المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السابعالإسلام والمدنية الحديثة - الفكر العربي في عصر النهضة

[ألبرت حوراني]

الفصل: ‌الفصل السابعالإسلام والمدنية الحديثة

‌الفصل السابع

الإسلام والمدنية الحديثة

انطوى تفكير محمد عبده على توتر دائم بين أمرين، لا يمكن فهم أحدهما فهمًا تامًا بالاستناد إلى الآخر، لكن لكل منهما مطلب خاص به لا مفر منه: الإسلام الذي يذهب إلى أنه يعبر عن مشيئة الله في باب قواعد سلوك الإنسان في المجتمع، وحركة المدنية الحديثة التي لا مرد لها، المنطلقة من أوروبا، والآخذة الآن في الانتشار عالميًا، والتي تفرض على الإنسان بطبيعة مؤسساتها تصرفًا معينًا. وكان هدف محمد عبده أن يبرهن، بشرحه ما هو الإسلام الحقيقي، أن المطلبين غير متناقضين. وقد أراد أن يثبت ذلك لا مبدئيًا فحسب، بل عمليًا أيضًا، بتحليل دقيق لتعاليم الإسلام في الخلقية الاجتماعية. إلا أنه لم يعتقد يومًا أن بين الاثنين توافقًا مطلقًا، أي أن الإسلام يرضى عن كل ما يرضى عنه العالم الحديث، بل كان يعلم بوضوح لأي منهما الأولوية عند نشوء خلاف حقيقي بينهما. ذلك أنه رأى أن في الإسلام عناصر ثابتة غير قابلة للتحول، هي تلك الأوامر الخلقية والعقائدية التي لا مجال للمساومة عليها. فالإسلام لم يكن، عنده، مجرد ختم تمهر به أفعال العالم، مهما كانت، بطابع الشرعية، بل إنما هو دومًا عنصر رقابة وردع. بيد أن التوتر بين الإسلام والمدنية الحديثة كان بحد ذاته توترًا دقيقًا، وكان من الصعب، كما رأينا، تعيين الحدود بين طرفيه، فنشأت نزعة دائمة لتخفيف حدته بمحاولة شبه واعية للتوفيق بين وصايا الإسلام ومفاهيم الفكر الحديث.

ص: 198

لم يكن تأثير محمد عبده شاملًا، وإن كان أشد من تأثير أي مفكر مسلم في زمنه. غير أن هناك، على أيامه وبعدها، من كان يقول بأن التنازلات التي قام بها للفكر الحديث خطرة وغير ضرورية، وبأن إعادة النظر في العقيدة والشريعة، كما كان محمد عبده يرتأى، لم تكن أمرًا لا بد منه. لا بل كان هناك، حتى بين الذين تأثروا به وكان من حقهم الادعاء بأنهم من تلاميذه، من كانت عقليتهم على خلاف عقليته. كانت مؤلفاته تضبطها معرفته العميقة بالعلوم الإسلامية التقليدية، وما هو أهم من ذلك، شعوره الحاد بالمسؤولية تجاه الإسلام. إلا أنه كان من شأن الخطة التي اتبعها أن توقع في التجربة أولئك المفكرين من ذوي النزعة الجدلية الذين حرصوا على الدفاع عن سمعة الإسلام أكثر مما حرصوا على اكتشاف حقيقته وتوضيحها، أعني بها تجربة الادعاء بأن الإسلام هو كل ما يوافق عليه العالم الحديث، وبأنه ينطوي ضمنًا على كل ما يظن العالم الحديث أنه من اكتشافه. ومثال على هذا النوع من الكتابات الجدلية كتاب محمد فريد وجدي:«المدنية والإسلام» . فمن عنوان الكتاب يظهر معناه: فالمؤلف وسائر الكتاب المنتمين إلى مدرسة محمد عبده اهتموا بأمرين خطيرين ومستقلين: الإسلام بحقائقه وشرائعه الموحى بها من الله، والمدنية بقوانينها المكتشفة بفضل علم الاجتماع. لكن ما العمل عندما يظهر تناقض بين الاثنين؟ وقد أجاب محمد عبده على هذا التناقض بقوله إن المدنية الحقيقية مطابقة للإسلام. أما في كتاب وجدي، فإننا نرى تغييرًا دقيقًا في اللهجة واختلافًا في نواحي التشديد يؤديان ضمنًا إلى القول بخلاف ذلك. أي أن الإسلام الحقيقي مطابق للمدنية. فوجدي يقر أوروبا على ادعائها بأنها اكتشفت قوانين التقدم والسعادة الاجتماعيين، لكنه يذهب إلى القول بأن هذه القوانين هي أيضًا قوانين الإسلام. لكن ما هو الإسلام؟ الإسلام، في نظره، هو، قبل كل شيء، وجود علاقة مباشرة بين الإنسان وخالقه، بمعزل عن توسط

ص: 199

الكهنة واستبدادهم! ولكن ليس هذا كل الإسلام: فهو أيضًا المساواة بين البشر، ومبدأ الشورى في الحكم، وحقوق العقل والعلم، ووجود نواميس طبيعية ثابتة للحياة الإنسانية، والتطلع الفكري إلى معرفة نظام الطبيعة، وحرية المناقشة والرأي، ووحدة الجنس البشري العملية على أساس التساهل المتبادل، وحقوق الإنسان في ميوله ومشاعره، والاعتراف بخير الإنسان ومصلحته كغاية نهائية للدين وكمبدأ للتقدم.

في مثل هذه المؤلفات «يذوب» الإسلام في الفكر الحديث، إذا جاز التعبير. لكن هناك أتباع آخرون لمحمد عبده احتفظوا بعقليته وطبقوا خطته بمثل ما كان يشعر به من مسؤولية. لقد أدخل محمد عبده تعديلاته على تعاليم الإسلام حول الخلقية الاجتماعية، متوسعًا بتحفظ في بعض المبادئ التي كان معترفًا بها في التفكير الإسلامي من قبل. ويظهر مقدار مهارة سواه في تطبيق هذه الطريقة في كتاب مفعم بروحه، وإن كان قد صدر بعد أربعين عامًا من وفاته، هو تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، وضعه ومصطفى عبد الرازق. كان هذا ابن زميل سياسي لمحمد عبده، تلقى دروسه أولًا في الأزهر، ثم في السوربون على يد دوركهايم، وبعد سنوات صار أستاذًا للفلسفة في الجامعة المصرية، وعين الفترة قصيرة وزيرًا، ثم شيخًا للأزهر في 1945، حيث قام بإحدى تلك المحاولات اليائسة لإصلاحه، إلى أن توفي في 1947. وقد وضع عبد الرازق كتابه المشار إليه، على غرار كتب محمد عبده، ضمن إطار عقلانية القرن التاسع عشر، وطيف رينان أمامه. يبدأه بدحض ما زعمه رينان من أن الفلسفة الإسلامية لم تكن إسلامية ولا عربية بأي معنى جوهري، ثم يؤكد المركز الرفيع الذي يحتله العقل في الإسلام، ويحاول إثبات ذلك بتحليل علمي لمكانة الرأي في الفقه الإسلامي، مع التوسع في معناه بقدر ما يستطاع دون تحوير أو تشويه لتاريخ الإسلام، مستشهدًا في ذلك بالمفكرين المسلمين منذ

ص: 200

عهد النبي، وبالنبي نفسه الذي استعان بالرأي وسمح لصحابته بأن يتذرعوا به (1). وهو يعالج المصادر التاريخية بدراية، ويعتمد مفهوم التطور التاريخي، مما يدل على تأثير الدراسة الأوروبية فيه. لكن هذا التأثير بقي منضبطًا بإحساسه بما هو الإسلام بالفعل وبما كان عليه من قبل.

على أنه ظهر، لدى الذين حاولوا الحفاظ على التوتر الذي أبرزه محمد عبده، تحول تدريجي في العلاقة بين عنصريه. فعبده لم يضع بالحقيقة نظرة نهائية في الإسلام تصلح لأن تكون طريقة للنظر إليه وإلى العالم، ولو فعل لخلق نوعًا جديدًا من التقليد. فكان من الطبيعي أن يهتم بعض أتباعه بناحية من تفكيره، وبعضهم بناحية أخرى. فنتج عن تشديد كل منهم تشديدًا زائدًا على ناحيته اختلال في التوازن الذي أقامه محمد عبده. وهكذا اتجه فريق من أتباعه، في السنوات التي تلت وفاته وبتأثير من إلحاحه على جوهر الإسلام الثابت ومتطلباته المطلقة، اتجاهًا شبيهًا باتجاه «السلفية» الحنبلية، بينما قام فريق آخر بتحويل إلحاحه على شرعية التغيير الاجتماعي إلى فصل الدين عن المجتمع والاعتراف لكل منهما بقواعد خاصة به.

وفي 1899، نشر قاسم أمين (1865 - 1908)، أحد أتباعه المصريين، كتابًا صغيرًا في تحرير المرأة. كان قاسم أمين من أصل كردي ذا تربية فرنسية. وقد عمل قاضيًا وكاتب مناسبات في القضايا الاجتماعية، فاشتهر بعض الشيء. لكن هذا الكتاب زاده شهرة. وقد انطلق فيه من المسألة المألوفة: انحطاط الإسلام، لكن بحسب مفهوم الداروينية للانحطاط. فزعم أن الأمة الإسلامية في تدهور، وأنها أضعف من أن تجابه الضغوط التي تشد عليها من مختلف الجهات، وإنها إذا بقيت على ضعفها فلن تتمكن من البقاء في عالم تسوده قوانين «الانتقاء الطبيعي» (2). لكن ما هي أسباب الفساد؟ وعلى هذا السؤال لا يقبل تقاسم أمين بأي من الأجوبة

ص: 201

المألوفة. فهو يرى أن الفساد لم ينجم عن البيئة الطبيعية، إذ قامت في بعض العهود مدنيات مزدهرة في هذه البلدان نفسها، كما أنه لم ينجم عن الإسلام، إذ أن تدهور الإسلام هو نفسه نتيجة لا سبب لتدهور القوة الاجتماعية. إن السبب الحقيقي للفساد إنما هو، في نظره، زوال الفضائل الاجتماعية، أي زوال «القوة المعنوية» . وما سبب ذلك إلا الجهل، جهل العلوم الحقيقية التي منها وحدها يمكن استنباط قوانين السعادة البشرية. ويبدأ هذا الجهل في العائلة. فالعلاقة بين الرجل والمرأة، وبين الأم والولد، إنما هي أساس المجتمع، والفضائل القائمة في العائلة هي ذاتها الفضائل التي تستمر في المجتمع. وما دور المرأة في المجتمع إلا «إصلاح أخلاق الأمة» (3). وفي البلدان الإسلامية لم يرب الرجال ولا النساء التربية اللازمة لإنشاء حياة عائلية حقيقية (4)، والمرأة لا تتمتع بالحرية والمكانة اللازمين للقيام بدورها.

لكن أليس هذا، بدوره، مرده إلى الإسلام؟ كلا، يجيب قاسم أمين. فالشريعة الإسلامية هي أول قانون ساوى المرأة بالرجل، إلا في حالة تعدد الزوجات، وهي حالة نشأت عن أسباب قاهرة. لذلك فإن الفساد في الإسلام إنما جاء من الخارج، مع أولئك الذين اعتنقوه وجلبوا إليه «عاداتهم وأوهامهم» ، فهدموا النظام الإسلامي الأصلي للحكم الذي حدد واجبات الحكام والمحكومين، واستعاضوا عنه بحكم القوة العاتية، فتفشى في المجتمع بكامله احتقار القوي للضعيف وامتهان الرجل للمرأة (5).

إن جوهر القضية الاجتماعية هو إذن مركز المرأة. وهذا المركز لا يتحسن إلا بالتربية. ولم يقترح قاسم أمين أن تثقف المرأة تثقيفًا عاليًا كالرجل، إذ آثر الاعتدال والحذر في هذا الأمر. وإنما نادى بأن لا يقل تحصيلها عن التعليم الابتدائي، لتتمكن من إدارة منزلها كما ينبغي، وتلعب دورها في المجتمع. وهذا التعليم ينبغي أن يشتمل على القراءة والكتابة وعلى بعض مبادئ العلوم الطبيعية والخلقية

ص: 202

والتاريخ والجغرافيا وعلم الصحة والفيزيولوجيا، فضلًا عن التربية الدينية والتدريب الرياضي وتثقيف الذوق الفني أيضًا (6).

لكن على التربية أن لا تقتصر على العناية بتدبير المنزل، بل عليها أيضًا أن تتوخى غاية أخرى، وأهم، هي إعداد المرأة لكسب الرزق، إذ في هذا تكمن الضمانة الأكيدة الوحيدة لحقوق المرأة: فما لم تكن المرأة قادرة على إعالة نفسها، تبقى تحت رحمة استبداد الرجل، بصرف النظر عن أي حقوق تمنحها إياها الشريعة، وتضطر للجوء إلى وسائل ملتوية لضمان سلطتها. فالتربية تقضي على الاستبداد وتقضي بذلك على الحجاب وخدر المرأة. وهنا أيضًا يعالج قاسم أمين موضوعه بحذر. فهو لا يريد إلغاء الخدر بحد ذاته، إذ أنه ضروري، في شكل معين، لصيانة الفضيلة، بل ينبغي بالأحرى إعادته إلى ما نصت عليه الشريعة (7). فعلينا، إذن، قبل كل شيء، أن نتساءل عما يقوله القرآن والشريعة في هذا الصدد. وإذا ما فعلنا، فإننا لا نجد تحريمًا عامًا ومطلقًا لسفور النساء، بل نرى أن هذا الأمر قد ترك للمناسبة والعادة. ومن الواضح أنه لا يمكن للمرأة أن تمارس حقوقها وتقوم بدورها في المجتمع من وراء الحجاب. فكيف يمكنها مثلًا أن تعقد العقود وأن تلاحق القضايا الحقوقية؟ إن الحجاب لا يصون الفضيلة، وإنما قد يثير الشهوة الجنسية (8). كذلك لم يتعرض القرآن للخدر إلا بشأن نساء محمد. وبما أن لا نص صريح في الموضوع، توجب، كما رأى محمد عبده، تقرير هذا الأمر وفقًا للخير العام. ولا شك أن للخدر مضاره الاجتماعية وشروره. فهو يمنع المرأة من أن تصبح كائنًا كاملًا، إذ أن المرأة لا تكون كاملة ما لم تتصرف بنفسها، وتتمتع بالحرية التي منحتها إياها الشريعة والطبيعة، وما لم تنم طاقاتها إلى أقصى درجة (9). والخدر، من ناحية أخرى، يقوم على عدم ثقة الرجل بالمرأة. فالرجل لا يحترم المرأة، حين يقفل عليها الأبواب، لظنه أنها ناقصة إنسانيًا. لقد جردها من مزاياها الإنسانية وحصر وظيفتها في أمر واحد هو تمتعه بجسدها (10). وهذا

ص: 203

الاحتقار للمرأة أساس تعدد الزوجات أيضًا. فما من امرأة ترضى بأن تتقاسم الرجل مع امرأة أخرى. وإذا تزوج رجل امرأة ثانية، فلا يكون ذلك إلا لتجاهله رغبات الزوجة الأولى ومشاعرها (11). نعم، يجوز تعدد الزوجات في بعض الحالات، كأن تصاب الزوجة بالجنون أو تكون عاقرًا. لكن على الرجل أن يكون شهمًا أو صبورًا، فلا يمارس حقه في مثل هذه الحالات. ولا يمكن إنكار أن القرآن أجاز تعدد الزوجات بصراحة. غير أنه، إذ أجازه، حذر من أخطاره. فالسورة القرآنية تقول:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (12). وهنا يحذو قاسم أمين حذو الطهطاوي ومحمد عبده في التشديد على هذا الشرط، والتنويه بأن الرجال لن يعدلوا أبدًا. أما الطلاق فهو جائز عند الضرورة، إلا أنه غير محبذ بحد ذاته. ومن الأفضل تجنبه بقدر الإمكان واللجوء إليه فقط إذا كان لا مفر منه. وكان أمين يفكر خصوصًا «بالزواج الوهمي» الممارس باسم الشريعة الإسلامية لأسباب مالية وغيرها. ويختم أمين رأيه في هذا الموضوع بالقول: وإذا كان لا بد من الطلاق فيجب أن يكون للمرأة حق الرجل فيه (13).

يتبع قاسم أمين في جميع المواضيع التي يعالجها طريقة محمد عبده، فيحدد العرف الإسلامي بحذر، عوضًا عن التخلي عنه. لقد لقبه الجيل اللاحق بنصير المرأة. لكنه يكاد أن لا يستحق هذا اللقب. فهو لا يقترح مثلًا أن تمنح المرأة حقوقًا سياسية. إلا إنه، مع إقراره بأن ما من سبب مبدئي يحول دون ذلك، فهو يعتبر أن المرأة المصرية بحاجة إلى وقت طويل من التثقيف الفكري قبل أن تصبح جديرة بالاشتراك في الحياة العامة (14). وهو: كمحمد عبده، يخاطب الذين لا يزالون يؤمنون بالإسلام، فيستند في كل موقف يتخذه إلى القرآن والشريعة بعد تفسيرهما التفسير الصحيح أو ما يعتبره التفسير الصحيح. ومعنى ذلك أنه حيث يوجد نص صريح

ص: 204

في القرآن أو الحديث فلا مجال للأخذ والرد، بل علينا أن نتقيد به مهما كانت النتائج. أما إذا لم يكن هناك نص صريح، أو كان هناك نص قابل للتفسيرات العديدة، فعلينا أن نختار واحدًا منها على ضوء المصلحة العامة. فالقواعد والتفسيرات التقليدية ليست مقدسة في مثل هذه الحالات، بل هي عادات بشرية صرف، دخلت على الدين، ويمكنها أن تتغير من وقت إلى وقت، لا بل من بلد إسلامي إلى آخر (15). كذلك يجوز، شرعيًا، تحري تفسير جديد يسد الحاجة شرط أن لا يخرج على مبدأ الشريعة العام (16).

أثار كتاب قاسم أمين عاصفة بالرغم من تحفظه. فظهرت، بعد صدوره ببضعة أشهر، سلسلة من الكتب والنشرات، بعضها يهاجم نظريته وبعضها يؤيدها. وفي 1900، رد قاسم أمين على نقاده بكتاب ثان موضوعه المرأة الجديدة، جاء من بعض الوجوه تكرارًا لآرائه في الكتاب الأول، إلا أن لهجته فيه تغيرت كثيرًا. فهو هنا أكثر جدلًا، كما أن أساس البحث فيه قد تحول تحولًا تامًا. فكأنما انهارت تحت صدمة الغضب واجهة البنيان الإسلامي، فظهر من ورائها بنيان فكري مختلف تمام الاختلاف عنها. لم يعد قاسم أمين هنا يستند إلى نصوص القرآن والشريعة مع تفسيرها بما يعتبره التفسير الصحيح، بل إنه أصبح يستند إلى العلوم والفكر الاجتماعي في الغرب الحديث. وما الإتيان على ذكر هربرت سبنسر أكثر من مرة في كتابه إلا تعبيرًا حيًا عن هذا التحول (17).

وهكذا أصبحت الآن مقاييس الحكم على الأشياء مبادئ القرن التاسع عشر الكبرى: الحرية والتقدم والمدنية. فالحرية تعني استقلال الإنسان في التفكير وفي الإرادة وفي الفعل، شرط بقائه ضمن حدود القوانين واحترامه للمبادئ الخلقية، وعدم خضوعه، خارج هذه الحدود، لإرادة سواه (18). إنها أساس التقدم البشري؛ لكن حرية المرأة، هي بدورها، أساس جميع الحريات الأخرى ومعيار لها. فعندما تكون المرأة حرة، يكون المواطن حرًا.

ص: 205

وما الحجج المستعملة ضد حرية المرأة سوى الحجج المستعملة ضد الحرية من أي نوع كانت، كحرية الصحافة مثلًا. إن حقوق المرأة قد تطورت مع تطور المجتمع البشري، فمرت بأربعة أدوار: حالة الطبيعة، حين كانت المرأة حرة، وعهد تشكيل العائلة، حين وقعت في الاستعباد الحقيقي؛ وعهد نشوء المدنية، حين اعترف لها الرجل بشيء من الحق، غير أن استبداده منعها من ممارسته؛ وأخيًرا، عهد المدنية الحقيقية الذي تبلغ المرأة فيه حقوقها الكاملة وتتمتع عمليًا بمركز الرجل (19). ويرى قاسم أمين أن البلدان الشرقية لا تزال في الدور الثالث، بينما بلغت البلدان الأوروبية الدور الرابع. وفي ذلك يقول:«فانظر إلى البلاد الشرقية، تجد أن المرأة في رق الرجل، والرجل في رق الحاكم. فهو ظالم في بيته، مظلوم إذا خرج منه. ثم انظر إلى البلاد الأوروبية، تجد أن حكوماتها مؤسسة على الحرية واحترام الحقوق الشخصية، فارتفع شأن النساء فيها إلى درجة عالية من الاعتبار وحرية الفكر والعمل» (20).

قد يبدو هذا القول مجرد انتقاد لانحطاط الإسلام، بالأسلوب الذي جعله الأفغاني شعبيًا. لكنه، بالحقيقة، أكثر من ذلك. إنه، في نظر قاسم أمين، انتقاد لا لمساوئ المدنية الإسلامية، بل للفكرة القائلة بأن هذه المدنية «مثال الكمال الإنساني» . فالمدنية الكاملة تقوم على العلم. وبما أن المدنية الإسلامية بلغت أوج نموها قبل نشوء العلوم الحقيقية، فلا يمكنها أن تكون هذا المثال. وهي كسائر مدنيات الماضي لها عيوبها. فهي تفتقر إلى الأصالة الخلقية. وليس من دلالة على أن مسلمي العهد الذهبي كانوا أفضل أو أسوأ من غيرهم من الناس (21). كذلك، فإنها تشكو من النضج السياسي. فحكامها يمارسون سلطة غير مقيدة، وعلى غرارهم يفعل موظفوها، إذ ليس هناك من دستور يكره الحاكم على احترام الشريعة. و «سيادة الشعب» التي ترمز إليها البيعة لم تكن سوى مظهر شكلي، إذ كان الخليفة صاحب السلطة الفعلية. وفي هذا يقول قاسم أمين: «ربما يقال إن هذا الخليفة

ص: 206

كان يحكم بعد أن يبايعه أفراد الأمة، وأن هذا يدل على أن سلطة الخليفة من الشعب الذي هو صاحب الأمر. ونحن لا ننكر هذا، ولكن هذه السلطة التي لا يتمتع بها الشعب إلا بضع دقائق هي سلطة لفظية. أما في الحقيقة، فالخليفة هو وحده صاحب الأمر. فهو الذي يعلن الحرب ويعقد الصلح ويقرر الضرائب ويضع الأحكام ويدير مصالح الأمة، مستبدًا برأيه، غير مؤمن بأن الواجب عليه أن يشرك أحدًا في أمره» (22).

وبكلمة وجيزة، علينا أن لا نتحرى الكمال في الماضي، حتى في الماضي الإسلامي؛ وإذا كان له أن يوجد، فسيوجد فقط في المستقبل البعيد. أما الطريق المؤدية إليه فهي العلم. وأوروبا، في الوقت الحاضر، هي في ذروة التقدم في ميدان العلوم، كما أنها في طريق الكمال الاجتماعي. وهي قد سبقتنا في كل شيء. وما القول بتفوق أوروبا المادي علينا وبتفوقنا الروحي عليها إلا من نوع تعزية النفس، كما أنه غير صحيح. فالأوروبيون متقدمون خلقيًا علينا. نعم إن الطبقتين العليا والدنيا من المجتمع الأوروبي تفتقران إلى الفضائل الجنسية. لكن الطبقة الوسطى تتحلى بأخلاق عالية من جميع النواحي، كما أن جميع الطبقات حائزة على الفضائل الاجتماعية. فلدى الجميع استعداد لتضحية النفس، وهو أساس التضامن الحقيقي. وهذا يشرح قوله: «لم يهب رجل ألماني حياته ويترك زوجته وأولاده مساعدة لأمة البوير؛ ولماذا يحتقر عالم من العلماء طيب العيش ولذائذ الحياة ويرجح الاشتغال بحل مسألة أو كشف غامضة أو فهم علة؛ وكيف أن سياسيًا واسع الثروة عالي المقام يفني زمنه في تدبير الوسائل لإعلاء شأن أمته، وربما حرم نفسه راحة النوم في ذلك السبيل؛ وما هو المحرك لدى الرحالة الذي يقضي الشهور والسنين بعيدًا عن أهله وبلده ليكتشف منابع النيل مثلًا؛ وما هو الإحساس الذي يرضي القسيس بالمعيشة بين المتوحش مع ما يتكبده من أنواع العذاب وما يحيط به من أخطار؛ وما هذا الوجدان الذي

ص: 207

يسوق الغني إلى أن يبذل آلافًا من الجنيهات لجمعية من الجمعيات الخيرية أو لعمل يعود نفعه على أمته أو على الإنسانية» (23).

إن أساس كل هذا إنما هو العلم. نعم، إن الأخلاق الصالحة ممكنة بدون المعرفة، لكنها لا تكون ثابتة بدونها. فحرية المرأة في أوروبا مثلًا ليست قائمة على العادة والشعور بل على مبادئ عقلية وعلمية. ومن العبث تبني علوم أوروبا بدون الاقتراب من منهل مبادئها الخلقية. فالاثنان متصلان اتصالًا لا ينفصم. ولذلك علينا أن نعد أنفسنا للتغير في كل ناحية من نواحي حياتنا (24).

وهكذا نرى أن الكتاب الثاني جاء يوضح ما أبقاه الكتاب الأول غامضًا، مما يفسر العداء الشديد الذي استقبل به الكتابان معًا: وهو أن الدين لا يستطيع، بحد ذاته، خلق دولة ومجتمع ومدنية. إذ أن نمو المدنية يتوقف على عوامل عدة، ليس الدين سوى واحد منها. وإذا كان للمدنية أن تتقدم، فيجب أن يكون لها قوانين تأخذ بعين الاعتبار جميع تلك العوامل. وبذلك قطع قاسم أمين الصلة التي أقامها محمد عبده بين الإسلام والمدنية. ومع احترامه للإسلام احترامًا كليًا، فقد أعطى المدنية الحق في أن تبني قواعدها الخاصة بها وتعمل على ضوئها. وهذا يعني أن المدنية إنما تحاكم على أساس هذه القواعد. وإذا كان الإسلام هو الدين الحقيقي، فهذا لا يعني ضرورة أن المدنية الإسلامية هي المدنية الفضلى.

لم يتفرد قاسم أمين في دفع فكر محمد عبده في هذا الاتجاه، بل كان هناك فئة ممن احتفظوا بالولاء الفكري لمعلمهم، غير أنهم أخذوا يعدون العدة لمجتمع علماني يبقى الإسلام فيه محترمًا، لكنه لا يكون الموجه للقانون والسياسة. وقد عرفوا، في السنوات الأولى من القرن العشرين، بـ «حزب الإمام» ، القائم على مبادئ سياسية مستمدة من تعاليم الإمام محمد عبده. ففي 1907، ولأسباب سنشرحها فيما بعد، أخذت فئات من كبار المصريين تنتظم رسميًا في أحزاب. ومع أن محمد عبده لم يكن حيًا في ذلك الحين، فقد أنشأ أتباعه حزبًا

ص: 208

قائمًا على مبادئه. وأطلقوا عليه اسم «حزب الأمة» ، وباشروا، في الوقت نفسه تقريبًا، بإصدار صحيفة «الجريدة» التي استمرت عن الصدور حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، حين أصبح التعبير الحر عن الرأي أمرًا صعبًا. وكان ما يكتب فيها موجهًا إلى المثقفين. ولم يكن لها تأثير كبير في عامة الشعب، غير أنها تركت أثرًا عميقًا في نفوس الذين كانت موجهة إليهم.

إن القضية التي جابهت هذا الحزب كانت أيضًا قضية العلاقة بين الإسلام والمجتمع؛ لكن التعبير عنها جاء مختلفًا. فالذين أسسوا الحزب وكتبوا في «الجريدة» كانوا مصريين، يحسون بالولاء لمجتمع لم يكن من الممكن لهم أن يعتبروه جزءًا من الأمة الإسلامية وحسب. فقد أصبحت فكرة القومية المصرية على أيامهم مألوفة ومقبولة لدى الجميع. لكنها كانت فكرة بعيدة جدًا عن مفاهيم الفكر السياسي الإسلامي، وذلك لا لأن مسيحيين ويهودًا كانوا يقطنون مصر بالإضافة إلى المسلمين، بل لأن أساس الجماعة المصرية ذاته قد تغير في نظرهم. فما يجمع بين المصريين ليست الشريعة المنزلة، وإنما الصلة الطبيعية الناجمة عن العيش في الوطن الواحد. لقد كان المصريون مصريين قبل ظهور الإسلام وشريعته؛ وليس العهد الإسلامي إلا جزءًا من تاريخ متصل منذ عهد الفراعنة. لذلك كان المسلم المصري على ولائيين مستقلين، لا يمكن للواحد أن يذوب في الثاني: الولاء لمصر والولاء للإسلام. ومن هنا السؤال: ما هي وما يجب أن تكون عليه العلاقة بينهما؟ وقد تضمنت مقالات رئيس تحرير «الجريدة» ، أحمد لطفي السيد (1872 - 1963)، طائفة كبرى من الآراء حول هذا الموضوع (25).

ولد لطفي السيد في قرية من قرى مصر السفلى من عائلة من الفلاحين تتمتع بزعامة محلية تقليدية كعائلة محمد عبده. لكن عائلة لطفي السيد كانت أحسن حالًا، إذ شغل أبوه وجده مركز العمدة في القرية. وحاز أبوه على لقب باشا؛ وعلى غرار محمد عبده أيضًا، كانت

ص: 209

تربيته الأولى تربية قرآنية. لكنه عندما بلغ الثالثة عشرة من عمره. أرسل إلى مدرسة ثانوية في القاهرة. وفي 1889 دخل كلية الحقوق. وكانت معاهد الحقوق في البلدان العربية بمثابة مراكز للفكر والعمل السياسيين. فكان بين رفاق لطفي السيد نفر ممن سيبرزون فيما بعد في الحياة المصرية، أمثال مصطفى كامل، زعيم الحزب الوطني، وثروت باشا وصدقي باشا اللذين شغلا مركز رئاسة الوزارة. وفي هذه الحقبة، التقى لطفي السيد بمحمد عبده وأصبح صديقه وتلميذه. كذلك تعرف إلى الأفغاني في أثناء زيارة قام بها إلى إسطنبول، فأعجب به كثيرًا، مع أنه لم يكن من الممكن أن يقوم تجاوب عميق بين ذهنيته العقلية الطليقة وبين حماس الأفغاني الملتزم والملتهب معًا. وبعد إنجاز دراسته، صرف عددًا من السنين في خدمة الحكومة. ومع أنه لم يستمتع كثيرًا بهذه الخدمة، فقد كان مدينًا لتلك السنوات بمعرفته الحميمة بكل نواحي الحياة المصرية. وفي هذه السنوات أيضًا، أرسى أسس معرفته بالفكر الأوروبي. وقد تجلى في كتاباته تأثير قراءاته الواسعة التي كان بعضها لا يثير الدهشة إذ ذاك، كقراءة روسو وكونت ومل وسبنسر المألوفة لدى المصريين المثقفين في زمنه. لكنه قرأ «أخلاق أرسطو» أيضًا، وحركت مشاعره بعمق كتابات تولستوي التبشيرية الأخيرة.

وبعد أن اعتزل خدمة الحكومة، دخل الحياة العامة كعضو مؤسس لحزب الأمة ورئيس لتحرير «الجريدة» . وجاء كل ما كتبه تقريبًا في شكل مقالات «للجريدة» استطاع بها، إلى حد ما، تكوين وعي الأمة المصرية الخلقي. غير أن صفة في طبعة جعلته يكره الحياة العامة فيتعرقل نجاحه فيها، هي رجاحة عقله واستقامة تفكيره. ففي 1915، عندما توقفت «الجريدة» عن الصدور، عين مديرًا للمكتبة الوطنية. وعندما تأسس الوفد، جذبته الحياة العامة إليها مجددًا، إلا أنه سرعان ما اشمأز من السياسة، إذ شاهد الوحدة الوطنية تتصدع بفعل المطامع الشخصية. وطيلة العشرين سنة اللاحقة،

ص: 210

عمل في الجامعة المصرية التي ساعد في تأسيسها خلال سنوات القرن الأولى. وكانت تدعى يومذاك «الجامعة الشعبية» . وعندما وسعت وأعيد تنظيمها في 1920، أصبح أستاذًا للفلسفة فيها ثم عميدًا لها. ولما بلغ السبعين من العمر، تقاعد وعاش عيشة هادئة، لكنها لم تكن منسية أو دون تأثير في أصدقائه وتلاميذه.

ترجم في أعوامه الأخيرة كتاب «الأخلاق إلى نيقوموخس» لأرسطو. ولم يضع كتبًا بقلمة مترابطة أو نظامية، بل جمعت مقالاته الدورية المنشورة في عدد من المجلات. لذلك يصعب الحكم على آراء مفكر، بناءً على كتابات قصيرة نشرها حسب الظروف ولم يكن مضطرًا فيها إلى الدفع بآرائه حتى نتائجها المنطقية. لكن الانطباع القوي الذي تتركه فينا قراءة تلك المقالات هو الاندهاش من الدور الصغير الذي لعبه الإسلام في تفكير رجل تتلمذ على محمد عبده. لا شك أنه كان يشعر بأنه هو ومعظم مواطنيه مسلمون بالوراثة وأنهم جزء من الأمة. لكن الإسلام لم يكن المبدأ المسيطر على تفكيره. فهو يهتم، كالأفغاني، بالدفاع عنه؛ لكنه لا يهتم، كمحمد عبده، بإعادة الشريعة الإسلامية إلى مركزها كأساس خلقي للمجتمع. فالدين -سواء كان الإسلام أو غيره- لا يعنيه إلا كأحد العوامل المكونة للمجتمع. نعم، كان يرى أن ليس باستطاعة بلد له تقاليد دينية عريقة. كمصر، أن يقيم حياة الفرد وبناء الفضائل الاجتماعية إلا على أساس الإيمان الديني، وأن الإسلام، كدين لمصر، لا يمكن إلا أن يكون هذا الأساس. لكنه رأى أن أديانًا أخرى قد تصلح لبلدان أخرى. وبتعبير آخر، كان لطفي السيد مقتنعًا بأن المجتمع الديني خير من المجتمع اللاديني (على الأقل في مرحلة معينة من التطور)؛ لكنه لم يكن مقتنعًا كأساتذته بأن المجتمع الإسلامي أفضل من المجتمع اللاإسلامي. وفي هذا يقول: «لست ممن يتشبثون بوجوب تعليم دين بعينه أو قاعدة أخلاقية معينة. ولكني أقول بأن التعليم العام يجب أن يكون له مبدأ من المبادئ يتمشى عليه المتعلم

ص: 211

من صغره إلى كبره. وهذا المبدأ هو مبدأ الخير والشر وما يتفرع عنه من الفروع الأخلاقية. لا شك في أن نظريات الخير والشر كثيرة التباين. ولكن الواجب على كل أمة أن تعلم بنيها نظريتها هي في هذا الشأن .. فعندنا (في مصر) إن مبدأ الخير والشر راجع إلى أصل الاعتقاد بأصول الدين، فعليه يجب أن يكون الدين من هذه الوجهة الأخلاقية هو قاعدة التعليم العام» (26).

وهكذا نرى أنه تخلى عن أول مبدأ من مبادئ محمد عبده واستعاض عنه بمبادئ جديدة، كما أخذ يطرح أسئلة جديدة لا تدور حول الشروط التي تؤدي إلى ازدهار المجتمع الإسلامي وانحلاله، بقدر ما تدور حول الشروط التي تؤدي إلى ازدهار أي مجتمع أو انحلاله. كذلك لم تكن المفاهيم التي أجاب بها على هذه الأسئلة مفاهيم الفكر الإسلامي، بل مفاهيم الفكر الأوروبي حول التقدم والمجتمع الأفضل.

ويبدو أن لطفي السيد ورفاقه تأثروا بنمطين من التفكير الأوروبي: الأول هو التفكير الذي عبر عنه، بطرق مختلفة، كل من كونت، ورينان ومل، وسبنسر، ودوركهايم، الذين ذهبوا إلى أن المجتمع البشري متجه، بحكم سنة التقدم الذي لا يعكس ولا يقاوم، نحو طور مثالي يتميز بسيطرة العقل، واتساع أفق الحرية الفردية، وازدياد التخصص والتشابك، وحلول العلاقات القائمة على التعاقد الحر والمصلحة الفردية محل العلاقات القائمة على العادات والأوضاع الراهنة. والثاني هو تفكير غوستاف لوبون الذي جذب إليه المفكرين العرب، عرضًا، لثنائه الجم على العرب لإسهامهم في المدنية. ومن غوستاف لوبون تعلم هؤلاء المفكرون العرب «فكرة الطبع القومي» القائلة بأن لكل شعب بنية ذهنية ثابتة ثبوت بنيته الجسدية، تتكون بالتراكم التاريخي البطيء ولا تتغير إلا ببطء وإلى حد ما، وبأن في هذه البنية الذهنية عنصرين أساسيين: الأول عنصر العقل، والثاني عنصر «الطبع» ،

ص: 212

أي مجموع المواهب الناجمة عن الإرادة والمثابرة والنشاط وقوة التسلط؛ وبأن الإيمان الديني هو أهم العوامل المؤثرة في الطبع القومي: «فعندما يولد دين تولد مدنية» ؛ وبأن الدين نفسه يتكيف، بعد خمود الحماس الأول، وفقًا للطبع القومي (27).

كانت أهم فكرة بين مجموعة الفكر التي استقاها لطفي السيد من معلمية الغربيين فكرة الحرية، التي أصبحت بالحقيقة محور كل تفكيره: فهي، في نظره، ليست مقياس العمل السياسي فقط، بل أيضًا ضرورة من ضرورات الحياة، و «الغذاء الضروري لحياتنا» (28)، وحالة الإنسان الطبيعية وحقه الأصيل الثابت. كان مفهوم لطفي السيد للحرية، كما يعترف هو نفسه باعتزاز، مفهوم ليبرالي القرن التاسع عشر (29). فهي تعني جوهريًا غياب رقابة الدولة غير الضرورية. فللدولة وظائف محدودة هي الحفاظ على الأمن والعدل والدفاع عن المجتمع ضد العدوان. ويحق للدولة، للقيام بهذه الوظائف، التدخل في حقوق الفرد. أما في ما عدا ذلك، فأي تدخل منها جائر؛ مع العلم أن بعض أنواع التدخل أشد خطرًا من سواه، وخصوصًا العبث بحرية القضاء، أو بحرية الكتابة والقول والنشر، أو بحرية تأليف الأحزاب. إلى هنا تبدو عقيدة لطفي السيد عقيدة القرن التاسع عشر الكلاسيكية. لكنها انطوت أيضًا على شيء آخر، قد يكون لطفي السيد قد استقاه من دراسته لأرسطو. ففي صميم الصورة التي كونها لنفسه عن المجتمع، ينتصب تصوره لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان الحر حقيقة ولما هي الحياة الفاضلة: فالإنسان الحر هو الذي، عفويًا ومن تلقاء نفسه وبدون عوائق خارجية، يقوم بوظيفته في المجتمع، فيحقق بذلك طاقاته الإنسانية. والناس كلهم، بهذا المعنى، خيرون بالقوة، وسيأتي يوم في المستقبل يحقق فيه معظم الناس هذا الخير الكامن فيهم (30).

هكذا ينبغي للناس أن يكونوا، وهو ما ليست عليه حال المصريين. ولا تختلف آراء لطفي السيد العامة عن آراء جيله، لكنها

ص: 213

تكتسب لديه معنى خاصًا، بالنظر إلى حسه الحاد بعلاقتها بمصر. فعندما يكتب مثلًا عن حرية القضاء، يصرح بأنها غير موجودة في مصر، لأن الحكومة مطلقة التصرف تتحكم بالمحاكم كما تتحكم بكل شيء آخر، ولأن القضاة المصريين لا يشعرون بمعنى الرسالة بل يستخدمون منصب القضاء كمنطلق لوظيفة رسمية تؤدي منطقيًا إلى كرسي الوزارة. وهكذا أيضًا عندما يكتب عن الحرية الفكرية تكون مصر ماثلة أمام ذهنه. كانت مصر تتمتع في أواخر القرن التاسع عشر بحرية واسعة في القول والنثر بفضل «الامتيازات» التي منحت معظم الصحف تسهيلات خاصة وأمنت لها الحماية الأجنبية، وكذلك بفضل تأثير اللورد كرومر. لكن الحال تغيرت بعد 1907، حين لم يشاطر خلفاء كرومر اعتقاده أن الصحافة الحرة هي صمام الأمان للشعور الشعبي، إذ كان عليهم ومعالجة نوع مختلف من الشعور. فالشعور الوطني كان آخذًا بالاستيقاظ من جديد وبالتعبير عن نفسه بواسطة الأحزاب السياسية المنظمة. وفي 1905، بعث من جديد قانون المطبوعات لعام 1881 الذي كان قد عفي عليه الزمن، فأجاز للحكومة، وإن بشروط معينة، إلغاء الصحف. وقد قاوم لطفي السيد هذا القانون باستمرار، مستخدمًا حجج ستوارت مل الكلاسيكية، لكن بنبرة جديدة من الإلحاح (31).

لم يكن المجتمع المصري على ما ينبغي أن يكون. لكن الأهم من ذلك، في نظر لطفي السيد، أن الفرد المصري لم يكن كذلك أيضًا. وإننا نجد هنا وهناك في مؤلفات لطفي السيد تحليلًا دقيقًا ومفصلًا وساخرًا أحيانًا لما كانوا عليه المصريون. فالمصريون مراؤون في مديحهم وممالقتهم للأقوياء، لأنهم لا يعتبرون أنفسهم كائنات بشرية مستقلة. وهم متساهلون ويرددون «ما عليش» ولكل ما يحدث، وفي هذا نوع من الفضيلة، لكنه نوع متأصل في النفوس الضعيفة. إنهم خانعون، يقبلون بالإهانات والتحقير كي لا يخسروا وظيفة أو لا يصدر عنهم احتجاج (32). وهم لا يثقون بعضهم ببعض،

ص: 214

ويتحدثون، بالسوء عن الآخرين. ناسبين إليهم بواعث دنيئة (33). ثم إن المصريين يعبدون القوة. وعلى ذلك يستشهد بأهازيج الفرح التي رحب بها الناس في شوارع القاهرة بونابرت عند عودته من سوريا (34). وبكلمة، إن المصريين يفتقرون إلى الاستقلال الشخصي والحرية الحقيقية؛ ولذلك فهم ليسوا بشرًا بمعنى هذه الكلمة الأكمل. وإذا تفحصنا كل هذه العيوب وأمثالها وجدنا أنها تنبع كلها من مصدر واحد هو موقف المصريين الخاطئ من السلطة. فهم يتطلبون من الحكومة أن تقوم عنهم بكل ما ينبغي أن يقوموا به هم. لذلك اتكلوا عليها وتنازلوا عن حقوقهم وواجباتهم. لكنهم مع هذا لا يثقون بها ولا يحبونها، بل يخشونها ويشكون بها ويحاولون الهرب من رقابتها. كأنها غريبة عنهم ومعادية لهم. ومن هنا عطفهم على الذين يقعون في قبضة العدالة مهما كان ذنبهم. وفي ذلك يقول:«لا يعجب أحدكم أن يرى أكثر الناس في القرى يجتهدون في أن يحولوا بين متهم في جريمة وبين إثبات التهمة عليه. وليس كل السبب لهذا القيام بما تمليه العصبية القروية تفضيل الظلم على العدل، بل هو اعتبار أن الحكومة وأعوانها لا يسعون لمصلحة الأمة. فيقف الناس خفية في طريق أحكامها ولو تبين لهم أن ما فيه العدل» (35).

ثم يتساءل لطفي السيد عن الدافع إلى اتخاذ هذا الموقف الخاطئ من الحكومة، فيجده في أن المصريين أصيبوا دومًا بالنوع الفاسد من الحكومات. فكانت دومًا مستبدة، مما خلق فيهم رذائل الخنوع. وهم سهلون ومتساهلون، لأنهم عاجزون، وأذلاء ومراؤون، لأن الحاكم المطلق لا يقبل بأقل من الخضوع التام (36).

إن الاستبداد المستمر طويلًا يهدم الكائن البشري الفرد كما يهدم المجتمع. إنه يحول دون نمو الطبيعة الخلقية على أتمها. وبكلمة، إنه يجعل من الإنسان أقل من إنسان. لذلك كانت الحرية السياسية شرطً ضروريًا لأي نوع من الحريات. فالاستبداد يخلق علاقة

ص: 215

خاطئة بين الحاكم والمحكوم هي علاقة الأمر والطاعة، علاقة «السيد والعبد» (37)، كما أنه يفصم عرى التضامن في الأمة بإزالة الثقة، ويعطل نشاط الآلة الإدارية. وهو مخالف للطبيعة البشرية ومخالف للعلم، إذ أنه قائم على اعتقاد وهمي بأن بعض الناس، أي الأقوياء والحكام، ليسوا من طينة البشر. بينما الحكومة الحقيقية هي التي تصدر عن الاتفاق الحر وفقًا لروح العدل الفطري. إن هذا الاتفاق هو ما يجعل القانون بعد صدوره ملزمًا للحكومة وللأفراد معًا. لذلك كان الحكم المقيد القائم على القانون هو النوع «الطبيعي» للحكم، وكان لكل جماعة الحق فيه. وهنا يخالف لطفي السيد معلمه محمد عبده، أو لعله يطبق مبدأه بشكل جديد في جيل كان أكثر ثقة بنفسه من جيل معلمه، فيقول بأن حق الجماعة في أن تحكم نفسها لا علاقة له بمستوى مدنيتها. فالاستبداد ضروري فقط للجماعات التي ليست على مدنية أصلًا. ولا معنى للسؤال هل الأمة معدة لحكم ذاتها. فالحرية وحدها تخلق روح الحرية، وليس باستطاعة الحكم المطلق أن يربي الناس على حكم أنفسهم بأنفسهم (38).

قلنا إن من المسلمات عند لطفي السيد أن الحكم يجب أن يقوم على الاتفاق الحر. لكنه رأي أيضًا أن بعض أنواع التجمع البشري قديمة وثابتة بحيث يمكن اعتبارها طبيعية كالفرد ولها ما له من حقوق، وأن الأمة أحد هذه الأنواع الطبيعية من التجمع البشري، وهي تخضع لقوانين طبيعية ولقانون الحرية العظيم قبل أي شيء آخر (39). ولما كان من الواجب أن يكون الفرد حرًا، كان من الواجب أيضًا أن تكون الأمة مستقلة. وكان لطفي، كغيره من المفكرين المصريين، لا يحدد الأمة على أساس اللغة أو الدين، بل على أساس الأرض. وهو لم يفكر بأمة إسلامية أو عربية، بل بأمة مصرية، أمة القاطنين أرض مصر. إذ وعى، كالطهطاوي، استمرار التاريخ المصري. فلمصر في نظره ماضيان: الماضي الفرعوني والماضي العربي. ومن المهم أن يدرس المصريون الماضي الفرعوني،

ص: 216

لا للاعتزاز به فحسب، بل لأنه أيضًا يلقنهم «قوانين النمو والتقدم» (40). وهنا نجد صدى لفكرة الطهطاوي القائلة بأن مصر القديمة كانت حائزة، كمصر الحديثة، على «سر» التقدم الدنيوي. لكن المبتكر في كتابات لطفي السيد هو شعوره الطبيعي المرهف بمصر وبريفها. فهو يرى الجمال في حياة القرية على فقرها وبؤسها، كما يتذكر مناظر حقول القطن وجلبتها، ويرسم بألوان بهيجة فضائل الفلاح الطيب وسعادته، ويحث الجيل الجديد على التجاوب مع جمال الطبيعة وعلى إضافة تثقيف المشاعر إلى تثقيف العقل (41). ولعل لطفي السيد يعكس هنا تأثير تولستوي. فقد اعترف هو نفسه بأنه عندما قرأ تولستوي للمرة الأولى، أحدث فيه تأثيرًا عميقًا إلى حد حمله على التفكير، ولو لفترة، بترك عمله والعودة إلى القرية.

كان شعور لطفي السيد بوجود مصر شديدًا، بحيث أهمل الإصرار على عناصر الوحدة الأخرى التي تكون الأمة في نظر الفلسفات القومية الأخرى. فمعظم القاطنين في مصر يشتركون في الأصل واللغة والدين. لكن لطفي السيد لم يحاول أن يجزم بأنهم وحدهم المصريون الحقيقيون. إذ أن الصلة التي تربط بين جميع القاطنين في مصر، الراغبين في ربط مصيرهم بمصيرها، قوية لدرجة أنها تتغلب بسهولة على اختلاف الدين أو اللغة أو الأصل. فما يجعل من المصري مصريًا إنما هو إرادته في اتخاذ مصر وطنه الأول والوحيد (42).

إن ما يتضمنه هذا القول من انتقاد إنما كان موجهًا إلى الكثيرين من سكان مصر الذين كانوا على ولاء مزدوج، لا سيما الشاميين والأوروبيين من الطبقة الوسطى، المتمسكين بجنسيتهم الأصلية أو بالحماية الأجنبية للاستفادة من «الامتيازات» . فقد كانت مصلحتهم، في نظر لطفي السيد، ومصلحة سواهم من المصريين واحدة، وكذلك كانت رغبتهم في الحؤول دون انتقال السلطة بكاملها إلى يد البريطانيين، ناهيك بالفائدة المتبادلة بينهم وبين

ص: 217

إخوانهم المصريين في ما يبذلونه من نشاط اقتصادي. وقد خاطب السوريين، بنوع خاص، فذكرهم بأنهم يشتركون مع المصريين في اللغة، وبأنهم عاشوا معهم أجيال عدة، وبأنهم، ما داموا يشعرون بانتمائهم إلى مصر، فليكونوا إذن مصريين بعاطفتهم (43). لكنه لم ينس المصريين أنفسهم، ممن أقاموا ولاءهم القومي على اعتبارات غير مصرية صرف، فاعتبروا أنفسهم، بالدرجة الأولى، عثمانيين أو عربًا أو أتراكًا أو مسلمين. فقد ذهب إلى أن القومية الإسلامية ليست قومية حقيقية، وأن الفكرة القائلة بأن أرض الإسلام هي وطن كل مسلم إنما هي فكرة استعمارية تنتفع بها كل أمة استعمارية حريصة على توسيع رقعة أراضيها ونشر نفوذها (44). وهو لم يعتبر حتى فكرة الوحدة الإسلامية قوة سياسية، بل رأى فيها شبحًا خلقه البريطانيون لاستثارة الشعور الأوروبي ضد الحركة القومية في مصر. وهي، حتى لو كانت حقيقية، ستبوء بالفشل حتمًا، لأن الدول إنما تقوم على المصلحة المشتركة لا على الشعور المشترك (45).

كان لطفي السيد يكتب قبل أن تتلون القومية المصرية بلون العروبة. لذلك لم يذكر العرب إلا نادرًا، بالرغم من عطفه عليهم واحترامه لهم واشتراكه بعض الشيء مع محمد عبده في الاعتقاد أن الإسلام والمجتمع الإسلامي لا يوجدان على نقاوتهما إلا في الجزيرة العربية. ولم يكن يعتبر المصريين جزءًا من الأمة العربية، لكنه لم يشدد على هذا الرأي لقلة عدد المصريين المخالفين له فيه آنذاك. أما فكرة القومية العثمانية، فكانت تستدعي اهتمامًا أكبر، خصوصًا بعد ثورة «تركيا الفتاة» في 1908، تلك الثورة التي قضت على حكم عبد الحميد وأعادت الدستور. إذ رأى بعض المصريين أنه ما دام حكم السلطان الأوتوقراطي قد زال، وما دام أن عهدًا جديدًا من المساواة الديموقراطية قد بدأ، فلم تعد مصر بحاجة إلى البقاء منفصلة عن الأراضي العثمانية الأخرى. بل لقد ذهب هذا الفريق أبعد من ذلك،

ص: 218

فاقترح أن يكون لمصر نواب في مجلس المبعوثان. لكن هذه الحجة بدت للطفي السيد مبنية على مقدمة خاطئة، هي الزعم بأن الحكم الذاتي الذي حققه محمد علي والخديوي إسماعيل إنما استهدف الأسرة الحاكمة وحلها، وبأن مصر ليست سوى ولاية من الإمبراطورية آلت إلى تلك الأسرة كإقطاع. أما واقع الأمر، في نظره، فهو أن محمد علي كان يعمل لمصر لا لنفسه، وبأن معاهدة لندن في 1841 التي اعترفت بحكمه الوراثي على مصر كانت اعترافًا واقعيًا أيضًا باستقلال مصر الداخلي وسيادتها الوطنية (46).

لذلك كان لطفي السيد يفكر بالأمة المصرية عندما تناول حق الشعوب الطبيعي في حكم ذاتها، ودعم هذا الحق بنظرية جديدة في التاريخ المصري، هي أن أهم واقع في تاريخ مصر، أي الواقع الذي يفسر وضع شعبها النفسي، هو أنها ما حكمت إلا بالقوة القاهرة. فهي لم تتمتع يومًا، كاليونان، «بالحكم المنطبق على قواعد علم السياسة» ، إذ كان الحكم فيها، أكثر الأحيان، أجنبيًا من حيث الجنس أو الدين أو العادات أو الأخلاق، يستهدف دومًا وقبل كل شيء مصلحة الحاكم أصلًا، ومصلحة المحكومين بالعرض. وعلى هذا الأساس تكون الخلق القومي، إذ كان على المصريين أن يتظاهروا بولاء لم يكن لديهم، ففقدوا حريتهم الداخلية وشجاعتهم وصلتهم الروحية بالحكم. ومن هنا مصدر جميع رذائل الخنوع التي أفاض لطفي السيد في وصفها. لكن الحال بدأت تتغير في أواسط القرن التاسع عشر. فظهرت بوادر يقظة حقيقية. غير أن ثورة عسكرية سابقة لأوانها أتاحت للبريطانيين احتلال البلاد، فأعاد هذا الاحتلال الأجنبي الحالة الخلقية إلى ما كانت عليه من قبل. فأخذ الشعب، من جديد، ينظر إلى حكامه البريطانيين كما ينظر إلى الأجانب الآخرين، أي بريبة وحذر لم يقو على إزالتهما أي كسب مادي (47).

ص: 219

انتقد لطفي السيد الحكم البريطاني لا لأنه أجنبي، بل لأنه مطلق. فالمنافع التي جلبها ذلك الحكم لمصر لم تكن موضع شك. لكنه رأى أن إصلاح الشؤون المالية وتحسين الأوضاع الاقتصادية لا يحل القضية السياسية الحقيقية، وهي غياب العلاقة الروحية بين الحكام والمحكومين (48). كان حكم كرومر أوتوقراطيًا، قائمًا، آخر الأمر، لا على الاختيار الحر بل على الأسلحة البريطانية. وعندما خلف كرومر السير ألدون جوؤست في 1908، زادت الحالة سوءًا. فقد بعثته حكومة الأحرار البريطانية لتدشين سياسة جديدة أكثر ليبرالية. لكنه منح الخديوي مقدارًا أوسع من حرية العمل، مما حمل الخديوي على قطع علاقاته بالزعماء الوطنيين والانحياز إلى جانب البريطانيين. وهكذا وقعت البلاد تحت أوتوقراطيتين، فزالت الوحدة بين الحاكم والشعب، وهي التي كانت قائمة ما دام الحاكم على علاقة سيئة مع كرومر (49).

ورأى لطفي السيد أن من الواجب إحلال شيء آخر محل الأوتوقراطية. لكنه لم يتوقع الحصول على الاستقلال الفوري. لذلك اقتضى مواجهة الحقائق، وهي أن بريطانيا قوية، وأن لها مصالح جوهرية في مصر، وأنها هي نفسها قد أعلنت عن بقائها في مصر إلى أن تصبح هذه قادرة على حماية تلك المصالح. وإذن، لا يمكن إخراجها بالقوة. ولو قبلنا بالفكرة الرومنطيقية القائلة «بالكفاح في سبيل الاستقلال» ، فإنما نؤجل بلوغ ما نسعى إليه. من هنا، في نظره، كانت هفوة عرابي باشا المميتة. فهو لم يكن ذا نوايا سيئة، كما لم يكن خائنًا بأي معنى من المعاني. غير أنه أخطأ في تقدير قوة مصر، ووقع ضحية «المحرضين الإنكليز» (يشير هنا بوضوح إلى بلنط)(50). أما السياسة السليمة الوحيدة، فهي أن نحمل قول إنكلترا على محمله الحرفي. نعم، هناك ما يدعو إلى الريبة في نواياها، إذ أنها قدمت العذر تلو الآخر لتمديد احتلالها، وخلقت الشعور بأنها باقية إلى الأبد (51). لكن مصلحة مصر

ص: 220

تقتضي التعاون معها في أي تدبير تتخذه في سبيل إنماء قوة البلاد (52) ولا شك في أن تنفيذ هذه السياسة يتوقف على الطرفين، إذ لا يمكن إتباعها إلا إذا كانت بريطانيا مستعدة أيضًا لإشراك المصريين في عملية الحكم. غير أن الأمر الممكن حاليًا إنما هو تقييد سلطة الخديوي المطلقة والتحرك على مراحل نحو الحكم الدستوري. لذلك عندما أنشئ الحزب الشعبي ووضع لطفي منهاجه، جاءت الإصلاحات التي اقترحها فيه متواضعة وحذرة، منها توسيع اختصاص الهيئات النيابية الحاضرة (مجالس الولايات والمجلس التشريعي)، وتعديل طريقة انتخاب أعضائها، وإنشاء مجلس شورى القوانين (53). لكن هذا لم يكن سوى خطوة أولى. أما الهدف، فكان إقامة حكم ديموقراطي يمكن تحقيقه بوجود البريطانيين الذين كانت مصلحتهم الحقيقية تقضي بالمساعدة على تحقيقه.

ورأى لطفي السيد أن الأمة، كلما بلغت مرحلة من مراحل الحكم الذاتي، تسنى لها أن تتذرع بها لتقوية الحياة الوطنية في مصر. لكن المركز الوضيع الذي يحتله العنصر الاقتصادي في فكرته عن القوة الوطنية يعكس الاختلاف بين عهده وعهدنا. فقد اعترف بأهميته، مبدئيًا، فقال إن على مصر أن توفي ديونها الأجنبية التي كانت علة فقدان استقلالها والتي ستبقى خطرًا عليها ما دامت باقية. وعليها أن تبني صناعاتها التي بدونها لا يمكنها أن تكون حرة حقًا. وما الصناعة التي أخذت تظهر في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين إلا مدينة في نشوئها لحلقة لطفي السيد. فبنك مصر والشركات التابعة له أسسها معاون له ورفيق في المدرسة هو طلعت حرب. ولم تكن تستهدف الربح فقط، بل كانت خطوة في سبيل الاستقلال الوطني. ومع ذلك، فلم تكن الصناعة في نظر لطفي السيد أساس القوة الوطنية. فكان ينادي بأن على المصريين أن يعوا أكثر فأكثر مسؤوليتهم تجاه الوطن، وإن كل خطوة في هذا

ص: 221

السبيل هي خطوة مباركة، كتأسيس الجمعية التشريعية (على يد كتشنر في 1913)، حتى لو كانت سلطتها محدودة، وإنشاء الأحزاب السياسية، حتى لو لم يكن باستطاعتها بعد الاشتراك في الحكم. وكان يرى خطرين على هذا الوعي الذي كان لا يزال سريع العطب وغير كامل النضج: المثل العليا السابقة لأوانها في «الاشتراكية» أو «العالمية» من جهة، واليأس وضعف الثقة بالنفس من جهة أخرى (54).

كان من المألوف في مدرسة محمد عبده القول بأن الوسيلة الفعالة الوحيدة للنضج القومي والاستقلال الحقيقي إنما هي التربية. وقد وجدت هذه الفكرة في أواخر القرن تأييدًا قويًا لها في كتاب فرنسي أصبح الآن منسيًا، لكنه أحدث ضجة كبيرة في ذلك الحين، هو «مصادر تفوق الأنكلوسكسون» لديمولان. في هذا الكتاب يشرح ديمولان أسباب استيلاء الشعوب الأنكلوسكسونية على العالم وتسنمها أعلى درجات القوة والازدهار بين جميع شعوب العالم، وينسب ذلك إلى روح المبادرة الفردية التي عرف الأنكلوسكسون كيف ينموها إلى أقصى حد. وكان لهذا بدوره سببان: الأول أن الهدف الرئيسي للتربية عندهم كان تدريب الإنسان على العيش في العالم الحديث، بينما كانت التربية الفرنسية تستهدف إعداده للعيش في مجتمع مستقر قائم على العائلة والدولة؛ والثاني أن الروح القومية الفرنسية كانت عسكرية، تطالب بتضحية الفرد في سبيل مجد الأمة وعظمتها، بينما كانت القومية الأنكلوسكسونية «شخصية» ، تقوم على حرية الفرد، وتستهدف خيره الشخصي. وقد أثر كتاب ديمولان كثيرًا في الفكر التركي والعربي، فتحكم بأفكار الأمير العثماني الليبرالي صباح الدين، وترجمه إلى العربية أحمد فتحي زغلول، شقيق سعد، مع مقدمة حلل فيها بتعابير قوية، شبيهة بتعابير لطفي السيد، ضعف المجتمع المصري من حيث الافتقار إلى العلم وإلى الشعور الوطني وإلى الصداقة الثابتة وإلى

ص: 222

الإحسان الفعال وإلى الاتكال على النفس (55).

على هذا الغرار أيضًا انتقد لطفي السيد النظام التربوي القائم. فرأى أن المدارس القرآنية القديمة كانت تتناسب مع الواقع الاجتماعي القائم في القرن الثامن عشر؛ لكنها أصبحت غير فعالة في العالم الحديث. أما مدارس الإرساليات، فكانت بطبيعتها غير مؤهلة لتربية الأطفال المسلمين التربية الخلقية اللازمة. وليس لدى الأساتذة في مدارس الحكومة ما يقدمونه لتلاميذهم. وهكذا كان كل نمط من هذه الأنماط فاسدًا، وكان وجود الثلاثة معًا أشد فسادًا، إذ كان من شأنه تجزئة الأمة. أما النظام المنشود للمدارس فهو الذي يستهدف خلق أمة موحدة خلقيًا ونفسيًا حول العلوم الحديثة والمبادئ الكامنة فيها. ولما كانت الحكومات تنزع دومًا إلى تسخير المدارس لمصالحها الخاصة، وجب أن تكون المدارس حرة لخدمة العلم وحده، وبالتالي أن تنبثق عن أفراد أو هيئات شعبية (56).

غير أن ما كان أهم، في نظر لطفي السيد، حتى من التربية في المدارس إنما هو التربية البيتية. «إن خير العائلة هو خير الأمة» ، وقضية العائلة المصرية هي من صلب قضية مصر. وهذه القضية تتعلق، فيما يختص بالطبقات العليا والوسطى، بموضوع حجب المرأة، أو بتعبير آخر، عدم مساواتها بالرجل. أما بين الفلاحين، فالحال على غير ذلك، إذ تساوت النساء بالرجال وقامت روابط الزواج القروية على عاطفة صحيحة. لكن الرجال والنساء ما زالوا يجهلون كثيرًا من الحقائق الضرورية للحياة الصالحة. وهناك قضية خاصة بالشبان المثقفين، ناشئة عن صعوبة العثور، في محيطهم الطبيعي، على زوجات تكون تربيتهن معادلة لتربيتهم. ومن كل هذا ينتج أمران ضروريان: تحرير المرأة وتربيتها. لقد كان الانتصار للمرأة، في نظر لطفي السيد وأبناء جيله، جزءًا جوهريًا من الوطنية الصحيحة. ولم يكن من الصدفة أن تصبح الحركة النسائية التي بدأت، بعد ذلك بعشر سنوات، بالمناداة بنزع الحجاب والمطالبة بإشراك المرأة في حياة

ص: 223

المجتمع العامة، عنصرًا ملازمًا للكفاح في سبيل الاستقلال في أيام «الوفد» الأولى.

كانت الأمة محور تفكير لطفي السيد، بمعنيين مختلفين: الأول، بمعنى الوطن القومي الذي هو موضوع كتاباته، والثاني، بمعنى المصلحة الوطنية التي هي معيار الخلقية السياسية ومبدأ الشريعة، والتي بمفهومها الليبرالي تنفي مجموع المصالح الفردية. أما الأمة الإسلامية، فكادت تقع خارج نطاق تفكيره. فهو لم يرفض فكرة الدولة الإسلامية، لكنه تجاهلها، معترفًا ضمنًا بأن لا علاقة لها بقضايا العالم الحديث. وقد قام مفكر آخر من محيطه، وإن كان من جيل لاحق، يصرح بما كان لطفي السيد يلمح إليه تلميحًا، فيدعو مصر إلى تبني مبادئ سياسية أخرى غير مبادئ الإسلام، لا بل يزعم بأن لا وجود لما يسمونه بالمبادئ السياسية الإسلامية. كان هذا علي عبد الرازق (1888 - 1966) شقيق مصطفى، الذي نشر في 1925، كتابًا في «الإسلام وأصول الحكم» . تلقى علي عبد الرازق، كأخيه، علومه في الأزهر أولًا، ثم وفد على أوروبا، حيث أكمل دراسته في أكسفورد لا في باريس. وفي كتابه هذا نقع على بعض الإشارات العابرة إلى المفكرين البريطانيين السياسيين كهوبس ولوك (57)، إلا أن تأثير الفكر الإنكليزي المباشر فيه لم يكن كبيرًا. ثم إن الكتاب يعود بنا إلى الجو الفكري الذي خلقه محمد عبده. لكن محمد عبده كان قد توفي منذ عشرين عامًا، فكان لا بد من تطبيق نظراته على قضايا جديدة طرأت في تلك الأثناء. على هذا، كانت القضية المباشرة التي اهتم لها علي عبد الرازق هي قضية الخلافة. ففي 1922، وبعد ثورة مصطفى كمال، ألغت الجمعية الوطنية التركية السلطنة وأقامت خلافة رمزية لا تتمتع إلا بصلاحيات روحية فقط. وفي 1924 عادت فألغت هذه أيضًا. فقام جدل حاد في جميع أنحاء الإمبراطورية حول شرعية هذا التدبير وحول إمكانية أو وجوب إعادة الخلافة. وفي 1922، عندما ألغيت السلطنة،

ص: 224

أصدرت الجمعية الوطنية التركية الكبرى بيانًا شبه رسمي لتبرير قرارها هذا، وضعه فريق من الفقهاء، ونشر بالعربية، كما نشر بالتركية بعنوان «الخلافة وسلطة الأمة» . يعترف البيان بشرعية الخلافة، لكنه يقول بأنها لا تقوم إلا إذا توافرت شروط معينة. فالخليفة يجب أن يكون متصفًا بأوصاف معينة، وأن يختار وينصب من قبل الشعب، إذ أن السيادة للأمة الإسلامية بكاملها. لكن هذه الشروط لم تتوافر إلا في الخلفاء الأربعة الأول. لذلك كان كل من عداهم من الخلفاء خلفاء بالاسم فقط. لكن هذا لا يعني أن الأمة الإسلامية بقيت بدون سلطة شرعية. فعندما لا يكون لها خليفة، تستطيع أن تختار بنفسها نوعًا آخر من الحكم وتتخذ ما تراه مناسبًا من الترتيبات لتأمين حكم عادل وشرعي فيها. إلا أن نوع الحكم الذي تختاره يتوقف على حاجات العصر. ولا شاء أن «جمعية وطنية» يكون واجبها المقدس تأمين خير البلاد، الأفضل في العصر الحديث من سلطان لا هم له إلا الاحتفاظ بعرشه (59). وقد كان منطق هذا البيان من شأنه أن يبرر، لا تسوية 1922، بل خطوة 1924 الحاسمة. وبعد زوال الخلافة، قام مصطفى كمال بصراحته المعروفة، فأدلى بأسباب إزالتها قائلًا بأن الخلافة إنما أدت إلى خراب الشعب التركي الذي أفنى قواه عبثًا في سبيل مثل أعلى لم يكن لمصلحته الوطنية، كما لم يكن ممكن التحقيق بحد ذاته. فالخلافة هي جوهريًا أمر سياسي؛ وأن ما نتج عن محاولة جعلها أمرًا روحيًا لبرهان على ذلك، إذ أصبح الخليفة مركز تجمع للعناصر المستاءة. فإما أن يكون الخليفة رئيسًا للدولة أو لا يكون، ولا يمكنه أن يكون رئيسًا للدولة، إذ ليس بالإمكان اليوم وجود دولة مسلمة متحدة (60).

لقد استفظع المسلمون المحافظون هذه الأقوال في بادئ الأمر، غير أنهم، عندما فكروا مليًا بالموضوع، توصلوا إلى نتائج لم تختلف كثيرًا عنها. ففي 1926، عقد فريق من «العلماء» المصريين «مجمع الخلافة» في القاهرة برئاسة شيخ الأزهر «نظرًا

ص: 225

للمركز الممتاز الذي يحتله هذا البلد بين الشعوب الإسلامية» (61). فأكد هذا المجمع، من جديد، النظرة التقليدية في الخلافة: فقال بشرعيتها، بل بوجوبها، لأن عددًا من الفرائض الشرعية تتوقف عليها. ولكي تكون أصيلة، ينبغي أن تتمتع بالسلطة الروحية والزمنية معًا. فإذا انعدمت هاتان السلطتان لم يكن للخلافة وجود بالفعل، كما هو واقع الحال في الوقت الحاضر. لذلك كان كل ما يمكن القيام به الآن هو عقد اجتماعات متتابعة للنظر في الأمر، حتى يحين الوقت المناسب. وقد أضاف أحد المندوبين إلى ذلك أمله في أن يكون من الممكن، عندما يحين الوقت، أن ينتخب الخليفة من قبل «هيئة تمثيلية إسلامية» (62).

وقد وضع عبد الرازق كتابه هذا إسهامًا منه في هذا البحث، مثيرًا بصورة حية أخطر سؤال انطوى عليه وهو: هل الخلافة ضرورية حقًا؟ إلا أن وراء هذا السؤال، كان سؤال آخر أعم، لا بل أخطر منه، وهو: هل هناك نظام إسلامي للحكم؟

يسوق المؤلف النظريتين اللتين وضعتا لمعالجة أساس سلطة الخليفة فيقول: النظرية الأولى والأوسع انتشارًا تؤكد أن سلطة الخليفة مستمدة من سلطة الله. أما الثانية، فتؤكد أنها مستمدة من إرادة الأمة. وكلا النظريتين تستندان إلى مبدأ مشترك، هو أن الاعتراف بسلطة الخليفة أمر واجب، سواء كانت هذه السلطة مستمدة من المبادئ العقلية أو من نصوص الشريعة. وتأييدًا لهذا المبدأ يستشهد أصحابه بمبدأ إجماع الصحابة والتابعين وبعدم إمكان الاستغناء عن الخليفة لإقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية. لكن عبد الرازق يشير إلى إمكان دحض هذه البراهين ببراهين أقوى منها. فالقرآن لم ينص على الخلافة، باستثناء أقوال عامة غامضة تأمر باحترام أولي الأمر، والحديث لم ينص عليها أيضًا، باستثناء أقوال لا تقل غموضًا عن الأولى في طاعة الإمام، بدون تحديد لمهمة الإمام أو تأكيد على وجوبه. ولو فرضنا أن الحديث إنما يشير إلى الخليفة

ص: 226

عندما يذكر الإمام، فهذا لا يستلزم وجود الحليفة بصورة دائمة، كما لا تعني إشارة الإنجيل إلى «إعطاء ما لقيصر لقيصر» ضرورة وجود القيصر بصورة دائمة. وأخيرًا ليس من إجماع حقيقي حول الموضوع. أما عدم الاعتراض على السلطة التي كان الخليفة يدعيها لنفسه، فهو لا يخلق إجماعًا ضمنيًا، لأن سلطة الخليفة كانت تقوم دومًا على القوة المسلحة. حتى عندما لم تكن هذه القوة ظاهرة للعيان، أو لم يكن من حاجة إلى استعمالها، ولأن التعبير الحر عن الآراء لم يكن ممكنًا آنذاك. فالتفكير الحر في السياسة كان بالواقع مستحيلًا. وهذا ما يفسر عدم قيام معالجة حقيقية للسياسة من جانب المفكرين المسلمين (63). إن الفرصة لحصول إجماع حر في الماضي لم تتوافر قط. كما لم تتوافر مثلًا عندما انتخب فيصل ملكًا للعراق بإشراف الإدارة البريطانية. أضف إلى ذلك أن وجود الخليفة ليس شرطًا ضروريًا للعبادة والخير العام. نعم، إن نوعًا ما من السلطة ضروري، لكن ليس من الضروري أن تكون من نوع معين. فعندما زالت الخلافة عمليًا في عصر المماليك، لم يتبين أن زوالها أثر في العبادة أو الخير العام في البلدان الإسلامية. بل بالعكس، كانت سلطة الخلافة مضرة بالإسلام. لا بل «نكبة على الإسلام والمسلمين وينبوع شر وفساد» (64).

ليست الخلافة إذن جزءًا ضروريًا من الدين الإسلامي. لكن كيف نشأت وكيف توصل المسلمون إلى اعتبار وجودها واجبًا؟ يتناول عبد الرازق السؤال الأول بالتفحص عن الحالة السياسية في زمن النبي. فيقرر. أولًا، أنه لم تكن هناك أي دلائل واضحة على وجود أي نوع من أنواع الحكم المنظم طيلة حياة النبي، مما يترك القضية بكاملها غامضة. لذلك علينا أن نحاول معرفة موقف النبي نفسه من إقامة دولة. على هذا، هنالك ثلاثة أجوبة تقليدية: الأول القول بوجوب التمييز بين دور محمد كنبي. وبين أفعاله كزعيم سياسي ومؤسس لملك زمني. وهذا القول لا يمكن دحضه، لأن له بعض التأييد في

ص: 227

الشريعة والحديث، لكنه من غير المرجح أساسًا أن يكون للنبي دور آخر. والثاني ما زعمه آخرون، كابن خلدون، من أن تنظيم الدولة كان يشكل جزءًا أساسيًا من عمل محمد كنبي. لكن هذا القول يتعارض مع روح رسالة النبي. والثالث ما زعمه آخرون أيضًا من أن النبي لم يقم إلا شكلًا بسيطًا جدًا من الحكم يتناسب مع الأوضاع البسيطة القائمة آنذاك (65). لكن الأخذ بهذا القول إنما هو تهرب من القضية. فنظام الحكومة النبوية، إن صح وجوده، لا يتصف فيما يبدو بالأوصاف الضرورية حتى لأبسط أشكال الحكم، إذ لم يكن فيه لا موازنة ولا إدارة نظامية.

ثم يدلي عبد الرازق برأيه الخاص، وهذا ما يشكل محور الكتاب، فيقول ببساطة كلية، أن محمدًا لم يكن له أي وظيفة أخرى غير وظيفة النبي الداعي إلى الحق، ولم يرسل لممارسة أي سلطة سياسية، وإنه لم يمارس بالواقع مثل هذه السلطة.

فالرسالة النبوية روحية صرف. وهنا يقول: «قد يتناول الرسول من سياسة الأمة مثل ما يتناول الملوك، ولكن للرسول وحده وظيفة لا شريك له فيها. من وظيفته أيضًا أن يتصل بالأرواح التي في الأجساد، وينزع الحجب ليطلع على القلوب التي في الصدور. له بل عليه أن يشق عن قلوب أتباعه ليصل إلى مجامع الحب والضغينة ومنابت الحسنة والسيئة ومجاري الخواطر ومكامن الوساوس ومنابع النيات ومستودع الأخلاق

الرسالة تقتضي أصاحبها، وهي، كما ترى وفوق ما ترى، حق الاتصال بكل نفس اتصال رعاية وتدبير وحق التصريف لكل قلب تصريفًا غير محدود» (66).

وهكذا فقد كان لمحمد، كنبي، الصفات التي تقتضيها رسالته، وكذلك سلطته التي كانت أوسع من سلطة الزعيم السياسية ومختلفة بطبيعتها عنها. فهي سلطة روحية تنبع من خضوع القلب الحر المخلص الكامل ولا تقوم كالسلطة السياسية على إخضاع الجسد بالإكراه. وهي تستهدف، لا تنظيم شؤون الحياة في هذه

ص: 228

الدنيا، بل قيادة الناس إلى الله. وقد أنشأ محمد، بفضل هذه السلطة، جماعة، لكنها لم تكن من النوع الذي نسميه عادة «الدولة» . فلم يكن لها علاقة جوهرية بحكومة دون سواها ولا بأمة دون أخرى. والحقيقة أن الإرادة الإلهية لا تعني بأشكال الحكم. فقد ترك الله حقل الحكم المدني والمصالحة الدنيوية لمباشرة العقل البشري. وليس من الضروري حتى توحيد الأمة سياسيًا؛ فتلك أمنية مستحيلة عمليًا، حتى لو كانت ممكنة، فهل هي خير؟ لقد أراد الله أن يكون تمييز بين القبائل والشعوب وأن يكون تنافس بينها «كي تتكامل المدنية» (67).

إن وحدة الأمة لا تقوم، إذن، على وحدة الدولة. فالإسلام لم يعترف بأي فضل، داخل الأمة، لا لقوم ولا للغة ولا لبلد ولا لعهد على غيره إلا بالتقوى (68). كانت الأمة الأولى عربية بالعرض. فقد كان عليها أن تبدأ بشخص معين وفي مكان معين. وقد اختار الله في حكمته عربيًا لدعوة العرب أولًا. لذلك كانت الجماعة الإسلامية عربية في مرحلتها الأولى، وعالمية، إمكانيًا، منذ البدء. لكنها لم تكن دولة عربية. فالقبائل والأقوام المختلفة في الجزيرة العربية التي تجمعت حول شخص الرسول قد احتفظت بطرقها الخاصة في الحكم. ولم يتدخل النبي في شؤونها الداخلية، وما كانت وصاياه لتتناول طرقها في الحكم. إن وحدة القلوب التي حققها الإسلام، لم تكن تشكل دولة واحدة. والبرهان على ذلك هو أن النبي لم ينص على حكم الجماعة الدائم بعد موته. فإما أن يكون قد توفي تاركًا جزءًا أساسيًا من رسالته دون أن تستكمل، وهذا محال، إذا كان مرسلًا حقًا من الله، وإما أن يكون تأسيس الدولة لا يشكل جزءًا من رسالته.

ويتبنى عبد الرازق الافتراض الثاني، فيقول إن رسالة النبي ما كانت إلا رسالة نبوية، وقد انتهت بموته وزالت معها السلطة الخاصة الممنوحة له. وإذا تسلم أحد من بعده قيادة الأمة، فتلك

ص: 229

هي قيادة من نوع آخر، أي قيادة مدنية أو سياسية. إن دعوة الإسلام قد أنشأت جماعة دينية إسلامية. لكنها أنشأت أيضًا، كنتيجة جانبية لها، أمة عربية ودفعتها في طريق التقدم. فأسس العرب دولة بعد وفاة النبي ضمن الجماعة الروحية التي أنشأها. فقلدوا الخليفة الأول أبا بكر ما هو، جوهريًا، سلطة سياسية وملكية قائمة على القوة. فكانت دولته «دولة عربية قامت على أساس دعوة دينية» (69). لا شك في أنها ساعدت على انتشار الإسلام، لكنها كانت تعني أصلًا بمصالح العرب. إلا أن هذا لم يتضح لجميع المسلمين في ذلك الوقت. فقد اعتقد الكثيرون، نظرًا لفضائل أبي بكر الدينية ولحذوه حذو النبي في سلوكه، أن له وظيفة دينية أيضًا، ناهيك باللقب الذي اتخذه لنفسه، وهو «خليفة رسول الله» ، مما كان لا بد من أن يوحي بالولاء الديني، مع أنه لم يكن يعني سوى أن أبا بكر قد خلف الرسول كزعيم للعرب. وهكذا تأصلت الفكرة الخاطئة في الخلافة منذ ذلك الحين، وراح يشجعها الحكام المطلقون، تأمينًا لمصلحتهم. تلك، عند عبد الرازق، جناية الملوك واستبدادهم بالمسلمين

«والحق إن الإسلام بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون» (70). إن الدين لا شأن له بهذا النوع أو ذاك من أنواع الحكم. وليس في الإسلام ما يمنع المسلمين من هدم نظامهم السياسي القديم وبناء نظام جديد على أساس أحدث نظرات العقل البشري وخبرة الأمم.

أثار كتاب عبد الرازق عاصفة كبرى، كانت نتائجها وخيمة عليه. فقد هاجمه وشهر به مفكرون مسلمون من ذهنية أخرى، وأدانه رسميًا مجلس من كبار علماء الأزهر. وفي إدانتهم إياه دحضوا، استنادًا إلى نصوص من القرآن والحديث، سبع قضايا تضمنها الكتاب أو ادعوا أنه تضمنها، وحكموا بأن مؤلفه ليس أهلًا لأي منصب عام (71). وعاش عبد الرازق، حتى آخر أيام حياته، عيشة منزوية، كتب خلالها كتابًا أو اثنين لم

ص: 230

يكن عليهما اعتراض، دون أن يلعب في الحياة العامة الدور الذي لعبه شقيقه.

ليس من الصعب معرفة الأسباب التي أثارت تلك المقاومة ضد الكتاب. فقد أتى بنظرية تاريخية جديدة حول أمور كانت النظرة التاريخية المقبولة بشأنها بمثابة عقيدة دينية، كما أن تلك النظرية كانت مستمدة من مؤلفات في الإسلام وضعها كتاب غير مسلمين يمكن اتهامهم بمحاولة إضعاف تمسك المسلمين بدينهم، أكثر مما كانت مستمدة من المصادر الإسلامية الأساسية، وهي علوم التفسير القرآني والحديث. فقد أعلن أحد نقاد الكتاب، رشيد رضا، بأن الكتاب آخر محاولة يقوم بها أعداء الإسلام لإضعاف هذا الدين وتجزئته من الداخل. وقال آخر، محمد بخيت، إنه لا يجوز مطلقًا قبول ما يقوله غير المسلمين في الإسلام، وبنوع خاص ما يقولونه في الخلافة، ذلك الشبح الذي لو شاهده حتى في الحلم أشجع رجال أوروبا لارتعش خوفًا وهلعًا (72). وقال أيضًا إن عبد الرازق قد فضل نظرية السير توماس أرنولد التاريخية على إجماع الفكر الإسلامي بكامله. ثم أخذ يدحض بكثير من التفاصيل وبإسهاب بالغ تفسير المؤلف للتاريخ الإسلامي، مشككًا في معرفته للمصادر وفهمها. وقد أدلى بكثير من الأدلة ليدحض الفكرة القائلة بأن الحكم المنظم لم يقم في عهد الرسول، وبأن النبي لم يعلم شعبه التنظيم السياسي (73)، وليثبت أن الإجماع على وجوب نوع من أنواع الإمامة كاد يكون تامًا أكثر من الإجماع على أي مسألة عقائدية (74).

وقد وجهت إلى الكتاب تهمة أخرى أشد خطورة، هي التهمة التي وجهها العلماء وتولى الشيخ بخيت تنفيذها قائلًا: إن نظرية عبد الرازق تهدد، ضمنًا، نظام العقيدة الإسلامية بكامله، وذلك بمحاولتها هدم أحد أساسية: عقيدة الخلافة. فالمتكلمون المسلمون قالوا دومًا بأن بعض الأنبياء إنما أرسلوا إلى الناس لكشف الحقيقة عن الله والعالم، بينما أرسل بعضهم الآخر للدعوة إلى

ص: 231

شريعة أيضًا، أي إلى نظام خلقي مستمد من الكتاب. وقد كان عيسى نبيًا من النوع الأول، كما كان محمد نبيًا من النوع الثاني (75) لذلك كان تطبيق الشريعة جزءًا جوهريًا من رسالة محمد (76)، مما استلزم حيازته على سلطة سياسية، كما اقتضى أن تكون الجماعة الإسلامية منذ البدء جماعة سياسية. وفضلًا عن ذلك، فبما أن الكتاب والشريعة لم ينزلا من أجل جيل معين، بل من أجل كل الأجيال، وجب دائمًا وجود من يمارس السلطة السياسية في الأمة. فالدين الإسلامي قائم على السعي وراء السيطرة والسلطة والقوة والسؤدد، ورفض أي شريعة تنافي شريعته وسنته الإلهية وعدم الاعتراف بأي سلطة لا يكون صاحبها مكلفًا بتنفيذ أحكامها (77). فإذا لم يكن النبي زعيمًا سياسيًا، والأمة أمة سياسية، فإما أن لا وجود للنبي وللأمة، وإما يجب تغيير مفهومنا لهما، أي تغير ماهية الإسلام ذاتها.

ويتابع الشيخ بخيت نقده، فيجد في كتاب عبد الرازق ما هو أفظع من ذلك، وهو أنه يعطل الأداة التي بها يمكن، بمسؤولية، إحداث التغيير والتطور في الإسلام. فطريقة النظر الحذرة القائمة على القياس بمقدماته المستمدة من القرآن والحديث، والإجماع الذي كان نتاجًا لهذه العملية، وبالوقت نفسه حاميًا لها، أمر طرحه عبد الرازق جانبًا ليقيم مكانه عقل الفرد وأوهامه وشهواته، معتمدًا السفسطة والافتراض والأدلة الشعرية، مع أن الأمور التي أنكرها وأنكر براهينها إنما هي واقعة في حقل الفقه والشريعة الذي لم يكن للعقل أن يسير فيه وحده، والذي لا خيار فيه سوى اعتماد القرآن والسنة والإجماع أو القياس (78). وهذا يشكل خطرًا دائمًا، لكنه أشد خطرًا في الوقت الحاضر، إذ يتجه المسلمون اليوم لتنوير عقولهم الطبيعية، لا نحو المصادر الإسلامية، بل نحو المصادر الأوروبية والمسيحية، مع أن هناك فرقًا أساسيًا بين الإسلام والمسيحية في باب التعاليم الاجتماعية، وبنوع خاص في باب هذه القضية ذاتها، أي السلطة السياسية وطبيعة الجماعة الدينية.

ص: 232

فعبد الرازق، بنظريته هذه، إنما ينفي ضمنًا هذا الفارق ويدخل في الأمة تمييزًا بين النبوة والحكم السياسي، بين ملكوت الله وملكوت الدنيا، ذلك التمييز الذي يصح على المسيحية لا على الإسلام (79).

ولا يعتبر الشيخ بخيت هذا الخطر نظريًا وحسب، إذ أن ما يقوله عبد الرازق يفضي، آخر الأمر، إلى إنكار الشريعة ذاتها. فإذا لم يكن من شريعة، أي قانون يعلو على الحكم، انتفى المجتمع السياسي بمعناه الصحيح، وآلت الأمة إلى فوضى. إن البشر بحاجة إلى ضابط وحاكم يبقيهم ضمن الحدود المفروضة ويحول دون الاضطهاد ويقيم العدل ويحكم على ضوء قانون يقبل به الجميع. ولا يمكن تركهم أحرارًا يدبرون شؤونهم الدنيوية وفقًا لما يمليه عقلهم ومعرفتهم أو مصالحهم ورغباتهم، إذ يعني ذلك سيطرة القوي على الضعيف ونهاية الأمان الفردي (80).

يبدو، للوهلة الأولى، أن صوت الشيخ بخيت منبثق عن تراث الفكر الإسلامي العظيم. لكننا لو تحرينا القانون السياسي الذي يستنتجه هو من مبادئ الإسلام، لسمعنا صوتًا مختلفًا. فهو يتبنى قول عبد الرازق بأن الفكر السني قد أرجع دومًا سلطة الخليفة إما إلى الله مباشرة، وإما إلى الأمة، ويصرح مؤكدًا بأن الرأي الصحيح هو القائل بأن الأمة هي مصدر سلطة الخليفة، وبأن الخليفة يستمد سلطانه منها، وبأن الحكم الإسلامي الذي يرأسه الخليفة والإمام الأعظم إنما هو حكم ديمقراطي، حر، استشاري، دستوره كتاب الله وسنة رسوله (81).

وبهذا القول لا يعني الشيخ بخيت أن لمؤسسات الإسلام السياسية جميع فضائل المؤسسات الحديثة السياسية وحسب، بل يضمر أيضًا أنها لا تختلف عنها أصلًا. وهكذا نرى أن التوفيق بين المفاهيم الإسلامية والمفاهيم الحديثة الذي نادى به الكتاب السالفون أصبح اليوم مقبولًا بلا تساؤل. ويبدو أن الشيخ بخيت لم يكن يعلم أنه، بقوله هذا، إنما كان يمهد السبيل لتوغل العقلانية الغربية في الإسلام، وهو ما من أجله انتقد خصمه.

ص: 233