الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخيارات في البيع
الأصل في عقد البيع أنه إذا وُجدت أركانه وتحققت شروط أن ينعقد مبرماً، بحيث تنتقل ملكية المبيع إلى المشترى وملكية الثمن إلى البائع، وليس لأحدهما الخيار في نقض ما أبرم. إلا أن الشارع راعى مصالح المكلَّفين، وأن المتعاقد قد يكون استعجل بعض الشيء ولم يتروَّ في الأمر، ولذلك اعتبر انعقاد البيع لوجود أركانه وتحقق شروطه غير لازم، وأثبت لكل عاقد حق الخيار في إمضاء العقد أو فسخه، وذلك رفقاً به وحفاظاً على تمام رضاه بالعقد ورغبته به.
وقد أثبت الشّارع هذا الخيار للعاقد في أحوال ثلاثة اعتبرت أنواعاً للخيارات المشروعة، وهي: خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار العيب. وإليك بيانها مفصلة:
1 -
خيار المجلس:
والمراد به أن المتعاقدين كلاِّ منهما له حق الرجوع عن البيع - بعدما تم وانعقد صحيحاً - ما داما في المجلس الذي حصل فيه عقد البيع، ولم يتفرّقا عنه بأبدانهما.
فإذا تفرّقا عن مجلس العقد سقط الخيار وأصبح العقد لازماً، ويكفي في ذلك ما يسمى تفرقاً في العرف:
فلو كانا في دار كبيرة وخرج أحدهما من الغرفة إلى الصحن، أو بالعكس حصل التفرّق.
ولو كانا فيدار صغيرة كفى خروج أحدهما منها.
وإن كانا في سوق، أو صحراء، أو على ظهر سفينة ونحو ذلك، كفى أن يولِّي أحدهما ظهره للآخر ويمشي خطوات.
أما لو خرجا جميعاً أو تماشيا معاً فيبقى المجلس مستمراً، ولا يسقط الخيار.
وكذلك يسقط الخيار إذا اختار أحدهما أو كلاهما إبرام العقد ولزومه، بأن يقولا: أمضينا العقد أو اخترنا لزومه، وكذلك إذا خيَّر أحدهما الآخر كأن يقول له: اختر إمضاء البيع أو فسخه، فيكون ذلك إسقاطاً لخياره، فإذا اختار الآخر سقط خيار المجلس، لأنهما أسقطا حقاً أعطاهما الشارع إياه. فإن اختار أحدهما ولم يختر الآخر سقط الخيار في حق من اختار، وبقي في حق من لم يختر.
والأصل في كل ما سبق: قوله صلى الله عليه وسلم " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر "(أخرجه البخاري في البيوع، باب: إذا لم يوقت في الخيار .. ، رقم 2003. ومسلم في البيوع، باب: ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، رقم: 1531).
ودلّ على أن المقصود بالتفرّق التفرق بالأبدان - على ما ذكرنا - تفسير ابن عمر رضي الله عنهما له بفعله، وهو راوي الحديث، فقد روى مالك عن نافع رحمه الله تعالى قال: وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا اشترى شيئاً يُعجبه فارق صاحبه. (انظر البخاري: البيوع، باب: كم يجوز الخيار، رقم: 2001)
وعنه رضي الله عنه قال: بِعْتُ من أمير المؤمنين عثمان مالاً بالوادي بمالٍ له بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته، خشية أن يرادني البيع، وكانت السُّنَّةُ أنّ المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا (انظر: البخاري: البيوع، باب: إذا اشترى شيئاً فوهب من ساعته
…
، رقم: 2010).
2 -
خيار الشرط:
وهو أن يشترط بأحد المتعاقدين أو كُلُّ منهما: أن له الخيار - أي حق فسخ العقد - خلال مدة معلومة. ويمكن أن يشترط ذلك مع العقد، ويمكن أن يشترط بعده، ولكن قبل مفارقة مجلس التعاقد. وسمي خيار الشرط لأن سببه اشتراط العاقد.
ويشترط فيه:
1 -
أن يكون لمدة معلومة، فإن قال: لي الخيار، ولم يحدد مدة لم يصح، وكذلك
لو حدّد مدة مجهولة، كقوله: بعض يوم، أو: إلى مجيء فلان، ونحو ذلك.
والصحيح أنه يبطل البيع في هذه الحالة، لما في ذلك من الغرر والجهالة.
2 -
أن لا تزيد المدة على ثلاثة أيام، إذا كان المبيع لا يفسد خلالها، لأن الحاجة لا تدعو إلى التروِّي أكثر من هذه المدة غالباً. فإن زاد على ذلك ولو لحظة بطل البيع، وكذلك يبطل البيع إذا كانت المدة يفسد المبيع خلالها، ولو كانت أقل من ثلاثة أيام.
3 -
أن تكون المدة متوالية ومتصلة بالعقد، فلو شرط الخيار ابتداءً من التفرق، أو في أيام معينة غير متوالية أو غير مبتدأة من العقد لم يصح الشرط، وبطل العقد، لأنه شرط فيه ما ليس من مقتضاه، وما لم يرد به الشرع.
والدليل على ما سبق: حديث حِبّان بن منقذ رضي الله عنه، وقد شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يُخدع في البيوع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا بايعت فقلْ: لا خلابة " وفي رواية: " ولي الخيار ثلاثة أيام ". (انظر: البخاري: البيوع، باب: ما يكره من الخداع في البيع، رقم: 2011. والبيهقي: 5/ 273).
[والخلابة: معناها الغبن والخداع].
قال العلماء: الحديث صريح في إثبات الخيار لحبّان رضي الله عنه، بائعاً كان أو مشترياً، ولا دليل فيه على أنه خاص به وإن كان ورد بسببه، والعلماء يقولون: العبرة بعموم الفظ لا بخصوص السبب، فيكون الحديث عاماً يتناول كلَّ بيع، وكلَّ بائع ومشترٍ، إلا ما دلّ دليل آخر على عدم جواز الخيار فيه من البيوع، كبيوع الربا والسلم، كما ستعرف إن شاء الله تعالى في أبوابها.
اشتراط الخيار لأجنبي:
هذا وكما يصح للعاقد أن يشترط الخيار لنفسه يصحّ له أن يشترطه لأجنبي، أي لغيره ممّن لا صلة له بالعقد. وذلك لأن الخيار شُرع للحاجة والمصلحة، لدفع الغبن والضرر عن العاقد، وربما لا يتحقق ذلك لو كان الخيار له، لعدم خبرته، بينما يكون غيره أعرف بالمبيع، فتدعو الحاجة أن يشترط الخيار له. والصحيح في هذه الحالة أن الخيار يثبت لمن شُرِط له وهو الأجنبي، ولا يثبت للعاقد الذي شرطه.
متى يسقط الخيار؟
إذا اختار مَن له الخيار فسخ العقد، كأن يقول: فسخت البيع، أو قال البائع إذا كان الخيار له: استرجعت المبيع، أو قال المشتري: استرجعت الثمن، ونحو ذلك، انفسخ العقد عقد البيع.
بينما يلزم البيع إذا سقط الخيار، ويسقط خيار الشرط بالأمور التالية:
1 -
بانتهاء المدة المشروطة، فإذا انتهت المدة المشروطة ولم يفسخ العقد مَن له الخيار، سواء أكان البائع أو المشتري أو كليهما، فقد لزم العقد وسقط الخيار، ولا يحق لأحد فسخه بعد ذلك.
2 -
بإمضاء البيع وإجازته في مدة الخيار، كأن يقول مَن له الخيار: أجزت العقد، أو أمضيته، أو اخترت البيع.
3 -
بتصرّف من له الخيار بالمبيع تصرفاً لا ينفذ عادة من غير المالك، فيكون ذلك إجازة للبيع وإمضاءً له، وبالتالي إسقاطاً لخياره. وهذا إذا كان مَن له الخيار المشتري، فإذا كان المتصرف هو البائع كان تصرفه فسخاً للعقد.
حكم المبيع زمن الخيار:
1 -
ملكية المبيع زمن الخيار:
إذا كان الخيار للمتبايعين كانت ملكية المبيع موقوفة حتى يتبين الحال من فسخ العقد أو إمضائه، فإذا فسخ العقد تبيّن أن الملكية لم تنتقل من البائع. وإذا أمضي البيع وأُجيز تبين أن المبيع ملك للمشتري من تاريخ العقد، وأن الثمن ملك للبائع كذلك. وبالتالي يملك كل واحد منهما زوائد ومنافع ما تبين أنه ملكه من تاريخ العقد. والزوائد كثمر الشجر ولبن المواشي، والمنافع كأُجرة الدار والسيارة ونحو ذلك. وبالمقابل يكون على كل واحد منهما نفقة ومؤونة ما تبيّن أنه ملكه من تاريخ العقد، كعلف الدابة وإصلاح السيارة ونحو ذلك.
وإذا كان الخيار لواحد منهما كان المُلْك له، لأنه هو الذي يملك التصرّف دون غيره. وبالتالي كانت له المنافع والثمرات، وكانت عليه المؤونة والنفقات.
2 -
هلاك المبيع زمن الخيار:
إذا تلف المبيع في زمن الخيار يُنظر:
فإن كان قبل القبض، أي أن المبيع لا يزال في يد البائع، فإن البيع ينفسخ ويسقط الخيار، سواء أكان الخيار للمشتري أم للبائع، لعدم القدرة على تسليم المبيع، ويكون من ضمان البائع.
وإن كان الهلاك بعد القبض، أي في يد المشتري، فإن البيع لا ينفسخ، لدخوله في ضمان المشتري بقبضه له. كما أن الخيار لا يزال باقياً، سواء أكان للبائع أم للمشتري، لأن الحاجة التي دعت إليه - وهي الحفظ من الغبن - لا تزال باقية، فلمَن له الخيار حق إمضاء البيع وفسخه. فإذا أُمضى العقد وأُجيز وجب على المشتري ثمنه للبائع، لأنه تبين أنه ملكه. وإذا فسخ العقد وجب عليه رد مثله أو قيمته يوم التلف، ويسترد المشتري الثمن، لأنه تبيّن أنه لم يدخل في ملكه.
3 -
خيار العيب:
الأصل في تعامل المسلم مع غيره النصح وعدم الغش، لأن في ذلك أكلاً لأموال الناس بالباطل، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغش أشد تحذير حين قال:" من غش فليس منّا " ومن الغش أن يكون في المبيع عيب يعلمه البائع، فيكتمه عن المشتري ولا يبيِّنه له. يدل على ذلك سبب ورود الحديث المذكور، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ في السوق على صُبَرةِ طعام، فأدخل يدَه فيها، فنالت أصابعه بلَلاً، فقال:" ما هذا يا صاحب الطعام؟ " قال: يا رسول الله أصابْتُه السماءُ، فقال:" ألا جعلته فوق الطعام كيْ يراه الناسُ؟ من غش فليس مني "(أخرجه مسلم في الإيمان ن باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: من غشّنا فليس منا، رقم: 102. ولفظ " فليس منا " أخرجه في نفس الباب، رقم: 101).
[صبرة طعام: كومة من قمح ونحوه. أصابته السماء: أي المطر النازل من السماء]
فقد دلّ الحديث أن عدم بيان العيب غش، وأنّ من واجب البائع أن يظهر العيب الذي في المبيع ويبيّنه للناس، يؤكد هذا قوله صلى الله عليه وسلم:" المسلمُ أخو المسلم، ولا يحلُّ لمسلم باَع من أخيه بيعاً فيه عيب إلا بينه لهُ " (أخرجه ابن ماجه عن
عقبة بن عامر رضي الله عنه في التجارات، باب: مَن باع عيباً فليبَّينه، رقم: 2246).
ويلحق غير المسلم به استدلالاً بعموم الحديث الذي قبله، ولأن الأخلاق في الإسلام أخلاق ذاتية إنسانية، يجب التخلق بها مع المسلم وغيره.
وكما يجب على البائع بيان العيب يجب بيانه أيضاً على كل من علم به ولو كان غير المتعاقدين، لقوله صلى الله عليه وسلم:" لا يحلُّ لأحدٍ يبيع شيئاً إلا بَيَّنَ ما فيه، ولا يَحلُّ لمنْ يَعْلَمُ ذلك إلا بَيَّنَهُ ". (أخرجه الإمام أحمد في مسنده [3/ 491] عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.
فإذا حصل عقد البيع ولزم، وقبض المشتري المبيع ولم يُذكر له فيه عيب، ثم اطّلع بعد ذلك على عيب فيه كان البيع صحيحاً، وإنما يثبت للمشتري حق الخيار: بين أن يرضى بالمبيع على ما فيه، وبين أن يردّه على البائع فيفسخ البيع ويستردّ الثمن، طالما أنه لم يكن على علم بهذا العيب، لا عند العقد ولا عند القبض. ودليل ذلك:
1 -
حديث عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً ابتاع غلاماً، فاسْتغَلََّهُ، ثم وجد به عيباً فردّه بالعيب، فقال البائع: غَلّةُ عبدي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الغلة بالضَّمانِ "(أخرجه أحمد في مسنده [6/ 80]).
[ابتاع: اشترى. غلاماً: أي عبداً مملوكاً. غلّة عبدي: أي كسبه وأُجرة ما قام به من عمل. بالضمان: أي يستحقها ويملكها مَن كان ضامناً للسلعة حين حصلت].
ويُستدل لهذا أيضاً بحديث المصراة، وسيأتي عند الكلام عن بيع المصراة.
2 -
وكذلك يُستدل لهذا بالمعقول: فإن الأصل في البيع أنه على شرط السلامة، وأن المشتري ما بذل كامل الثمن إلا ليسلم له كامل المبيع، لتحصل المقابلة بين الثمن والمثمن، وتلك رغبة المشتري الذي رضي بالبيع. فإذا اختلّ شيء من ذلك بسبب العيب فقد فات مقصوده ولم يتحقق رضاه، فتثبت له حق الفسخ وردُّ المبيع واسترداد الثمن.
ويشترط لثبوت خيار العيب:
1 -
أن يثبت أن العيب قديم، أي قد حدث في المبيع قبل أن يقبضه المشتري، سواء أكان ذلك قبل العقد أم بعده، لأن المبيع قبل قبضه من ضمان البائع.
فلو حدث العيب بعد القبض فليس له حق الخيار، إلا إذا كان مستنداً إلى سبب سابق على القبض، كما إذا اشترى سلعة فظهر عليها الصدأ ثم تبين أنها قد تبللت بالماء قبل القبض، فللمشتري حق الرد، لأن العيب ترتب على سبب حدث عند البائع، فكأن العيب حدث عنده.
2 -
أن يكون العيب منقصاً لقيمة المبيع في عُرف التجّار، سواء أنقصت العين أم لم تنقص، لأن البيع معاوضة، والعبرة فيها للقيمة، والمرجع في اعتبارها التجار أصحاب الخبرة.
فإذا كان العيب ينقص العين ولا ينقص القيمة فلا يثبت حق الرد، إلا إذا كان النقص يفوت به غرض مقصود للمشتري، كمن اشترى شاة للأضحية، ثم تبيّن له أن بعض أُذنها مقطوع، فإنه يثبت له حق الرد، لأنها لا تجزئ في الأضحية. أما لو اشتراها لغير ذبح واجب عليه، أي للحمها، فلا يُعتبر العيب ولا يثبت له حق الرد، لأن قيمتها لا تنقص بذلك، ونقص عينها لا يفوِّت عليه غرضاً مقصوداً.
3 -
أن يغلب في جنس المبيع عدمه، كَمن اشترى سيارة من وكالتها، ثم تبين له اهتراء عجلاتها، فيثبت له حق الرد والفسخ بالعيب. أما لو اشتراها مستعملة ثم اطّلع على ذلك فلا يثبت له خيار العيب، لأن الغالب في المستعمل منها ذلك.
متى يكون الرد بخيار العيب؟
يثبت حق الرد بخيار العيب فور الاطّلاع على العيب، حسب العُرْف والعادة. فإذا علم به وهو يأكل أو يصلي فله تأخير الرد حتى الفراغ، أو في الليل فله التأخير حتى الصباح، فإذا أخَّر عن الوقت الذي كان يستطيع فيه ردُّه سقط خياره.
كذلك يسقط خياره لو استعمله بعد الاطلاع على العيب وقبل التمكّن من
ردّه. وذلك لأن تأخيره عن الوقت الذي تم فيه من ردّه، وكذلك استعماله له قبل التمكّن من الرد، دليل على اختياره للمبيع ورضاه به على ما فيه من العيب.
الزيادة في المبيع المعيب:
إذا قبض المشتري المبيع، ثم اطّلع على عيب قديم فيه بالشروط السابقة، وكان المبيع قد زاد عنده عمّا كان عليه عند العقد، فإن هذه الزيادة لا تمنع الردّ بالعيب. وإنما يُنظر:
فإن كانت الزيادة متصلة - كالسِّمَن للدابة والخياطة للثوب مثلاً - فإن شاء أمسكه وإن شاء ردّه، ولا شيء له في الحالين، لأن هذه الزيادة تبع للأصل ونماء للملك.
وإن كانت الزيادة منفصلة: فله ردّ الأصل دون الزيادة، لأنها حدثت على ملْكه وفي ضمانه، وقد مر بك قوله صلى الله عليه وسلم:" الغلة بالضمان " والغلة الزيادة مطلقاً من كسب وغيره.
العيب الطارئ على العيب القديم:
إذا اطّلع المشتري على عيب قديم في المبيع، وكان قد طرأ عليه عيب جديد بعد قبضه، سقط حقه في الرد القهري لى البائع، أي ليس له أن يجبره على الرد، وإنما ينظر: فإن رضي البائع بردّه على حاله ردّه، ورضي المشتري به على ما فيه أمسكه.
وإن لم يتراضيا: فإما أن يدفع المشتري عوضاً عن العيب الحادث ويردّه على البائع، وإما أن يدفع البائع عوضاً عن نقص العيب القديم للمشتري. فأيّهما اتفقا عليه ورضيا به جاز، لأن الحق لهما، فيعمل برضاهما.
فإن اختلفا - بأن طلب البائع الرد مع التعويض عن العيب الحادث، وطلب المشتري الإمساك بالمبيع مع التعويض عن العيب القديم، أو طلب المشتري الرد ويدفع العوض عن العيب الحادث، وطلب البائع إبقاء المبيع عند المشتري ويدفع العوض عن العيب القديم - فإنه يُجاب منهما مَن كان في طلبه إقرار العقد وإبقاؤه،
ففي الصورة الأولى يُجاب المشتري إلى طلبه، وفي الصورة الثانية يُجاب البائع.
ويستثنى من سقوط الرد القهري بالعيب الطارئ ما إذا كان العيب القديم لا يُعرف إلا به، كمَن اشترى ما مأكولٌه داخل قشره - كالبطيخ والرمان ونحوهما - وشرط سلامته والاطّلاع على ما في داخله، فإن له رد المبيع إذا ظهر فيه عيب قديم رغم العيب الجديد، إذا لم يكن زائداً عن الحاجة لمعرفته، لأن البائع قد سلّطه على إحداث هذه العيب.
شرط البراءة من العيوب:
لو شرط البائع على المشتري عند العقد: أنه بريء من كل عيب يظهر في المبيع صحّ عقد البيع، لأنه شرط يؤكد العقد ويقرره، إذ ينفي الرد والفسخ، كما يوافق ظاهر الحال من سلامة المبيع من العيوب.
وهل يسقط هذا الشرط خيار العيب، وبالتالي ليس للمشتري ردّ المبيع وفسخ العقد إذا ظهر فيه عيب قديم على ما قد علمنا؟.
والجواب أنه يُنظر:
فإن كان المبيع غير حيوان: فإن هذا الشرط لاغٍ، ولا يسقط حق الرد، ولا يبرأ البائع من أيّ عيب يظهر في المبيع ويُثْبت الخيار على ما سبق.
وإن كان المبيع حيواناً: فإنه يبرأ من كل عيب باطن في الحيوان، موجود عند العقد، ولم يعلمه البائع.
وذلك لأن الحيوان لا يخلوا غالباً من وجود عيوب خفية فيه، فكان للبائع الحق في أن يحترز عن المسؤولية عنها بشرط البراءة. وقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه باع عبداً له بثمانمائة درهم بالبراءة، فقال له المشتري: به داء لم تسمَّه لي، فاختصما إلى عثمان رضي الله عنه، فقضي على ابن عمر أن يحلف: لقد باعه العبد وما به داء يعلمه، فأبى أن يحلف وارتجع العبد، فباعه بألف وخمسمائة. وروى أن المشتري زيد بن ثابت رضي الله عنه وأن ابن عمر كان يقول: تركت يميناً لله، فعوضني الله عنها.
فدلّ قضاء عثمان رضي الله عنه على صحة البراءة في صورة الحيوان المذكورة، واشتهر قضاؤه بين الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكره عليه أحد، فكان إجماعاً.
فإذا كان العيب ظاهراً لم يبرأ منه لسهولة الاطّلاع عليه.
وكذلك إذا علمه البائع، لأن الواجب بيانه، وإلا كان غشّاً، ومثله لو جهله ولكن كان من السهل الاطلاع عليه.
كما لا يبرأ عما حدث بعد العقد وقبل بالقبض، لأن الشرط ينصرف إلى ما كان موجوداً عند العقد، ولو شرط البراءة عما يحدث لم يبرأ، لأنه إسقاط للشيء قبل ثبوته.