الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
الإمبراطورية العثمانية
الدولة الإسلامية (1)، في نظر ابن خلدون، ككل الدول المستقرة الفاضلة، مزيج من «الملك والشريعة» . وإن صح هذا في سلطنات زمانه، فهو يصح أيضًا في الإمبراطورية العثمانية التي كانت، بمعنى من المعاني، وريثة التطور الإسلامي السياسي بمجموعه، فقد كانت، قبل كل شيء، ملكية عائلية بولائها المقتصر على شخص، أو بالأحرى على مجموعة من الأشخاص، أي على أسرة. إن أحدًا لم يقل بعدم شرعية خلع السلطان حين يعتبره ويعلنه حراس الشريعة غير أهل للحكم، لكن الذين كانوا يحملون لواء العصيان لم ينكروا قط على آل عثمان، إلا في حالات شاذة نادرة، حقهم في الحكم. كانت دعامة هذا الحق فئة عسكرية تشد فيما بينها وتشحذ ولاءها عصبية طبيعية أو ما يعادلها. إلا أن كيان هذه الفئة قد تغير (كما لا بد لمثل هذه الفئات من أن تتغير وفقًا لنظرية ابن خلدون)، بعد أن استوت الأسرة الحاكمة ثابتة على عرشها. كانت في الأصل مؤلفة من أتراك أحرار المولد ومن مسلمين متحدرين من سلالات أخرى استتركوا. وكان هؤلاء، في البدء، خيالة السلاطين الأول وعلى يدهم تمت فتوحاهم. لكنهم، مع توسع الإمبراطورية، اتخذوا لأنفسهم مركز الطبقة المهيمنة، بعد أن منح السلطان زعماءهم حق استيفاء الخراج من أقاليم معينة والاحتفاظ به لقاء الخدمة العسكرية. وهكذا تحولوا من محاربين إلى ملاكين. لقد كان هناك، في البدء، وبقي مبدئيًا فيما بعد،
تمييز حاد بين «العسكر» و «الرعايا» ، أي بين الفئة العسكرية التي كانت منها تملأ مراكز الحكام، وبين أفراد الرعية الذين كانوا، مسلمين أو مسيحيين، يدفعون المكوس وهم محرومون من الاشتراك الفعلي في الحكم. بيد أن هذا التمييز أخذ يتضاءل مع الزمن. فالخيالة الإقطاعية تلاشت كقوة عسكرية. وإذ كانت الإقطاعات تنهار دون أن يخلف أصحابها أحد، اكتسب ملتزمو الأراضي حق استيفاء الخراج عوضًا عنهم، وغدوا بدورهم طبقة وراثية من الملاكين، وإن على نفوذ أضعف. وعلى أنقاض الخيالة التركية الحرة، قامت، في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، طبقة عسكرية جديدة، مؤلفة من فيالق العبيد التي كانت جزءًا من الجيش منذ أقدم الأزمان. إن هؤلاء العبيد، المتحدرين من أصل بلقاني، مسيحي أو قوقازي، كانوا قد وقعوا في حوزة الأتراك، إما بالمشتري أو بالتجنيد الدوري. ثم أخذوا يتدربون في المدارس العسكرية ومدارس القصر ويتخرجون منها، حسب مؤهلاتهم، جنودًا في الإنكشارية أو في فيالق أخرى، أو خدامًا في القصر، أو موظفين كبارًا في حكومة السلطان. وكانت هذه النخبة من العبيد، في أيام عزها، منعتقة من أواصر القرابة الدموية، إذ كانت قد فقدت روابطها الأصلية بالانخراط في الجندية أو باعتناق الإسلام أو بالتربية، ولم يكن بوسعها اكتساب روابط جديدة، لأن العبيد لم يكن يؤذن لهم بالزواج ما داموا جنودًا، وإذا تزوجوا، لم يكن لأولادهم الحق في أن ينخرطوا في سلك الجندية. إنما كانت قد نمت فيهم، عوضًا عن العصبية الطبيعية، عصبية جديدة، هي روح الجماعة المهنية مع ولائها لعرش السلطان.
إلا أن الولاء الديني كان يدعم، منذ البدء، الولاء الناشئ عن الأواصر الدموية أو الروابط المهنية. فقد برزت الإمبراطورية إلى حيز الوجود كدولة محاربة تخوض غمار الجهاد على الحدود البيزنطية. وقد تمت فتوحاتها الأولى على حساب الإمبراطورية المسيحية. نعم،
لم يكن الدين المحرك الوحيد لسياستها الخارجية، إذ أنها تحالفت كما تحاربت مع دول مسيحية؛ إلا أن الصراع مع المسيحية هو ما حرك لنجدتها أولئك المتطوعين من الشعوب الإسلامية الأخرى الذين ذابوا مع الزمن، في جسم الفئة العسكرية التركية. وكان دين السلاطين وجنودهم في البدء مشوبًا بتصوف الحروفيين والبكتاصيين المنحرف الذي استمر يطبع إسلام عامة الشعب التركي بطابعه الخاص. لكن تمسك هؤلاء بالسنة برز بروزًا أشد، بعد أن اتسعت الإمبراطورية، وخاصة بعد أن استولت على مراكز الدين السني في مصر وسوريا، وجابهها عداء الشيعة المتمركزين في دولة الصفويين في بلاد فارس. لكن تمسكها هذا إنما كان بالسنة كما وصلت إليها نتيجة لتطور الأمة الطويل بكامله، ولم يكن، بأي معنى من المعاني، محاولة للعودة بالدين إلى بساطته الأولى على عهد الخلفاء الأولين. وكانت الدولة ترعى المدارس الخاصة بتلقين العقائد السنية، وتنشئ مدارس جديدة في إسطنبول، كما كانت تختار عددًا وافرًا من الموظفين من بين المتخرجين منها. وكانت، إذ تراقب الطرق الصوفية، تشملها أيضًا بحمايتها، فتمد قادتها بمعونة مالية، وتحيط أقطابها الروحيين بإجلال خاص. فقد بقي قبر جلال الدين الرومي في قونيا محجًا للزائرين، وأقيم لابن العربي في دمشق قبر رائع. إنما يجب القول هنا بأن عقائد المذاهب الرسمية وعقائد الصوفية كانت قد تصالحت في ذلك الحين، بالرغم من الفروقات بينها، وأن عددًا من العلماء كانوا ينتسبون إذ ذاك إلى بعض هذه الطرق.
ومع أن السلطان كان، على غرار إمبراطور المغول في الهند، أعظم حكام السنة والمدافع عنها ضد شاه الفرس، فلم تقم أية محاولة (حتى أواخر القرن الثامن عشر) ترمي إلى اعتباره خليفة بالمعنى الذي عرف به خلفاء محمد المباشرين. فالعلامة سيد مرتضى الزابدي (1732 - 1891)، الذي وضع شرحه لكتاب الغزالي «إحياء علوم الدين» في أواخر القرن الثامن عشر، لم يكن يشك
قط، وإن ساوره شيء من الأسف، في أن الخلافة قد زالت من الوجود. فهو يقول إن الخلافة إنما تنال بالاستحقاق، أما السلطنة فبالقوة. وإذا كان للخليفة، فضلًا عن الاستحقاق، قوة وعصبية تدعمانه، كان له أن يحكم، وإلا وجب أن يحكم السلاطين والأمراء باسمه. والواقع أن الخلافة لم تستمر، بعد فتح المغول لبغداد، إلا بالاسم، ثم «احتل أصحاب السلطان الأرض واختفى اسم الخلافة» . وقد أضاف الزابدي، بعد إيراد قول الغزالي «إن السلطة الآن إنما تتبع القوة» ، بقوله:«والعصبية أيضًا» ، منوهًا بأن الحال كانت هكذا حتى قبل زمن الغزالي، بل هكذا كانت منذ الأزل، وفقًا لما ذهب إليه ابن خلدون في «مقدمته» . ثم تمثل الزابدي على ذلك بفوز معاوية على علي (2).
ومع أن السلطان لم يكن خليفة، فإن الزابدي لم يلمح ولو تلميحًا إلى أنه ليس على المسلمين واجب الولاء والإخلاص الديني له. نعم، لم يكن حقه في الحكم متحدرًا بالتسلسل من خلافة الرسول، إلا أنه كان مرتكزًا إلى الحق الإلهي الذي يملكه أولئك الذين برهنوا عن شوكتهم الفعلية واستخدموها لرعاية مصالح الإسلام. فقد كان السلطان يدافع عن التخوم ضد النصارى والشيعة، ويحمي الأماكن المقدسة، وينظم الحج بعناية، ويجل الشريعة وحراسها، ويخضع في جميع أعماله وأحكامه خضوعًا مبدئيًا للشريعة. وكان المذهب الحنفي، من بين مذاهب الشرع الرئيسية الأربعة المقبولة، المذهب الوحيد المعترف به رسميًا من جانب الدولة. وكان المفتي الأكبر للمذهب الحنفي، شيخ الإسلام، رئيسًا للجهاز الديني، وكان له، بهذه الصفة، الحق في الاعتراض على أعمال الحكومة المخالفة للشرع. نعم، كان السلاطين، في الواقع، يسنون القوانين بالفرمانات، غير أن مجموعة قوانينهم كانت تعتبر، مبدئيًا، إما واقعة ضمن نطاق الشريعة أو سليمة في نظرها. وكان السلطان يصدرها، لا بحكم سلطته السياسية المستقلة، بل بحكم صلاحية
الاجتهاد التي أسندتها الشريعة للحاكم المدني. لكن من الأكيد أن سلطة الرقابة لم تكن كلها من جانب واحد. فقد وضع أكبر الفقهاء العثمانيين هذه القاعدة: على قضاة الشريعة أن يذعنوا لتوجيهات السلطان في قضاء العدل (3).
ومع أنه كان للسلطان ولكبير وزرائه وحكامه في الولايات دواوينهم لقضاء العدل، فالقضاة الوحيدون المعترف بهم رسميًا إنما كانوا قضاة الشرع. وبالواقع، كان العثمانيون أول من أعطى المحاكم الشرعية شكلها النظامي، وأخضع موظفيها لتنظيم رسمي. فالقضاة الذين يقضون بالشرع، والمفتون الذين يفسرونه، والأساتذة الذين يدرسونه في المدارس، وحتى موظفو الجوامع، كانوا كلهم منتظمين في هيئة رسمية لها رتبها المعروفة ونظامها التدرجي.
وكانت هذه الهيئة تشكل بالفعل جزءًا جوهريًا من جهاز الحكم، إلى جانب الهيئتين العسكرية والإدارية. وكان أفرادها يقومون بالواقع بدور ضروري، كصلة معنوية، وإلى حد ما، كصلة إدارية، بين السلطان ورعاياه، خاصة في الولايات الإسلامية العربية. فبواسطتهم كان السلطان يعلن أعماله وأحكامه على الشعب، كما كان بواسطتهم وحدهم يؤثر في «الرأي العام» المسلم. إلا أن هؤلاء كانوا، هم بدورهم، الناطقين باسم الرأي العام، لا يبلغون السلطان شكاوى مختلف فئات الأهالي فحسب، بل يسمعونه أيضًا صوت ضمير أهل السنة والجماعة. وكانوا يشتركون في النشاط السياسي في العاصمة وفي عواصم الولايات، كأن يفتوا مثلًا بما يبرر خلع الحكام، إلا أنهم لم يكونوا ليسهموا في الحركات الشعبية ضد السلطان، بل كانوا موالين له، يستدرون له ولاء الشعب. أما الطرق الصوفية، فقد لعبت أحيانًا، في الولايات التركية على الأقل، دور الأقنية التي يجرى فيها الاستياء الشعبي.
وسواء كان ذلك اختيارًا أو نتيجة للقيود الضرورية التي يفرضها حكم إمبراطورية شاسعة ومتنوعة، فقد كانت وظائف السلطان
عبارة عن تلك التي رسمها للحكام أصحاب النظريات السياسية المتأخرون لا المتقدمون. فالسلطان لم يفرض على الإمبراطورية حكمًا واحدًا، بل رتب مختلف الطبقات والعناصر فيها ونظمها بشكل يضمن لها العيش بسلام، ويسمح لكل منها بالإسهام كما ينبغي في استقرار المجموع وازدهاره.
كان الحكم قد وضع إطار النظام، بينما أقامت الشريعة جهاز الحقوق والواجبات. فكانت كل جماعة حرة، ضمن ذلك الإطار، أن تعيش وفقًا لمعتقداتها وعاداتها الخاصة بها. وما كانت الغاية، بالواقع، من القوانين الصادرة عن سلاطين العهد الذهبي (قانون نامه)، غير المحافظة على تلك العادات أو إحيائها عند الاقتضاء، وغير استبقائها ضمن حدود الشريعة.
لم تكن الإمبراطورية إذن جماعة واحدة بقدر ما كانت مجموعة من الجماعات، تفرض كل منها على أعضائها واجب الولاء المباشر لها. وكانت هذه الجماعات إقليمية أو دينية أو مهنية أو، إلى حد ما، خليطًا من الثلاث. غير أن الانقسام السياسي، وقد يجوز القول، الانقسام الكياني، في ما بينها، إنما كان انقسامًا بين العسكر والرعايا، أي انقسامًا بين الحكام والمحكومين، كما كان انقسامًا بين المسلم وغير المسلم. كانت الدولة، قبل كل شيء، دولة إسلامية سنية. وكان جميع المسلمين السنيين، دون سواهم، ينتمون انتماءً تامًا ومتساويًا إلى جسم الجماعة السياسي، وذلك بصرف النظر عن العرق أو اللغة. نعم، كانت هناك جماعات إسلامية أخرى، كالشيعة التي كانت تقطن ما هو الآن تركيا والعراق ولبنان واليمن. إلا أنه كان ينظر إليها شزرًا، نتيجة قرون طويلة من الحقد المذهبي، ونتيجة تجانسها الديني مع بلاد الفرس الشيعية. وقد كان السلطان العثماني، في حروبه مع شاه الفرس، يخشى أن يتحالف شيعة العراق القريبين جدًا من تخوم فارس مع هذه الدولة. أضف إلى ذلك أن شرعهم لم يكن معترفًا به. إلا أن إقامتهم في أماكن بعيدة
في الجبال والوديان وعلى حافة الصحراء، كانت تؤمن لهم بعض التساهل. فكانوا يعيشون جماعة مقفلة، تلتف حول مدنها المقدسة، وتأتمر بأمر الأعيان من علمائها. وكان في سوريا ولبنان وشمالي العراق فرق تفرعت عن الشيعة واقتبست مزيجًا من العناصر الغريبة عن الإسلام، كالدروز والنصيرية والإسماعيلية وغيرهم. فكانت هذه الفرق، على عدم الاعتراف بها كجماعات مستقلة، تأمل في التساهل معها أيضًا، ما دامت تعيش بعيدة عن مراكز الحكم وتدفع الضرائب المفروضة عليها.
أما الطوائف المسيحية واليهودية، فقد تمتعت، منذ سقوط القسطنطينية، بالاعتراف بها اعترافًا رسميًا أبرز. فقد أقرت السلطنة العثمانية، في ذلك الحين، للبطاركة الأرثوذكس والأرمن ولحاخام العاصمة الأعظم بأنهم ليسوا رؤساء طوائفهم الروحيين فحسب، بل رؤساؤها السياسيون أيضًا. أما الطوائف الأخرى، كالأقباط في مصر، والموارنة والنساطرة والسريان والأرثوذكس في لبنان وسوريا والعراق، فكانت على اتصال أقل بالحكام لإقامتها بعيدًا عن العاصمة. ومع ذلك فقد كان بطاركتها ينالون اعتراف السلطات بهم من وقت إلى آخر. وكان السلطان يقوم بتنصيب البطاركة والحاخامين رسميًا. وكان هؤلاء يتعاملون مع حكومته في جميع الشؤون العائدة لأبناء طوائفهم. وكان للقرارات والأحكام الصادرة عنهم في نطاق الطائفة صفة القانون النافذ. وكانوا مسؤولين عن استيفاء الضرائب. وكانت الحكومة نادرًا ما تتدخل في شؤون المسيحيين واليهود ما داموا يؤدون الضرائب بانتظام، وما داموا أيضًا لا يشكلون خطرًا بتحالفهم مع دول أجنبية. وكانت تسري عليهم، في الأحوال الشخصية والدعاوى المدنية، أحكام قانونهم الديني وعرفهم. إلا أنهم كانوا خاضعين في تصرفاتهم العامة لأحكام الشريعة الأخلاقية، مع العلم أن درجة تطبيق هذه الأنظمة بحقهم كانت تختلف من بلد إلى آخر، حسب مشيئة الحاكم أو حالة الشعور الشعبي. فكانت تطبق مثلًا في
دمشق بصورة أدق منها في حلب. وكان معظمهم يعيشون في أحياء خاصة من المدن والقرى. وبينما كان بعض المسيحيين يتعاطون الزراعة في بعض الأمكنة، كان معظم المسيحيين واليهود يقيمون في المدن ويختصون فيها ببعض التجارات والحرف والمهن. وكان بعضهم يحتل بالفعل مراكز نافذة، ويلعب دورًا جوهريًا في حياة الدولة، كصرافي القسطنطينية الأرمن، وصرافي بغداد اليهود، وعائلات حي الفنار اليونانية التي كانت تقوم بأعمال الترجمة في المفاوضات الأجنبية أو تحكم ولايات رومانيا.
أما في حقل التنظيم المهني، فكانت أهم المؤسسات نقابات التجار وأصحاب الحرف. ويرقى تاريخ هذه النقابات إلى ما قبل عهد العثمانيين بزمن طويل. ولما كانت، فيما يبدو، تتحدر من أصل إسماعيلي وعلى اتصال طويل بفرق الإسلام المنحرفة وبأصحاب الطرق الصوفية، فقد خشي من أن تشكل خطرًا على الدولة الحريصة على سنيتها. لذلك وضعت تحت مراقبة الحكومة الشديدة. وكان رئيس النقابة المحلي ينصب رسميًا ويعتبر مسؤولًا عن الحفاظ على ولاء أعضائها. إلا أن هذه النقابات كانت، ضمن هذه الحدود، تتمتع بالتساهل معها وتحتل بالفعل مركزًا اجتماعيًا محترمًا.
وعلى هذا الغرار، كانت القرية تشكل وحدة اجتماعية مسؤولة بمجموعها عن تأدية الضرائب وعن جرائم أعضائها. وكان يعترف رسميًا بشيخ القرية. كذلك كان يعترف رسميًا أيضًا برؤساء القبائل البدوية، أو على الأقل برؤساء تلك القبائل التي كانت على قرب كافٍ من الأماكن الحضرية يجعل من الممكن فرض رقابة ما عليها، مهما خفت. وكان الشيوخ ينصبون رسميًا أيضًا، ويقلدون ألبسة شرفية، ويمدون بالمساعدات المالية ليتركوا قوافل الحجاج أو التجار تمر بأمان. لكن الدولة كانت تقوم، عند الاقتضاء، بغارات تأديبية عليهم أو تحرض فئة أو قبيلة ضد أخرى. لقد كانت الإمبراطورية، قبل كل شيء، إمبراطورية مدن، ورثت
عن مجموع ماضيها الإسلامي العداء الحضري للبدو، معرقلي التجارة والزراعة، وأعداء العمران، والمرتع الأخير لعادات عصر الجاهلية الوثنية.
كانت الإمبراطورية تتسع، وباتساعها تضم، بشكل مبعثر وبلا انتظام، ولايات جديدة، كبرى وصغرى. وما حل القرن السادس عشر حتى تم الاعتراف بنظام الولايات واستقر على الشكل الذي استمر قائمًا في جوهره حتى القرن التاسع عشر. وقد قسمت الإمبراطورية إلى ولايات، يحكم كلًا منها حاكم أو باشا من رتب متفاوتة، مسؤول مباشرة أمام الحكومة المركزية. وكان هناك، مع بعض التغييرات من وقت إلى آخر، أربع ولايات في ما هو الآن العراق: البصرة وبغداد والموصل وشهرزور؛ وأربع في سوريا الجغرافية: حلب ودمشق وطرابلس وصيدا؛ واثنتان في غربي الجزيرة العربية: الحجاز واليمن؛ وأربع في شمالي إفريقية: مصر وطرابلس الغرب وتونس والجزائر. وكان الحاكم والموظفون المكلفون بإدارة الأقضية وجباة الضرائب وقضاة الشرع يوفدون من القسطنطينية لسنة واحدة مبدئيًا، لمنعهم من إلقاء جذور محلية لهم أو اكتساب أتباع محليين. إلا أن قادة الرأي المحلى كانوا أيضًا متشاركين مع الحكومة. فديوان الولاية كان يضم على العموم، فضلًا عن الموظفين والقواد العسكريين، كبار العلماء المحليين الذين كانوا يشغلون عادة معظم المراكز الدينية ما عدا منصب القاضي، كما قد يضم أيضًا ممثلين عن الأعيان (أي الوجهاء المحليين الذين اكتسبوا نفوذًا بواسطة الالتزام الزراعي أو بوسائل أخرى وحصلوا تدريجًا على اعتراف رسمي من الحكومة كممثلين محليين (4)، وعن التجار والنقابات والطرق الصوفية).
أما في الولايات البعيدة، فلم يمض زمن طويل حتى مالت كفة الميزان إلى ترجيح العناصر المحلية على العناصر المركزية. ففي بلدان شمالي أفريقيا، تحررت الفيالق العسكرية المحلية من رقابة الدولة
الفعلية وحكمت بنفسها المقاطعات التي كانت في حوزتها، شريطة دفع الجزية للسلطان. ففي مصر، بقي الباشا الموفد من القسطنطينية الحاكم الشكلي، بينما كان المماليك قد استعادوا نفوذهم وأصبح زعماؤهم الحاكمين الفعليين. وأبعد من ذلك غربًا، نشأت، بفضل نفوذ الميليشيا، أسر حاكمة محلية اعترفت بها الحكومة المركزية. وقد أدى هذا التغير، بصورة غير مباشرة، إلى ازدياد نفوذ العلماء المحليين الناطقين بلسان أبناء البلاد الأصليين، خاصة في القاهرة وتونس، حيث لعب جامعا وجامعتا الأزهر والزيتونة دور مراكز التجمع. أما في الحجاز واليمن، فقد كان التغير أبعد شأنًا، إذ تجمع النفوذ، خارج المدن الساحلية التي كانت مركز الحكم التركي، في أيدي عائلات محلية استمدت نفوذها من الحرمة التي كان الأتقياء يحيطونها بها، كعائلات أشراف مكة في الحجاز، حراس الأماكن الحرام المنتسبين إلى عائلة النبي، وأئمة الشيعة الزيدية في اليمن.
أما الولايات السورية والعراقية، فقد جعل ارتباطها بالحكومة المركزية أوثق، على الأقل في أوج المجد العثماني، إذ كان لها من الأهمية ما لم يسمح لها بالتفلت: فدمشق كانت مركز تنظيم الحج، أعظم مظهر من مظاهر السنة العثمانية، وحلب مركز التجارة الدولية، وبغداد قاعدة الدفاع عن حدود الإمبراطورية ضد الفرس. إنما لم يكن بالفعل واقعًا تحت سلطة الدولة إلا المدن الكبرى والساحل ووديان الأنهار والسهول المجاورة للمدن. أما في جبل لبنان وشمالي فلسطين وفي الكردستان شمالي العراق، فقد تركت دفة الأمور في أيدي أسر محلية، كان بعضها قد اكتسب ولاء سكان الوديان قبل الفتح العثماني. غير أن حريتها لم تكن خالية تمامًا من القيود. فقد كان عليها أن تدفع الجزية، وأن لا تتخطى حدودها إلى السهول. وكان حكام الولايات المحيطة بها يراقبونها بصورة خفية. إلا أن سلطتها كانت، ضمن هذه الحدود، مقبولة لا بل معترفًا بها. أما في كردستان، التي كانت قد وقعت في أيدي العثمانيين في القرن السادس عشر، فقد عقدت الحكومة
العثمانية يومذاك اتفاقًا مع الأمراء المحليين تعهد به هؤلاء بحراسة الحدود الفارسية مقابل الاعتراف لهم بمركزهم الوراثي. فانتظموا في نظام الولايات وفي نظام «إقطاعية» الملاكين، كما انتظم أمراء لبنان وفلسطين في الترتيب الهرمي للملتزمين الذي نشأ فيما بعد، واعتبروا جباة للضرائب في أقضيتهم مع حق ضمني لهم في الحكم.
لم تعترف الحكومة العثمانية، ولا أي دولة إسلامية، بالتفرقة العنصرية، بعد تلاشي التمييز الأول بين العرب وبين معتنقي الإسلام من غير العرب، وقبل نشوء القومية الحديثة. إلا أنه كان هناك بعض التمييز في وظائف اللغات، وإلى حد ما بين الفئات اللغوية: فقد كانت اللغة التركية لغة الحكومة والجيش، واللغة العربية لغة الدراسة والشريعة، واللغة الفارسية لغة الآداب. وكان دور العرب الخاص معترفًا به حقًا إلى حد ما. فكان الأشراف المتحدرون من سلالة النبي يشكلون هيئة مستقلة تتمتع بامتيازات مالية وشرعية، وكانوا منتظمين في كل ولاية تحت قيادة النقيب، وكان نقيب القسطنطينية يعتبر من أكابر الإمبراطورية.
حيثما حل الإسلام حل معه الشعور بدور العرب الخاص في التاريخ. فالنبي كان عربيًا، والقرآن نزل باللغة العربية، والبدو الأعراب كانوا «مادة الإسلام» ، أي وسائله البشرية لفتح العالم. وقد استمر وعي العرب «القومي» هذا، لا بل ازداد، بفضل العناية التي كان السلاطين العثمانيون يحيطون بها المدارس السنية والشرع.
لكن هذا الوعي لم يتجل في النزعة نحو وجود سياسي منفصل، بل ظهر في الاعتزاز باللغة والثقافة والأجداد وفي الشعور بالمسؤولية نحو الإسلام. وعلى هذا الشكل تزعمه ونطق باسمه العلماء المحليون، وبوجه أعم، العائلات الكبرى في مدن الولايات، تلك العائلات التي صانت تقاليد الدراسة الدينية، واللغة العربية وعلومها، وذكريات ما قام به العرب في سبيل الإسلام.