الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهج السلف
في الإيمان
منهج السلف
…
منهج السلف في الإيمان
سبق بيان أن السلف ينطلقون في عقيدتهم من الشرع يؤصلون ويفرعون عليه، فليس لهم التفات إلى غيره.
ومن المسائل التي ستكون ضمن البيان في هذه الدروس مسائل في الإيمان منها مسألة تعريف الإيمان وحقيقته، وزيادته ونقصانه وتفاوت أهله فيه:
أولا: تعريف الإيمان وحقيقته:
الإيمان هو مسمى ديني شرعي ورد تكراره كثيرا في القرآن سواء من ناحية اسم المصدر مما يحدد حقيقته أو من ناحية أهله الذين يطلق عليهم فيحدد حكمهم ومآلهم.
والسلف نظروا هذا اسم الإيمان فوجدوا أن اسم الإيمان أطلق على أمور عديدة في الشرع،بل إنهم رأوا من خلال استخدام الشارع لهذا الاسم أنه أدخل ضمنه جميع أعمال الدين التعبدية سواء ما كان منها متعلق بالقلب أو اللسان أو الجوارح لا فرق في ذلك، فلهذا قالوا إن اسم الإيمان يشمل جميع الطاعات الباطنة والظاهرة الواجبة والمندوبة،وأن كل طاعة مما أمر الله عز وجل به فهي إيمان.
قال ابن عبد البر في "التمهيد": "أجمع أهل الحديث والفقه على أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان، إلا ما ذكر عن أبي حنيفة وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيمانا".1
1 التمهيد 9/238.
وقال القاضي أبو يعلى: "وأما حده في الشرع فهو جميع الطاعات الباطنة والظاهرة".1
وهذا هو ما عبر عنه السلف في تعريفهم للإيمان بقولهم: الإيمان قول واعتقاد وعمل. فالمراد بالقول قول اللسان وأعمال اللسان وما يقوم به من الطاعات من ذكر الله تعالى وقراءة القرآن والدعوة إلى الله ونحوه. والمراد بالاعتقاد ما يقوم بالقلب من تصديق الله عز وجل ورسوله فيما أخبر واليقين بذلك ويدخل فيه أعمال القلوب من الحب والخوف والرجاء وسائر أنواع الطاعات المتعلقة بالقلب. والعمل يراد به أعمال الجوارح التي يتعلق بها الأعمال الدينية كالصلاة والزكاة والحج ونحو ذلك. وقد يراد بالعمل عمل القلب فيشمل جميع الطاعات المتعلقة بالقلب، وعمل الجوارح والمقصود بها الأعمال المتعلقة بالجوارح.
والأدلة على ما قرره السلف كثيرة منها:
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة143] والمراد بالإيمان هنا هو الصلاة إلى بيت المقدس، لأن سبب نزول الآية أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة كان هناك أناس من الصحابة ماتوا قبل تحويلها فلم يدروا ما يقولوا فيهم فأنزل الله عز وجل هذه الآية.2
ومن الأدلة أيضا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [.الحجرات15]
1 مسائل الإيمان ص152.
2 صحيح البخاري، كتاب الإيمان 1/13
وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون1 - 4]
أما الأدلة من السنة فهي كثيرة جدا منها:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان".1
وحديث وفد عبد القيس وجاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "آمركم بالإيمان بالله وحده، قال: هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم".2
وحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا".3
وقال عمار بن ياسر رضي الله عنه: "ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان، الإنصاف من نفسك وبذل السلام للعالم والإنفاق من الإقتار".4
1 البخاري، الإيمان 1/68، ومسلم، الإيمان 1/46.
2 البخاري، الإيمان 1/16 ومسلم، الإيمان 1/46
3 حم 2/350 والترمذي في الرضاع 3/166 وقال حسن صحيح.
4 ذكره البخاري تعليقا، الإيمان 1/77
ثانيا: زيادة الإيمان ونقصانه
أجمع السلف على أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية واستدلوا لذلك بأدلة كثيرة منها:
قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [.الأنفال2]
وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [.التوبة124]
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً} [.الفتح4
وقوله تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} [.المدثر31]
ومن السنة حديث معاذ بن أنس الجهني عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله وأنكح لله فقد استكمل إيمانه".1
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن النساء: "وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن"، قالت: يا رسول الله وما نقصان العقل والدين؟ قال: "أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلى، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين".2
1 أخرجه أحمد 3/438 والترمذي في صفة القيامة وقال حديث حسن 4/670
2 مسلم، الإيمان، باب نقصان الإيمان بنقص الطاعات 1/86
وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".1
ومن الآثار عن الصحابة في هذا شيء كثير منها:
ما روي عن عمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنه قال: "الإيمان يزيد وينقص، قيل له: وما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته وإذا غفلنا وضيعنا ونسينا فذلك نقصانه".2
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول: "قم بنا نزداد إيمانا". وروى نحوه عن معاذ بن جبل وعبد الله بن رواحة.3
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول في دعائه: "اللهم زدني إيمانا ويقينا وفقها".
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: "إن من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم يننتقص، وأن من فقه الرجل أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه".
والروايات في هذا كثيرة عن سائر الأئمة من كل طبقة، قال أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان رحمهما الله تعالى: "أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا وشاما ويمنا فكان من مذهبهم الإيمان قول وعمل يزيد وينقص
…
"4
1 مسلم، الإيمان، رقم 49
2 الشريعة 1/261 والإيمان لابن أبي شيبة ص:7
3 انظر الإيمان لابن أبي شيبة ص: 35
4 شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 1/176
فهذه النصوص وغيرها كثير تدل على أن الإيمان يزيد وينقص وأن زيادته بالطاعة ونقصه بالمعصية وتقع الزيادة والنقصان على ما في القلب والجوارح.
فالإيمان المتعلق بالقلب من اليقين والحب والتعظيم والخوف من الله عز وجل وكذلك سائر الأعمال القلبية تزداد وتنقص. وكذلك الإيمان المتعلق بالجوارح من الصلاة والزكاة والحج وسائر الأعمال كلما زادت زاد الإيمان وإن نقصت نقص الإيمان.
وإن ارتكب المسلم شيئا من المحرمات نقص إيمانه الذي في قلبه من حب الله واليقين بلقائه وتعظيمه والخوف منه كما أنه نقص إيمانه بارتكابه ما حرم الله عز وجل عليه، والنقص للإيمان القلبي وكذلك الزيادة شيء طردي بمعنى أن الطاعة تزيد في إيمان القلب، وإيمان القلب يبعث الجوارح على العمل.
وكذلك المعصية تضعف إيمان القلب والقلب يضعف عمل الجوارح، وهذا شيء يدركه الإنسان المسلم المنتبه لآثار أعماله، فإنه إذا أطاع الله تعالى فإنه يشعر بقوة الرغبة فيما عند الله والحب له وانشراح الصدر للازدياد من الطاعات وكذلك إذا أخل بواجب أو عصى الله عز وجل فإنه يشعر بضعف إيمانه ويقينه وضعف رغبته فيما عند الله تعالى، كما يؤثر ذلك أيضا على انبعاثه للطاعات فلا يجد نفسه مقبلا عليها راغبا فيها بسبب معصيته، كما أنه سيشعر بضعف في مقاومة المفاسد والمعاصي وقد يقع فيها مرة بعد مرة إذا لم يتداركه الله برحمته وهدايته. وهذا مصداق ما روي عن عبد الله مسعود رضي الله عنه قال:"إن الرجل ليذنب الذنب فينكت في قلبه نكتة سوداء ثم يذنب الذنب فتنكت أخرى حتى يصير لون قلبه لون الشاة الربداء".1،وما روي عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى قال:"ليس إيمان من أطاع الله كإيمان من عصى الله".2
1 الربداء لون بين السواد والغبرة. وأخرج الأثر ابن أبي شيبة في الإيمان ص: 6، وقال الألباني صحيح الإسناد.6
2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/956
ثالثاً: أن إيمان المؤمنين متفاوت.
بما سبق ذكره من الأدلة يتبين أن الإيمان شعب وأجزاء وأنه يزداد بالطاعة وينقص بالمعصية فبالتالي أهله فيه متفاوتون، منهم من هو في أعلى المقامات تصديقا ويقينا وعملا وهؤلاء هم الأنبياء عليهم السلام، هم أعلى بني أدم إيمانا وخشية وتقى وعملا، قال صلى الله عليه وسلم:"إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا".1 ثم من بعد النبيين عليهم السلام يأتي الصديقون ثم الأمثل فالأمثل من الأمة.
ومن الأدلة الدالة على تفاوت المؤمنين في الإيمان ما روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين".2
وعن عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا".3
وعن عمرو بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عمار ملئ إيمانا إلى مشاشه".4
وقال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل".5
1 صحيح البخاري مع الفتح 1/89.
2 صحيح البخاري 1/74
3 ابن أبي شيبة في الإيمان، ص:8، وصححه الألباني.
4 مشاشه هي رأس العظام كالمرفقين والكفين والكتفين، والحديث أخرجه ابن أبي شيبة في الإيمان وصححه الألباني ص: 31
5 البخاري 1/87
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: "إن الإيمان فرائض وشرائع وحدود وسنن فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أنا مت قبل ذلك فما أنا على صحبتكم بحريص".1
فهذه النصوص تبين أن أهل الإيمان والتقوى متفاوتون في إيمانهم، سواء فيما وقر في قلوبهم أو بما يقومون به من أعمال الإيمان.
كما أن الإيمان ينقص لدى أهل المعاصي، حتى ما يبقى منه إلا مثل حبة خردل كما ورد في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقول الله تعالى أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحياة أو الحياء – شك مالك- فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية".2
وروى ابن أبي عاصم عن ميمون بن مهران أنه رأى جارية تغني فقال: "من زعم أن هذه على إيمان مريم بنت عمران فقد كذب".3
وقال سفيان بن عيينة عن الإيمان: "قول وعمل وقال: يزيد ما شاء الله وينقص حتى لا يبقى منه مثل هذه، وأشار بيده ثم قال بعد أن ذكر خصال الإيمان والدين: فمن ترك خلة من خلل الإيمان جاحدا كان بها عندنا كافرا ومن تركها كسلا وتهاونا أدبناه، وكان بها عندنا ناقصا، هكذا السنة أبلغها عني من سألك من الناس".4
1 البخاري 1/66، ابن أبي شيبة ص: 45
2 البخاري 1/74
3 الإيمان لابن أبي عاصم 70
4 الشريعة للآجري 1/249