المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا – الصوفية - أصول مسائل العقيدة عند السلف وعند المبتدعة - جـ ١

[سعود بن عبد العزيز الخلف]

الفصل: ‌ثانيا – الصوفية

‌ثانياً – الصوفية

.

الصوفية من الفرق البدعية التي تتفاوت بدع منتحليها، فمنهم من بدعته في الأوراد والأذكار، وقد يتعدون ذلك إلى الغلو في المشايخ ومن يسمون الأولياء، وقد يرفعونهم إلى مقام الربوبية والألوهية والعياذ بالله، وقد يزيدون على ذلك بما هو أشد كفراً من ادعاء الحلول أو وحدة الوجود.

وقد اختلف أرباب هذه النحلة في تعريفها اختلافات كثيرة متفاوتة. والذي يظهر لي أن الصوفية جمعت أوضاعاً وأحوالاً متباينة يصعب معها إدراجها كلها تحت تعريف واحد بصفات متقاربة، لأنها نحلة تضم في أتباعها من لهم إنتماء صحيح إلى الإسلام مع البدعة، وفيهم من هو أشد كفراً من اليهود والنصارى، وكلهم تحت هذا المسمى وهو التصوف. لهذا أرى أن يذكر تعريفاً يشمل ذلك كله بأن نقول: إن التصوف "مذهب أوله البدعة في الزهد والرياضات النفسية والأوراد والأذكار، ثم غلا المنتسبون إليه فيه حتى صار غايته لديهم المكاشفات ودعاوى الحلول ووحدة الوجود.

منهج الصوفية في الاستدلال لمسائل العقيدة:

الصوفية على الضد من المتكلمين، أولئك قدموا العقل، وهؤلاء لا يقيمون للعقل وزناً، وإنما مصدرهم فيما ابتدعوه تقديمهم لما يسمونه الكشف ونحوه على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومرادهم بالكشف: الإطلاع على مايغيب عن علمهم أو مايحتاجون إليه من الأمور الدينية أو حتى الدنيوية عياناً أو سماعاً من قبل النبي صلى الله عليه وسلم أو الخضر أو الهواتف أو الملائكة ونحو ذلك.1

1 مصادر التلقي عند الصوفية ص207 بتصرف.

ص: 27

فهذه الدعاوى التي يدعونها نأت وشطت بهم عن الكتاب والسنة، حيث لا يقيمون لا للكتاب ولا للسنة وزناً في مقابل تلك الدعاوى الفارغة.

قال داود الكبير بن ماخلا: "لا تقنع قط بسمعت ورويت بل شهدت ورأيت".

وقال أبو الحسن الشاذلي: "علوم النظر أوهام إذا قرنت بعلوم الإلهام".

وقال إبراهيم الدسوقي: "ومقصودي لجميع أولادي أن يكونوا ذائقين لا واصفين، وأن يأخذوا العلوم من معادنها الربانية، لا من الصدور والطروس، فإن القوم إنما تكلموا عما ذاقوا"1

ومن هذا الجنس كلام الغزالي في الإحياء عن علوم الأنبياء والأولياء فيقول:"فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض على صدورهم النور لا بالتعلم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا والتبري من علائقها وتفريغ القلب من شواغلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ".2

الرد على الصوفية

الصوفية يستدلون على دعاويهم المخالفة للشرع بما يسمونه بالكشف.

وقد سبق أن بينا أن مرادهم بالكشف هو دعواهم أنهم يستندون على ما يؤيدون به دعاويهم المخالفة للشرع بما يبلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم شفاها يقظة أو مناما أو الخضر ونحو ذلك.

وسنبين بطلان دعواهم فيما يزعمون في النقاط التالية:

1 مصادر التلقي عند الصوفية ص212.

2 إحياء علوم الدين 3/21.

ص: 28

أولا: دعواهم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.

دعوى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة دعوى مشتهرة عند الصوفية حيث يزعم كثير منهم الاجتماع به صلى الله عليه وسلم يقظة، فمن ذلك قول الغزالي عن أرباب الأحوال:"حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا يقبسون منها فوائد".

وقال محمد العربي التجاني: "رؤيته صلى الله عليه وسلم بعين الرأس في عالم الحس وما يتبعها من الأخذ عنه وسؤاله عما يعرض ومشاورته في الأمر ونحو ذلك كل ذلك ممكن عقلا ثابت نقلا....."

وقال الشعراني: "سمعت عليا الخواص يقول: لا يكمل العبد في مقام العرفان حتى يجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم.."

وقال الدباغ: "الذي هو أفضل وأعز من دخول الجنة فهو رؤية سيد الوجود صلى الله عليه وسلم في اليقظة فهي أفضل من الجنة"1.

ومن ذلك أيضا ما ذكره علي حرازم عن شيخه أحمد التجاني أنه قال: "أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما، قال لي: أنت من الآمنين وكل من رآك من الآمنين إن مات على الإيمان وكل من أحسن إليك بخدمة أو غيرها وكل من أطعمك يدخلون الجنة بلا حساب ولا عقاب" ثم أجاز له ورده وضمن له أن من أخذ ذلك الورد التزمه وأحب التجاني ولم يسبه ولم يبغضه أنه في عليين. 2.وغير ذلك.

ويدل على بطلان دعواهم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته ما يلي:

1 مصادر التلقي عند الصوفية، ص: 225-227.

2 جواهر المعاني في فيض التجاني 1/129.

ص: 29

1 -

أن ذلك يتعارض مع قول الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر30] وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران144]، كما يتعارض مع إجماع الصحابة على موته عليه الصلاة والسلام وخاصة بعد خطبة أبي بكر رضي الله عنه المشهورة:"من كان يعبد محمدا فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"1.

2 -

أنها تتعارض مع الأحاديث التي تثبت بعثه عليه الصلاة والسلام يوم القيامة وهي قوله: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع".2 فمن ادعى أنه يراه يقظة فقد ادعى أنه بعث قبل يوم القيامة.

3 -

أن ذلك يؤدي إلى أنه عليه الصلاة والسلام يحيا ويبعث من قبره مرات عديدة.

أما الاحتجاج بحديث "الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون" 3، فهو احتجاج باطل لعدة أوجه:

أ- أن هذه حياة برزخية لا يعرف كنهها ولا كيفيتها فدعوى أنهم يلقونه ويجتمعون به يجعل ذلك من جنس الحياة العادية وذلك باطل.

ب - أن الوارد في الحديث أنه قال: في قبورهم فقيدها بذلك، فالحياة البرزخية تتقيد بذلك فدعوى أنهم أحياء بأجسادهم خارج قبورهم خلاف ما دل عليه الدليل.

1 مختصر سيرة ابن هشام، ص:311

2 أخرجه مسلم في الفضائل: 15/37

3 ابن عدي في الكامل 2/792 والبيهقي في حياة الأنبياء،ص: 15 وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/187، مصادر التلقي عند الصوفية، ص: 346

ص: 30

ج - أن هذه الحياة من جنس الحياة التي ذكرها الله عز وجل للشهداء ولا أحد يقول أن الشهيد يلقاه الناس بجسده خارجا عن قبره بناءاً على الحياة التي خص بها.

د - أنه لم يؤثر عن أحد من الصحابة رضي الله عنه الالتقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته مع شدة حاجتهم لذلك بسبب ما وقع بين بعضهم من الاختلاف وهم أصحابه وأنصاره وأصهاره عليه الصلاة والسلام.

4 -

استدلال الصوفية بأحاديث غير صحيحة في هذا مردود غير مقبول، وذلك مثل:"أنا أكرم على ربي أن يتركني في قبري بعد ثلاث" حديث غير صحيح قال عنه ابن حجر: "لا أصل له".1 أو رواية "إن الله لا يترك نبيا في قبره أكثر من نصف يوم" قال ابن عبد الهادي: "حديث منكر غير صحيح"2 وكذلك سائر الروايات من هذا الجنس كلها أحاديث غير صحيحة كما صرح بذلك العديد من الأئمة فلا تقوم بها حجة.

ثانيا: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم مناما.

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم مناما أمر مشتهر عند الصوفية وهو مما يلصقون به كثيرا من دعاويهم وافتراءاتهم، ومن ذلك دعوى ابن عربي في مقدمة كتابه "فصوص الحكم" الذي ضمنه وحدة الوجود بأوضح صورها قال: "فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبشرة أريتها في العشر الآخر من محرم سنة سبع وعشرون 3 وستمائة بمحروسة دمشق وبيده صلى الله عليه وسلم كتاب فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به، فقلت السمع والطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمرمنا، فحققت

1 فتح الباري 7/296

2 الصارم المنكى، ص: 271، مصادر التلقي ص: 414

3 هكذا كتبت في الكتاب.

ص: 31

الأمنية وأخلصت النية وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان"1.

وكثيرا ما يعجز الصوفية عن إقامة الدليل على صحة دعوى من الدعاوى فيصححونها بالرؤى المنامية وهذا كثير جدا لديهم، فمن ذلك ما ذكر الصيادي أحد كبار الرفاعية في الاستدلال على صحة المولد أنه قال:"رأى أحد الصالحين النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن قراءة المولد الذي يصنع من أجله فقال له: "من فرح بنا فرحنا به"2.

وكذلك إذا أرادوا تعظيم أحد أو بقعة زعموا ذلك أيضا فمن ذلك ما ورد عن الشيخ محمد البجلي أنه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: "وقوفك بين يدي ولي الله كحلب شاة أو استواء بيضة خير لك من أن تعبد الله حتى تتقطع إربا إربا" 3.

ومن ذلك أن أحد مشايخ الرفاعية رأى في المنام خياما عظيمة على الطريق فسأل لمن هذه الخيام فقالوا: هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل إليه وسلم عليه وقال: يا رسول الله إلى أين هذه الرحلة المباركة. فقال: "إلى قرية أم عبيدة 4 لزيارة أحمد بن أبي الحسن الرفاعي"، ثم ذكر أيضا أن الكعبة أيضا جاءت تزور قبر الرفاعي فقام الرجل من نومه وهب ينادي في الناس ويحثهم على المبادرة إلى المسير إلى قرية الرفاعي حيث الرسول صلى الله عليه وسلم والكعبة زائرون" 5.

فهذه الدعاوى وغيرها كثير مما هو ديدن الصوفية يدل على أنهم اتخذوا دعاوى المنامات وسيلة للتشريع أو إباحة ما حرم الله عز وجل.

1 فصوص الحكم، ص:47.

2 الرفاعية لعبد الرحمن، ص:204.

3 الرفاعية، ص:208.

4 وهي قرية في العراق بين واسط والبصرة دفن فيها أحمد الرفاعي.

5 الرفاعية ص123.

ص: 32

بيان بطلان دعاوى الصوفية في المنامات

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم قد ورد فيها أحاديث صحيحة منها ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي" قال ابن سيرين: "إذ رآه في صورته". وعند مسلم زيادة: "أو فكأنما رآني في اليقظة". وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتكونني"1.

فرؤية النبي صلى الله عليه وسلم هي من ضمن المبشرات التي ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم كما في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة"2.

فرؤيته صلى الله عليه وسلم على حالة تسر المسلم أو يأمره بخير مما شرعه أو ينهاه عن شر مما نهى عنه فهذا حق يجب اتباعه اتباعا للشرع. ويكون الرؤيا المنامية دعوة خاصة أو بشارة خاصة. أما دعاوى الصوفية في الرؤيا والمنامات المخالفة للشرع فإنها باطلة مردودة على أصحابها لعدة أمور:

1 أن الرؤى والمنامات ليست حجة شرعية يمكن أن يثبت بها أمر شرعي فلم يرد في الكتاب ولا في السنة اعتبارها حجة وإنما هي تبشير وتنبيه، قال المعلمي في "التنكيل":"اتفق أهل العلم على أن الرؤيا لا تصلح للحجة وإنما هي تبشير وتنبيه وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حجة شرعية"3.

2 لا يمكن أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف شرعه الذي شرع، فمن ادعى أنه رأى رؤيا فيها خلاف شرع النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون كاذبا أو مخطئا في دعواه أن

1 صحيح البخاري مع الفتح 12/400.

2 صحيح البخاري مع الفتح 12/391.

3 التنكيل 2/243.

ص: 33

من رآه هو النبي عليه الصلاة والسلام.

3 أن النائم ليس في حالة من يمكن تثبته من القول الذي يقال له فبا لتالي لا يمكن أن يعتبر قوله في مقابل الشرع الثابت ومساوي له، قال النووي رحمه الله:"حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي وقد اتفقوا على أن من شرط من تقبل روايته وشهادته أن يكون مستيقظا لا مغفلا ولا سيئ الحفظ ولا كثير الخطأ ولا مختل الضبط، والنائم ليس بهذه الصفة فلم تقبل روايته لاختلال ضبطه"1.

4 إثبات أذكار وأوراد وأمور متعلقة بالشرع بالمنامات والرؤى فيه طعن في الشرع بوصفه بالنقص وأنه احتاج إلى التكميل بتلك الدعاوى المرتبطة بالرؤى.

5 أن جل الرؤى والمنامات المتضمنة لدعاوى مخالفة للشرع هي من باب تفصيل أوراد الطرق أو مشايخهم، وهذا كله يظهر أن للنفوس من وراء ذلك حظوظا ومقاصد خاصة برفعة الرائي لنفسه أو رفعة شيخه أو طريقته أو ما إلى ذلك، وهذا كاف في إبطال وردّ الدعاوى المتضمنة لذلك.

رؤية الخضر عند الصوفية ودعاويهم في ذلك:

يدعي كثير من الصوفية وغيرهم أن الخضر حي، وأنه يلقى بعض الناس من مشايخهم فيستفيدون منه فوائد شرعية جلها فيما يزعمون من جنس ما يعزونه إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم يقظة بعد موته أو مناماً.

ومن تلك الدعاوي ما ذكر عبد الخالق الغجدواني النقشبندي: أن الخضر لقنه الوقوف العددي، وعلمه الذكر الخفي، وهو أنه أمره أن ينغمس في الماء ويذكر

1 مقدمة صحيح مسلم بشرح النووي 1/115.

ص: 34

الله بقلبه لا إله إلا الله محمد رسول الله ففعل كما أمر وداوم عليه فحصل له من الفتح القويم والجذبة القيومية".

وذكر أبو العباس المرسي: بأنه اكتسب من الخضر معرفة أرواح المؤمنين بالغيب هل هي معذبة أو منعمة؟! .

ومنهم من يروي عن الخضر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ماروى الأيوبي المتوفى سنة1364هـ بسنده عن الخضر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا رأيت الرجل لجوجاً معجباً برأيه فقد تمت خسارته".

وهذا كله مبني على ثلاثة أشياء: أن الخضر حي، وأنه يتصل بالناس، وأن من اتصل بهم هو الخضر.

أما أن الخضر حي فلم يدل دليل صحيح على حياته عن النبي صلى الله عليه وسلم. هكذا قال ابن حجر وابن كثير وغيرهم 1.

كما أن مايروى من الأخبار والآثار في لقائه لبعض الصحابة أو الأخيار فهي آثار ضعيفة وواهية ولا يسلم واحد منها من الطعن.

قال ابن المنادي: "وجميع الأخبار في ذكر الخضر واهية الصدور والأعجاز، ثم قال: وأكثر المغفلين مغرور بأن الخضر باق والتخليد لا يكون لبشر. قال عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} .2

ودعوى حياة الخضر منقوضة بما يلي:

1 -

قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء34] . وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر وجابر رضي الله

1 البداية والنهاية 1/308، فتح الباري 6/434، وقد أطال عنه في الإصابة. والذي يظهر توقف ابن حجر فيه 4/100.

2 الموضوعات لابن الجوزي 1/199.

ص: 35

عنهما: "أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد".1، وقوله عليه السلام:"اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض".2 ولو احتج محتج بأن هذا العموم مخصوص بإبليس والدجال وكذلك عيسى بن مريم، فإن الرد عليه بأن يقال هؤلاء خصصهم النص الصحيح، أما الخضر فلم يرد فيه نص صحيح عن المعصوم عليه الصلاة والسلام.

2 -

أن الله تعالى قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمرن81] .قال ابن عباس رضي الله عنه: "مابعث الله نبياً إلا أخذ الله عليه الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه". أخرجه البخاري.ولم يثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم ولا جاء إليه كما سبق ذكره عن العديد من علماء الحديث.

3 -

إن الخضر اختلف في اسمه إلى ما يقرب من ثلاثة عشر قولا، وفي اسم أبيه كذلك، واختلفوا هل هو ملك أم إنسان وهل هو نبي أم ولي وهل هو حي مخلد أم أنه مات، كما اختلف الصوفية فيه هل هو شخص حقيقي أم مثال يتمثل لهم أم أنه مقام، بمعنى أن أحد الناس يرتقي في الولاية حتى يبلغ هذا المقام فيصبح يظهر للناس على أنه الخضر.

4 -

إن رؤية الخضر ليست متحققة لكل أحد، وإنما يظهر للبعض ولا يظهر للبعض، فلو كان إنساناً فما الذي حجبه عن الناس، وجعل رؤيته خاصة بمن ادعى ذلك أو ادعي له ذلك؟! فهذا يدل على أن مايتراءى للناس في هذا إنما هو شيطان كذب عليهم في هذا وادعى ما ادعى تلاعباً واحتيالاً. وهذا كله يدل على

1 البخاري مع الفتح 1/255 باب السمر في العلم.

2 صحيح مسلم مع شرح النووي 12/84 كتاب الجهاد، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر.

ص: 36

أن الخضر ليس حياً، وادعاء ذلك ليس مبنياً على شيء ثابت في الشرع، بل في الشرع مايرده ويبطله.

كما أنا لو سلمنا جدلاً بحياته، فإن كل دعوى يدعيها الصوفية فيه، أو أنها أخذت عنه مما يخالف الشرع مردود على مدعيه، ولو كان الخضر بما يلي:

1 -

أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يأمرا بالرجوع إلى الخضر أو غيره سوى كلامه جل وعلا، وسنة نبيه عليه السلام، وسنة خلفائه الراشدين وإجماع المسلمين.

ولانجد في شيء من الشرع الرجوع إلى كلام الخضر والاستفادة منه بشيء مما يخالف الشرع. حتى المسيح عليه السلام حين منع الجزية إنما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه إنما حرمها بإباحة الشارع له ذلك.

2 -

أنه لوكان حياً فإنه سيكون فرداً من أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولايسعه الخروج عن شريعة النبي عليه السلام، لعموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم للجن والإنس. قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ 28] .وقوله صلى الله عليه وسلم: "لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي". 1

كما أن من ادعى حياته إنما كما روي عنهم أنهم تراءى لهم شخص، فإما قال لهم أنه الخضر، أو وقع في خلدهم أنه الخضر.

1 أخرجه أحمد في مسنده 3/387، وابن أبي عاصم في السنة مختصراً، وقال الألباني في التعليق عليه: حديث حسن. انظر السنة 1/27.

ص: 37

وكل ذلك لا يصلح مستنداً لإثبات أنه الخضر. فادعاء شخص أنه الخضر لا يثبت ذلك مع الموانع المذكورة سابقاً، وما وقع في الخلد والظن لا يعدو أن يكون حدساً وظناً، وذلك لا يمكن أن يعارض به الأمور المتيقنة والمعاني الشرعية العامة.1

1 ينظر في ذلك كله: البداية والنهاية 1/308،وابن الجوزي في كتابه الموضوعات 1/، فتح الباري 6/434، والزهر النضر في نبأ الخضر ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، الإصابة، مصادر التلقي عند الصوفية ص251.

ص: 38