الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
تعريف علم الفروق الفقهية - موضوعه- مسائله ومباحثه- الفائدة منه- العلوم التي استمدّ منها- حكمه.
التعريف: تُعَد معرفة علم الفروق الفقهية تابعة لمعرفة الفروق الفقهية نفسها وما يعتدّ بها منها، وما لا يُعْتَدّ. ولهذا فلا بُدّ من تقديم تعريف الفروق الفقهية في اللغة والاصطلاح.
معنى الفروق في اللغة:
الفروق في اللغة جمع فَرْق، وهو ما يُميَّزُ به بين الشيئين. وذكر ابن فارس (ت 395 هـ)(1). أن مادة الكلمة أي الفاء والراء والقاف أصل صحيح يدلّ على تمييز وتزييل (2). وفي هذه المادة كلمات كثيرة تدل على معانٍ مُتعددة (3)، يُحتاج في إدخالها في المعنى الذي ذكره ابن فارس إلى نوع من التفسير والتأويل المتعسف، إضافة إلى المعاني التي ذكر ابن فارس أنها مما شذّت عن الأصل.
(1) هو أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي. كان إماماً في علم اللغة، ومشاركاً في علوم شتى. أصله من قزوين، أقام في همدان مدة، ثم انتقل إلى الري فنسب إليها. توفي سنة (395 هـ). وقيل: سنة (390 هـ)، وقيل سنة (369 هـ). ومن مؤلفاته: معجم مقاييس اللغة، والمجمل في اللغة، والصاحبي، والفصيح، وتمام الفصيح، وجامع التأويل في تفسير القرآن وغيرها.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان (1/ 100)، ومعجم الأدباء (4/ 80)، والأعلام (1/ 193)، ومعجم المؤلفين (2/ 40).
(2)
معجم مقاييس اللغة (4/ 493).
(3)
انظر في هذه المعاني لسان العرب والقاموس المحيط.
على أنه مهما يكن الأمر فإن الكثير من كلمات هذه المادة، تدل على التمييز بين الأشياء، والفصل بينها. وللعلماء آراء مختلفة بشأن تخفيف المادة وتثقيلها، فيرى بعضهم أن فَرَق فَرْقاً بالتخفيف للصلاح، وفَرَّق تفريقاً للإفساد (1): ويرى آخرون أنه بالتخفيف للمعاني والألفاظ، وبالتثقيل للأجسام. قال الجوهري (ت 393 هـ)(2). فَرَقْتُ أفرق بين الكلام، وفرّقت بين الأجسام (3). وهذا المعنى هو ما ذكره القرافي (ت 684 هـ)(4) عن بعض مشايخه الذين ذكر عنهم، أيضاً، أن وجه المناسبة في ذلك أن كثرة المبني، عند العرب، تدل على كثرة المعنى (5). لكنَّ
(1) لسان العرب.
(2)
هو أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي. من أئمة علماء اللغة. تنقل في البلدان واستقر في نيسابور، وأخذ عن مشاهير علماء عصره كأبي علي الفارسي، وأبي سعيد السيرافي. قال عنه ياقوت: إنه من أعاجيب الزمان ذكاء وفطنة وعلماً، توفي في نيسابور سنة (393 هـ). وقيل غير ذلك. وأصله من الفاراب في بلاد الترك.
من مؤلفاته: الصحاح، والمقدمة في النحو، وكتاب في العروض اسمه الورقة.
راجع في ترجمته: يتيمة الدهر (4/ 406)، ومعجم الأدباء (6/ 151)، والأعلام (1/ 313)، ومعجم المؤلفين (2/ 267).
(3)
لسان العرب، والمصباح المنير.
(4)
هو أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي البهنسي المالكي، المشهور بالقرافي، والملقب بشهاب الدين، ولد في مصر ونشأ فيها، وبرع في الفقه والأصول والتفسير وعلوم أخرى. توفي في القاهرة سنة (684 هـ).
من مؤلفاته: أنوار البروق في أنواء الفروق، ونفائس الأصول في شرح المحصول، وشرح التنقيح في الأصول، والذخيرة في الفقه، وغيرها.
(5)
الفروق (1/ 4).
هذه الدعوى يخدشها وينقضها استعمالات القرآن الكريم. قال تعالى: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ)(1).
فخفف في البحر، وهو جسم، وقال تعالى:(فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)(2)، فخفف في ذلك، مع أنه في الأجسام.
الفروق في الاصطلاح:
لم أجد للفقهاء الذين تكلموا عن الفروق، تعريفاً لها، أو بياناً لمعناها، وإن كان بعضهم قد أشار إلى العلم نفسه، وذكر ما يشبه التعريف له، كما سنعلم ذلك فيما بعد.
ويغلب على الظن أنهمي قصدون بالفروق وجوه الاختلاف بين الفروع الفقهية التي يشبه بعضها بعضاً في الصورة، ولكنها تختلف فيما بينها في الأحكام. وقد تكلم الأصوليون والجدليون عن الفروق كثيراً، إذ هي من الأمور المتفرعة عن مباحث القياس عندهم، فالفروق من قوادح العلة، المانعة من جريان حكمها في الفرع (3). ولهذا فإن تعريف الفروق الفقهية ينبغي أن يبحث عنه في هذه المواضع، أي مباحث العلة في القياس. وقد
(1) سورة البقرة آية 50.
(2)
سورة المائدة آية: 25.
(3)
اختلفت آراء العلماء في بيان عدد ما يقدح بالعلة، فمنهم من ذكر خمسة وعشرين قادحاً كالآمدي (ت 631 هـ)، وابن الحاجب (ت 646 هـ)، ومنهم من اقتصر على ذكر ثمانية عوارض كإمام الحرمين (ت 478 هـ)، ومنهم من جعلها خمسة كفخر الدين الرازي (ت 606 هـ)، ومنهم من اتجه إلى غير ذلك.
انظر: الإحكام للآمدي (4/ 69) وما بعدها، ومختصر المنتهى الأصولي لابن الحاجب (2/ 257) والمحصول للرازي (2/ 360) وما بعدها، ومنهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي ص (156) وما بعدها، وروضة الناظر لابن قدامة ص (339) وما بعدها ..
اختلفت عبارات العلماء في تعريفها، وإن تلاقى أكثرها في المعنى. وقبل أن نذكر بعض تعريفات الفرق، ننبه إلى أن الفرق عندهم يعني الأمر المانع من إلحاق الفرع بالأصل في الحكم، مع وجود الوصف المشترك المدعي علة، سواء كان ذلك لوجود وصف مختصّ بالأصل هو شرط للعلّة، ولم يوجد في الفرع، أو لوجود وصف في الفرع هو مانع، ولم يوجد في الأصل (1)، وفيما يأتي نذكر طائفة من عبارات العلماء في تعريف الفرق: 1 - قال إمام الحرمين (ت 478 هـ)(2) الفرق (هو المعارضة المتضمِّنة لمخالفة الفرع الأصل في علة الحكم)(3)، وقال:(إن حقيقة الفرق هي الفصل بين المجتمعين في موجب الحكم، بما يخالف بين حكميهما)(4).
وفي هذين التعريفين اقتصار على ذكر الاختلاف بين الأصل والفرع
(1) التحرير بشرح تيسير التحرير (4/ 166 و 167).
(2)
هو أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني النيسابوري الشافعي الأشعري الملقب بضياء الدين والمعروف بإمام الحرمين. من الفقهاء المتكلمين والأصوليين والمفسرين والأدباء. تنقل بين البلدان واستقر في نيسابور التي مات فيها سنة (478 هـ).
من مؤلفاته: البرهان في أصول الفقه، والورقات في أصول الفقه، والإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، والغياثي، ونهاية المطلب في دراية المذهب، وغيرها.
راجع في ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى (3/ 249)، وطبقات الشافعية لابن هداية الله ص 174، وشذرات الذهب (3/ 358)، والفتح المبين (1/ 206)، ومعجم المؤلفين (6/ 184).
(3)
الكافية في الجدل ص 69.
(4)
المصدر السابق ص 298.
في علة الحكم أو موجبه، دون بيان لنوع هذا الاختلاف. ولهذا نجد إمام الحرمين (ت 478 هـ) رحمه الله أتْبَعَ تعريفيه ببيان ضروب الفرق، فقال: (ثم هو على ضربين:
أحدهما: فصل الحكم عن العلة.
والثاني: فصل الفرع عن الأصل بمعنى يفرّق بينهما بيّن) (1).
ولم يكشف لنا عن هذا المعنى بإعطاء صفاته أو شروطه.
2 -
وقال القرافي (ت 684 هـ): (هو إبداء معنى مناسب للحكم في إحدى الصورتين، مفقود في الأخرى)(2).
وفي هذا التعريف قصرٌ للفارق على المعنى الذي ذكره، وهو المناسبة في إحدى الصورتين دون الأخرى، وفيه احتراز عن الفروق الفاسدة التي لا يُعْتَدّ بها للتفريق بين الصورتين، أو المسألتين.
وقد ذكر القرافي (ت 684 هـ) في شرحه أمرين يقابلان المعنى المناسب للحكم، هما:
أ- المعنى غير المناسب، كقياس الأرز على البرّ، في حكم الربا، فيقول المعترض: الفرق بينهما أن الأرز أشد بياضاً، أو أيسر تقشيراً في سنبله، من البر (3). فمثل هذا يُعَد في الأوصاف الطردية غير المعتد بها (4).
(1) المصدر السابق.
(2)
شرح تنقيح الفصول (ص 403).
(3)
المصدر السابق (ص 403).
(4)
رفع النقاب عن تنقيح الشهاب للشوشاوي ص (893 و 894) القسم الثاني بتحقيق عبد الرحمن الجبرين.
ب- المعنى المناسب لحكم آخر غير الحكم المذكور. كقياس المساقاة على القراض في جواز المعاملة على جزء مجهول.
فيعترض على ذلك بوجود الفرق بينهما، إذ الشجر إذا ترك العمل فيه هلك، بخلاف النقدين فإنّ تركهما لا يؤدي إلى هلاكهما، وهذا معنى مناسب لأن يكون عقد المساقاة لازماً، وليس مناسباً لجوازه، لأن القول بجواز عقد المساقاة، وعدم لزومه يؤدي إلى جواز ردّه، بعد مدة، من غ ير عمل، مما يترتب عليه هلاك الشجر. وهذا الوصف لا مدخل له في الفرق بينهما باعتبار الغرر (1).
3 -
وقال القاضي البيضاوي (ت 685 هـ)(2): هو جعل تعيّن الأصل علة، والفرع مانعاً (3). ومقتضى هذا التعريف أن الفرق ضربان:
الضرب الأول: تعيّن أصل القياس، وما فيه من خصوصية علة
(1) المصدر السابق ص (893 و 894).
(2)
هو أبو سعيد، وقيل أبو الخير عبد الله بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشيرازي الشافعي، الملقب بناصر الدين، والبيضاوي نسبة إلى البيضاء في بلاد فارس، على مقربة من شيراز. كان قاضياً عالماً بالفقه والأصول والعربية والمنطق والحديث، والتفسير، وملماً بعلوم أخرى. استقر في تبريز، وتوفي بها سنة (685 هـ)، وقيل سنة (691).
من مؤلفاته: منهاج الوصول إلى علم الأصول، وأسرار التأويل في التفسير، وطوالع الأنوار في علم الكلام.
راجع في ترجمته: مفتاح السعادة (1/ 478)، وشذرات الذهب (5/ 392)، والفتح المبين (2/ 88)، ومعجم المطبوعات (1/ 616)، ومعجم المؤلفين (6/ 98).
(3)
الوصول بشرح نهاية السول (3/ 100).
لحكمه، فلا يلحق به الفرع.
والضرب الثاني: تعيّن الفرع، أو خصوصيته مانعاً من ثبوت حكم الأصل.
مثال الأول قول الحنفية إن الخارج النجس من غير السبيلين ناقضٌ للوضوء، قياساً على الخارج منهما، والوصف الجامع بينهما خروج النجاسة. فيقول خصومهم إن بينهما فرقاً؛ لأن العلة الناقضة للوضوء في الأصل هي خروج النجاسة من السبيلين، لا مطلق خروج النجاسة وهذا المعنى غير متحقق في الفرع.
ومثال الثاني قول الحنفية يجب القصاص على المسلم بقتل الذمي، قياساً على غير المسلم، والجامع هو القتل العمد العدوان. فيقول خصومهم إن بينهما فرقاً؛ لأن كون القاتل مسلماً مانعٌ من وجوب القصاص عليه، لشرفه (1). فقد جعل تعين الفرع مانعاً من الإلحاق.
4 -
وقال صفي الدين الهندي (ت 715 هـ)(2): (الفرق عبارة عن إبداء
(1) الوصول بشرح نهاية السول (3/ 100).
(2)
هو أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموي الملقب بصفي الدين الهندي. ولد بالهند سنة (644 هـ). ثم خرج من بلده دهلي وتنقّل في البلدان؛ فزار اليمن، ثم حجّ وأقام بمكة ثلاثة أشهر التقى فيها بابن سبعين وسمع منه، ثم زار القاهرة، وبلاد الروم، ثم استوطن دمشق، وفيها توفي سنة (715 هـ). وكانت له مع شيخ الإسلام ابن تيمية مناظرات.
من مؤلفاته: نهاية الوصول في دراية الأصول، الفائق في أصول الدين، الزبدة في علم الكلام.
راجع في ترجمته: الدُّرر الكامنة (5/ 262)، وشذرات الذهب (6/ 37)، والأعلام (6/ 200)، ومعجم المؤلفين (10/ 152).
وصف في الأصل يصلح أن يكون علة مستقلة للحكم، أو جزء علة) (1).
وفي هذا التعريف قَصْرُ الفرق على إبداء الخصوصية في الأصل، بإبداء وصف فيه يصلح أن يكون علة مستقلة، أو جزء علة، ولم يتطرق إلى ما في الفرع من خصوصية، تصلح أن تكون مانعاً من حكم العلة، كما هو في التعريفات السابقة.
وبذلك يكون الفرق عنده، راجعاً إلى المعارضة في الأصل فقط.
5 -
وقال عضد الدين الإيجي (ت 756 هـ)(2): (الفرق إبداء خصوصية في الأصل، هو شرط
…
أو إبداء خصوصية في الفرع، هي مانع) (3).
والمراد من ذلك هو أن يُظْهر المعترض خصوصية في الأصل تُجْعَل شرطاً للحكم، بأن تُجعل من علته، أو إبداء خصوصية في الفرع تُجْعَلُ مانعاً من الحكم، فالفرق على هذا راجع إلى إحدى المعارضتين، المعارضة في الأصل في الحالة الأولى، والمعارضة في الفرع
(1) نهاية الوصول في دراية الأصول (8/ 3469).
(2)
هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار الإيجي الشيرازي الشافعي. قاضي القضاة المعروف بعضد الدين. كان من العلماء المبرزين في العلوم العقلية والأصول والمعاني والبيان والنحو والفقه وعلم الكلام. سجن في قلعة دريميان، بعد أن غضب عليه صاحب كرمان. توفي سنة (756 هـ).
من مؤلفاته: الرسالة العضدية في الوضع، وشرح مختصر منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل لابن الحاجب، والمواقف في علم الكلام، وغيرها.
راجع في ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى (6/ 108)، والدرر الكامنة (3/ 110)، والإعلام (3/ 295)، ومعجم المؤلفين (5/ 119).
(3)
شرح مختصر المنتهى (2/ 276).
في الحالة الثانية (1).
وما ذكر مبنيٌّ على أنه ليس على المعترض أن يتعرض لعدم الخصوصية، الموجودة في الأصل، في الفرع، ولا أن يتعرض لعدم الخصوصية، الموجودة في الفرع، في الأصل.
لكن بعض العلماء ذهبوا إلى اشتراط ذلك فيكون الفرق مجموع المعارضتين المذكورتين (2). وقد ذكر الآمدي (ت 631 هـ)(3) أن القول بأن الفرق لا يخرج عن المعارضة في الأصل، أو الفرع، هو عند أبناء زمانه، أما المتقدمون فكانوا يرون أن الفرق هو مجموع الأمرين حتى لو اقتصر على أحدهما لا يكون فرقاً. وبنى اختلافهم في قبول الفرق ورفضه على ذلك (4).
6 -
وجاء في كشاف اصطلاحات الفنون: إن الفرق، عند الأصوليين وأهل النظر، هو: (أن يُفرِّق المعترضُ بين الأصل والفرع، بإبداء ما يختص
(1) شرح جمع الجوامع للمحلي بحاشية العطار (2/ 363).
(2)
شرح مختصر المنتهى (2/ 276)، وشرح جمع الجوامع (2/ 363).
(3)
هو سيف الدين علي بن أبي علي بن محمد التغلبي الآمدي الحنبلي، ثم الشافعي. جمع بين الحكمة والمنطق والكلام، والأصول والفقه، وبرع في الخلاف، وكان من الأذكياء. قيل عنه إنه لم يكن في زمانه أحفظ للعلوم منه. ولد بآمد، وأقام في بغداد، ثم انتقل إلى الشام ثم مصر، وكانت وفاته بدمشق سنة (631 هـ). ودفن بسفح جبل قاسيون.
من مؤلفاته: غاية المرام في علم الكلام، والإحكام في أصول الأحكام في أصول الفقه، وغاية الأمل في علم الجدل، وغيرها.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان (2/ 455)، ومفتاح السعادة (2/ 55)، وشذرات الذهب (5/ 144)، ومعجم المؤلفين (7/ 155).
(4)
الإحكام (4/ 107).
بأحدهما، لئلا يصح القياس، ويقابله الجمع) (1).
وهذا التعريف يصور الفرق، عند الأصوليين وأهل النظر، ويعبر عن ذلك بوضوح. وقد صوَّر إمام الحرمين (ت 478 هـ) ذلك، من قبل، بعبارة جامعة، بيّنت معنى الفرق والغاية منه، قال:(والقول الوجيز فيه أن قصد الجمع يَنْتَظِم بأصلٍ وفرعٍ، ومعنى رابط بينهما، على شرائط بينة، والفرق معنى يشتمل على ذكر أصل وفرع، وهما يفترقان فيه، وهذا يقع على نقيض غرض الجمع. ومن ضروراته معارضة معنى الأصل والفرع، ولكن الغرض منه مضادة الجمع بوجه فقه، أو بوجه شبه، إن كان القياس في فن الشبه، وعلى هذا لو سمى مسمٍّ الفرق معارضة لم يكن مبعداً، ولكن ليس الغرض من الإتيان بمعارضة على الطرد والعكس، لاتصال أحدهما بالآخر، بل القصد منه فقهٌ، ينتظم معارضتين، يشعر بمفارقة الأصل للفرع على مناقضة الجمع، فهذا سرّ الفرق)(2).
وقد سبق أن ذكرنا ما قاله الآمدي (ت 631 هـ) من أن الفرق، عند المتقدمين، هو مجموع الأمرين، أي المعارضة في الأصل وفي الفرع. (حتى أنه لو اقتصر على أحدهما لم يكن فرقاً)(3)، وأنه - أي الفرق- على ما انتهى إليه علماء زمانه، هو إحدى المعارضتين (3).
تعريف علم الفروق الفقهية:
لم يتكلم الأصوليون عما يُسمى علم أو فن الفروق الفقهية، بل اقتصر
(1)(3/ 1129).
(2)
البرهان (2/ 1068).
(3)
الإحكام (4/ 103).
حديثهم عنها، خلال كلامهم عن قوادح العلة في القياس، أو خلال كلامهم في موضوع الجدل، كما في الكافية في الجدل لإمام الحرمين (ت 478 هـ)، والجدل على طريقة الفقهاء لأبي الوفاء ابن عقيل (ت 513 هـ)(1). وعَلَم الجذل في علم الجدل لسليمان بن عبد القوي الطوفي (ت 716 هـ)(2)، وكالمعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي (ت 476 هـ)(3).
(1) هو أبو الوفاء علي بن محمد بن عقيل البغدادي، من علماء الإسلام البارزين، ومن مجتهدي الحنابلة وأصولييهم، تتلمذ على عشرات العلماء، وكان من ملازمي القاضي أبي يعلى. اشتغل بمذهب المعتزلة ثم تركه، عرف بقوة الحجة، وحضور البديهة، والمناظرة والجدل. توفي سنة (513 هـ).
من مؤلفاته: الواضح في أصول الفقه، والجدل على طريقة الفقهاء، والفنون، وكفاية المفتي، وعمدة الأدلة وغيرها.
راجع في ترجمته: ذيل طبقات الحنابلة (1/ 142)، والمنهج الأحمد (2/ 252)، والأعلام (4/ 313).
(2)
هو أبو الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي الصرصري، نسبته إلى قرية طوفا من أعمال صرصر في العراق، من علماء الحنابلة المشهورين. عُرف بقوة الحافظة وشدة الذكاء.
اتهم بالرفض والانحراف، فعُزّر وضرب. تنقّل بين البلدان، وكان آخر عهده في مدينة الخليل التي توفي فيها سنة (716 هـ).
من مؤلفاته: البلبل في أصول الفقه، اختصر فيه كتاب روضة الناظر لابن قدامة، وشرح مختصره هذا، والذريعة إلى معرفة أسرار الشريعة، وشرح الأربعين النووية، وتعاليق على الأناجيل.
راجع في ترجمته: الذيل على طبقات الحنابلة (2/ 366)، الدرر الكامنة (2/ 295)، شذرات الذهب (6/ 39) والأعلام (3/ 127)، والفتح المبين (2/ 120).
(3)
هو أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز آبادي الشافعي، الملقب بجمال الدين. تفقه بشيراز، وقدم إلى البصرة، ثم بغداد، فاستوطنها، ولزم القاضي =
والمنهاج في ترتيب الحجاج لأبي الوليد الباجي (ت 474 هـ)(1)، والإيضاح لقوانين الاصطلاح لأبي محمد يوسف بن عبد الرحمن بن الجوزي (ت 656 هـ)(2)، وسائر كتب أصول الفقه الباحثة عن قوادح
= أبا الطيب الطبري، وكان من أفصح وأورع وأنظر أهل زمانه. رحل إليه الفقهاء، ودرّس بالنظامية، كان فقيراً متعففاً قانعاً باليسير، ذكر أنه لم يحج لعدم قدرته المالية. توفي في بغداد سنة (476 هـ).
من مؤلفاته: التنبيه والمهذب في الفقه، والتبصرة في أصول الفقه، واللمع وشرحه في أصول الفقه، وطبقات الشافعية.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان (1/ 9)، وطبقات الشافعية للأسنوي (2/ 83)، والأعلام (1/ 51)، ومعجم المؤلفين (1/ 68).
(1)
هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد التجيبي الأندلسي المالكي الباجي، ولد ببطليوس ثم رحل إلى باجة، وأقام بها زمناً طويلاً، ثم رحل إلى مصر والشام والعراق، فأخذ العلم عمن لقيه فيها من العلماء. وكانت رحلته طويلة استغرقت ثلاث عشرة سنة، عاد بعدها إلى بلده، فدرّس وعلّم وذاع صيته. تولّى القضاء في الأندلس، وكان نظّاراً قوي الحجة. قال عنه ابن حزم: لم يكن للمذهب المالكي، بعد القاضي عبد الوهاب إلا أبو الوليد الباجي، توفي سنة (474 هـ).
من مؤلفاته: إحكام الفصول في أحكام الأصول، والمنتقى في شرح الموطأ، وكتاب الحدود، والإشارة، وغيرها.
راجع في ترجمته: وفيات الأعيان (2/ 142)، والديباج المذهب (ص 120)، وشذرات الذهب (3/ 344)، والفتح المبين (1/ 252).
(2)
هو أبو المحاسن يوسف بن عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، القرشي التيمي البكري البغدادي، الملقب بمحيي الدين، تفقه على أبيه، وولي الحسبة في جانبي بغداد، والنظر والوقوف العامة. حدّث في بلدان كثيرة منها مصر وبغداد، ودرس بالمستنصرية في بغداد، وأنشأ طائفة من المدارس في بلدان عدّة، منها المدرسة الجوزية في دمشق. قتله التتار صبراً، مع أولاده الثلاثة، يوم دخول هولاكو بغداد سنة (656 هـ).
من مؤلفاته: معادن الإبريز في تفسير الكتاب العزيز، والإيضاح في قوانين الاصطلاح، وغيرها.
…
=
العلة في القياس.
أما الفقهاء الذين ألفوا في الأشباه والنظائر، والتي من محتوياتها الفروق الفقهية، فقد أشار بعضهم إلى شيء من ذلك، وذكروا ما يشبه التعريف لهذا العلم، وأوردوا شيئاً من أوصافه، لكن هؤلاء كانوا محدودين وقليلي العدد، وفيما يأتي نذكر بعض تلك التعريفات التي اطلعنا عليها:
1 -
قال جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ)(1)، عن علم الفروق: إنه الفن (الذي يذكر فيه الفرق بين النظائر المتحدة تصويراً ومعنى، المختلفة حكماً وعلة)(2).
ولم يورد هذا الكلام على أنه تعريف فني، وإنما ذكره على أنه وصف لهذا العلم، استثمره بعضهم، وحوّله إلى تعريف له، بإجراء بعض التعديل اليسير في الصياغة.
= راجع في ترجمته: الذيل على طبقات الحنابلة (2/ 258)، وشذرات الذهب (5/ 286)، والأعلام (8/ 236)، ومعجم المؤلفين (13/ 307).
(1)
هو جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد المصري الخضيري السيوطي الشافعي، ولد ونشأ في القاهرة، وقرأ على جماعة من العلماء. كان إماماً بارعاً في كثير من العلوم. فكان مفسراً ومحدثاً وفقيهاً ونحوياً وبلاغياً ولغوياً اعتزل التدريس والإفتاء والناس، وانصرف إلى التأليف. توفي سنة (911 هـ).
من مؤلفاته: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، والمزهر في اللغة، والإتقان في علوم القرآن، والأشباه والنظائر في فروع الشافعية، والأشباه والنظائر النحوية، وحسن المحاضرة وغيرها.
راجع في ترجمته: شذرات الذهب (8/ 51)، والفتح المبين (3/ 65)، ومعجم المؤلفين (5/ 128).
(2)
الأشباه والنظائر (ص 7)، وانظر مقدمة تحقيق الاعتناء في الفرق والاستثناء.
2 -
وقال الشيخ محمد الفاذاني (ت 1410 هـ)(1): (هو معرفة الأمور الفارقة بين مسألتين متشابهتين، بحيث لا نسوي بينهما في الحكم)(2). وقال عن الجمع والفرق: (أي معرفة ما يجتمع مع آخر في حكم، ويفترق معه في حكم آخر، كالذمي والمسلم يجتمعان في أحكام ويفترقان)(2).
3 -
واعترض بعض الباحثين على التعريفين السابقين بأنهما غير مانعين من دخول الفروق بين المسائل المتشابهة، في أي علم من العلوم، في التعريف؛ إذ لم تُقَيّد المسائل المتشابهة بالفقهية. وذكر تعريفاً من عنده، رأى أنه جامع مانع، هو قوله:(العلم ببيان الفرق بين مسألتين فقهيتين متشابهتين صورة، مختلفتين حكماً)(3).
والذي يبدو أن العلماء إنما كانوا يقصدون تعريف الفروق، بوجه عام، لا الفروق الفقهية، كما عرّفوا القاعدة بأنها قضية كلية، دون أن
(1) هو الشيخ محمد ياسين بن الشيخ محمد عيسى الفاذاني، الأندنوسي أصلاً والمكي مولداً. والفاذاني نسبة إلى فاذان أحد أقاليم أندنوسيا، تلقى علومه في مكة على طائفة من العلماء، تولى تدريس علوم متعددة في المسجد الحرام. توفي في مكة سنة (1410 هـ).
من مؤلفاته: الفوائد الجنية، وبغية المشتاق في شرح لمع أبي إسحاق، والدر المنضود شرح سنن أبي داود وغيرها.
راجع في ترجمته: مقدمة المعتني بطبع كتاب الفوائد الجنية، رمزي سعد الدين دمشقية.
(2)
الفوائد الجنية (ص 98).
(3)
إيضاح الدلائل في الفرق بين المسائل لعبد الرحيم الزريراني - مقدمة المحقق د. عمر ابن محمد بن عبد الله السبيل (ص 19).
يحددوا مشتملاتها (1). لكن الذي يؤخذ على التعريفين المذكورين، وعلى تعريف المعترض د. عمر السبيل، أنها أدخلت في مادة التعريف ألفاظ المعرف، مما ترتب عليه أن يكون فيها الدور الممنوع، ولهذا فإنه لو أبدل لفظ الفرق أو الفارق، بغيره من الألفاظ التي تؤدي معناه، زال مثل ذلك الاعتراض، كأن يقال، مثلاً، هو العلم بوجوه الاختلاف بين مسألتين فقهيتين متشابهتين صورة، مختلفتين حكماً.
على أن هذا لا يُعد تعريفاً، أو قولاً شارحاً لعلم الفروق نفسه، لأن العلم المذكور أوسع دائرة من ذلك، ولهذا فإننا نقترح تصوير هذا العلم بأنه:
العلم الذي يُبْحَثُ فيه عن وجوه الاختلاف، وأسبابها، بين المسائل الفقهية المتشابهة في الصورة، والمختلفة في الحكم، من حيث بيان معنى تلك الوجوه، وماله صلة بها، ومن حيث صحتها وفسادها، وبيان شروطها ووجوه دفعها، ونشأتها وتطورها، وتطبيقاتها، والثمرات والفوائد المترتبة عليها.
وإنما قلنا إن هذا تصوير لهذا العلم، بسبب أنه يفتقد لبعض شروط الحد أو الرسم، لما فيه من التفصيلات، وذكر ما لا يذكر من ذلك، عند المنطقيين، ولكننا وجدنا أن التصريح بذلك قد يُلقي ضوءاً يزيد ما نريده من علم الفروق الفقهية وضوحاً والله أعلم.
(1) نظر تفصيل الكلام عن هذا الأمر في كتابنا (القواعد الفقهية- المبادئ والمقومات- المصادر- الدليلية- التطور).
موضوعه (1):
إن بيان موضوع العلم يُعَدّ من الأمور الهامة، عند العلماء، وقد أولوه عنايتهم، وجعلوه أحد المبادئ العشرة، أو الرؤوس الثمانية في اصطلاحاتهم (2) ويعود ذلك إلى أنه المميز للعلم عن غيره، والمحدد لمجالاته التي لا ينبغي أن تتداخل مع غيرها.
ويريدون بموضوع العلم ما يُبْحَث في ذلك العلم عن عارضه الذاتية، كالكلمة فإنها موضوع علم النحو، إذ يبحث فيه عما يعرض لها من حيث الإعراب والبناء، وأنواع الإعراب من رفع ونصب وجر وجزم، وكالأدلة، أو الأدلة والأحكام، فإنها موضوع أصول الفقه؛ إذ يبحث فيه عما يعرض لها من حيث الحجية وعدمها، وكيفية الاحتجاج بها، وغير ذلك (1).
(1) انظر معنى موضوع العلم، وأنواع العوارض في كتابنا: أصول الفقه- الحد والموضوع والغاية (ص 8).
(2)
وهذه المبادئ هي: الاسم، الحد، والموضوع، والمسائل والمباحث، والعلوم التي استمد منها، ونسبته إلى العلوم الأخرى، وفضله، وفائدته، وواضعه، وحكمه الشرعي، وقد نظم هذه المبادئ أكثر من واحد، منهم ابن ذكري في كتابه تحصيل المقاصد، بقوله:
فأول الأبواب في المبادئ
…
وتلك عشرة على المراد
الحد، والموضوع، ثم الواضع،
…
والاسم، الاستمداد، حكم الشارع
تصور المسائل، الفضيلة
…
ونسبةٌ، فائدة جليلة
(انظر رد المحتار لابن عابدين 1/ 36).
كما نظمها العلامة الصبان، بقوله:
إن مبادئ كل فن عشره
…
الحد، والموضوع، ثم الثمره
وفضله، ونسبة، والواضع،
…
والاسم، الاستمداد، حكم الشارع
مسائل، والبعض بالبعض اكتفى
…
ومن درى الجميع حاز الشرفا
(انظر إيضاح القواعد الفقهية للشيخ عبد الله بن سعيد اللحجي ص 9).
وعلى هذا يكون موضوع علم الفروق الفقهية هو الفروع أو المسائل الفقهية المتشابهة في الصورة، والمختلفة في الحكم، من حيث بيان أسباب الافتراق، أو الاجتماع، فيما بينها، وما يتعلق بذلك من الأمور.
* * *
مسائله ومباحثه: (1)
يمكن القول إن مباحث ومسائل علم الفروق الفقهية ذات صلة وثيقة بموضوعه، لأن موضوعات المسائل والمباحث هي نفسها موضوعات العلم، أو أنواعها أو أعراضها الذاتية، أو ما تركب من هذه الأمور، أو بعضها.
ولما كان موضوع العلم، كما عرفنا، هو ما يبحث فيه عن الأحوال العارضة له، فإنَّ مسائله ومباحثه هي معرفة هذه الأحوال. وكما أن بدن الإنسان الذي هو موضوع علم الطب، بسبب أنه يبحث فيه عن الأعراض اللاحقة له، لا يدخل في حقيقة العلم، فكذلك المسائل الفقهية التي هي موضوع علم الفروق الفقهية، لا تدخل في حقيقة هذا العلم، لأن الذي يبحث فيه هو ما يعرض لها من الصفات الجامعة، أو المفرقة بينها.
ومهما يكن من أمر فإن ما كتبه العلماء في هذا الشأن، يدخل ضمن ما يأتي:
1 -
الفروق بين أحكام الجزئيات الفقهية، أو بين المسائل الفقهية، كالفرق بين اشتراط إذن الولي في انعقاد إحرام الصبي في الحج، وعدم اشتراطه في الصلاة (2). واشتراط الطهارة في صحة الطواف، وعدم
(1) مسائل كل علم هي المطالب التي يبرهن عليها في العلم، ويكون الغرض من ذلك العلم معرفتها (التعريفات ص 225)، كمسائل العبادات والمعاملات ونحوها للفقه، ومسائل الأمر والنهي والعام والخاص والإجماع والقياس ونحوها لأصول الفقه (البحر المحيط 1/ 73) وانظر الكلام عن ذلك في كتابنا: أصول الفقه الحد- والموضوع والغاية (ص 19).
(2)
إيضاح الدلائل (1/ 257).
اشتراطها في السعي (1). وكانتقاض الوضوء بأكل لحم الجزور، وعدم انتقاضه بأكل لحم الغنم (2).
2 -
الفرق والاستثناء: وهذا النوع من المسائل داخل في موضوع الفروق بين أحكام المسائل الجزئية، لكن طريقة عرضه تتخذ صورة أخرى، هي ذكر القاعدة أو الضابط، أو المسائل الفقهية وبيان ما يستثنى منها، وإنما كان التأليف في هذا المجال داخلاً في الفروق؛ لكون حكم المستثنى مخالفاً لحكم ما استثني منه.
وقد يذكر سبب الاستثناء، وقد يهمل بأن يقتصر على ذكر المستثنيات التي تفارق حكم ما استثني منه، نحو قولهم: من وجبت عليه الجمعة اسْتُحِبَّ له التبكير فيها
…
إلا في مسألتين:
إحداهما: من به سلس البول.
المسألة الثانية: إمام الجمعة يُسَنُّ في حقه الحضور لوقت الصلاة (3).
أما الفروق بين المصطلحات الفقهية، أو الأصولية من حيث اختلاف ما يترتب عليها من أحكام، كالفرق بين الخطأ والنسيان، وبين الجهل الذي يُعْذر فيه والجهل الذي لا يُعْذر فيه، وبين الخبر والإنشاء، وبين الشرط والمانع، وبين العلة والسبب، وبين الشهادة والرواية وغير ذلك. فهو مما يدخل في الفروق الأصولية، التي سيرد الكلام عنها في الفصل الثاني من هذا البحث.
* * *
(1) المصدر السابق (1/ 256).
(2)
المصدر السابق (1/ 166).
(3)
الاعتناء في الفرق والاستثناء (1/ 250).
الفائدة من دراسة علم الفروق (1):
للتعرف على الفروق الفقهية فوائد متعددة، سواء كان ذلك للمجتهد، أو لمن هو دونه في المرتبة. ونذكر فيما يأتي بعض هذه الفوائد:
1 -
إن في دراستها تتحقق إزالة الأوهام التي أثارها بعض من اتهموا الفقه بالتناقض، بسبب إعطائه الأمور المتماثلة أحكاماً مختلفة، وتسويته بين المختلفات. كقولهم إن الشارع فرض الغسل من المنيّ وأبطل به الصوم بإنزاله عمداً، وهو طاهر، دون البول والمذي وهو نجس، وأوجب غسل الثوب من بول الصبية، والنَّضح من بول الصبي، من تساويهما، فبمعرفة أسباب التفريق في الحكم بين الصور المتشابهة، يُدْرَكُ وَهَنُ مثل هذه الاعتراضات وسقوطها.
2 -
إن التعرف على هذه الفروق يُبَصِّرُ العالم بحقائق الأحكام وينير الطريق أمامه، لينقذه من التعثر في الاجتهاد، فهي شَحْذٌ للذهن، وتنبيه له، لئلا يقع في الوهم، ويتسرّع فيما يفتيه، ويصدره من الأحكام، بناء على الشَّبَه الظاهري. ولهذا نجد أبا عبد الله المازري (ت 536 هـ)(2)، عدَّ معرفة الفروق من جملة ما ينبغي أن يتوفّر في
(1) ذكر ابن القيم (ت 751 هـ) في أعلام الموقعين شُبَهاً مختلفة ومتنوعة، وأمثلة عديدة مما قيل إنها متماثلة، ولكنها افترقت في الأحكام، ومنها ما هي مختلفة واتفقت في الأحكام والذي يتصل بهذا الموضوع، هو النوع الأول.
(2)
هو أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، الملقب بالإمام،
…
=
الفقيه الذي يفتي في زمانه (1). لئلا يقع في الخطأ، عند التخريج. قال أبو عبد الله القاسم البرزلي (ت 844 هـ) (2):(وقد يطرأ من يظن أنه بلغ رتبة الاجتهاد، فينظر المسائل بعضها ببعض، ويخرّج، وليس بصيراً بالفروق)(3).
3 -
إن هذا العلم بكشفه عن الفروق بين المسائل يحققُ وضوحاً في علل الأحكام وما يعارض هذه العلل، ويدفعها، مما يهيئ للفقيه القياس الصحيح، ويحقّق له غلبة الظن في إلحاق الفروع بغيرها من الأصول. ويجعله مطمئناً إلى تخريجه.
= ولد بمازر في جزيرة صقلية، وإليها نسب. كان من علماء المالكية البارزين في الفقه والأصول والكلام والحديث والأدب والطب، ومن المشاركين في علوم أخرى. كان حسن الخلق، وصاحب مجلس يؤنس حاضريه بما يذكره من النوادر والنكت، قالوا: إنه بلغ درجة الاجتهاد، ولم يفت بغير مشهور مالك. توفي سنة (536 هـ). من مؤلفاته: شرح التلقين للقاضي عبد الوهاب، وإيضاح المحصول من برهان الأصول في شرح كتاب البرهان لإمام الحرمين، والمعلم في شرح مسلم، والتعليقة على المدونة وغيرها.
راجع في ترجمته: الديباج المذهب (ص 279)، وشجرة النور الزكية (ص 127)، والفتح المبين (2/ 26).
(1)
الفروق الفقهية للدمشقي- مقدمة المحقق (ص 33).
(2)
هو أبو القاسم أحمد بن محمد المعتل البلوي القيرواني، ثم التونسي، المالكي الشهير بالبرزلي فقيه مشارك في علوم أخرى. رحل إلى القاهرة في طريقه إلى الحج، وأفتى ووعظ في تونس، وصار إماماً بالزيتونة. توفي في تونس سنة (844 هـ)، عن مائة وثلاث سنين، وقيل غير ذلك.
من مؤلفاته: الديوان الكبير في الفقه، والنوازل، والفتاوى.
راجع في ترجمته: نيل الابتهاج (ص 225)، ومعجم المؤلفين (2/ 158)، و (8/ 94).
(3)
الفروق الفقهية للدمشقي - مقدمة المحقق (ص 33).
حكم معرفة الفروق الفقهية:
لم أجد من العلماء من تكلم عن حكم معرفة علم الفروق الفقهية، بل إن العلماء قد اختلفوا في قبول قدح العلة بالفرق، ومنع الجمع بين الأصل والفرع، عند وجوده، فالمحققون من العلماء قبلوه، وخالفت طائفة أخرى فلم تقبله (1). وفصّل بعضهم في ذلك، فاختار القاضي البيضاوي (ت 685 هـ) أن الفرق، عند المعارضة في الأصل قادحٌ في العلة المستنبطة، دون المنصوصة، وأنه غير قادح في الفرع، لاختياره تبعاً لصاحب الحاصل، عدم جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستقلتين، إن كانتا مستنبطتين، ولأنه يرى أن النقض لمانع غَيْرُ قادحٍ في العلة (2).
ولكلِّ طائفةٍ من هؤلاء العلماء أدلتها، وما بنت عليه وجهة نظرها، وذكر هذه الاستدلالات والمناقشات ليس من مقصود هذا البحث؛ لأن ما نريده من ذلك تصوير الفرق، عند الأصوليين. وقد أتينا من ذلك بما يحقق المقصود ويبين المراد.
ومما ينبغي التنبيه إليه أن أبا الربيع الطوفي (ت 716 هـ) تكلم عما يشبه بيان حكم الفروق. وإنما قلنا إنه يشبه الحكم، لأنه تكلم عن الاعتداد بالفرق واعتباره، وذكر ما يدل على ذلك (3). ولكنه لم يتكلم
(1) نهاية الوصول في دراية الأصول (8/ 3469).
(2)
منهاج الوصول بشرح الأسنوي والبدخشي (3/ 77) و (3/ 100)، والحاصل (2/ 925) وانظر أيضاً في اختيار عدم جواز ذلك: المحصول لفخر الدين الرازي (2/ 384)، وشرح الكوكب المنير (4/ 323).
(3)
علم الجذل في علم الجدل (ص 73 - 75). =
عن هذا الاعتداد، أهو مباح، أو مندوب إليه، أو جائز؟ أهو شرط أو غير ذلك من الأحكام، ولهذا قلنا إننا لم نجد من تكلم عن حكمه من الفقهاء والأصوليين.
وما كتب في الفروق، أو الجمع والفرق يُعَدُّ المجال التطبيقي لهذا القادح؛ إذ إن هذه الكتب تذكر الفروع الفقهية المتشابهة، وما يجمع بينها، وما يفرق بعضها عن بعض في الحكم، وبتعبير آخر إنها تبحث عن مبررات عدم إلحاق الفروع بالأصول، مع وجود التشابه الظاهري بينها، ولاشتراكها ببعض الأوصاف التي تقتضي الجمع.
والذي يبدو لنا أن تقصّي ما يذكر في هذه الكتب، من العلل الجامعة، وما ينقضها في الجزئيات المختلفة، يحتاج إلى نظر دقيق، فما يذكر من المعاني المشتركة، ربما لم ينطبق على معنى العلة في اصطلاحهم، أو لم يكن ثابتاً بالطرق المعتد بها عندهم، كما أن ما به التفريق ربما لا يكون من الأمور المقبولة في رأيهم.
وعلى هذا فإن تحديد حكم معين لتعلم الفروق الفقهية بإطلاق ليس كما ينبغي، ونجد أن المناسب هو تنوع الحكم باختلاف الحالات فهو بالنسبة لغير المجتهد أو المفتي جائز، وأما بالنسبة للمجتهد أو المفتي فهو واجب؛ لأنه داخل في شروط المجتهد والمفتي العلمية، لئلا تتناقض،
= وقد استدل من الكتاب بقوله تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)[الزمر آية: 9]، ومن السنة بتفريقه صلى الله عليه وسلم بين بعض الأمور في الأحكام، ومن العقل بأن الإنسان بعقله يميل إلى العدل وعن الجور، وإلى الصدق وعن الكذب، وغلى البر وعن الفجور، وما أشبه ذلك، ومن الحس والطبع بأن كل أحد يميل بطبعه إلى الصورة الحسنة دون القبيحة، وإلى الصوت اللذيذ دون المستكرة، وإلى الرائحة العطرة، دون القذرة الكريهة والخبيثة.
أحكامه، ويقع في الخطأ أو السهو، وهو معدود من آلات ومكملات الاقتدار على الاستنباط والتخريج، كما أنه من مستلزمات القياس الذي يُعَدّ الاقتدار عليه من الشروط الأساسية في المجتهد- والله أعلم.
* * *