الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة المترجم
بين دفتي هذا الكتاب، الموضوع أصلا في اللغة الانكليزية بقلم عالم واسع الاطلاع، دقيق الملاحظة، محكم التفكير، عرض لإنتاج الفكر العربي السياسي في الحقبة الواقعة بين أوائل القرن التاسع عشر وبدء الحرب العالمية الثانية، يسبقه وصف موجز لأصول هذا الفكر وتطوره منذ انطلاق الدعوة الإسلامية، ويختمه رسم سريع لأهم اتجاهاته منذ الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا تقريبًا. وهو بحث علمي تحليلي مفصل وموضوعي، يتوخى اطلاع القارئ الانكليزي على تاريخ هذا الفكر، متجنبًا، على العموم، إصدار حكم عليه أو إبداء تعليق حوله.
ويتبين من هذا الكتاب أن مجهود العرب الفكري السياسي قد انصبَّ، في جميع مراحله هذه، على محاولة التوفيق بين نظرية الإسلام في الحكم، على مفهومها الإسلامي الأصلي، وبين التغيرات التي طرأت على واقع الحكم، في مختلف أطوار تاريخ «الأمة» الإسلامية، نتيجة لظروف وأحوال وأوضاع جديدة، مما أسفر، مع الزمن، عن توضيح، أو تفسير، أو تأويل، أو تطوير، أو تعديل، أو تبديل لتلك النظرية، ضمن إطار التقليد الإسلامي أو خارجه. وقد جرت هذه المحاولة وما أدت إليه من تطور في نظرية الحكم، طوال قرون عديدة، تدريجًا وببطء وهدوء وبشكل يكاد لا يلحظ، حتى جابه الإسلام فجأة، في أوائل القرن التاسع عشر، عالم أوروبا الحديث، فشعر المسلمون شعورًا حادًا بضرورة القيام بمحاولة جديدة للتوفيق
بين آخر ما كانت قد وصلت إليه النظرية الإسلامية في الحكم وبين هذا الحدث الجديد الكبير، أملًا بردّ تحديه المحرج الخطير. وهكذا نشأت حركة فكرية واسعة ونشيطة، جاء هذا الكتاب يبسط مجالها وتياراتها واتجاهاتها وتفرعاتها وأسبابها ونتائجها.
وفيما كانت هذه المحاولة آخذة مجراها الطبيعي وسائرة سيرها الحثيث، إذا بالعالم الغربي الحديث، بسرعة تفوق سرعتها. يحتاج العالم العربي بأفكاره ونظمه ومؤسساته، فيتخطى تلك المحاولة تخطيًا جعل الشق بين نظرية الإسلام في الحكم وبين واقع الحال يتسع ويعمق يومًا بعد يوم.
وكأن هذا السبق، الذي أحرزه التطور العملي في واقع البلدان العربية على التطور النظري في أفكار المحاولين ضبطه وتوجيهه. قد أدخل نوعًا من اليأس في نفوسهم من اللحاق على الصعيد النظري بهذا التطور العملي، فإذا بعزمهم يضعف، ويزخمهم يتراخى، وإذا بالتقاعس يدب في متابعتهم هذه المحاولة، فيتسلمها عنهم مفكرون «علمانيون» لم يكونوا، وإن مسلمين، ليمثلوا، على وجه الدقة، أصالة الدين الإسلامي أو لينطقوا باسمه. ذلك أنهم لم ينطلقوا، على ما يبدو من الإسلام نفسه لمجابهة التطور الحديث وتقييمه على ضوء مبادئ الإسلام ومقتضياته، بل انطلقوا، بالأحرى، من واقع التطور الحديث لتفسير الإسلام وتطويره وفقًا لمقتضيات هذا الواقع. فجاءت محاولتهم هذه كأنها غير صادرة عن صميم التقليد الإسلامي، وبدت، لذلك، غير مؤهلة للفعل فيه من الداخل، كمن له سلطان.
وهكذا، أمام هذا الفراغ العقائدي، وجد المسلم نفسه اليوم في وضع شاذ غريب وفريد من نوعه:
فهو يعيش. داخليًا، وفي ضميره ولاء للدولة المهتدية بهدي
الله، والمذعنة لأوامره ونواهيه، والمنفذة شرائعه على الأرض؛ وهو يعيش، خارجيًا، ضمن دولة دينها الإسلام، ومفروض فيها، لذلك، أن تجسد الدولة الإسلامية في سلطتها وحكمها ومؤسساتها وشرائعها. بينما هو يعيش، بالواقع، ضمن دولة كل ما فيها تقريبًا مستورد من مصدر غير إسلامي، قد يتلاءم مع الإسلام أو لا يتلاءم معه، لا بل قد يكون مخالفًا له في روحه وفي أسسه وفي أهدافه. فهل يستطيع هذا المسلم، وهو في شك على الأقل من «شرعية» هذه الدولة، أن يهبها ولاءه بلا تحفظ، فيضع مصلحتها فوق مصلحته، ويندفع في خدمتها بإخلاص وتفان، ويضحي في سبيلها بكل ما لديه؟ وإن هو فعل، أفلا يخامره الشك ويساوره الخوف من أن يكون فاعلًا ما قد لا يرضي الله، لا بل ما قد يستحق سخطه ويستدعي عقابه؟
قد يكون هذا التمزق الداخلي في وجدان المواطن سر الحالة المخيفة التي تتخبط فيها الشعوب العربية اليوم؛ وقد تكون القضية الأساسية الأولى المطروحة أمامها الآن إنما هي إعادة الصلة الروحية بين الحاكم والمحكوم، بين المواطن والدولة، بحيث يصبح بإمكان هذا المواطن، بلا تردد ولا تحفظ، لا بل باندفاع وغيرة وحماس، أن يطيع من يجب أن يطاع وأن يمنح الولاء لمن له الولاء.
كذلك قد يكون الاطلاع على المجهود العظيم الذي قام به في هذا السبيل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وغيرهم ممن انصرفوا إلى معالجة هذه القضية من داخل التيار الرئيسي للتقليد الإسلامي أو من خارجه حافزًا على استئناف هذه المحاولة الكبرى التي حاولها هؤلاء المسلمون العظام وعلى توسيعها وتعميقها والدفع بها إلى نتائجها المنطقية.
لهذا أقدمت على ترجمة هذا الكتاب.
أما بشأن هذه الترجمة، فقد توخيت الدقة في إداء أفكار المؤلف والمحافظة على طريقة تفكيره وتعبيره، أكثر مما توخيت الرشاقة والسلاسة التي يجب أن يتحلى بها الإنشاء العربي. وقد سهل مهمتي هذه الأستاذ الدكتور ماجد فخري، رئيس قسم الفلسفة في جامعة بيروت الأميركية، الذي تفضل، مشكورًا، بمراجعة النص العربي.
بيروت في 20 آب 1968
…
كريم عز قول