الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول
نشأة الفروق بين الأصول
ذكرنا في مبحث أنواع الفروق بين المصطلحات والقواعد الأصولية، النطاق الذي يدور حوله الكلام عنها، وعرفنا أن من الممكن أن نجدهافي مجالين، مجال التفريق بين معاني المصطلحات بما يميز بعضها عن بعض بالوصف تارة، وبالتعريف تارة، وبالتقسيم أو غيره تارةً أخرى. أو في مجال التفريق فيها عن طريق التفريق بين الأحكام المترتبة عليها. ولا يعني هذا انعدام التصريح بالفرق في أحيانٍ قليلة.
وعلى هذا فمن الممكن القول: إن نشأة الكلام عن الفروق الأصولية هو نشأة الكلام في المجالين السابقين، ويغلب أن يكون ذلك بعد استقرار علم أصول الفقه، وانتشار التمذهب، واتساع نطاق الجدل في ذلك. وهو أمر اتضحت سماته، ونضجت مباحثه في القرن الرابع الهجري، وازداد ذلك وضوحاً ونضوجاً في القرن الخامس الهجري وما بعده.
ولكن مع ذلك ظهرت بوادر له قبل هذه الفترة، وعلى وجه تقريبي في القرن الثاني الهجري. ففي رسالة الشافعي (ت 204 هـ) رحمه الله شواهد متعددة على ذلك، ككلامه عن الفرق بين رواية الحديث والشهادة. قال: (قال: فكيف يكون الحديث كالشهادة في شيء، ثم يفارق بعض معانيها في غيره؟ فقلت له: هو مخالف للشهادة- كما وصفتُ لك- في بعض أمره، ولو جعله كالشهادة في بعض أمره، دون بعض، كانت الحجة لي فيه بينة -إن شاء الله. قال: وكيف ذلك وسبيل الشهادات سبيل واحدة؟ قال: فقلت: أتعني في بعض أمرها، دون بعض،
أم في كلّ أمرها؟
قال: بل في ل أمرها.
قلت: فم أقلّ ما تقبل على الزنا؟
قال: أربعة.
قلت: فإن نقصوا واحداً جلدتهم؟
قال: نعم.
قلت: فكم تقبل على القتل والكفر وقطع الطريق الذي تَقْتُلُ به كله؟
قال: شاهدين.
قلت له: كم تقبل على المال؟
قال: شاهداً وامرأتين.
قلت: فكم تقبل في عيوب النساء؟
قال: امرأة.
قلت: ولو لم يتموا شاهدين وشاهداً وامرأتين لم تجلدهم كما جلدت شهود الزنا؟
قال: نعم.
قلت: أفتراها مجتمعةً
…
إلخ (1). وهكذا يستمر الشافعي في كلامه.
ومثل هذا التفريق وقع في كلامه في مواضع عدة، كتفريقه بين ما هو مقطوع به لا يسع الشك فيه، فيستتاب منكره وما كان محتملاً للتأويل
(1) الرسالة ص (384 - 387).
لا يترتب عليه ذلك؟ (1) وكتفريقه بين أنواع المنقطع، وبيان وجه قبول بعضه دون بعض (2) وتفريقه في مباحث القياس بين طائفة من الأمور مَنَعَ من قياس بعضها على بعض، وبَيَّنَ وجه المنع في ذلك، واختلاف المقيس عن المقيس عليه (3)، وغير ذلك كثير.
وكانت طريقته معتمدة على الحجاج والبرهنة، مصحوبة بالجوانب التطبيقية من واقع الأحكام الشرعية.
وفي القرن الرابع ظهر الكلام في الفروق الأصولية، من خلال مباحث العلماء وكلامهم في أصول الفقه، وفي كتاب أبي بكر الجصاص الرازي (ت 370 هـ)(4) في الأصول، دلالات واضحة على ذلك، سواء كانت بنقله مثل ذلك عن غيره، أو بما أبداه هو في هذا المجال. ونكتفي بأمثلة محدودة تبين ما نقول؛ فقد نقل عن أستاذه أبي الحسن الكرخي
(1) الرسالة ص (460).
(2)
المصدر السابق ص (461).
(3)
المصدر السابق.
(4)
هو أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي المعروف بالجصاص. من الفقهاء المجتهدين. ورد إلى بغداد شاباً، ودرس وجمع وتفقه على أبي الحسن الكرخي، وأبي سهل الزُّجاجي، وتخرّج به المتفقهة، وكان على جانب كبير من الزهد والورع. توفي في بغداد سنة (370 هـ).
من مؤلفاته: الفصول في الأصول، وشرح الجامع الكبير لمحمد بن الحسن، وشرح مختصر الطحاوي، وأحكام القرآن، وغيرها.
راجع في ترجمته: الفهرست ص (293)، والجواهر المضيّة (1/ 220)، ومفتاح السعادة (2/ 52)، وطبقات الفقهاء للشيرازي ص (144)، والأعلام (1/ 171)، ومعجم المؤلفين (2/ 7).
(ت 340 هـ)(1) التفريق بين الاستثناء والتخصيص (2)، وجواز تأخير بيان المجمل، وعدم جواز تأخير بيان ما يمكن استعمال حكمه (3).
والتفريق بين الدليل والعلة (4) وتجويز التعليل بالعلة المتعدّية وعدم تجويز ذلك بالعلة القاصرة (5).
وهذا عدا ما كان يذره من التعريفات وبيان صفات المصطلحات، ومحترزاتها، والفرق فيما بينها وبين غيرها، مما جاء في كتابه كثيراً.
وفي القرن الخامس نضج علم أصول الفقه، واتضحت مناهجه، وظهرت فيه أمّهات الكتب الأصولية، كما ظهرت فيه طائفة من كتب الجدل وترتيب الحجاج، ووضع الاعتراضات والإجابات عنها، حول القواعد والضوابط الأصولية، كالكافية في الجدل لأبي المعالي إمام الحرمين
(1) هو أبو الحسن عبيد الله بن الحسين بن دلال الكرخي الحنفي. انتهت إليه رياسة العلم في أصحاب أبي حنيفة. درّس في بغداد وتتلمذ عليه كثيرون. كان صبوراً على الفقر، كثير العبادة، أصيب آخر عمره بالفالج، وتوفي في بغداد سنة (340 هـ).
من مؤلفاته شرح الجامع الكبير، وشرح الجامع الصغير في فروع الفقه الحنفي، ومسألة في الأشربة وتحليل نبيذ التمر، ورسالة في أصول الفقه.
راجع في ترجمته: الجواهر المضيّة (2/ 492)، والفهرست لابن النديم ص (293)، وطبقات الفقهاء للشيرازي ص (124)، وشذرات الذهب (2/ 358)، وتاج التراجم ص (39)، والفتح المبين (1/ 186)، والأعلام (4/ 193)، ومعجم المؤلفين (1/ 239).
(2)
الفصول في الأصول (1/ 251).
(3)
المصدر السابق (2/ 46).
(4)
المصدر السابق (4/ 9).
(5)
المصدر السابق (4/ 139).
(ت 478 هـ). والمعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي (ت 476 هـ)، والمنهاج في ترتيب الحجاج لأبي الوليد الباجي (ت 474 هـ). ومما يمكن أن يدخل في هذا المجال كتاب الجدل على طريقة الفقهاء لأبي الوفاء على ابن عقيل، وهو وإن كان قد توفي سنة (513 هـ)، لكن أغلب حياته العلمية كانت من معطيات القرن الخامس.
ومع كل هذا النضج في علم أصول الفقه، والتأكيد فيه على جوانب التعريفات والفروق فيما بين المفاهيم، لم نجد من أفرد الفروق بين القواعد والضوابط الأصولية في كتاب، كما فعلوا ذلك في الفروق بين المسائل الفقهية. ولعل ذلك يعود إلى وضوح القواعد والمصطلحات عند الأصوليين، وتميز بعضها عن بعض، بما قدموه لها من التعريفات، وبما اشتملت عليه محترازاتها من التمييز والفصل بين ما تشابه منها. ومن الممكن القول: إن الفروق كانت داخلة في ضمن المباحث الأصولية نفسها، فقلما تذكر العلة، مثلاً، دون ذكر السبب وما يختلف فيه كل منهما عن الآخر، أو يذكر السبب دون أن يفرّق فيما بينه وبين الشرط، أو يذكر الحكم التكليفي دون بيان ما يختلف به عن الحكم الوضعي، أو يذكر النسخ دون بيان ما يفترق به عن التخصيص، إن لم يكن بعنوان الفروق، ففي بيان ما تميز به كل منهما عن الآخر.
وتُعَدُّ المباحث الأصولية التي من هذا القبيل قليلةً جداً، وهي محصورة محدودة، بخلاف المسائل الفقهية الكثيرة والمتجددة على مر العصور. ولهذا لم يجد العلماء- على ما يبدو- ما يشجعهم على إفراد الفروق الأصولية في مباحث أو كتب خاصة.
وما ورد من ذلك كان قليلاً ومحدوداً، وأغلبه كان رسائل صغيرة
بمسائل معينة، ربما كانت مثار اختلاف أو جدل نتيجة اختلاط مفاهيمها عند بعض العلماء، وسنذكر طائفة منها في المطلب التالي.
ولعل كتاب أنوار البروق في أنواء الفروق لأبي العباس القرافي المتوفي سنة (684 هـ) هو الكتاب اليتيم الذي يُذْكر في هذا المجال، ولكنه كان متسع الجوانب متشعباً في فروقه، ولم يكن خاصاً في مجال الفروق بين المصطلحات الأصولية، وعدّ ما فيه فروقاً بين القواعد، أو فروقاً بين الأصول فيه ضرب من التساهل، إذ الكتاب – كما سنعلم ذلك من التعريف به- متنوع الموضوعات، جامع لمصطلحات تدخل في مجالات عدة، منها ما هي في الأصول، ومنها ما هي في الفقه، ومنها ما هي في مجالات أخر.
هذا ما يتعلق بالمجال الأول، أما المجال الثاني في التفريق بين الأصول، الذي هو بيان الفروق بين الأصول أو القواعد عن طريق بيان الفروق بين الأحكام، فيكون ذلك بردّ الخلافات في أحكام الفروع إلى أصول، يختلف بعضها عن بعض، فيما يترتب عليه من أحكام، ومن الممكن أن نجد في الكتب المؤلفة في تخريج الفروع على الأصول نموذجاً لها، في طائفة من الأحكام.
وقد ظهر هذا النوع من التفريق في القرن الرابع الهجري، وفق المعلومات المتوفرة لدنيا. إذ إن أقدم كتاب عرفناه واطلعناه عليه في هذا المجال هو كتاب (تأسيس النظائر) لأبي الليث السمرقندي الحنفي المتوفي سنة (373 هـ)(1). وفي القرن الخامس عرفنا كتاب (تأسيس
(1) هو أبو الليث نصر بن محمد السمرقندي الحنفي، الملقب بإمام الهدى، وهو من علماء الحنفية المشهورين، قال عنه القرشي:(هو الإمام الكبير صاحب الأقوال المفيدة والتصانيف المشهورة) توفي سنة (373 هـ)، وقيل سنة (393 هـ).
…
=
النظر) المنسوب إلى أبي زيد الدبوسي المتوفي سنة (430 هـ)(1). وهو كتاب مطابق لكتاب تأسيس النظائر للسمرقندي (ت 373 هـ)، عدا زيادة يسيرة في آخره.
ولم يُعْرَف لغير الحنفية. كتاب في هذا المجال قبل القرن السابع الهجري، إذ ألّف أبو المناقب الزنجاني المتوفي في سنة (656 هـ)(2)
= من مؤلفاته: تأسيس النظائر الفقهية، وكتاب عيون المسائل، وكتاب النوازل في الفقه، وتنبيه الغافلين وبستان العارفين.
راجع في ترجمته: الجواهر المضيّة للقرشي (1/ 544 و 545)، وتاج التراجم لابن قطلوبغا ص (79)، ومفتاح السعادة (2/ 142)، وكشف الظنون (1/ 334).
(1)
هو أبو زيد عبيد الله بن عمر بن عيسى الدبوسي البخاري الحنفي، نسبة إلى دبوسية قرية بين بخاري وسمرقند، من فقهاء الحنفية وأصولييهم. قيل: إنه أول من وضع علم الخلاف، وأبرزه للوجود. وكان يُضْرَب به المثل في النظر واستخراج الحجج. توفي في بخاري سنة (430 هـ)، وقيل سنة (432 هـ).
من مؤلفاته: تقويم الأدلة، والأنوار، وتأسيس النظر في الأصول، والأمد الأقصى في الحكم والنصائح.
راجع في ترجمته: الجواهر المضيّة (2/ 449)، ومفتاح السعادة (2/ 53)، وشذرات الذهب (3/ 246)، والفتح المبين (1/ 236)، ومعجم المؤلفين (1/ 467)، ومعجم المطبوعات العربية والمعرّبة (1/ 866).
(2)
هو أبو المناقب، وقيل أبو الثناء محمود بن أحمد بن بختيار الزنجاني الشافعي. كان بحراً من بحار العلم، كما يقول الأسنوي. برز في الفقه والأصول والتفسير والحديث. استوطن بغداد وتولى فيها القضاء مدة ثم عُزل. ودرّس في المدرسة النظامية والمستنصرية، واستُشهد ببغداد أيام دخول التتار بقيادة هولاكو سنة (656 هـ).
من مؤلفاته: السحر الحلال في غرائب المقال في فروع الشافعية، وتهذيب الصحاح للجوهري، وتخريج الفروع على الأصول.
راجع في ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى (5/ 154)، وطبقات الشافعية
…
=
كتابه (تخريج الفروع على الأصول)، وهو كتاب قيمٌ ونافع في بابه.
وفي القرن الثامن ألّف الأسنوي (ت 772 هـ) كتاب (التمهيد في تخريج الفروع على الأصول) وكتاب (الكوكب الدّري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية). ثم خمد هذا النوع من التأليف، حتى استجاب محمد بن عبد الله التمرتاشي الحنفي المتوفي سنة (1004 هـ)(1) إلى نداء الأسنوي (ت 772 هـ)، ودعوته علماء المذاهب الأخرى بأن يحذوا حذوه، ويؤلفوا على نمط كتابه (التمهيد) في مذاهبهم، فألف كتابه (الوصول إلى قواعد الأصول)، نحا فيه نحو الأسنوي، ونقل عنه الشيء الكثير، وجعل الجانب التطبيقي في مجال المذهب الحنفي. ولا شكّ أنّ هذا النوع من التأليف يُظهر الاهتمام فيه في جانب الاختلاف في القاعدة الأصولية وما ينبني عليها من الأحام، وليس الغرض منه بيان الفروق بين القواعد.
والذي دعانا إلى اعتباره ممثلاً لما يؤلف في الفروق الأصولية، أيضاً،
= للأسنوي (2/ 15)، والأعلام (7/ 161)، والفتح المبين (2/ 70)، ومعجم المؤلفين (12/ 148).
(1)
هو محمد بن عبد الله بن أحمد الخطيب التمرتاشي الحنفي. ولد بغزة وتلقى علومه في البداية على مفتي الشافعية فيها، ثم سافر إلى مصر أكثر من مرة، وتفقه على الشيخ زين الدين بن نجيم صاحب البحر وغيره. فارتفع ذكره، وقصده الناس للفتوى. توفي في غزة سنة (1004 هـ).
من مؤلفاته: تنوير الأبصار وجامع البحار، ومعين المفتي على جواب المستفتي، ومسعف الحكام على الأحكام، والوصول إلى قواعد الأصول، ورسائل كثيرة منها رسالة في النقود، وغيرها.
راجع في ترجمته: الأعلام (6/ 239)، والفتح المبين (3/ 86).
هو أنه قد يرد في المؤلفات التي من هذا القبيل، عند بيان اختلاف العلماء، ذكر بعض الفروق بين القواعد أو المصطلحات الأصولية، من خلال عرض الاختلاف في الأحكام، كالتفريق بين الصحيح والفاسد عند من يقول به، والواجب العيني والواجب الكفائي، والواجب الموسع والواجب المضيق، والفرق بين المكروه تنزيهاً والمكروه تحريماً، والفرق بين الحرام والمكروه تحريماً، وغيرها. فالفروق في الأحكام تقود إلى الكلام عن الفروق بين القواعد والأصول التي أدت إليها. وليس من المستنكر أن يقال إن عدّ مثل هذا ممثلاً للفروق بين القواعد الأصولية ضعيف، لكنه، مع ذلك، يظهر فيه مثل ذلك التمثيل، وإن كان قليلاً وضعيفاً وفي حاجة إلى تأويل، وإنما لجأنا إليه لشحة التأليف في هذا المجال. ولتوضيح ذلك نذكر فيما يأتي بعض الأمثلة التي ينكشف بها معنى ما نقول:
1 -
جاء في تأسيس النظر أن الرجل إذا أوجب على نفسه المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لا تلزمه حجة ولا عمرة عند أبي حنيفة، لأن اللفظ تناولها عن طريق العموم، وهو بخلاف ما لو أوجبهما أو أوجب أحدهما على نفسه على جهة الخصوص. أما صاحباه أبو يوسف (ت 182 هـ)(1) ومحمد بن الحسن (ت 189 هـ) فيوجبان
(1) هو أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي البغدادي، صاحب الإمام أبي حنيفة. من الفقهاء والأصوليين المجتهدين. وإلى جانب ذلك فهو محدّث وحافظ وعالم بالتفسير والمغازي وأيام العرب. تفقه على الإمام أبي حنيفة، وروى عنه محمد بن الحسن وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، تولى القضاء لثلاثة من خلفاء بني العباس هم: المهدي والهادي والرشيد. ودُعي بقاضي القضاة. توفي في بغداد سنة (182 هـ).
من مؤلفاته: كتاب الخراج، وأدب القاضي، واختلاف الأمصار، وكتاب البيوع،
…
=
عليه حجّاً أو عمرة، لأن البيت يدخل في الحرم في الذكر اللفظي العام، فصار كما لو ذكر بيت الله تعالى - نصاً- وفي هذا تفريق بين ما يتناوله اللفظ، في دلالته، عن طريق العموم، وما يتناوله عن طريق النص والخصوص.
ولو لم يكن هناك فرق ما اختلف الحكمان عند الاختلاف في هذا الأصل (1). وعلى ذلك بنوا مسائل كثيرة، منها: أنه إذا قال الرجل لامرأته: أنت عليّ كأمي ولا نية له فإنه لا يصير مظاهراً عند أبي حنيفة، وذلك لأن ظهر الأم إنما يدخل بطريق العموم، فلا يجعل كالمخصص به. وعند صاحبيه يصير مظاهراً (1).
2 -
ذهب الشافعي (ت 204 هـ) رحمه الله إلى أن الخارج النجس من غير السبيلين لا ينقض الوضوء، لأن النص ورد بخروجه من أحد السبيلين، خلافاً لأبي حنيفة (ت 150 هـ) رحمه الله الذي ذهب إلى أنه ناقضٌ للوضوء. ومن ذلك عدم إيجاب الكفارة فيمن أفطر في نهار رمضان عامداً بالأكل والشرب، لأن النص ورد بخصوص الجماع، خلافاً للحنفية الذين أوجبوها بذلك أيضاً. وهذا بناء على التفريق بين العلة المتعدية والعلة القاصرة، فالحنفية يمنعون التعليل بالقاصرة متى أمنت المتعدية، والشافعية يجيزون ذلك:
= وغيرها.
راجع في ترجمته: الجواهر المضيّة (3/ 111)، والفهرست ص (286)، وطبقات الفقهاء للشيرازي ص (134)، وأخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيمري ص (90)، والفتح المبين (1/ 108)، ومعجم المؤلفين (13/ 240).
(1)
انظر هذا الأصل والفروع المبنية عليه في تأسيس النظر ص (22 - 26).
وهذه الأحكام اقتضت التفريق بين العلل القاصرة (1). ومبررات تجويز التعليل بالقاصرة، مع إمكان المتعدية وعدم تجويزه عند عدم إمكان ذلك، وفي هذا نوع كلام في الفرق.
3 -
ذهب الشافعية إلى أن الإجارة الفاسدة لا تفيد ملك المنافع، وإلى أن بيع المكره وإجارته لا ينعقدان، وإلى أن العاصي بسفره لا يترخص ترخص المسافرين، وخالفهم الحنفية في ذل. والاختلاف في الأحكام، هنا، مبنيّ على التفريق بين الصحيح والفاسد، أو عدمه. فالشافعية الذين لم يفرقوا بينهما أبطلوا جميع هذه التصرفات، والحنفية الذين فرقوا بينهما اعتدوا بذلك بشروط وقيود (2).
والصحة والبطلان من الأحكام الوضعية، وهي من مباحث علم أصول الفقه.
4 -
فرّقت طائفة من العلماء بين ما هو فرضٌ من الأفعال وما هو واجب، ولم تجعلهما شيئاً واحداً، وبنت ذلك على الدليل الأصولي الذي يثبت به كلٌّ منهما. وفي هذا تفريق بين نوعين من الأدلة يختلف ما يترتب عليهما بناء على الاختلاف الواقع بينهما، فالفرض يثبت بالقطعي، والواجب يثبت بما هو دونه، إلى غير ذلك من الأمور.
(1) انظر الخلاف في ذلك، والفروع التي انبنت عليه في تخريج الفروع على الأصول ص (47) وما بعدها.
(2)
انظر ذلك في كتاب تخريج الفروع على الأصول ص (168) وما بعدها.