المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل العاشرطلائع العلمانية (الشميل- فرح أنطون) - الفكر العربي في عصر النهضة

[ألبرت حوراني]

الفصل: ‌الفصل العاشرطلائع العلمانية (الشميل- فرح أنطون)

‌الفصل العاشر

طلائع العلمانية (الشميل- فرح أنطون)

نقل الإمام محمد عبده وأتباعه الأفكار السائدة في أوروبا وطبقوها على مجتمعهم، فكان لذلك تأثير أقوى بكثير مما توقع هو نفسه. فقد أدت محاولة صياغة مبادئ المجتمع الإسلامي صياغة جديدة إلى فكرة مجتمع قومي علماني يكون الإسلام فيه مقبولًا ومحترمًا، لا بل مساعدًا على شد الروابط العاطفية بين المواطنين، دون أن يكون مصدرًا لقواعد الشريعة والسياسة. وقد نادى بفكرة مماثلة، في الوقت نفسه، فريق من الكتاب المسيحيين السوريين. ولما كان هؤلاء مسيحيين من الأقليات، فقد دفعوا بهذه الفكرة في اتجاه مختلف.

كان الشدياق والبستاني رائدي مدرسة من الكتاب الذين فتح نمو الصحافة الدورية العربية مجالًا جديدًا لمواهبهم. ففي السبعينيات من القرن التاسع عشر أخذ يظهر بالعربية نوعان جديدان من الصحف: الصحف السياسية المستقلة التي تنشر أخبار السياسات العالمية وتعبر عن الآراء السياسية؛ والمجلات التي كانت تتوخى غرضًا مزدوجًا، هو إطلاع الفكر العربي على أفكار أوروبا وأميركا واختراعاتها، وعلى كيفية التعبير عنها باللغة العربية. وكان العدد الأكبر من هذه المجلات، الصادرة في القاهرة أو بيروت، يحررها مسيحيون لبنانيون تثقفوا في المدارس الفرنسية أو الأميركية، فزودوا القراء، طيلة جيل بكامله، بمادة للمطالعة الشعبية تكاد تكون الوحيدة في اللغة العربية آنذاك، جاعلين للبنانيين تأثيرًا كبيرًا،

ص: 293

وإن يكن قصير الأمد، في جمهور قراء العربية.

كانت المجلة الأولى المهمة من هذا النوع مجلة «الجنان» التي أصدرها بطرس البستاني، وكتب معظم مقالاتها ابنه سليم. وقد عاشت مدة ستة عشرة سنة، من 1870 إلى 1886، حين توقفت عن الصدور لسبب تزايد الصعوبات في وجه الكتابة الحرة في عهد السلطان عبد الحميد، مما حمل عددًا من تلاميذ البستاني على الانتقال من بيروت إلى القاهرة، يجذبهم إليها أيضًا عدد القراء، وحرية التعبير النسبية، والرعاية التي شملهم بها أمثال رياض باشا من الحكام والمسؤولين. وكان أشهر هذه المجلات اللبنانية المصرية «المقتطف» التي أنشأت في 1876، و «الهلال» التي ظهرت لأول مرة في 1892. وكان قد أنشأ الأولى في بيروت معلمان شابان من أساتذة الكلية البروتستانتية السورية، هما يعقوب صروف وفارس نمر، اللذان انتقلا في 1885 إلى القاهرة، حيت بقيت المقتطف تصدر طيلة نصف قرن على قاعدة قلما طرأ عليها تغيير جوهري. فإذا أخذنا العدد الصادر في كانون الثاني 1896 على سبيل المثال، لوجدنا أنه يشتمل على مقالات في الأمراض السارية، والمكروبات في الهواء، والفروق بين الرجال والنساء، وتحليل فلسفي لمركز الإنسان بين الحيوانات، ومقال عن الإدارة في جبل لبنان في عهد رستم باشا (وهو أحد الحكام المعينين وفقًا لنظام 1861)، وملخص لتقرير لجنة أميركية عن أسس التربية، ومجموعة أقوال في اليمامة مستقاة من الأدب العربي؛ وأخبار صغيرة عن الأساليب الصناعية والزراعية والاكتشافات العلمية.

أما مؤسس الهلال، فكان جرجي زيدان (1861 - 1914) الذي تلقى علومه لفترة في الكلية البروتستانتية السورية أيضًا، لكنه لم يتأثر بها إلى الحد الذي تأثر به زملاؤه. فقد كان ذا تركيب ذهني مختلف فأعار العلوم الطبيعية في مجلته اهتمامًا أقل، موجهًا جل عنايته إلى علم الاجتماع وأدب النفس، والسياسات العالمية، والجغرافيا، والتاريخ

ص: 294

واللغة والأدب، وآثار العرب. وعلى سبيل المثال أيضًا نأخذ العدد الصادر في شباط 1913، فنراه يشتمل على مقالات في تاريخ لبنان وحصار الصليبيين لدمياط، وعن مكيافيلي وابن خلدون، وفي التربية والنظام الاجتماعي، وفي العمر والشيخوخة، وفي كيفية معالجة السمنة، كما تشتمل على وصف زيارة قام بها رئيس التحرير إلى فرنسا وإنكلترا وسويسرا، وعلى فصل من قصته التاريخية عن صلاح الدين والحشاشين.

قد تبدو المواضيع التي كانت تعالجها هاتان المجلتان عديمة المغزى، خصوصًا وأنهما كانتا تتحاشيان كل ما يتعلق مباشرة بالسياسات المحلية أو بالدين أو بما شأنه أن يثير ضدهما العداء. غير أن وراء هذه المواضيع ووراء غيرها من هذا النوع كانت تكمن بعض الأفكار المعينة الدائرة حول ما هي الحقيقة وكيفية البحث عنها، وما على جمهور قراء العربية أن يعرفوه وهو أن المدنية خير بحد ذاتها، وأن ابتكارها وصيانتها إنما هما محك العمل وقاعدة الخلقية، وأن العلم إنما هو أساس المدنية، وأن للعلوم الأوروبية قيمة عالمية، وأن بإمكان العقل العربي ومن واجبه تحصيلها بواسطة اللغة العربية، وأنه بالإمكان أن نستخرج من الاكتشافات العلمية نظامًا للخلقية الاجتماعية التي هي سر القوة الاجتماعية، وأن أساس هذا النظام الخلقي إنما هو التحسس بالمصلحة العامة، أي الوطنية، التي هي حب الوطن والمواطنين الذي يجب أن يعلو على جميع الروابط الاجتماعية الأخرى حتى الدينية منها. وقد أصبحت مثل هذه الأفكار مألوفة في ما بعد بفضل هاتين المجلتين على الأخص.

لقد توقف المقتطف، آخر الأمر، عن الصدور، لأنه كان قد أنهى مهمته، بينما استمر الهلال، لأنه كان موجهًا لجمهور مختلف من القراء. كانت تلقي هذه الآراء لدى نشرها للمرة الأولى بنبرة رسولية، ولم تكن مقبولة في كل مكان. من ذلك أنه عندما وصلت الأعداد الأولى من المقتطف إلى بغداد في 1876، لم يرحب بالمجلة إلا بعض الشباب، بينما قاومها المحافظون من مختلف

ص: 295

المذاهب السنية والشيعية والمسيحية واليهودية. لأنها كانت، في نظرهم، تنشر عقائد جديدة وخطرة. حتى أن نعمان الألوسي نفسه، الذي كان زعيم حركة إصلاح إسلامية لا تختلف عن حركة محمد عبده، قاومها هو أيضًا. وقد انقضى بعض الوقت قبل أن أخذت عقائدها في الانتشار (1).

كانت هذه الأفكار تبث إجمالًا بطريقة التضمين. إلا أنه كان هناك بعض الكتاب اللبنانيين والسوريين الذين حاولوا صياغة نظرتهم إلى المجتمع بطريقة منظمة. ولعل أولهم كان فرنسيس مراش (1836 - 1873)، وهو من عائلة حلبية درس الطب في باريس. لقد مات في مقتبل العمر، ولم يترك لنا سوى بعض المؤلفات، منها «غابة الحق» ، وهي قصة رمزية كتبت بشكل حوار يدور حول كيفية إقامة «مملكة المدنية والحرية» (2). كانت أفكار هذا الكتاب هي الأفكار الأوروبية المنتشرة في ذلك الوقت: فوائد السلم، وأهمية الحرية والمساواة (وفيه استنكار للرق قد يكون انعكاسًا لموضوع الحرب الأهلية الأميركية)، وحاجة العرب قبل كل شيء إلى أمرين: مدارس حديثة وحب للوطن طليق من الاعتبارات الدينية (3). وكان الكتاب يشتمل أيضًا على نقاش حول معنى المدنية، مما يدل على الأهمية التي كان يعلقها المؤلف على مفهوم هذه الكلمة. فالمدنية، في نظره، هي ما يقود الإنسان إلى كمال أوضاعه الطبيعية والخلقية (4). وهي لا يمكن أن تتحقق إلا إذا توافرت لها بعض الشروط. وفي مقدمة هذه الشروط، التربية السياسية التي تعلم أن على الحاكم أن يكون معدًا الإعداد اللازم للقيام بمهام منصبه، وأن يكون متحليًا بصفات العقل والخلق الضرورية. ومنها أن من الواجب أن يكون الجميع متساوين أمام القانون بدون أي تمييز بينهم، وأن تكون القوانين مناسبة للمجتمع، وأن يكون الخير العام هدف الحكم. هذا فضلًا عن شروط أخرى، كتنمية العقل وتهذيب العادات والأخلاق الاجتماعية وتنظيف المدن

ص: 296

وإتقان بنائها.

قد يكون إلحاح مراش على علم حفظ الصحة انعكاسًا لدراسته الطبية في باريس. غير أنه عاش قبل الثورة التي أحدثتها نظريات دارون في التفكير البيولوجي. فكان من نصيب كاتب من الجيل اللاحق، مسيحي سوري وطبيب أيضًا، أن يكون أول من أدخل تلك النظريات إلى العالم العربي، نعني به شبلي الشميل (1850 - 1917)، الذي كان بين المتخرجين الأول من المعهد الطبي التابع للكلية البروتستانتية السورية. ثم تابع دراسة الطب في باريس قبل أن يستقر في مصر، حيث مارس مهنته وكتب مرارًا وتكرارًا في المقتطف ومجلات أخرى من هذا النوع. وقد اهتم أيضًا بالشؤون العامة، ولخص في كتيب موجه إلى عبد الحميد في 1896 بعنوان «شكوى وأمل» نظرته إلى ما كانت تفتقر إليه السلطنة العثمانية من علم وعدل وحرية (5).

كان الشميل يعتقد أن أعظم هذه الأمور شأنًا، لا بل أساسها جميعًا، إنما هو العلم. لقد كان ينتمي إلى تلك الحركة الكبرى التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، والتي كانت تعتبر العلم أكثر من مجرد طريقة لاكتشاف النظام في ترابط الأشياء، إذ كان مفتاحًا لحل لغز الكون، لا بل نوعًا من العبادة. وكان العلم يعني عند الشميل النظام الميتافيزيقي الذي بناه هكسلي وسبنسر في إنكلترا وهاكل وبوخنر في ألمانيا على فرضيات دارون الحذرة. وكان مؤلفه الرئيسي ترجمة شرح بوخنر لأفكار دارون مع ملاحظات وإضافات من عنده. وكان أساس ذلك النظام فكرة وحدة الكائنات. فجميع الأشياء تتكون من المادة بحركة عفوية وجدت منذ الأزل وستبقى إلى الأبد. والأشكال المتكونة، أي المعادن والنبات والحيوان والإنسان، تكون في كل مرحلة أكثر تميزًا بعضها عن بعض وأكثر تعقدًا منها في المرحلة السابقة. وكل مرحلة تنبثق من المرحلة التي سبقتها بدون انفصال، وذلك بفضل قوي ملازمة أصلًا للمادة

ص: 297

نفسها، تتخذ بدورها أشكالًا مختلفة باختلاف المستويات، بحيث أن ما يبدأ نورًا يصبح حركة ثم جاذبية ثم رغبة ثم حبًا. والإنسان هو قمة هذا التطور والكائن الأول القادر على السيطرة عليه والمساهمة فيه عن وعي، وذلك بتغيير ظروفه الخارجية وبالاستعاضة عن الصراع من أجل البقاء بالتعاون وتوزيع العمل. وهذا الإنسان لا يزال ساعيًا لبلوغ كماله الذاتي، وتنمية قواه العقلية، والاستعاضة عن النزاع بالتعاون، والإكراه بالتنظيم الإرادي، والرغبة الأنانية في سعادته الخاصة بالسعي وراء سعادة الجميع. إن هذه الرؤيا لتسلسل الكائنات، ولأساس كل الأشياء ومصدرها، وللإنسان كغايتها الأخيرة، قد هزت في الشميل حس الجمال والجلال كما هزت حس أبناء جيله في أوروبا وأميركا. فهو يتساءل قائلًا: هل هناك ما هو أبهج وأنفع من معركة تحول المادة وقواها، والعلم بأن جميع الأشياء بالحقيقة شيء واحد؟ ولم يكن من قبيل الصدفة أنه أطلق على وحدة الطبيعة التعبير المستعمل في علم الكلام الإسلامي للدلالة على وحدة الله: التوحيد (6).

يعلن الشميل عقيدته بحرارة إيمان المهتدي والثائر معًا. ولا عجب، فقد كان لا يزال لتلك النظرية، يوم ترجم بوخنر في العقد الثامن، وقع الصاعقة. وقد جرى حادث يدل على ذلك قبل بضع سنين في الكلية البروتستانتية السورية، أي بعد بضع سنوات فقط من دراسته فيها. وهو أن أستاذ العلوم الطبيعية فيها ألقى، لمناسبة حفلة المتخرجين لعام 1882، خطابًا أبدى فيه تأييده لنظريات دارون، مما حمل معظم زملائه والقيمين على إدارة المعهد على الاستنكار. ثم طرحت القضية على مجلس الأمناء، فصرح الرئيس بأن مجلس الإدارة وهيئة الأساتذة ومجلس الأمناء لا يقبلون قط بأن يقال أو يعلم في المعهد ما يسمى بالدارونية. فما كان من المذنب إلا أن استقال، فقبلت استقالته. وقد شاركه في الاستقالة عدد من المعلمين الآخرين احتجاجًا، كما أبدى بعض طلاب الطب

ص: 298

عطفهم، فطردوا ثم أعيدوا بعد أن طلبوا الصفح والغفران (7). وقد حفظ مؤرخ الكلية، كما جرى عليه التقليد الشفهي حتى اليوم، صورة عن الحادث يبدو منها أنه كان أشد عنفًا مما روينا، وأنه ترك أثرًا عميقًا في الذين شهدوه. وقد لمح الشميل نفسه إليه (8) قائلًا إن لا غرابة في أن يثير ذلك الخطاب مثل ردة الفعل تلك، إذ أن دين العلم هو إعلان حرب على الديانات القديمة. وما نشأت المسيحية، في نظره، إلا عن الأنانية، وعن حب السيطرة من قبل رؤساء الدين، وعن رغبة الإنسان العادي في البقاء الفردي. وليس ما يحرر الإنسان من نير الأنانية سوى إدراك فكرة وحدة المادة والإقرار بها. لكن للدين الحديد مستلزمات اجتماعية وسياسية واسعة أيضًا. فالعلوم الطبيعية هي أساس العلوم الإنسانية، ولا تستمد الشرائع السليمة إلا من العلوم الإنسانية الصحيحة. أما العلوم الزائفة، فهي تؤدي إلى شرائع وأنظمة حكم زائفة. وليس الحكم الديني والحكم الاستبدادي فاسدين فحسب، بل هما غير طبيعيين وغير صحيحين. فالحكم الديني يرفع بعض الناس فوق سواهم، ويستخدم السلطة لمنع نمو العقل البشري نموًا صحيحًا؛ أما الحكم الاستبدادي، فينكر حقوق الأفراد (10). وما مصدر الاثنين إلا المبدأ الخاطئ القائم على تفضيل المنفعة الشخصية على المنفعة العامة. وهما يشجعان العقل على البقاء في حالة الجمود، وبذلك يعرقلان ذلك التقدم التدريجي الذي هو ناموس الكون. لكن بالإمكان تصور نظام للشرائع وللحكم يقوم على نواميس الكون، ويسمح بالتالي لتطور النمو الكوني أن يستمر وللإنسان «أن يعيش وفقًا لطبيعته» . ومثل هذا النظام ينبثق عن المبادئ ذاتها التي تنبثق عنها نواميس الطبيعة، وهي أن الأشياء كلها سائرة إلى التباين والتغير، وأن التطور يتحقق بالصراع من أجل البقاء، وأن البقاء للأصلح.

لكن ما هو الأصلح للبقاء؟ على هذا يجيب الشميل بقوله: كما أن الجسد يكون صالحًا للبقاء عندما تعمل كل أجزائه بتعاون،

ص: 299

هكذا يقوم المجتمع بعمله على أحسن وجه عندما تعمل أجزاؤه معًا في سبيل خير الجميع. فالتعاون ناموس المجتمع الأعلى. وعن هذا ينتج أن القوانين والمؤسسات يجب أن لا تعتبر معصومة وغير قابلة للتغيير، إذ ما هي سوى تدابير في حقل الحياة الاجتماعية، تقاس قيمتها بمقدار ما تخدم الخير العام وهي تتغير بتغير شروطه (11). لكن على هذا التغيير أن يتم تدريجًا. نعم، هناك حالات لا بد فيها من الثورة، حين لا يكون من علاج سواها لإخراج السم من الجسد؛ لكن الإصلاحات التي تنجح إنما هي، على العموم، تلك التي تنبثق عن تغير في الإرادة العامة وتستهدف الخير العام (12). على أنه لا يمكن الاتفاق على ما هو الخير العام إذا لم تتوافر الحرية، وبالأخص حرية الفكر. ففي الحكم الاستبدادي يسيطر عضو من أعضاء المجتمع على الآخرين بالقوة ويضع مصالحه فوق مصالحهم. كذلك لا تكون إرادة عامة بدون وحدة اجتماعية تقوم عليها، مما يقتضي فصل الدين عن الحياة السياسية. إذ أن الدين هو عنصر تفرقة، لا بحد ذاته، بل لأن رؤساء الدين يبذرون الشقاق بين الناس، مما يبقي المجتمعات ضعيفة. والأمم تقوى بمقدار ما يضعف الدين (13). فهذه أوروبا، فهي لم تصبح قوية ومتمدنة، فعلًا، إلا عندما حطم الإصلاح (إصلاح لوثر) والثورة الفرنسية سلطة الإكليروس على المجتمع. وهذا يصح أيضًا على المجتمعات الإسلامية. إذ أن ما أضعف الأمة ليس الإسلام أو القرآن بل سلطة رجال الدين. وقد توسع الشميل في شرح هذه الفكرة، ردًا على ما وجهه اللورد كرومر من انتقادات إلى الإسلام في كتابه «مصر الحديثة» . فقد حكم اللورد كرومر على الإسلام بأنه «أخفق كنظام اجتماعي» ، ملقيًا اللوم في ذلك على وضع المرأة المنحط، والقبول بالرق، وتصلب الشريعة، وضيق الإيمان (14). ولم يكن يعتقد بإمكان إيجاد علاج لذلك، كما يتبين مما كتبه عن رجل سيصبح يومًا من دعاة الإصلاح، هو محمد بيرم التونسي، إذ قال:

ص: 300

«قد يأخذنا العطف على أمثال محمد بيرم من المسلمين، لكن ليعلم السياسيون العمليون أن ليس لدى هؤلاء أي خطة جديرة بأن تقيم من الموت جسدًا لم يمت، لكنه في حالة نزاع، وقد يبقى هكذا لقرون عديدة

أنه غير قابل للحياة ولا يمكن وقف انحلاله بأي مخدر من المخدرات الحديثة، مهما استعملت بمهارة».

لقد أثار هذا النقد اهتمامًا كبيرًا وعددًا من الردود. وقد يبدو غريبًا أن يسارع شميل المسيحي إلى الدفاع عن الإسلام. لكنه كتب عن الإسلام بحرية أوسع مما كان بإمكان مسيحي عربي من جيل سابق أن يكتب.

ليس من الصعب العثور على مصدر أفكار الشميل في مؤلفات سبنسر وبوخنر. لكنها كانت ترمي هنا إلى هدف معين في مجتمع كان لا يزال قائمًا على فكرة الجامعة الدينية. وكان الكثيرون من الكتاب العرب المسيحيين من معاصري شميل يبشرون بتلك الأفكار ويستنتجون منها وجوب وجود وحدة قومية تتعدى الفروق الدينية. لكن الشميل نفسه ذهب أبعد من ذلك في استنتاجه. فهو لم يكن يحاول الاستعاضة عن التضامن الديني بالتضامن القومي فحسب، بل راح أيضًا يعلن أن لجميع أنواع التضامن الجزئي خطر التضامن الديني، لأنها تجزئ المجتمع البشري. فالتعصب القومي الأعمى لا يقل شرًا عن التعصب الديني الأعمى. لذلك لا بد من أن تحل، عاجلًا أم آجلًا، الوطنية العالمية محل الولاء للوطن المحدود. وعندما ناقش المجلس التشريعي، في 1909، مسألة تمديد امتياز قناة السويس وانتهى إلى الرفض، كتب شميل أن من مصلحة مصر تمديد هذا الامتياز، وقبول البدل المعروض من الشركة، لأن التقدم العلمي أسرع اليوم مما كان عليه في الماضي، وكذلك التقدم الاجتماعي. فمفهوم الوطن على تحول، وقريبًا سيشمل العالم كله. وعندما ينتهي الامتياز في 1968، لن تكون القناة ملكًا لمصر أكثر مما تكون ملكًا للصين أو لأميركا. فلتأخذ، إذن، مصر البدل المعروض

ص: 301

ما دام حقها في القناة معترفًا به، ولتستخدمه في سبيل الخير العام (16).

أثارت عليه مقاومته هذه للقومية وعقيدته الاشتراكية كثيرًا من الانتقاد يومذاك. فهو أول من نشر بالعربية فكرة الاشتراكية، وإن لم يكن أول من سماها بهذا الاسم. ومن الواضح أن القضية التي تبناها لم تكن قضية الاشتراكية الأوروبية، قضية الملكية الخاصة أو العامة لوسائل الإنتاج. فهذه ليست مشكلة مصر التي لم تكن قد تعرفت بعد إلى الصناعة الحديثة؛ بل ما كان يهمه إنما هي القضية الليبرالية التي أثيرت حول حدود تدخل الدولة. فعندما كان يدعو نفسه اشتراكيًا، كان يعبر بالحقيقة عن اعتقاده أن على الحكومة أن تعمل على التقدم الاجتماعي وتحقيق التعاون في سبيل الخير العام. فعليها مثلًا أن تجد عملًا للقادرين على العمل، وأن تؤمن المساواة في الأجور، وتحسن الصحة العامة (17). وقد ذهب أبعد من ذلك في المنهاج الذي وضعه في 1908 للحزب الاشتراكي في مصر؛ فقال إن للحزب سياستين: سلبية وإيجابية. الأولى هي السعي إلى إزالة جميع الكتب غير النافعة، ومدرسة الحقوق، والجامعة الجديدة التي كانت في مرحلة التأسيس، والمحاكم المختلطة، لا بل جميع المحاكم الموجودة، والشركات المحتكرة لتوزيع المياه، والصحف التي تبذر الشقاق بالتحدث عن المسلم والقبطي والدخيل (وفي هذا إشارة إلى التهجمات المصرية على الجالية اللبنانية في مصر). والثانية هي أن يقيم، بعد تهديم جميع هذه المؤسسات، جامعة حقيقية تدرس فيها العلوم، ومدرسة تقنية بدلًا من مدرسة الحقوق، ومحاكم محلية بسيطة جدًا، ومؤسسات عامة لتوزيع المياه، ومدارس ابتدائية في كل قرية وحي، وصحف لائقة لتنوير الرأي العام.

قد يكون من المستحيل تطبيق مثل هذه الأفكار. لكن نشرها، بحد ذاته. قد ساعد على تخمير الأفكار والأفعال التي أطلقت الحركة الدستورية في مصر وفي الإمبراطورية العثمانية. كان شميل على العموم من أنصار «تركيا الفتاة» في معارضتها لاستبداد عبد الحميد. فقد

ص: 302

كتب في 1898، عن هذا الحزب، أن أعضاءه لم يكونوا كلهم ليبراليين مخلصين، لكنهم كانوا من أنصار التقدم الكوني والاجتماعي، يؤيدون الحرية، والوحدة الاجتماعية التي تتعدى جميع الفروق الدينية، وانتشار التربية. وكانوا، بالرغم من كل نقائصهم، يشكلون طلائع حركة الجنس البشري والكون (19)، بينما كان عبد الحميد يمثل نقيض ذلك. ومما يدل على ما كان يجده الشميل من انسجام بين نواميس الكون وقوانين كل مجتمع إنساني، أنه ختم مقدمة كتابه عن الدارونية بهذا الإنذار الموجه إلى الطغاة: إن يومكم آت، حتى في الشرق، مع انتشار المعرفة (20).

علينا، لنفهم فكر شبلي الشميل، أن نضعه في إطار النقاش الحاد الذي كان دائرًا يومذاك حول العلم والدين. وهذا ينطبق أيضًا على صحفي لبناني آخر من جيل أفتى بقليل هو فرح أنطون (1874 - 1922). نزح فرح أنطون من طرابلس إلى القاهرة، في 1897، وصرف بقية حياته بين مصر ونيويورك، رئيسًا لتحرير عدة مجلات عربية، وبنوع خاص مجلة «الجامعة» الشهيرة في زمانها. وقد عبر، في هذه المجلات وفي قصصه، عن الفكر الأوروبي «المتقدم» في عصره، مما أدى إلى نزاعه مع محمد عبده في تلك المناقشة الشهيرة التي حملت هذا الأخير على وضع دراسته في الإسلام والمسيحية، كما حملت الشميل على نشر أفكاره عن المجتمع والحكم. لقد ولدت تلك المناقشة كثيرًا من الحدة، وقطعت العلاقات الطيبة التي كانت قائمة بين الرجلين، كما قطعت العلاقات بين فرح أنطون ورشيد رضا. وكان فرح أنطون ورشيد رضا قد سافرا معًا من لبنان إلى مصر، فانقلب، في أثناء الجدل، ما كان قد تولد بينهما من صداقة إلى عداوة عنيفة ساخطة (21)، إذ طعنت أفكار فرح أنطون معتقدات محمد عبده في الصميم.

كان مصدر الخلاف دراسة طويلة عن حياة ابن رشد وفلسفته نشرها فرح أنطون في مجلته «الجامعة» . ويدل اختيار هذا الموضوع

ص: 303

على تأثير رينان عليه. فهو الذي ترجم «حياة يسوع» لرينان، وها هو الآن ينهج في كتابته عن ابن رشد النهج الذي رسمه معلمه. فالآراء العامة التي أدلى بها كانت آراء رينان نفسها تقريبًا، وإنما جردت من صوت المعلم وإنشائه الرائع الصافي المؤثر والمتصف بشيء من اللاجدية. من ذلك قوله إن بالإمكان حل «النزاع» بين العلم والدين، وذاك بتحديد الحقل الخاص بكل منهما. فهناك قوتان إنسانيتان مستقلتان: العقل والقلب، ولكل منهما قواعد عمله ونطاق نشاطه وطرق إثبات حقائقه. فالعقل يستند إلى الملاحظة والاختبار، وحقله هو العالم المخلوق، أما القلب، فيسلك طريق القبول بما تحويه الكتب المنزلة بدون أن يتفحص أساساتها، ومواضيعه الخاصة إنما هي الفضائل والرذائل والحياة الأخرى. وما يتوصل إليه الواحد منهما لا يمكن للآخر دحضه. لذلك يجب أن يحترم الواحد الآخر، وأن لا يتجاوز الواحد حدود الآخر (22).

كل هذا كان بحد ذاته بريئًا. غير أنه كان من شأن مثل هذه الأفكار، وقد ألقيت في مجتمع قائم على أساس الإيمان بالأديان المنزلة، أن تؤدي إلى نتائج ثورية. وكان فرح أنطون يعي ذلك، فأهدى كتابه إلى «النبت الجديد في الشرق» ، أي «أولئك العقلاء في كل ملة وكل دين في الشرق، الذين عرفوا مضار مزج الدنيا بالدين في عصر كهذا العصر، فصاروا يطلبون وضع أديانهم جانبًا في مكان مقدس محترم، ليتمكنوا من الاتحاد اتحادًا حقيقيًا ومجاراة تيار التمدن الأوروبي الجديد لمزاحمة أهله، وإلا جرفهم جميعًا وجعلهم مسخرين لغيرهم» (23).

ثم يشرح السبب الذي من أجله يكتب عن ابن رشد، فيقول إن غرضه إنما هو «تقريب الأبعاد بين عناصر الشرق وغسل القلوب وجمع الكلمة

لا بأن يبرهن الفريق الواحد للفريق الثاني أن دينه أفضل من دينه، فهذا أمر قد مضى زمانه

فهذا الزمان زمان العلم والفلسفة (الذي يقضي) بأن يحترم كل فريق رأي

ص: 304

غيره ومعتقده» (24).

إن ما جذب فرح أنطون إلى ابن رشد هو بالضبط ما كان قد جذب رينان إلى هذا الفيلسوف المسلم، أي تأكيده على أن النبوة نوع من الإدراك، وأن الأنبياء فلاسفة، وأن الحقيقة واحدة يسربلها الأنبياء بالرموز الدينية من أجل العامة، بينما تفقهها النخبة مباشرة. لكن فرح أنطون قصد أيضًا إلى غرض آخر. فقد كان كتابه، ككتاب الشميل، شبيهًا بالنشرة السياسية، بالرغم من شدة طابعه النظري. كما كان هدفه السياسي شبيهًا بهدف الشميل وسواه من كتاب عصره اللبنانيين. ذلك أنه توخى وضع أسس دولة علمانية يشترك فيها المسلمون والمسيحيون على قدم المساواة التامة. ورأى أن هنالك أساسين: الأول فصل الجوهري عن العرضي في جميع الأديان. فالجوهري هو مجموعة المبادئ، والعرضي مجموعة الشرائع، عامة كانت أم خاصة. فإذا تفحصنا مجموعة المبادئ، وجدنا أنها واحدة في جميع الأديان: فمسألة التثليث ليست إلا «مسألة شعرية مجازية» (25)؛ وليس المسيح ابن الله بسبب طبيعة خاصة به، بل لأنه حاز بمقدار أكبر على «روح الله» الذي هو فينا جميعًا، والذي يجعل منا كلنا، بمعنى من المعاني، «أبناء الله» (26). كذلك إذا تفحصنا مجموعة الشرائع لوجدنا أن غايتها الوحيدة إنما هي حث الناس على الفضيلة. فالثابت فيها هو إذن المبدأ الخلقي الكامن وراءها، ويجب أن نفسرها تفسيرًا يسمح لها بالقيام بوظيفتها، حتى لو اقتضى ذلك تأويلها (27). وبعبارة أخرى، إن جميع الأديان إنما هي دين واحد يعلم بعض المبادئ العامة. أما الشرائع الدينية، فلا قيمة لها بحد ذاتها، إذ ما هي إلا وسائل لغاية. فالطبيعة البشرية واحدة أساسيًا في نظر جميع الأديان، والحقوق والواجبات البشرية واحدة أيضًا. حتى أن الذين لا دين لهم لا يختلفون عن غيرهم في الطبيعة أو الحقوق.

هذا كان، في نظر فرح أنطون، أساس التساهل (28). لكن

ص: 305

هناك أساسًا آخر للعلمانية لا يقل عن الأول أهمية، هو الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، وذلك لخمسة أسباب: أولها، أن غايات السلطتين تختلف، لا بل تناقض بعضها عن البعض الآخر. فالدين يبتغي العبادة والفضيلة وفقًا للكتب المنزلة؛ ولما كان كل دين يدعي الحقيقة لنفسه ويطلب من الناس أن يسلكوا سبيله لبلوغ الخلاص، كان من الطبيعي للسلطات الدينية، إذا ما كانت ذات سلطة سياسية، أن تضطهد الذين يخالفونها وبالأخص المفكرين. أما غاية الحكم، فهي صيانة الحرية البشرية في حدود الدستور. لذلك لا تضطهد الحكومات الناس بسبب آرائهم إذا ما تركت وشأنها. ثانيًا، إن المجتمع الصالح يقوم على مساواة مطلقة بين جميع أبناء الأمة، تتعدى الفروق في الأديان. ثالثًا، إن السلطات الدينية تشترع للآخرة، لذلك كان من شأن سلطتها أن تتعارض وغاية الحكومة التي إنما تشترع لهذا العالم. رابعًا، إن الدول التي يسيطر عليها الدين ضعيفة. فالسلطات الدينية ضعيفة بطبيعتها، لأنها تحت رحمة مشاعر الجمهور، وهي تسبب بدورها ضعف المجتمع، لأنها تلح على ما يفرق بين الناس؛ والجمع بين الدين والسياسة، مما يضعف حتى الدين نفسه، إذ ينزله إلى حلبة السياسة ويعرضه لجميع أخطار الحياة السياسية. خامسًا وأخيرًا، إن الحكومات الدينية تؤدي إلى الحرب. فمع أن الدين الحق واحد، فالمصالح الدينية المختلفة تتعارض أبدًا بعضها مع بعض؛ ولما كان الولاء الديني قويًا بين الجماهير، فمن الممكن دائمًا أن يثير المشاعر (29).

في هذا تكمن، ضمنًا، نظرية فرح أنطون في الدولة. فالدولة يجب أن تقوم على الحرية والمساواة، ويجب أن تتوخى بقوانينها وسياستها السعادة في هذه الدنيا والقوة الوطنية والسلم بين الأمم، ولا يمكنها أن تحقق ذلك، إلا إذا كانت السلطة العلمانية مستقلة عن أي سلطة أخرى. كان محمد عبده يوافق على بعض هذا

ص: 306

القول لا كله. فهو أيضًا قد ميز بين ما هو جوهري وبين ما هو عرضي في الدين، لكن تمييزه هذا لم يكن كتمييز فرح أنطون: فهو يعتقد أنه إذا كانت جميع الأديان تنم عن الحقيقة الواحدة، فإن الإسلام، والإسلام وحده، هو، بمعنى دقيق خاص، الدين المعبر عن هذه الحقيقة بكاملها. وكان محمد عبده يقبل بأن تتمتع الحكومة بقدر كبير من الحرية في تشريعها، لكنه كان يفترض أن الشرائع الحديثة ستنمو من ضمن الشريعة، لا باستقلال عنها، فضلًا عن أنه كان يريد مشاركة متساوية، لا انفصالًا، بين الحكام وحراس الشريعة. وكان أيضًا موافقًا على أن يتمتع غير المسلمين بالمساواة القانونية والاجتماعية التامة، شرط أن تبقى الدولة دولة إسلامية. لذلك ليس من الصعب فهم رد فعله العنيف على أفكار فرح أنطون. لكنه تذرع، في الأخص، بنقطة ثانوية لدى فرح أنطون الذي لم يثرها إلا عرضًا، وهي القول بأن الإسلام اضطهد العلم أكثر مما اضطهدته المسيحية. فجاء كتابه عن الإسلام والمسيحية ردًا على ما أعتقد أن فرح أنطون قد قصد إليه. والواقع أن فرح أنطون لم يقصد تمامًا إلى ما ظهر من معنى ذلك القول الذي أثار غضب محمد عبده. إن ما أراد فرح أنطون أن يقوله هو أن انفصال السلطتين في المسيحية هو ما سهل على المسيحيين أن يكونوا أكثر تساهلًا من المسلمين، لكنه أسرع إلى التوضيح بأن سجل الديانتين يكاد يكون واحدًا من هذا القبيل. وإذا كانت البلدان الأوروبية اليوم أكثر تساهلًا، فليس ذلك لأنها مسيحية، بل لأن العلم والفلسفة جرداها من التعصب الديني الأعمى وتم فيها انفصال السلطات (30). كان هذا نقضًا مباشرًا لعقيدة محمد عبده، وهي أن الدين، إذا ما عاد إلى نقاوته، يمكنه أن يكون أساسًا للحياة السياسية، لا بل يكون أساسها الثابت الوحيد. وقد أبرز فرح أنطون هذا التناقض بوضوح في ردوده على محمد عبده. فهو يذكر محمد عبده بأن العالم قد تغير: فالدول الحديثة لم تعد قائمة على الدين، بل على

ص: 307

أمرين: الوحدة الوطنية وتقنيات العلم الحديث. ويعطي مثلًا على هذا التغير اندحار الوهابيين على يد جيوش محمد علي ثم يقول: لو كانت نظرية محمد عبده في أن الإصلاح الديني يؤدي إلى القوة نظرية صادقة لانتصر الوهابيون. لكنهم خسروا بالفعل، لأن محمد علي كان أول من أدرك في الشرق أن العالم قد تغير. ثم يصر على القول بأن أمل محمد عبده في الوحدة الإسلامية باطل. فهي لن تتحقق، وإذا تحققت، فلن يغير ذلك شيئًا، لأنها لن تولد القوة الضرورية لصد الخطر الأوروبي (31). والأمثلة من التاريخ المسيحي والإسلامي على السواء عديدة، تثبت كلها أن الوحدة الدينية غير ممكنة، وأن على الدولة أن تجد لها نوعًا آخر من الوحدة إذا ما أرادت البقاء. أما في العصر الحديث، فالوحدة تتم بخلق الولاء القومي والفصل بين السلطة المدنية والسلطة الدينية. وفي هذا قوله:«فلا مدنية حقيقية ولا تساهل ولا عدل ولا مساواة ولا أمن ولا ألفة ولا حرية ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم في الداخل إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية» (32). وهو لم يوافق على ادعاء محمد عبده بأن الأتراك هم الذين قضوا على وحدة الإسلام وقوته، وأنه يمكن استعادة هذه الوحدة وهذه القوة بنقل مركز الثقل من الأتراك إلى العرب. إذ كان الأمر بخلاف ذلك. فما مكن الأمة من البقاء إنما هو بالضبط روح الوطنية التي تميز بها الأتراك والفرس وتلك القوة التي المتولدة منها. فثقافة الفرس وفضائل الأتراك العسكرية قد نفحت الإسلام بقوة جديدة:«إن دولة سلاطين آل عثمان ورثت الميراث العربي بانتخاب طبيعي فكفت بقوتها ذلك الميراث ما كان يحدق به من المصائب والأخطار» (33).

وكان محمد عبده قد أدلى بحجة أخرى، وهي أن فصل الدين عن الدولة ليس غير مرغوب فيه فحسب، بل هو مستحيل. ذلك أن الحاكم لا بد له من أن ينتمي إلى دين معين، فكيف يمكنه أن يتحرر في أفعاله من تأثير هذا الدين؟ فالإنسان وحدة، لا مجرد

ص: 308

شيئين يتصل أحدهما بالآخر، هي الجسد والروح اللذان لا انفصال بين وظائفهما. فكيف يمكن، إذن، فصل السلطات التي تهيمن عليها؟ على هذا يجيب فرح أنطون بعرض النظرية الديمقراطية بكاملها. فالحاكم لا يحكم وفقًا لإرادته الخاصة أو معتقداته الشخصية، بل على ضوء القوانين التي تضعها جمعية ممثلي الشعب. والشعب يجب أن يكون سيدًا، وإلا ساد الاستبداد أو الفوضى. ولممثلي الشعب حكمة أوسع من حكمة أي حاكم منفرد، وذكاؤهم المشترك أدق من ذكاء أي واحد منهم بمفرده (34).

لذلك يجب أن يكون مجلس النواب أعلى من السلطات الدينية وأعلى من الحاكم نفسه. هذا ما كان فرح أنطون يعنيه حقًا بفصل السلطات الروحية عن السلطات الزمنية. فهو يرى الخطر في تدخل رؤساء الدين في الشؤون الدنيوية؛ إذ عندما تكون الحكومة علمانية، فضلًا عن تمتعها بسلطان فائق، وتضع حدودًا معينة للسلطة الدينية، لا يبقى هنالك من مجال للبلبلة أو الاختلاط، ولا يتعدى الحكومة أو الدين أحدهما على حدود الآخر. لكن فرح أنطون لم يتنبه، كما يبدو للخطر المعاكس. فهو يتساءل: ما هو الداعي للظن بأن الحكومة قد تتدخل في الشؤون الدينية؟ ثم يجيب: إذا لم يكن للسلطات الدينية صلاحيات سياسية، فلن تستجلب التدخل في شؤونها. وعلى كل، فقضيتها قد دخلت طور النزع الأخير. إذ إن باستطاعة النخبة الاستغناء عن معونتها، حتى في الشؤون الدينية. أما ما يهم الجماهير فهو شؤون هذا العالم: إن الاشتراكية إنما هي «دين الإنسانية» ، وهي آخذة في الحلول محل الأديان المنزلة (35).

إننا نسمع، من وقت إلى وقت، من خلال صفحات فرح أنطون، نغمة هي أكثر من مجرد صدى لمعلميه الأوروبيين. إنها التعبير عن وعي سياسي إيجابي عند المسيحيين العرب. لقد بقوا مدة طويلة مكتفين بأن لا يتدخل أحد في شؤونهم، مكرسين مواهبهم السياسية لمعالجة شؤون بطريركيتاهم المعقدة. لكن فرح أنطون الآن،

ص: 309

بمطالبته بدولة علمانية، لم يطالب بعدم اضطهاد المسيحيين ومنحهم حقوقًا متساوية فحسب، بل طالب بمجتمع يتسنى لهم فيه القيام بدور إيجابي، لا بل بمجتمع يتمكنون فيه من ممارسة شطر من المسؤولية السياسية. إنه يسعى جاهدًا للتمييز بين المسيحيين الشرقيين وبين المرسلين الغربيين، وبنوع خاص، بينهم وبين الدول الأوروبية التي كانت تستخدم الدين لأغراض سياسية. فهو لا ينكر فضل المرسلين ولا ينساه، لكنه لا ينسى أيضًا ضررهم السياسي. إن كلامه صادر عن وعي مسيحي شرقي صرف. فهو يقول بفخر، وربما برغبة أيضًا في الدفاع عن النفس: نحن هم المسيحيون الحقيقيون، وديننا لم يتدخل في السياسة. ونحن لسنا مسؤولين عن أعمال المسيحية الغربية. إن ولاءنا هو للشرق، وقد عشنا دومًا أوفياء للسلطان (36).

ص: 310