِ أَحْمَدَ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ، وَاخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ.

وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَبْذُرَ رَبُّ الْأَرْضِ. أَوْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ إجَارَةً أَوْ مُزَارَعَةً هُوَ فِي الضَّعْفِ نَظِيرُ مَنْ سَوَّى الْإِجَارَةَ الْخَاصَّةَ وَالْمُزَارَعَةَ أَوْ أَضْعَفُ،

ص: 71

أَمَّا بَيَانُ نَصِّ أَحْمَدَ فَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا جَوَّزَ الْمُؤَاجَرَةَ بِبَعْضِ الزَّرْعِ، اسْتِدْلَالًا بِقِصَّةِ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ خَيْبَرَ، وَمُعَامَلَتُهُ لَهُمْ إنَّمَا كَانَتْ مُزَارَعَةً، وَلَمْ تَكُنْ بِلَفْظٍ لَمْ يُنْقَلْ وَيَمْنَعْ فِعْلَهُ بِاللَّفْظِ الْمَشْهُورِ.

وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَارَطَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَدْفَعْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَذْرًا، فَإِذَا كَانَتْ الْمُعَامَلَةُ الَّتِي فَعَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا كَانُوا يَبْذُرُونَ فِيهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَا أَحْمَدُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ، ثُمَّ يَقِيسَ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، ثُمَّ يَمْنَعُ الْأَصْلَ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ مِنْ الْمُزَارَعَةِ الَّتِي بَذَرَ فِيهَا الْعَامِلُ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ، لِلْيَهُودِ:«نُقِرُّكُمْ فِيهَا مَا أَقَرَّكُمْ» ، لَمْ يَشْتَرِطْ مُدَّةً مَعْلُومَةً حَتَّى قَالَ: كَانَتْ إجَارَةً لَازِمَةً.

لَكِنَّ أَحْمَدَ حَيْثُ قَالَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْبَذْرِ مِنْ الْمِلْكِ، فَإِنَّمَا قَالَهُ مُتَابَعَةً لِمَنْ أَوْجَبَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَإِذَا أَفْتَى الْعَالِمُ بِقَوْلِ الْحُجَّةِ وَلَهَا مُعَارِضٌ رَاجِحٌ لَمْ يَسْتَحْضِرْهَا حِينَئِذٍ ذَلِكَ الْمُعَارِضُ الرَّاجِحُ، ثُمَّ لَمَّا أَفْتَى بِجَوَازِ الْمُؤَاجَرَةِ بِثُلُثِ الزَّرْعِ اسْتِدْلَالًا بِمُزَارَعَةِ خَيْبَرَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي خَيْبَرَ كَانَ الْبَذْرُ عِنْدَهُ مِنْ الْعَامِلِ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال، فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ أَحْمَدَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُؤَاجَرَةِ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ وَبَيْنَ الْمُزَارَعَةِ بِبَذْرِ الْعَامِلِ، كَمَا فَرَّقَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَمُسْتَنَدُ هَذَا الْفَرْقِ لَيْسَ مَأْخَذًا شَرْعِيًّا، فَإِنَّ أَحْمَدَ لَا يَرَى اخْتِلَافَ أَحْكَامِ الْعُقُودِ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ، كَمَا يَرَاهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَيَمْنَعُونَهَا بِلَفْظِ الْمُزَارَعَةِ، وَكَذَلِكَ يُجَوِّزُونَ بَيْعَ مَا فِي الذِّمَّةِ بَيْعًا حَلَالًا بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَيَمْنَعُونَهُ بِلَفْظِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَلَمًا حَالًّا.

وَنُصُوصُ أَحْمَدَ وَأُصُولُهُ تَأْبَى هَذَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ فِي مَسْأَلَةِ مَبِيعِ الْعُقُودِ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ بِالْمَعَانِي لَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَلْفَاظِ، كَمَا يَشْهَدُ بِهِ أَجْوِبَتُهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا فَرَّقَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَكُونُ هَذَا التَّفْرِيقُ رِوَايَةً عَنْهُ مَرْجُوحَةً، كَالرِّوَايَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ. أَمَّا الدَّلِيلُ: عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ: فَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ.

ص: 72

أَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَمَا دَفَعَ إلَيْهِمْ بَذْرًا، وَكَمَا عَامَلَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَنْصَارَ عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ حَكِيمٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَعْمَلَ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ فَأَعْطَاهُ الْعِنَبَ وَالنَّخْلَ عَلَى أَنَّ لِعُمَرَ الثُّلُثَانِ وَلَهُمْ الثُّلُثُ، وَأَعْطَاهُ الْبَيَاضَ إنْ كَانَ الْبَقَرُ وَالْبَذْرُ وَالْحَدِيدُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ فَلِعُمَرَ الثُّلُثَانِ وَلَهُمْ الثُّلُثُ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَلِعُمَرَ الشَّطْرُ وَلَهُمْ الشَّطْرُ، فَهَذَا عُمَرُ رضي الله عنه وَيَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ عَامِلُهُ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَمِلَ خِلَافَهُ بِتَجْوِيزِ كِلَا الْأَمْرَيْنِ، أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَامِلِ.

وَقَالَ حَرْبٌ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ حُضَيْرٍ عَنْ صَخْرِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ خَلِيعٍ الْمُحَارِبِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: إنَّ فُلَانًا أَخَذَ أَرْضًا فَعَمِلَ فِيهَا وَفَعَلَ فِيهَا، فَدَعَاهُ عَلِيٌّ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي أَخَذْت، قَالَ: أَرْضٌ أَخَذْتهَا أُكْرِيَ أَنْهَارَهَا، وَأَعْمُرُهَا، وَأَزْرَعُهَا، فَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ فَلِي النِّصْفُ وَلَهُ النِّصْفُ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَذَا.

فَظَاهِرُهُ أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَيَكْفِي إطْلَاقُ سُؤَالِهِ وَإِطْلَاقُ عَلِيٍّ الْجَوَابَ.

وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ نَوْعٌ مِنْ الشَّرِكَةِ لَيْسَتْ مِنْ الْإِجَارَةِ الْخَاصَّةِ وَإِنْ جُعِلَتْ إجَارَةً؛ فَهِيَ مِنْ الْإِجَارَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا الْجَعَالَةُ وَالسَّبْقُ وَالرَّمْيُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَذْرَ فِي الْمُزَارَعَةِ لَيْسَ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي يَرْجِعُ إلَى رَبِّهَا كَالثَّمَنِ فِي الْمُضَارَبَةِ، بَلْ الْبَذْرُ يَتْلَفُ كَمَا تَتْلَفُ الْمَنَافِعُ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْأَرْضُ أَوْ بَدَنُ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ، فَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِثْلَ رَأْسِ الْمَالِ، لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَرْجِعَ مِثْلُهُ إلَى مَخْرَجِهِ ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يَشْتَرِكَانِ فِي جَمِيعِ الزَّرْعِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْأُصُولَ فِيهَا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ هِيَ الْأَرْضُ بِمَائِهَا وَهَوَائِهِمْ وَبَدَنِ الْعَامِلِ وَالْبَقَرِ، وَأَكْثَرُ الْحَرْثِ وَالْبَذْرِ يَذْهَبُ كَمَا تَذْهَبُ الْمَنَافِعُ وَكَمَا يَذْهَبُ أَجْزَاءٌ مِنْ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ فَيَسْتَحِيلُ زَرْعًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ الزَّرْعَ مِنْ نَفْسِ الْحَبِّ وَالتُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ، كَمَا يَخْلُقُ الْحَيَوَانَ مِنْ مَاءِ الْأَبَوَيْنِ، بَلْ مَا يَسْتَحِيلُ فِي

ص: 73

الزَّرْعِ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ مِنْ الْحَبِّ، وَالْحَبُّ يَسْتَحِيلُ فَلَا يَبْقَى، بَلْ يَخْلُقُهُ اللَّهُ وَيُحِيلُهُ كَمَا يُحِيلُ أَجْزَاءً مِنْ الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ، وَكَمَا يُحِيلُ الْمَنِيَّ وَسَائِرَ مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْمَعْدِنِ وَالنَّبَاتِ، وَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ رَأْيِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْحَبَّ وَالنَّوَى فِي الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْبَاقِي تَبَعٌ حَتَّى قَضَوْا فِي مَوَاضِعَ بِأَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ وَالشَّجَرُ لِرَبِّ النَّوَى وَالْحَبُّ، مَعَ قِلَّةِ قِيمَتِهِ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أُجْرَةُ أَرْضِهِ.

وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا قَضَى بِضِدِّ هَذَا حَيْثُ قَالَ: «مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ» . فَأَخَذَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ مَنْ أَخَذَ بِهِ يَرَى أَنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ وَأَنَّهُ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِحْسَانِ، وَهَذَا لِمَا انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْقِيَاسِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ تَبَعٌ لِلْبَذْرِ وَالشَّجَرَ تَبَعٌ لِلنَّوَى، وَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ، فَإِنَّ إلْقَاءَ الْحَبِّ فِي الْأَرْضِ يُعَادِلُهُ إلْقَاءُ الْمَنِيِّ فِي الرَّحِمِ سَوَاءٌ.

وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ النِّسَاءَ حَرْثًا فِي قَوْلِهِ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] كَمَا سَمَّى الْأَرْضَ الْمَزْرُوعَةَ حَرْثًا، وَالْمُغَلَّبُ فِي مِلْكِ الْحَيَوَانِ إنَّمَا هُوَ جَانِبُ الْأُمِّ، وَلِهَذَا يَتْبَعُ الْوَلَدُ الْآدَمِيُّ أُمَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ دُونَ أَبِيهِ، وَيَكُونُ جَنِينُ الْبَهِيمَةِ لِمَالِكِ الْأُمِّ دُونَ الْعِجْلِ الَّذِي نَهَى عَنْ عَسْبِهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي اسْتَمَدَّهَا مِنْ الْأُمِّ أَضْعَافُ الْأَجْزَاءِ الَّتِي اسْتَمَدَّهَا مِنْ الْأَبِ، وَإِنَّمَا لِلْأَبِ حَقُّ الِابْتِدَاءِ فَقَطْ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ الْحَبُّ وَالنَّوَى، فَإِنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا الشَّجَرُ وَالزَّرْعُ أَكْثَرُهَا مِنْ التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ، وَقَدْ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ فَيَضْعُفُ بِالزَّرْعِ فِيهَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَجْزَاءُ تَسْتَخْلِفُ دَائِمًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَزَالُ يَمُدُّ الْأَرْضَ بِالْمَاءِ وَبِالْهَوَاءِ وَبِالتُّرَابِ، إمَّا مُسْتَحِيلًا مِنْ غَيْرِهِ وَإِمَّا بِالْمَوْجُودِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ بَعْضُ الْأَجْزَاءِ التُّرَابِيَّةِ شَيْئًا إمَّا لِلْخَلَفِ بِالِاسْتِحَالَةِ وَإِمَّا لِلْكَثْرَةِ.

وَلِهَذَا صَارَ يَظْهَرُ أَنَّ أَجْزَاءَ الْأَرْضِ فِي مَعْنَى الْمَنَافِعِ بِخِلَافِ الْحَبِّ وَالنَّوَى

ص: 74

الْمُلْقَى فِيهَا، فَإِنَّهُ عَيْنٌ ذَاهِبَةٌ مُتَخَلِّفَةٌ وَلَا يُعَوَّضُ عَنْهَا، لَكِنْ هَذَا الْقَدْرُ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ هُوَ الْأَصْلُ فَقَطْ، فَإِنَّ الْعَامِلَ هُوَ وَبَقَرُهُ لَا بُدَّ لَهُ مُدَّةَ الْعَمَلِ مِنْ قُوتٍ وَعَلَفٍ يَذْهَبُ أَيْضًا وَرَبُّ الْأَرْضِ لَا يَحْتَاجُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْبَذْرَ لَا يَرْجِعُ إلَى رَبِّهِ كَمَا يَرْجِعُ فِي الْقِرَاضِ، وَلَوْ جَرَى عِنْدَهُمْ مَجْرَى الْأُصُولِ لَرَجَعَ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أُصُولٍ بَاقِيَةٍ، وَهِيَ: الْأَرْضُ، وَبَدَنُ الْعَامِلِ، وَالْبَقَرُ، وَالْحَدِيدُ، وَمَنَافِعُ فَانِيَةٌ، وَأَجْزَاءُ فَانِيَةٌ أَيْضًا، وَهِيَ الْبَذْرُ، وَبَعْضُ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، وَبَعْضُ أَجْزَاءِ الْعَامِلِ وَبَقَرِهِ.

فَهَذِهِ الْأَجْزَاءُ الْفَانِيَةُ كَالْمَنَافِعِ الْفَانِيَةِ سَوَاءٌ، فَتَكُونُ الْخِيرَةُ إلَيْهِمَا فِيمَنْ يُبَدِّلُ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ وَيَشْتَرِكَانِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ مَا لَمْ يُفِضْ إلَى بَعْضِ مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ أَوْ الرِّبَا وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَدُ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْمُشَارَكَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ، مِثْلُ أَنْ يَدْفَعَ دَابَّتَهُ أَوْ سَفِينَتَهُ أَوْ غَيْرَهُمَا إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهِمَا وَالْأُجْرَةُ بَيْنَهُمَا.

فَصْلٌ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى حِكْمَةِ بَيْعِ الْغَرَرِ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ يَجْمَعُ النَّشْرَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ، فَإِنَّك تَجِدُ كَثِيرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ إمَّا أَنْ يَتَمَسَّكَ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ أَلْفَاظٍ يَظُنُّهَا عَامَّةً أَوْ مُطْلَقَةً أَوْ يَضْرِبُ مِنْ الْقِيَاسِ الْمَعْنَوِيِّ أَوْ الشَّبَهِيِّ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَحْمَدَ حَيْثُ يَقُولُ يَنْبَغِي لِلْمُتَكَلِّمِ فِي الْفِقْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْمُجْمَلِ وَالْقِيَاسِ، ثُمَّ هَذَا التَّمَسُّكُ يُفْضِي إلَى مَا يُمْكِنُ اتِّبَاعُهُ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا الْبَابُ بَيْعُ الدُّيُونِ دَيْنِ السِّلْمِ وَغَيْرِهِ وَأَنْوَاعٍ مِنْ الصُّلْحِ وَالْوَكَالَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَوْلَا أَنَّ الْغَرَضَ ذِكْرُ قَوَاعِدَ كُلِّيَّةٍ تَجْمَعُ أَبْوَابًا لَذَكَرْنَا أَنْوَاعًا مِنْ هَذَا.

ص: 75