الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ، وَعَمِلَ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ.
[مَسْأَلَةٌ فِيمَ اسْتَقَرَّ إطْلَاقُهُ مِنْ الْمُلُوكِ الْمُتَقَدِّمِينَ]
841 -
10 مَسْأَلَةٌ:
فِيمَ اسْتَقَرَّ إطْلَاقُهُ مِنْ الْمُلُوكِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَإِلَى الْآنَ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْقُرُبَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْمُرَتَّبِ الْمُرْتَزِقِينَ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ الْفَقِيرُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ عَائِلَةٌ كَثِيرَةٌ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ، وَكَسْبُهُ لَا يَقُومُ بِكُلْفَتِهِمْ، وَمِنْهُمْ الْمُنْقَطِعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، الَّذِي لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ يَتَسَبَّبُ بِهِ لَا يُحْسِنُ صَنْعَةً يَصْنَعُهَا، وَمِنْهُمْ الْعَاجِزُ عَنْ الْحَرَكَةِ لِكِبَرٍ أَوْ ضَعْفٍ، وَمِنْهُمْ الصَّغِيرُ دُونَ الْبَالِغِ وَالنِّسَاءُ الْأَرَامِلُ، وَذُو الْعَاهَاتِ، وَمِنْهُمْ الْمُشْتَغِلُونَ بِالْعِلْمِ الشَّرِيفِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَمَنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِمْ نَفْعٌ عَامٌّ، وَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ نَصِيبٌ، وَمِنْهُمْ أَرْبَابُ الزَّوَايَا وَالرَّبْطِ الْمُتَجَرِّدُونَ لِلْعِبَادَةِ وَتَلَقِّي الْوَارِدِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَمِنْهُمْ أَيْتَامُ الْمُسْتَشْهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَوْلَادِ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَخْلُفْ لَهُ مَا يَكْفِيهِ.
وَمِمَّنْ يَسْأَلُ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ فَأَحْيَاهَا أَوْ اسْتَصْلَحَ أَحْرَاسًا عَالِيَةً لِتَكُونَ لَهُ مُسْتَمِرَّةً بَعْدَ إصْلَاحِهَا فَاسْتَخْرَجَهَا فِي مُدَّةِ سِنِينَ عَدِيدَةٍ، وَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ عَلَى جَارِي الْفَوَائِدِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، فَهَلْ تَكُونُ هَذِهِ الْأَنْسَابُ الَّتِي اتَّصَفُوا بِهَا مُسَوِّغَةً لَهُمْ تَنَاوُلَ مَا قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَطْلَقَهُ لَهُمْ مُلُوكُ الْإِسْلَامُ وَثَوَابُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ، وَاسْتَقَرَّ بِأَيْدِيهِمْ إلَى الْآنَ أَمْ لَا؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ يُنْزِلُهُمْ بِعَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَتَقَرَّبَ إلَى السُّلْطَانِ بِالسَّعْيِ بِقَطْعِ أَرْزَاقِهِمْ الْمُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ الزَّوَايَا، وَمُعْظَمُ الزَّوَايَا وَالرَّبْطِ الَّتِي يَرْتَفِقُ بِهَا أَبْنَاءُ السَّبِيلِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُجَرَّدِينَ وَيَقُومُ بِهَا شِعَارُ الْإِسْلَامِ، هَلْ يَكُونُ بِذَلِكَ آثِمًا عَاصِيًا، أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجِبُ أَنْ يُكَلِّفَ هَؤُلَاءِ إثْبَاتَ اسْتِحْقَاقِهِمْ، مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ قِبَلِ أُولِي الْأَمْرِ، وَلَوْ كُلِّفُوا ذَلِكَ فَهَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ إثْبَاتُهُ عِنْدَ حَاكِمٍ بِعَيْنِهِ غَرِيبٍ مِنْ بِلَادِهِمْ مُتَظَاهِرٍ بِمُنَافَرَتِهِمْ مَعَ وُجُودِ عَدَدٍ مِنْ الْحُكَّامِ غَيْرِهِ فِي بِلَادِهِمْ أَوْ لَا؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ عَجَزَ مِنْهُمْ عَنْ الْإِثْبَاتِ لِضَعْفِهِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَالُ مِنْ أَنَّ شُهُودَ هَذَا الزَّمَانِ لَا يُؤَدُّونَ شَهَادَةً إلَّا بِأُجْرَةٍ تُرْضِيهِمْ، وَقَدْ يَعْجِزُ الْفَقِيرُ عَنْ مِثْلِهَا، وَكَذَلِكَ النِّسْوَةُ اللَّاتِي لَا يَعْلَمُ الشُّهُودُ أَحْوَالَهُنَّ غَالِبًا.
وَإِذَا سَأَلَ الْإِمَامُ حَاكِمًا عَنْ اسْتِحْقَاقِ مَنْ ذُكِرَ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ إلَّا الْأَعْمَى وَالْمُكَسَّحُ وَالزَّمِنُ لَا غَيْرُ، وَأَضْرَبَ عَمَّا سِوَاهُمْ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعٍ عَلَى حَقِيقَةِ أَحْوَالِهِمْ، هَلْ يَكُونُ بِذَلِكَ آثِمًا عَاصِيًا أَمْ لَا؟ وَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا سَأَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ الزَّوَايَا وَالرُّبُطِ هَلْ يَسْتَحِقُّ مَنْ هُوَ بِهَا مَا هُوَ مُرَتَّبٌ لَهُمْ، فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ الزَّوَايَا وَالرُّبُطَ دَكَاكِينُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيهِمْ الصُّلَحَاءَ وَالْعُلَمَاءَ، وَحَمَلَةَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَالْمُنْقَطِعِينَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى هَلْ يَكُونُ مُؤْذِيًا لَهُمْ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَمَا حُكْمُ هَذَا الْقَوْلِ الْمُطْلَقِ فِيهِمْ مَعَ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِجَمِيعِهِمْ.
وَالِاضْطِلَاعِ عَلَى حَقِيقَةِ أَحْوَالِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ، إذَا تَبَيَّنَ سُقُوطُهُ وَبُطْلَانُهُ هَلْ تَسْقُطُ بِذَلِكَ رِوَايَتُهُ وَمَا عَدَاهَا مِنْ أَخْبَارِهِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ لِلْمُقْذِفِينَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ بِهَذَا الطَّعْنِ، عَلَيْهِمْ الْمُؤَدِّي عِنْدَ الْمُلُوكِ إلَى قَطْعِ أَرْزَاقِهِمْ وَأَنْ يُكَلِّفُوهُ إثْبَاتَ ذَلِكَ وَإِذَا عَجَزَ عَنْ إثْبَاتِهِ، فَهَلْ لَهُمْ مُطَالَبَتُهُ بِمُقَاضَاةٍ أَمْ لَا؟ وَإِذَا عَجَزَ عَنْ ثُبُوتِ ذَلِكَ، هَلْ يَكُونُ قَادِحًا فِي عَدَالَتِهِ وَجَرْحِهِ يَنْعَزِلُ بِهِمَا عَنْ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ أَمْ لَا؟ وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ وَهُمْ لَهُ فِي غَايَةِ الْكَرَاهَةِ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ بِهِمْ، وَقَدْ جَاءَ «لَا يَؤُمَّ الرَّجُلُ قَوْمًا أَكْثَرُهُمْ لَهُ كَارِهُونَ» ؟
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: هَذِهِ الْمَسَائِلُ تَحْتَاجُ إلَى تَقْرِيرِ أَصْلٍ جَامِعٍ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، مَبْنِيٍّ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي يَسُنُّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوُلَاةُ الْأَمْرِ بَعْدَهُ أَشْيَاءَ، الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِعْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا وَلَا النَّظَرُ فِي رَأْيِ مَنْ خَالَفَهَا، وَمَنْ اهْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدٍ، وَمَنْ اسْتَنْصَرَ بِهَا فَهُوَ مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا.
وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا
بِهَا، وَعُضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» .
وَالْوَاجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْعَمَلُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» .
وَنَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ مُخْتَصَرًا فَنَقُولُ الْأَمْوَالُ الَّتِي لَهَا أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ الَّتِي يَتَوَلَّى قَسْمَهَا وُلَاةُ الْأَمْرِ ثَلَاثَةٌ: مَالُ الْمَغَانِمِ: وَهَذَا لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ إلَّا الْخُمُسَ، فَإِنَّ مَصْرِفَهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنفال: 41] وَالْمَغَانِمُ مَا أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ فَهَذِهِ الْمَغَانِمُ وَخُمُسُهَا.
وَالثَّانِي الْفَيْءُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ، حَيْثُ قَالَ:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مَا أَوَجَفْتُمْ أَيْ: مَا حَرَّكْتُمْ وَلَا أَعْمَلْتُمْ وَلَا سُقْتُمْ، يُقَالُ وَجَفَ الْبَعِيرُ يَجِفُ وُجُوفًا وَأَوْجَفْتُهُ إذَا سَارَ نَوْعًا مِنْ السَّيْرِ فَهَذَا هُوَ الْفَيْءُ الَّذِي أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَهُوَ مَا صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ إيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقِتَالِ، أَيْ مَا قَاتَلْتُمْ عَلَيْهِ، فَمَا قَاتَلُوا عَلَيْهِ كَانَ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَمَا لَمْ يُقَاتِلُوا عَلَيْهِ فَهُوَ فَيْءٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَفَاءَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ، وَأَحَلَّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ لِيَأْكُلُوا طَيِّبًا وَيَعْمَلُوا صَالِحًا، وَالْكُفَّارُ عَبَدُوا غَيْرَهُ فَصَارُوا غَيْرَ مُسْتَحِقِّينَ لِلْمَالِ، فَأَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَأَنْ يَسْتَرِقُّوا أَنْفُسَهُمْ، وَأَنْ يَسْتَرْجِعُوا الْأَمْوَالَ مِنْهُمْ، فَإِذَا أَعَادَهَا اللَّهُ إلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فَقَدْ فَاءَتْ؛ أَيْ رَجَعَتْ إلَى مُسْتَحِقِّهَا؛ وَلِهَذَا الْفَيْءُ يَدْخُلُ فِيهِ جِزْيَةُ الرُّءُوسِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ
وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مِنْ الْعُشُورِ، وَأَنْصَافِ الْعُشُورِ، وَمَا يُصَالِحُ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ مِنْ الْمَالِ: كَاَلَّذِي يَحْمِلُونَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا خَلَوْا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ خَوْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا سُورَةَ الْحَشْرِ، وَقَالَ:{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ - وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [الحشر: 2 - 3] .
وَهَؤُلَاءِ أَجَلَاهُمْ النَّبِيُّ.
وَكَانُوا يَسْكُنُونَ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةَ فَأَجَلَاهُمْ بَعْدَ أَنْ حَاصَرَهُمْ، وَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ،
وَذَكَرَ مَصَارِفَ الْفَيْءِ بِقَوْلِهِ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] .
فَهَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَكِيمٍ النَّهْرَوَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَغَيْرُهُمْ: أَنَّ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْفَيْءِ نَصِيبٌ.
مِنْ الْفَيْءِ مَا ضَرَبَهُ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي فَتَحَهَا عَنْوَةً وَلَمْ يَقْسِمْهَا: كَأَرْضِ مِصْرَ، وَأَرْضِ الْعِرَاقِ، إلَّا شَيْئًا يَسِيرًا مِنْهَا، وَبَرِّ الشَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
فَهَذَا الْفَيْءُ لَا خُمُسَ فِيهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَإِنَّمَا يَرَى تَخْمِيسَهُ الشَّافِعِيُّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَذَكَرَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْهُ: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ فِي الْفَيْءِ خُمُسًا كَخُمُسِ الْغَنِيمَةِ، وَهَذَا الْفَيْءُ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ كَانَ مِلْكًا لَهُ.
وَأَمَّا مَصْرِفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنْ يَصْرِفَ مِنْهُ أَرْزَاقَ الْجُنْدِ الْمُقَاتِلِينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ، فَإِنَّ تَقْوِيَتَهُمْ تَذِلُّ الْكُفَّارَ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْفَيْءُ، وَتَنَازَعُوا هَلْ يُصْرَفُ فِي سَائِرِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ تَخْتَصُّ بِهِ الْمُقَاتِلَةُ، عَلَى قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ، وَوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي مَذْهَبِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ: أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُقَاتِلَةُ، بَلْ يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ كُلِّهَا، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: يُعْطَى مَنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ لِأَهْلِ الْفَيْءِ.
فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ مَنْ فِي الْبُلْدَانِ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ. وَهُوَ مَنْ بَلَغَ وَيُحْصِي الذُّرِّيَّةَ وَهِيَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ، وَالنِّسَاءَ إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ يُعْطِي الْمُقَاتِلَةَ فِي كُلِّ عَامٍ عَطَاءَهُمْ، وَيُعْطِي الذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ مَا يَكْفِيهِمْ لِسَنَتِهِمْ، قَالَ: وَالْعَطَاءُ مِنْ الْفَيْءِ لَا يَكُونُ إلَّا لِبَالِغٍ يُطِيقُ الْقِتَالَ، قَالَ: وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِمَّنْ لَقِيَهُ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَمَالِيكِ فِي الْعَطَاءِ حَقٌّ، وَلَا لِلْأَعْرَابِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الصَّدَقَةِ. قَالَ: فَإِنْ فَضَلَ مِنْ الْفَيْءِ شَيْءٌ وَضَعَهُ الْإِمَامُ فِي أَهْلِ الْحُصُونِ وَالِازْدِيَادِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَكُلُّ مَا يَقْوَى بِهِ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنْ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ وَحَصَلَتْ كُلُّ مَصْلَحَةٍ لَهُمْ، فَرْقُ مَا يَبْقَى عَنْهُمْ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ. قَالَ: وَيُعْطَى مِنْ الْفَيْءِ رِزْقُ الْعُمَّالِ وَالْوُلَاةِ وَكُلُّ مَنْ قَامَ بِأَمْرِ الْفَيْءِ مِنْ وَالٍ، وَحَاكِمٍ، وَكَاتِبٍ، وَجُنْدِيٍّ مِمَّنْ لَا غِنَى لِأَهْلِ الْفَيْءِ عَنْهُ. وَهَذَا مُشْكِلٌ مَعَ قَوْلِهِ إنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْ الْفَيْءِ صَبِيٌّ، وَلَا مَجْنُونٌ، وَلَا عَبْدٌ، وَلَا امْرَأَةٌ، وَلَا ضَعِيفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ.
وَهَذَا إذَا كَانَ لِلْمَصَالِحِ فَيَنْصَرِفُ مِنْهُ إلَى كُلِّ مَنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ: كَالْمُجَاهِدِينَ، وَكَوُلَاةِ أُمُورِهِمْ مِنْ وُلَاةِ الْحَرْبِ، وَوُلَاةِ الدِّيوَانِ، وَوُلَاةِ الْحُكْمِ، وَمَنْ يُقْرِئُهُمْ الْقُرْآنَ، وَيُفْتِيهِمْ، وَيُحَدِّثُهُمْ، وَيَؤُمُّهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ، وَيُؤَذِّنُ لَهُمْ.
وَيُصْرَفُ مِنْهُ فِي سَدَادِ ثُغُورِهِمْ، وَعِمَارَةِ طُرُقَاتِهِمْ، وَحُصُونِهِمْ، وَيُصْرَفُ مِنْهُ إلَى
ذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْهُمْ أَيْضًا، وَيَبْدَأُ فِيهِ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، فَيَتَقَدَّمُ ذَوُو الْمَنَافِعِ الَّذِينَ يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ عَلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِمْ، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِمْ.
قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ مَا يُعَدُّ بِهَا الثُّغُورُ مِنْ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ، وَيُعْطَى قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ مَا يَكْفِيهِمْ، وَيُدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقُ الْمُقَاتِلَةِ، وَذُو الْحَاجَاتِ يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَوَاتِ وَنَحْوِهَا، وَمَا فَضَلَ عَنْ مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ قُسِمَ بَيْنَهُمْ، لَكِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَغْنِيَاءِ الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِمْ فِيهِ حَقٌّ، إذَا فَضَلَ الْمَالُ وَاتَّسَعَ عَنْ حَاجَاتِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، لَمَّا كَثُرَ الْمَالُ أَعْطَى مِنْهُمْ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ.
فَكَانَ لِجَمِيعِ أَصْنَافِ الْمُسْلِمِينَ فَرْضٌ فِي دِيوَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ، لَكِنْ كَانَ أَهْلُ الدِّيوَانِ نَوْعَيْنِ: مُقَاتِلَةٌ وَهُمْ الْبَالِغُونَ، وَذُرِّيَّةٌ وَهُمْ الصِّغَارُ وَالنِّسَاءُ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَمَعَ هَذَا قَالُوا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ.
الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِمْ، فَلَا يُعْطَى غَنِيٌّ شَيْئًا حَتَّى يَفْضُلَ عَنْ الْفُقَرَاءِ، هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: كَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ تَخْصِيصُ الْفُقَرَاءِ بِالْفَاضِلِ.
وَأَمَّا الْمَالُ الثَّالِثُ: فَهُوَ الصَّدَقَاتُ الَّتِي هِيَ زَكَاةُ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ زَكَاةُ الْحَرْثِ، وَهِيَ الْعُشُورُ وَأَنْصَافُ الْعُشُورِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، وَزَكَاةُ الْمَاشِيَةِ وَهِيَ الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ، وَزَكَاةُ النَّقْدَيْنِ، فَهَذَا الْمَالُ مَصْرِفُهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] .
وَفِي السُّنَنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «سَأَلَهُ رَجُلٌ أَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا مِنْ الصَّدَقَاتِ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَاتِ بِقِسْمَةِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَكِنْ جَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك»
وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ بِالصَّدَقَاتِ عَنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ إذَا تَبَيَّنَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَذْكُرُ أَصْلًا آخَرَ وَنَقُولُ: أَمْوَالُ بَيْتِ الْمَالِ فَيْءٌ بَلْ هَذِهِ الْأَزْمِنَةُ هِيَ أَصْنَافٌ: صِنْفٌ مِنْهَا هُوَ مِنْ الْفَيْءِ أَوْ الصَّدَقَاتِ أَوْ الْخُمُسِ. فَهَذَا قَدْ عُرِفَ حُكْمُهُ، وَصِنْفٌ صَارَ إلَى بَيْتِ الْمَالِ بِحَقٍّ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ، مِثْلَ: مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا وَارِثَ لَهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ نِزَاعٌ،، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَصِنْفٌ قُبِضَ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ بِتَأْوِيلٍ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ إذَا أَمْكَنَ وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ، مِثْلَ: مَا يُؤْخَذُ مِنْ مُصَادَرَاتِ الْعُمَّالِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ أَخَذُوا مِنْ الْهَدَايَا وَأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ فَاسْتَرْجَعَهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ مِنْهُمْ، أَوْ مِنْ تَرِكَاتِهِمْ وَلَمْ يَعْرِفْ مُسْتَحِقَّهُ، وَمِثْلُ مَا قُبِضَ مِنْ الْوَظَائِفِ الْمُحْدَثَةِ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ إلَى أَصْحَابِهِ.
وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَمْوَالُ الَّتِي تَعَذَّرَ رَدُّهَا إلَى أَهْلِهَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِمْ مَثَلًا هِيَ مِمَّا يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ لَا يَعْرِفُ صَاحِبَهُ كَالْغَاصِبِ التَّائِبِ، وَالْخَائِنِ التَّائِبِ، وَالْمُرَائِي التَّائِبِ وَنَحْوِهِمْ. مِمَّنْ صَارَ بِيَدِهِ مَالٌ لَا يَمْلِكُهُ وَلَا يَعْرِفُ صَاحِبَهُ، فَإِنَّهُ يَصْرِفُهُ إلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
إذَا تَبَيَّنَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ فَنَقُولُ: مَنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَالْغَارِمِينَ، وَابْنِ السَّبِيلِ، فَهَؤُلَاءِ يَجُوزُ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعْطُوا مِنْ الزَّكَوَاتِ وَمِنْ الْأَمْوَالِ الْمَجْهُولَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَذَلِكَ يُعْطُوا مِنْ الْفَيْءِ مِمَّا فَضَلَ عَنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، سَوَاءٌ كَانُوا مُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ الْوَاجِبِ عَلَى الْكِفَايَةِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا، وَسَوَاءٌ كَانُوا فِي زَوَايَا أَوْ رُبُطٍ أَوْ لَمْ يَكُونُوا.
لَكِنْ مَنْ كَانَ مُمَيِّزًا بِعِلْمٍ أَوْ دِينٍ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ وَأَحَقُّ هَذَا الصِّنْفِ مَنْ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]
فَمَنْ كَانَ مَا هُوَ مَشْغُولٌ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ الَّذِي أُحْصِرَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَدْ مَنَعَهُ الْكَسْبَ هُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ.
وَيُعْطِي قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ عُلَمَاءَهُمْ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِمْ، وَيَدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقَ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ، لَا سِيَّمَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الطَّالِبِينَ وَالْعَبَّاسِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَتَعَيَّنُ إعْطَاؤُهُمْ مِنْ الْخُمُسِ وَالْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ لِكَوْنِ الزَّكَاةِ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ.
وَالْفَقِيرُ الشَّرْعِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ مِنْ الزَّكَاةِ وَالْمَصَالِحِ وَنَحْوِهِمَا، لَيْسَ هُوَ الْفَقِيرُ الِاصْطِلَاحِيُّ الَّذِي يَتَقَيَّدُ بِلُبْسَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَطَرِيقَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ كُلُّ مَنْ لَيْسَ لَهُ كِفَايَةٌ تَكْفِيهِ وَتَكْفِي عِيَالَهُ فَهُوَ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ الْفَقِيرُ أَشَدُّ حَاجَةً أَوْ الْمِسْكِينُ، أَوْ الْفَقِيرُ مَنْ يَتَعَفَّفُ وَالْمِسْكِينُ مَنْ يَسْأَلُ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ لَهُمْ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ فَإِنَّهُ يُعْطَى مَا يَكْفِيهِ سَوَاءٌ كَانَ لُبْسُهُ لُبْسَ الْفَقِيرِ الِاصْطِلَاحِيِّ، أَوْ لِبَاسَ الْجُنْدِ وَالْمُقَاتِلَةِ أَوْ لُبْسَ الشُّهُودِ، أَوْ لُبْسَ التُّجَّارِ أَوْ الصُّنَّاعِ أَوْ الْفَلَّاحِينَ، فَالصَّدَقَةُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا صِنْفٌ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، بَلْ كُلُّ مَنْ لَيْسَ لَهُ كِفَايَةٌ تَامَّةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ: مِثْلُ الصَّانِعِ الَّذِي لَا تَقُومُ صَنْعَتُهُ بِكِفَايَتِهِ، وَالتَّاجِرِ الَّذِي لَا تَقُومُ تِجَارَتُهُ بِكِفَايَتِهِ، وَالْجُنْدِيِّ الَّذِي لَا تَقُومُ إقْطَاعُهُ بِكِفَايَتِهِ، وَالْفَقِيرِ وَالصُّوفِيِّ الَّذِي لَا يَقُومُ مَعْلُومُهُ مِنْ الْوَقْفِ بِكِفَايَتِهِ، وَالشَّاهِدِ وَالْفَقِيهِ الَّذِي لَا يَقُومُ مَا يَحْصُلُ لَهُ بِكِفَايَتِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ فِي رِبَاطٍ أَوْ زَاوِيَةٍ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ كِفَايَتِهِ، فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مُسْتَحِقُّونَ.
وَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ مُؤْمِنًا تَقِيًّا كَانَ لِلَّهِ وَلِيًّا، فَإِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانُوا مِنْ أَصْنَافِ الْقِبْلَةِ.
وَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ مُنَافِقًا أَوْ مُظْهِرًا لِبِدْعَةٍ تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْ بِدَعِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ، وَمِنْ عُقُوبَتِهِ أَنْ يُحْرَمَ حَتَّى يَتُوبَ.
وَأَمَّا مَنْ كَانَ زِنْدِيقًا: كَالْحُلُولِيَّةِ، وَالْمُبَاحِيَّةِ، وَمَنْ يُفَضِّلُ مَتْبُوعَهُ عَلَى النَّبِيِّ
- صلى الله عليه وسلم وَمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ اتِّبَاعُ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَنَّهُ إذَا حَصَلَتْ لَهُ الْمَعْرِفَةُ وَالتَّحْقِيقُ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ أَوْ أَنَّهُ الْعَارِفُ الْمُحَقِّقُ يَجُوزُ لَهُ التَّدَيُّنُ بِدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ.
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مُنَافِقُونَ زَنَادِقَةٌ، وَإِذَا ظُهِرَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَإِنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ كَثِيرُونَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ، وَعَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ مَعَ إعْطَاءِ الْفُقَرَاءِ بَلْ وَالْأَغْنِيَاءِ بِأَنْ يُلْزِمُوا هَؤُلَاءِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا يُمَكِّنُوا أَحَدًا مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ ادَّعَى مِنْ الدَّعَاوَى مَا ادَّعَاهُ، وَلَوْ زَعَمَ أَنَّهُ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَمْ تَشْغَلْهُمْ مَنْفَعَةُ غَايَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ الْكَسْبِ قَادِرًا عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَجَوَّزَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ مَنْ يَصْنَعُ بِهَا دَعْوَةً وَضِيَافَةً لِلْفُقَرَاءِ، وَلَا يُقِيمُ بِهَا سِمَاطٌ لَا لِوَارِدٍ وَلَا غَيْرِ وَارِدٍ.
بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعْطَى مِلْكًا لِلْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ بِحَيْثُ يُنْفِقُهَا عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فِي بَيْتِهِ إنْ شَاءَ، وَيَقْضِي مِنْهَا دُيُونَهُ وَيَصْرِفُهَا فِي حَاجَاتِهِ.
وَلَيْسَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُنْكِرُ صَرْفَ الصَّدَقَاتِ، وَفَاضِلَ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمَنْ نُقِلَ عَنْهُ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْهَلْ النَّاسِ بِالْعِلْمِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كُفْرًا بِالدِّينِ، بَلْ بِسَائِرِ الْمِلَلِ وَالشَّرَائِعِ، أَوْ يَكُونَ النَّقْلُ عَنْهُ كَذِبًا أَوْ مُحَرَّفًا، فَأَمَّا مَنْ هُوَ مُتَوَسِّطٌ فِي عِلْمٍ وَدِينٍ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَا يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ.
وَلَكِنْ قَدْ اخْتَلَطَ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ الْمُرَتَّبَةِ السُّلْطَانِيَّةِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، فَأَقْوَامٌ كَثِيرُونَ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَالدِّينِ، وَالْعِلْمِ، لَا يُعْطَى أَحَدُهُمْ كِفَايَتَهُ، وَيَتَمَزَّقُ جُوعًا وَهُوَ لَا يَسْأَلُ، وَمَنْ يَعْرِفُهُ فَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيهِ، وَأَقْوَامٌ كَثِيرُونَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ
بِالْبَاطِلِ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَوْمٌ لَهُمْ رَوَاتِبُ أَضْعَافُ حَاجَاتِهِمْ، وَقَوْمٌ لَهُمْ رَوَاتِبُ مَعَ غِنَاهُمْ، وَعَدَمِ حَاجَاتِهِمْ، وَقَوْمٌ يَنَالُونَ جِهَاتٍ كَمَسَاجِدَ وَغَيْرِهَا فَيَأْخُذُونَ مَعْلُومَهَا وَيَسْتَثْنُونَ مَنْ يُعْطُونَ شَيْئًا يَسِيرًا، وَأَقْوَامٌ فِي الرُّبُطِ وَالزَّوَايَا يَأْخُذُونَ مَا لَا يَسْتَحِقُّونَ، وَيَأْخُذُونَ فَوْقَ حَقِّهِمْ وَيَمْنَعُونَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُمْ حَقَّهُ أَوْ تَمَامَ حَقِّهِ.
وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَوَاضِيعَ كَثِيرَةٍ، وَلَا يَسْتَرِيبُ مُسْلِمٌ أَنَّ السَّعْيَ فِي تَمْيِيزِ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِعْطَاءَ الْوِلَايَاتِ وَالْأَرْزَاقِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَالْعَدْلَ بَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَفِعْلَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ وُلَاةِ الْأُمُورِ، بَلْ وَمِنْ أَوْجَبِهَا عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْعَدْلُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَكَمَا أَنَّ النَّظَرَ فِي الْجُنْدِ الْمُقَاتِلَةِ وَالتَّعْدِيلَ بَيْنَهُمْ وَزِيَادَةَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ، وَنُقْصَانَ مَنْ يَسْتَحِقُّ النُّقْصَانَ، وَإِعْطَاءَ الْعَاجِزِ عَنْ الْجِهَادِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى هُوَ مِنْ أَحْسَنِ أَفْعَالِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَأَوْجَبِهَا. فَكَذَلِكَ النَّظَرُ فِي حَالِ سَائِرِ الْمُرْتَزِقِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْمَصَالِحِ وَالْوُقُوفِ وَالْعَدْلِ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَإِعْطَاءِ الْمُسْتَحِقِّ تَمَامَ كِفَايَتِهِ، وَمَنْعِ مَنْ دَخَلَ فِي الْمُسْتَحِقِّينَ وَلَيْسَ مِنْهُمْ مِنْ أَنْ يُزَاحِمَهُمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ، وَإِذَا ادَّعَى الْفَقْرَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِهِ الْغَنِيُّ وَطَلَبَ الْأَخْذَ مِنْ الصَّدَقَاتِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُ بِلَا بَيِّنَةٍ بَعْدَ أَنْ يُعْلِمَهُ أَنَّهُ لَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ. وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «سَأَلَهُ رَجُلَانِ مِنْ الصَّدَقَةِ فَلَمَّا رَآهُمَا جَلْدَيْنِ صَعَّدَ فِيهِمَا النَّظَرَ، وَصَوَّبَهُ فَقَالَ: إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» .
وَأَمَّا إنْ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ عِيَالًا فَهَلْ يَفْتَقِرُ إلَى بَيِّنَةٍ؛ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ مَشْهُورَانِ: هُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ فِيهِ يَفْتَقِرُ إلَى بَيِّنَةٍ، فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ مِنْ الشُّهُودِ الْمُعَدَّلِينَ، بَلْ يَجِبُ أَنَّهُمْ لَمْ يَرْتَزِقُوا عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ إذَا أَخَذُوا عَلَيْهَا رِزْقًا لَا سِيَّمَا مَعَ الْعِلْمِ بِكَثْرَةِ مَنْ يَشْهَدُ بِالزُّورِ.
وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ الشُّهُودَ فِي الْعَامَّةِ الْمُرْتَزِقَةِ بِالشَّهَادَةِ لَا يَشْهَدُونَ فِي الِاجْتِهَادِيَّاتِ: كَالْأَعْشَارِ، وَالرُّشْدِ، وَالْعَدَالَةِ، وَالْأَهْلِيَّةِ، وَالِاسْتِحْقَاقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ،
بَلْ يَشْهَدُونَ بِالْحِسِّيَّاتِ، كَاَلَّذِي سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ بِالِاجْتِهادِيّات ت يَدْخُلُهَا التَّأْوِيلُ وَالتُّهَمُ، فَالْجُعْلُ يُسَهِّلُ الشَّهَادَةَ فِيهَا بِغَيْرِ تَحَرٍّ، بِخِلَافِ الْحِسِّيَّاتِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا كَذِبٌ صَرِيحٌ لَا يَقْدُمُ عَلَيْهِ إلَّا مَنْ يَقْدُمُ عَلَى صَرِيحِ الزُّورِ، وَهَؤُلَاءِ أَقَلُّ مِنْ غَيْرِهِمْ، بَلْ إذَا أَتَى الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِمَنْ يُعْرَفُ صِدْقُهُ مِنْ جِيرَانِهِ وَمَعَارِفِهِ وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ بِهِ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ جَمِيعَ مَنْ بِالرُّبُطِ وَالزَّوَايَا غَيْرُ مُسْتَحِقِّينَ بَاطِلٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ.
كَمَا أَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ فِيهِمْ مُسْتَحِقٌّ لِمَا يَأْخُذُهُ هُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا، فَلَا هَذَا وَلَا هَذَا بَلْ فِيهِمْ الْمُسْتَحِقُّ الَّذِي يَأْخُذُ حَقَّهُ وَفِيهِمْ مَنْ يَأْخُذُ فَوْقَ حَقِّهِ، وَفِيهِمْ مَنْ لَا يُعْطَى إلَّا دُونَ حَقِّهِ، وَفِيهِمْ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ حَتَّى أَنَّهُمْ فِي الطَّعَامِ الَّذِي يَشْتَرِكُونَ فِيهِ يُعْطَى أَحَدُهُمْ أَفْضَلَ مِمَّا يُعْطَى الْآخَرُ، وَإِنْ كَانَ أَغْنَى مِنْهُ خِلَافُ مَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ الْعَدْلِ الَّذِينَ يُسَوُّونَ فِي الطَّعَامِ بِالْعَدْلِ، كَمَا يُعْمَلُ فِي رِبَاطَاتِ أَهْلِ الْعَدْلِ.
وَأَمْرُ وَلِيِّ الْأَمْرِ بِجَمِيعِ هَؤُلَاءِ بَيْنَهُمْ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، وَأَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ، وَمَا ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْحُكَّامِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَّا الْأَعْمَى وَالْمُكَسَّحُ، وَالزَّمِنُ قَوْلٌ لَمْ يَعْلَمْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقُولَ هَذَا حَاكِمٌ مِمَّنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنْ يَتَوَلَّى الْحُكْمَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ أَوْ أَفْجَرِهِمْ.
فَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَرْحِهِ كَمَا أَنَّهُ إنْ كَانَ النَّاقِلُ لِهَذَا عَنْ حَاكِمٍ قَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً مُرْدِعَةً، وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمُفْتَرِينَ عَلَى النَّاسِ، وَعُقُوبَةُ الْإِمَامِ لِلْكَذِبِ الْمُفْتَرَى عَلَى النَّاسِ وَالْمُتَكَلِّم فِيهِمْ وَفِي اسْتِحْقَاقِهِمْ لِمَا يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَعْوَاهُمْ. بَلْ الْعُقُوبَةُ فِي ذَلِكَ جَائِزَةٌ بِدُونِ دَعْوَى أَحَدٍ كَعُقُوبَتِهِ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ، فَيُحَدِّثُ بِلَا عِلْمٍ وَيُفْتِي بِلَا عِلْمٍ.
وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ يُعَاقَبُونَ، فَعُقُوبَةُ كُلِّ هَؤُلَاءِ جَائِزَةٌ بِدُونِ دَعْوَى، فَإِنَّ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَالتَّكَلُّمَ فِي الدِّينِ وَفِي النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَثِيرٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ قَالَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الْأَعْمَى، وَالزَّمِنُ، وَالْمُكَسَّحُ فَقَدْ أَخْطَأَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنَّ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِأَصْنَافٍ
مِنْهُمْ الْفُقَرَاءُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إطْلَاقُ كِفَايَتِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَقَدْ أَخْطَأَ، بَلْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الزَّكَوَاتِ بِلَا رَيْبٍ، وَأَمَّا مِنْ الْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ إلَّا مَا فَضَلَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.
وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مِنْ الزَّكَوَاتِ مَا يَكْفِيهِمْ وَأَمْوَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُسْتَغْرِقَةٌ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَانَ إعْطَاءُ الْعَاجِزِ مِنْهُمْ عَنْ الْكَسْبِ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ، فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا أَنْ يُطْعِمُوا الْجَائِعَ وَيَكْسُوا الْعَارِي، وَلَا يَدَعُوا بَيْنَهُمْ مُحْتَاجًا، وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَ ذَلِكَ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ الْفَاضِلِ عَنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا.
وَأَمَّا مَنْ يَأْخُذُ بِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مَعَ حَاجَتِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَ الْغِنَى كَالْقَاضِي، وَالشَّاهِدِ، وَالْمُفْتِي، وَالْحَاسِبِ، وَالْمُقْرِئِ، وَالْمُحْدِثِ، إذَا كَانَ غَنِيًّا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْتَزِقَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَعَ غِنَاهُ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ عِنَايَةَ الْإِمَامِ بِأَهْلِ الْحَاجَاتِ تَجِبُ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ عِنَايَتِهِ بِأَهْلِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهَا فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، كَالْجِهَادِ، وَالْوِلَايَةِ، وَالْعِلْمُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ لِوُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي مَالِ الْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ أَنْ يُقَدَّمَ أَهْلُ الْمَنْفَعَةِ الْعَامَّةِ، وَأَمَّا مَالُ الصَّدَقَاتِ فَيَأْخُذُ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَأْخُذُ بِحَاجَتِهِ كَالْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ، وَالْغَارِمِينَ لِمَصْلَحَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَقَوْمٌ يَأْخُذُونَ لِمَنْفَعَتِهِمْ: كَالْعَامِلِينَ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، كَمَنْ فِيهِ نَفْعٌ عَامٌّ كَالْمُقَاتِلَةِ وَوُلَاةِ أُمُورِهِمْ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ أَحَقَّ مِنْ الْآخَرِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ هَذَا وَهَذَا.
الثَّانِي: أَنْ مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْقَائِمِينَ بِالْمَصَالِحِ مِنْ الْجِهَادِ وَالْوِلَايَاتِ وَالْعِلْمِ مِنْ فَسَادِ النِّيَّةِ، مُعَارَضٌ بِمَا يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْ الْفِسْقِ وَالزَّنْدَقَةِ.
وَكَمَا أَنَّ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ صَالِحِينَ أَوْلِيَاءً لِلَّهِ فَفِي الْمُجَاهِدِينَ وَالْعُلَمَاءِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانُوا، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَالْعِلْمِ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنْ سَادَات أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، كَانُوا كَذَلِكَ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ الْيَوْمَ فِي زَمَانِنَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ وَالْعُلَمَاءِ إنَّمَا
يَتَّخِذُونَ الْجِهَادَ، وَالْقِتَالَ، وَالِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ، مَعِيشَةً دُنْيَوِيَّةً يُحَامُونَ بِهَا عَنْ الْجَاهِ وَالْمَالِ وَإِنَّهُمْ عُصَاةٌ بِقِتَالِهِمْ وَاشْتِغَالِهِمْ، مَعَ انْضِمَامِ مَعَاصٍ وَمَصَائِبَ أُخْرَى لَا يَتَّسِعُ الْحَالُ لَهَا، وَالْمُجَاهِدُ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَالْمُعَلِّمُ لِيَكُونَ التَّعَلُّمُ مَحْضَ التَّقَرُّبِ قَلِيلُ الْوُجُودِ أَوْ مَفْقُودٌ بِلَا رَيْبٍ أَنَّ الْإِخْلَاصَ وَاتِّبَاعَ السُّنَّةِ فِيمَنْ لَا يَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَأْكُلُ الْأَمْوَالَ بِذَلِكَ، بَلْ وَالزَّنْدَقَةُ تُعَارِضُهُ بِمَا هُوَ أَصْدَقُ مِنْهُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الرُّبُطِ وَالزَّوَايَا وَالْمُتَظَاهِرِينَ لِلنَّاسِ بِالْفَقْرِ إنَّمَا يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ مَعِيشَةً دُنْيَوِيَّةً، هَذَا مَعَ انْضِمَامِ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَمَصَائِبَ لَا يَتَّسِعُ الْحَالُ لِقَوْلِهَا بِمِثْلِ دَعْوَى الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِي الْعِبَادِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْجِهَادِ.
وَكَذَلِكَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِالْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ بَرٌّ، وَفَاجِرٌ، وَصِدِّيقٌ، وَزِنْدِيقٌ، وَالْوَاجِبُ مُوَالَاةُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، وَبَعْضُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، وَالْفَاسِقُ الْمِلِّيُّ يُعْطَى مِنْ الْمُوَالَاةِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ، وَيُعْطَى مِنْ الْمُعَادَاةِ بِقَدْرِ فِسْقِهِ، فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ لَهُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ إذَا لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ مِنْ الْفُسَّاقِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، بَلْ يَخْلُدُ فِيهَا الْمُنَافِقُونَ كَمَا يَخْلُدُ فِيهَا الْمُتَظَاهِرُونَ بِالْكُفْرِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ غَالِبُ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْجُنْدِ، وَأَهْلِ الْعِلْمِ، وَنَحْوِهِمْ مَحَاوِيجُ أَيْضًا، بَلْ غَالِبُهُمْ لَيْسَ لَهُ رِزْقٌ إلَّا الْعَطَاءُ، وَمَنْ يَأْخُذُ لِلْمَنْفَعَةِ وَالْحَاجَةِ، أَوْلَى مِمَّنْ يَأْخُذُ بِمُجَرَّدِ الْحَاجَةِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ الْعَطَاءُ إذَا كَانَ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُنْظَرْ إلَى الْآخِذِ هَلْ هُوَ صَالِحُ النِّيَّةِ أَوْ فَاسِدُهَا، وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ أَعْطَى ذَوِي الْحَاجَاتِ الْعَاجِزِينَ عَنْ الْقِتَالِ، وَتَرَكَ إعْطَاءَ الْمُقَاتِلَةِ حَتَّى يُصْلِحُوا نِيَّاتِهِمْ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَاسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْعَطَايَا فِي الْقُلُوبِ مُتَعَذِّرٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ، وَبِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ» .
وَقَالَ: «إنِّي لَأُعْطِي أَحَدَهُمْ الْعَطِيَّةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَا نَارًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلِمَ تُعْطِيهِمْ؟ قَالَ: يَأْبَوْنَ إلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ» وَلَمَّا كَانَ عَامُ حُنَيْنٍ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ بَيْنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، وَالطُّلَقَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ، كَعُيَيْنَةَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَالْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ، وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَأَمْثَالِهِمْ، وَبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَابْنِهِ مُعَاوِيَةَ، وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الطُّلَقَاءِ اللَّذَيْنِ أَطْلَقَهُمْ عَامَ الْفَتْحِ، وَلَمْ يُعْطِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ شَيْئًا. أَعْطَاهُمْ لِيَتَأَلَّفَ بِذَلِكَ قُلُوبَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَتَأْلِيفُهُمْ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَاَلَّذِينَ لَمْ يُعْطِهِمْ هُمْ أَفْضَلُ عِنْدَهُ وَهُمْ سَادَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ، وَأَفْضَلُ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ، وَاَلَّذِينَ أَعْطَاهُمْ مِنْهُمْ مِنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَعَامَّتُهُمْ أَغْنِيَاءٌ لَا فُقَرَاءُ فَلَوْ كَانَ الْعَطَاءُ لِلْحَاجَةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَطَاءِ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لَمْ يُعْطِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَؤُلَاءِ الْأَغْنِيَاءَ السَّادَةَ الْمُطَاعِينَ فِي عَشَائِرِهِمْ، وَيَدَعُ عَطَاءَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ هُمْ أَحْوَجُ مِنْهُمْ وَأَفْضَلُ.
وَبِمِثْلِ هَذَا طَعَنَ الْخَوَارِجُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ لَهُ أَوَّلُهُمْ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ فَإِنَّك لَمْ تَعْدِلْ: قَالَ: إنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ: «وَيْحَك وَمَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ، لَقَدْ خِبْت وَخَسِرْت إنْ لَمْ أَعْدِلْ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا. فَقَالَ: إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِي هَذَا قَوْمٌ يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَفِي رِوَايَةٍ: «لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ» .
وَهَؤُلَاءِ خَرَجُوا عَلَى عَهْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَقَتَلَ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ جَمِيعَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ صَوْمِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ، فَأُخْرِجُوا عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُمْ قَوْمٌ لَهُمْ عَنَاءٌ وَوَرَعٌ وَزُهْدٌ لَكِنْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَاقْتَضَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَطَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا لِذَوِي الْحَاجَاتِ، وَأَنَّ إعْطَاءَ السَّادَةِ الْمُطَاعِينَ الْأَغْنِيَاءَ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهِ بِزَعْمِهِمْ، وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ فَإِنَّمَا الْعَطَاءُ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَصْلَحَةِ دِينِ اللَّهِ، فَكُلَّمَا كَانَ لِلَّهِ أَطْوَعُ وَلِدِينِ اللَّهِ أَنْفَعُ كَانَ الْعَطَاءُ فِيهِ أَوْلَى، وَعَطَاءُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فِي إقَامَةِ الدِّينِ وَقَمْعِ أَعْدَائِهِ وَإِظْهَارِهِ وَإِعْلَائِهِ أَعْظَمُ مِنْ إعْطَاءِ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَحْوَجَ.
وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ هَذِهِ الْقُيُودَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، دُونَ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَمَا نَقَلَهُ مِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ، فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةٍ بِمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ، وَسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ فِي الْعَطَاءِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ إذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً فَفِيهَا لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ قَسْمُهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، إلَّا أَنْ تَسْتَطِيبَ أَنْفُسُهُمْ فَيَقِفُهَا، وَذُكِرَ فِي الْأُمِّ " أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِوَقْفِهَا مِنْ غَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ نُقِضَ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَسَمَ خَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ» ، لَكِنَّ جُمْهُورَ الْأَئِمَّةِ خَالَفُوا الشَّافِعِيَّ فِي ذَلِكَ، وَرَأَوْا أَنَّ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ جَعْلِ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً فَيْئًا حَسَنٌ جَائِزٌ، وَأَنَّ عُمَرَ حَبَسَهَا بِدُونِ اسْتِطَابَةِ أَنْفُسِ الْغَانِمِينَ، وَلَا نِزَاعَ أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ فَتَحَهَا عُمَرُ بِالشَّامِ عَنْوَةً، وَالْعِرَاقِ، وَمِصْرَ، وَغَيْرِهَا لَمْ يَقْسِمْهَا عُمَرُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَإِنَّمَا قَسَمَ الْمَنْقُولَاتِ.
لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ وَطَائِفَةٌ وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدْ صَنَّفَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ إمَامُ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ بِمَا نَازَعَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَتَكَلَّمَ عَلَى حُجَجِهِ.
وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَالْقَوْلَيْنِ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي مَذْهَبِهِ، هُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ: أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَ يَفْعَلُ فِيهَا مَا هُوَ أَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَسْمِهَا أَوْ حَبْسِهَا، فَإِنْ رَأَى قَسْمَهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ فَعَلَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَدَعَهَا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ فَعَلَ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ.
وَكَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ بِنِصْفِ خَيْبَرَ، وَأَنَّهُ قَسَمَ نِصْفَهَا وَحَبَسَ نِصْفَهَا لِنَوَائِبِهِ، وَأَنَّهُ فَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً وَلَمْ
يَقْسِمْهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَعُلِمَ أَنَّ أَرْضَ الْعَنْوَةِ يَجُوزُ قَسْمُهَا، وَيَجُوزُ تَرْكُ قَسْمِهَا، وَقَدْ يَقْسِمُهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَعُلِمَ أَنَّ أَرْضَ الْعَنْوَةِ يَجُوزُ قَسْمُهَا، وَيَجُوزُ تَرْكُ قَسْمِهَا، وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا كَبِيرًا.
إذَا عَرَفَ ذَلِكَ فَمِصْرُ هِيَ مِمَّا فُتِحَ عَنْوَةً، وَلَمْ يَقْسِمْهَا عُمَرُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنْبَلِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، لَكِنْ تَنَقَّلَتْ أَحْوَالُهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا تَنَقَّلَتْ أَحْوَالُ الْعِرَاقِ، فَإِنَّ حُلَفَاءَ بَنِي الْعَبَّاسِ نَقَلُوهُ إلَى الْمُقَاسَمَةِ بَعْدَ الْمُحَاوَصَةِ، وَهَذَا جَائِزٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ مِصْرُ رُفِعَ عَنْهَا الْخَرَاجُ مِنْ مُدَّةٍ لَا أَعْلَمُ ابْتِدَاءَهَا، وَصَارَتْ الرَّقَبَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا جَائِزٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ عُمَرَ فِي الْفَيْءِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فِيهِ حَقًّا، لَكِنَّهُ يُقَدِّمُ الْفُقَرَاءَ وَأَهْلَ الْمَنْفَعَةِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه، لَيْسَ أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْمَالِ مِنْ أَحَدٍ إنَّمَا هُوَ الرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ، وَالرَّجُلُ وَغَنَاؤُهُ، وَالرَّجُلُ وَسَابِقَتُهُ، وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ، فَكَانَ يُقَدِّمُ فِي الْعَطَاءِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَكَانَتْ سِيرَتُهُ التَّفْضِيلَ فِي الْعَطَاءِ بِالْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ.
وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه فَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَاءِ إذَا اسْتَوَوْا فِي الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلَ فِي دِينِهِ، وَقَالَ: إنَّمَا أَسْلَمُوا لِلَّهِ وَأُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا بَلَاغٌ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: اسْتَوَى فِيهِمْ إيمَانُهُمْ يَعْنِي أَنَّ حَاجَتَهُمْ إلَى الدُّنْيَا وَاحِدَةٌ، فَأُعْطِيهِمْ لِذَلِكَ لَا لِلسَّابِقَةِ وَالْفَضِيلَةِ فِي الدِّينِ، فَإِنَّ أَجْرَهُمْ يَبْقَى عَلَى اللَّهِ، فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي الْحَاجَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَاءِ.
وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ قَالَ: لَإِنْ عِشْت إلَى قَابِلَ لَأَجْعَلَنَّ النَّاسَ بَيَانًا وَاحِدًا أَيْ مِائَةً وَاحِدَةً أَيْ صِنْفًا وَاحِدًا، وَتَفْضِيلُهُ كَانَ بِالْأَسْبَابِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ وَهُوَ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ، وَالرَّجُلُ وَغَنَاؤُهُ وَهُوَ الَّذِي يُغْنِي عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي مَصَالِحِهِمْ لِوُلَاةِ أُمُورِهِمْ وَمُعَلِّمِيهِمْ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ، وَالرَّجُلُ وَسَابِقَتُهُ وَهُوَ مَنْ كَانَ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُفَضِّلُهُمْ فِي الْعَطَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَالرَّجُلُ وَفَاقَتُهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ الْفُقَرَاءَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ مَعَ وُجُودِ الْمُحْتَاجِينَ كَيْفَ يُحْرِمُ بَعْضَهُمْ وَيُعْطِي لِغَنِيٍّ لَا حَاجَةَ لَهُ وَلَا مَنْفَعَةَ بِهِ، لَا سِيَّمَا إذَا ضَاقَتْ أَمْوَالُ بَيْتِ الْمَالِ عَنْ إعْطَاءِ كُلِّ الْمُسْلِمِينَ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْغَنِيَّ
الَّذِي لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ عَامٌّ، وَيَحْرِمُ الْفَقِيرَ الْمُحْتَاجَ بَلْ الْفَقِيرَ النَّافِعَ.
وَفِي السُّنَنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «كَانَ إذَا أَتَاهُ مَالٌ أَعْطَى الْآهِلَ قِسْمَيْنِ، وَالْعَزَبَ قِسْمًا» فَيُفَضِّلُ الْمُتَأَهِّلَ عَلَى الْمُتَعَزِّبِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَنَفَقَةِ امْرَأَتِهِ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلَفْظُهُ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كَانَ إذَا أَتَاهُ الْفَيْءُ قَسَمَهُ مِنْ يَوْمِهِ فَأَعْطَى الْآهِلَ حَظَّيْنِ وَأَعْطَى الْعَزَبَ حَظًّا»
، وَحَدِيثُ عُمَرَ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد: عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ: ذَكَرَ عُمَرُ يَوْمًا الْفَيْءَ فَقَالَ: مَا أَنَا بِأَحَقَّ بِهَذَا الْفَيْءِ مِنْكُمْ، وَمَا أَحَدٌ مِنَّا بِأَحَقَّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا أَنَّا عَلَى مَنَازِلِنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، الرَّجُلُ وَقَدَمُهُ وَالرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ وَالرَّجُلُ وَغَنَاؤُهُ وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ. وَلَفْظُ أَحْمَدَ: قَالَ كَانَ عُمَرُ يَحْلِفُ عَلَى أَيْمَانٍ ثَلَاثٍ: وَاَللَّهِ مَا أَحَدٌ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَالِ مِنْ أَحَدٍ، وَمَا أَنَا أَحَقُّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ، وَوَاللَّهِ مَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ إلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ نَصِيبٌ إلَّا عَبْدًا مَمْلُوكًا، وَلَكِنَّا عَلَى مَنَازِلِنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَالرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَالرَّجُلُ وَقَدَمُهُ وَالرَّجُلُ وَغَنَاؤُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ، وَاَللَّهِ لَئِنْ بَقِيت لَهُمْ لَأُوتَيَنَّ الرَّاعِيَ بِجَبَلِ صَنْعَاءَ حَظَّهُ فِي هَذَا الْمَالِ، وَهُوَ يَرْعَى مَكَانَهُ.
فَهَذَا كَلَامُ عُمَرَ الَّذِي يَذْكُرُ فِيهِ بِأَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ حَقًّا يَذْكُرُ فِيهِ تَقْدِيمَ أَهْلِ الْحَاجَاتِ، وَلَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الْأَغْنِيَاءُ الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ لَهُمْ وَيُحْرَمَ الْفُقَرَاءُ، فَإِنَّ هَذَا مُضَادٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وَإِذَا جَعَلَ الْفَيْءَ مُتَدَاوَلًا بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ، فَهَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَأَمَّا نَقْلُ النَّاقِلِ مَذْهَبَ مَالِكٍ بِأَنَّ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَجِزْيَةُ جَمَاجِمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَخَرَاجُ الْأَرْضِينَ، مَا كَانَ مِنْهَا عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ جِزْيَةٌ، وَالْجِزْيَةُ عِنْدَهُ فَيْءٌ، قَالَ:
وَيُعْطِي هَذَا الْفَيْءَ أَهْلَ كُلِّ بَلْدَةٍ افْتَتَحُوهَا عَنْوَةً أَوْ صَالَحُوا عَلَيْهَا، فَيَقْسِمُ عَلَيْهِمْ وَيُفَضِّلُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ مِنْ الْفَيْءِ، وَيَبْدَأُ بِأَهْلِ الْحَاجَةِ حَتَّى يَغْنَوْا مِنْهُ، وَلَا يَخْرُجُ إلَى غَيْرِهِمْ، إلَّا أَنْ يَنْزِلَ بِقَوْمِ حَاجَةٍ فَيَنْقُلُ إلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَ أَهْلَهُ مِنْهُ مَا يُغْنِيهِمْ عَنْ الِاجْتِهَادِ، وَقَالَ أَيْضًا: قَالَ مَالِكٌ: وَأَمَّا جِزْيَةُ الْأَرْضِ فَمَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِيهَا، إلَّا أَنَّ عُمَرَ قَدْ أَقَرَّ الْأَرْضَ فَلَمْ يَقْسِمْهَا بَيْنَ الَّذِينَ افْتَتَحُوهَا، وَأَرَى لِمَنْ يَنْزِلُ ذَلِكَ بِهِ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُ مَنْ يَرْضَاهُ، فَإِنْ وَجَدَ عَالِمًا يَسْتَفْتِيهِ وَإِلَّا اجْتَهَدَ هُوَ وَمَنْ بِحَضْرَتِهِ رَأْسًا.
وَأَمَّا إحْيَاءُ الْمَوَاتِ فَجَائِزٌ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَقَالَ مَالِكٍ: إنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ الْعُمْرَانِ بِحَيْثُ لَا تُبَاحُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى إذْنِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا قَرُبَ مِنْ الْعُمْرَانِ، وَيُبَاحُ النَّاسُ فِيهِ افْتَقَرَ إلَى إذْنِهِ، لَكِنْ إنْ كَانَ الْإِحْيَاءُ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ فَهَلْ يَمْلِكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَلَا خَرَاجَ عَلَيْهِ أَوْ يَكُونُ بِيَدِهِ، وَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ، عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ.
وَأَمَّا مَنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ فَإِنَّهُ تُرْزَقُ امْرَأَتُهُ وَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ، وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَغَيْرِهِمَا: فَيُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ حَتَّى تَتَزَوَّجَ، وَعَلَى ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ حَتَّى تَتَزَوَّجَ، وَعَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ، حَتَّى يَبْلُغَ، ثُمَّ يُجْعَلُ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ إنْ كَانَ يَصْلُحُ لِلْقِتَالِ وَإِلَّا إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ، وَاَلَّذِينَ يُعْطَوْنَ مِنْ الصَّدَقَةِ وَفَاضِلِ الْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ أَعْطَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا.