الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني عشر
طه حسين
اتجه القوميون في مصر وسوريا وغيرهما من بلدان آسيا، خلال السنوات الفاصلة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، اتجاهين: فقد توخوا، من جهة، خلع السيطرة السياسية الأوروبية عن بلادهم، مع استمرار رقابة إنكلترا أو فرنسا على السياسة الخارجية واحتفاظهما بقواعد عسكرية؛ لكنهم أقروا، من جهة أخرى، عن طيب خاطر إجمالًا، بتفوق المدنية الأوروبية. فقد كان من النادر، في تلك الحقبة، سماع صوت كصوت غاندي، كما أنه لم يصغ إليه كثيرًا خارج الهند. بل كانوا يعترفون، بوجه عام، بالرغم من بريق الرومانسية القومية المتخلفة لديهم وشعورهم بالإباء دفاعًا عن النفس، أن الحضارة الأوروبية هي أرقى حضارات العالم. وكانوا، في دفاعهم عن قضية الاستقلال، يعتمدون المفاهيم الأوروبية. فيقولون بأن مصر لا تستطيع أن تصبح أمة «غربية» بكل معنى الكلمة، فتنشئ لها نظامًا سياسيًا ديمقراطيًا ليبراليًا، وتتبنى عن طيب خاطر قيم الحضارة الغربية، إلا إذا كانت مستقلة. وكانوا يعتبرون معونة أوروبا ضرورية لتحقيق الاستقلال ولاستخدامه استخدامًا صحيحًا. فكان مصطفى كامل يأمل أن تقتنع فرنسا بأن من مصلحتها الحد من تفاقم النفوذ البريطاني، كما كان زغلول يناشد وجدان إنكلترا الليبرالي. وكانوا يقبلون أيضًا بحكم أوروبا الخلقي، معتقدين أن على الدول الجديدة أن تبرهن عن جدارتها، فتثبت لأوروبا أنها قادرة على حكم ذاتها بذاتها.
كذلك كان مقبولًا، بوجه عام، تعريف معين للمدنية الأوروبية: فقيمة أوروبا إنما هي القيمة التي تدعيها لنفسها، أو بتعبير أدق، القيمة التي كان ينسبها إليها مفكرو القرن التاسع عشر الليبراليون. وكانت العوامل المعتبرة أسسًا للمدنية الأوروبية و «سر» قوتها وازدهارها العوامل الآتية: المجتمع القومي؛ وحكم الأمة لنفسها على ضوء مصلحتها الخاصة؛ وفصل الدين عن السياسية؛ والنظام الديمقراطي في الحكم، أي سيادة الإرادة العامة المتمثلة في مجالس وطنية منتخبة بحرية ووزارات مسؤولة أمام هذه المجالس؛ واحترام الحقوق الفردية، وبنوع خاص، الحق في حرية القول والنشر؛ ومتانة الفضائل السياسية، كالولاء للمجتمع والاستعداد للتضحية في سبيله؛ وما هو أهم من كل ذلك، تنظيم الصناعة الحديثة، و «الروح العلمية» الكامنة وراءها.
لقد وافق «الوفد» في مصر، رسميًا، على هذه المبادئ. فكان هدفه الأول، الذي فيه كان اتحاده ومنه زخمه، التوصل إلى اتفاق معقول مع بريطانيا، يحقق لمصر استقلالها الداخلي، ويكرس وضعها الدولي، مع المحافظة على المصالح البريطانية المشروعة. وكانت فكرته عن مصر المستقلة قائمة على مفاهيم الفكر الليبرالي. فهي دولة يجب أن توحد بين المسلمين والأقباط فيها رابطة الولاء القومي المقدسة، وأن تكون حكومتها دستورية، والحقوق الفردية فيها محترمة، والمرأة حرة، والتربية الوطنية شاملة، والصناعة الوطنية دعامة لمستوى من العيش رفيع. لكن الوفد، كغيره من الأحزاب التي جابهتها الحاجة إلى اتخاذ قرارات، لم يحترم دومًا هذه المبادئ، خلال فترة حكمه القصيرة. ثم إن النزاعات المتعاقبة، التي فككت وحدته تدريجًا، أفقدته شيئًا من هيبة الناطق بلسان الأمة. غير أنه بقي، طيلة تلك السنوات العشرين، أقوى حزب في مصر. كما ظل تجسيدًا، وإن مشوبًا ببعض الشوائب، لمجموعة من الأفكار دان بها معظم المثقفين.
بسط هذه الأفكار، خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن الحالي، عدد من الكتاب الموهوبين الذين، وإن لم ينتموا جميعًا إلى الوفد، كانوا مجمعين على اتخاذ موقف عام من السياسة والمجتمع، أمثال أحمد أمين، وعباس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم، وعبد القادر المازني، وطه حسين. كان هؤلاء الأئمة في الإنشاء العربي، والمتربون تربية أوروبية (إنكليزية أو فرنسية)، والمتضلعون في الثقافة التقليدية، رجال أدب قبل كل شيء. فقد عبروا عن أفكارهم، غالب الأحيان، على صفحات المجلات أو بكتابة القصص والروايات. وكانوا، مع غيرهم من أبناء جيلهم، طليعة كتاب القصة في اللغة العربية الحديثة. وكان بعضهم، على الأقل، يهتم بإمكان خلق المسرح العربي. (لم يعرف الأدب العربي القديم أيًا من هذين النوعين الأدبيين. وقد أخر اقتباسهما عن الغرب صعوبتان: صعوبة استعمال الحوار في لغة تختلف فيها كثيرًا الصيغة الكتابية عن الصيغة المحكية؛ وصعوبة التعبير عن توتر المشاعر الشخصية في وصف مجتمع تعيش فيه المرأة وراء الحجاب). وكان طه حسين أشد هؤلاء التزامًا للأدب، وقد يكون أعظمهم فنًا. وهو جدير بالدراسة، أولًا لشخصه، وثانيًا لإمكان اعتباره آخر ممثل كبير لنهج معين في التفكير، والكاتب الذي وضع الصيغة النهائية لطائفة من الأفكار قام عليها الفكر الاجتماعي والعمل السياسي في البلدان العربية طيلة ثلاثة أجيال.
ولد طه حسين في قرية من قرى مصر العليا في 1889 من عائلة فقيرة، ولكنها لم تكن معدمة. وقد فقد بصره في سن باكر، مما قد يفسر، في آن واحد، نوعية خياله وبعض الخصائص في إنشائه الأدبي، التي منها بوادر نشوء الأسلوب القصصي والجدلي، والتكرار اللفظي اللامتناهي، والجمل الطويلة المؤلفة من عبارات لا يربط بينها سوى أداة العطف. وقد وصف لنا، في مجلدين عن سيرة حياته، يقظة الإحساس والعقل لدى صبي فاقد البصر،
تربى، بادئ الأمر، في «كتاب» إسلامي، ثم أم الأزهر في سنة الثالثة عشرة. فلم يعجبه الأزهر كثيرًا، لكنه لعب دورًا جوهريًا في تنشئته. ففيه تعرف إلى أفكار محمد عبده، إذا استمع إلى محاضرة أو اثنتين من محاضراته، كما اكتسب كل ما كان لا يزال في الوسع اكتسابه في الأزهر: معرفة واسعة للغة العربية وآدابها الكلاسيكية التي كان يتقن تدريسها أستاذ أبعد نظرًا من معظم زملائه. ومع أنه مكث في الأزهر عشر سنين، فإن فكره اتجه اتجاهًا آخر قبل أن يغادره نهائيًا. كان قد قرأ المؤلفين المصريين العصريين والصحفيين اللبنانيين، وألتحق بحلقة لطفي السيد و «الجريدة» ، ودرس اللغة الفرنسية، واستمع إلى محاضرات في الجامعة المصرية الجديدة كان يلقيها كبار مستشرقي أوروبا وأميركا، أمثال ليتمان، ونالينو، وسنتيانا، ففتحت لثقافته الموروثة آفاقًا جديدة. ثم ذهب إلى فرنسا في 1915، حيث مكث أربع سنوات كانت له، كما كانت للطهطاوي، عاملًا حاسمًا في توجيه تفكيره. فهناك طالع مؤلفات أناتول فرانس، واستمع إلى دروس دوركهايم، ووضع رسالة عن ابن خلدون، وتزوج بالمرأة التي كانت له بمثابة عينيه.
وبعد عودته في 1919، تسنى له أن يتوسط، طيلة ثلاثين عامًا أو ما يقاربها، الحياة الأدبية والتدريسية في مصر، كأستاذ وعميد في جامعتي القاهرة والإسكندرية أولًا، ثم كموظف في وزارة التربية، وأخيرًا، من 1950 إلى 1952، كوزير للتربية في حكومة الوفد الأخيرة. وقد مر، خلال هذه المرحلة النشيطة من حياته، في أزمتين حادتين، وقعت الأولى في 1926، عندما أحدث كتابه «في الشعر الجاهلي» ضجة حملته على تعديله. ففي هذا الكتاب الذي طبق فيه أساليب النقد العلمي الحديث على شعر شبه الجزيرة العربية القديم، بين الأسباب التي تحمل على الشك في أن يكون هذا الشعر قد نظم فعلًا قبل الإسلام. وقد أثار ذلك معارضة
شديدة، لأن إتباع مثل هذا المنهج النقدي بصدد النصوص الدينية قد يلقي الشك على أصالتها. أضف إلى ذلك أنه قد يدك أسس جهاز العلوم العربية التقليدي الذي نهض عليها الإيمان. أما الأزمة الثانية، فقد وقعت في 1932، عندما أقالته حكومة صدقي باشا من منصبه كعميد لكلية الآداب في القاهرة لميوله الوفدية. إلا أن هذا التدبير أكسبه كثيرًا من التأييد، فأعادته الحكومة الوفدية اللاحقة، في 1936، إلى منصبه هذا.
طرق طه حسين عددًا من الفنون الكتابية، كالقصة، والرواية، والنقد الأدبي، والدراسة التاريخية الإسلامية، والسيرة الذاتية، والمقالة الاجتماعية والسياسية. وكان أفضل إنتاجه ما صدر خلال العشرين سنة الواقعة بين 1919 و 1939، مع أنه كتب الكثير فيما بعد، وغدا عميدًا للأدب المصري. وقد منح عددًا من شهادات الدكتوراه الشرفية، ودعي للاشتراك في حلقات دراسية دولية عديدة.
إن أهم مؤلف له في التفكير الاجتماعي، وكدنا نقول مؤلفه الأوحد في التفكير النظامي، إنما هو كتابه عن «مستقبل الثقافة في مصر» ، الصادر في 1938. إن صدور هذا الكتاب في هذا التاريخ يلقي ضوءًا على مضمونه. ففي 1936، وقعت المعاهدة الإنكليزية المصرية التي أنهت رسميًا الاحتلال. وفي 1937 وقعت اتفاقية مونترو التي ألغت «الامتيازات» . فنشأ من جراء ذلك شعور عام بحلول عهد جديد من الحياة الوطنية. لقد استقلت مصر، لكن ما معنى هذا الأمر بالحقيقة؟ وماذا يجب على مصر أن تفعل بهذا الاستقلال؟ لقد تحقق الهدف الذي نشدته الحياة العامة طيلة جيل بكامله، فما هو الهدف الحديد المطل على الأفق؟ وفي هذا يقول طه حسين:
«وقد شعرت، كما شعر غيري من المصريين، بأن مصر تبدأ عهدًا جديدًا من حياتها أن كسبت فيه بعض الحقوق، فإن عليها
أن تنهض فيه بواجبات خطيرة وتبعات ثقال
…
فنحن نعيش في عصر من أخص ما يوصف به أن الحرية والاستقلال فيه ليسا غاية تقصد إليها الشعوب وتسعى إليها الأمم، وإنما هما وسيلة إلى أغراض أرقى منهما وأبقى وأشمل فائدة وأعم نفعًا» (1).
على مصر، إذن، من الآن فصاعدًا، أن تهتم بنوعية حياتها الوطنية. ويقوم طه حسين هذه النوعية على ضوء مبادئ يمكن دعوتها «فلسفة المجتمع والتاريخ» ، استمدها، إلى حد ما، من ابن خلدون. إلا أنه استمد أسسها من مفكرين فرنسيين، أخصهم كونت، ورينان، ودوركهايم، وأناتول فرانس. وهي أن الحضارة هي غاية الحياة البشرية، وأنها تعني سيطرة العقل على الطبيعة والحياة؛ وأنها تتحقق بتطور تدريجي على مراحل عدة. ففي البدء يسيطر الدين والإيمان الأعمى على حياة الإنسان برمتها؛ ثم يستقل العقل عن الدين، وينشأ صراع بينهما لردح من الزمن؛ وأخيرًا، يقوم التوازن بينهما، فيحكم كل منهما في نطاق دائرته حكم السيد المطاع. فمهمة العقل توجيه أفعال الإنسان؛ ومهمة الدين إملاء فراغ قلبه، وإرضاء عواطفه، وإلهامه إلى الأعمال النبيلة، وتعزيته في مصائبه (2).
ويرى طه حسين فحوى أوروبا الحديثة في أنها سجلت لنفسها أعلى مرحلة بلغها هذا التطور، مرحلة تحقيق التوازن المثالي، الذي يترك للعقل حريته في حكم العالم الاجتماعي، وإخضاع الطبيعة بتطبيق العلم، وسن الشرائع التي تستهدف السعادة البشرية، وإقامة حكومات تحترم القانون وتوفق بين المصالح. لقد طغت على خياله، طيلة سنواته الخلاقة، صورة أوروبا التي استشفها للمرة الأولى من خلال ما كتبه عنها الصحفيون اللبنانيون، وما خبره هو بنفسه مدة أربع سنوات من حياته. وقد عنت أوروبا له ثلاثة أشياء: الحضارة الإنسانية، والفضائل المدنية، والديمقراطية. كان طه حسين أديبًا أكثر منه مفكرًا، يتحسس الجمال تحسسًا شحذه كفاف
بصره، وإن كان قد حده منه. فهو لم ينظر إلى أوروبا نظرته إلى مستودع للأفكار الصحيحة فحسب، بل رأى فيها خالقة الصور الجميلة، وعلى الأخص، الصور الشعرية. فهو عندما يكتب عن الشعر الإغريقي أو الدراما الإغريقية، لا يترك لنا مجالًا للشك في إخلاص إحساسه الشخصي بالعالم الكلاسيكي، حتى لو كان يراه بعيون عابدي الجمال من الفرنسيين العلمانيين المتلهفين إلى استخراج دروس لا مسيحية منه، كأناتول فرانس، مثاله الأعلى، أو أندره جيد الذي تعرف إليه شخصيًا وترجم إلى العربية كتابية «تيزة» و «أوديب» . وهو لا يقل إخلاصًا في تمجيد فضائل المدنية الأوروبية التي هي أساس المجتمع الخلقي. فالأوروبيون، عنده، يضحون بكل شيء في سبيل معتقداتهم. وليس صحيحًا أن الغرب مادي، كما يظن الشرقيون. فانتصارات الغرب المادية إنما هي نتاج عقله وروحه. والملحدون أنفسهم يموتون في سبيل معتقداتهم (3). والأوروبي يعتبر الأمة القطب السياسي الأول لولائه ولتضحيته، لذلك يرى طه حسين أن الإنسان لا يكون عصريًا ومتمدنًا كاملًا ما لم ينتم إلى أمة مستقلة (إذا بدا هذا القول اليوم بديهيًا بمعنى ما، وخاطئًا بمعنى آخر، فلا ننس كم كان قليلًا عدد الدول المستقلة في آسيا وأفريقيا في زمن الإمبراطوريات العظمى ذاك). لكنه كي يكون أوروبيا، يجب أن ينتمي إلى أمة ديمقراطية. ولا تكون الأمة ديمقراطية إلا إذا كان لها حكومةً مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب انتخابًا عامًا.
قلنا إن الكتاب صدر في 1938. لكنه لا يحتوي إطلاقًا أي إشارة إلى الأفكار السياسية المخالفة التي كانت ألمانيا وإيطاليا تبشران بها في ذلك الحين. وهذا لا يميز تفكير طه حسين وحده، بل يميز أيضًا عقيدة الوفد القومية. فقد كان الوفد مرتبطًا، من الناحية الثقافية، ارتباطًا عميقًا بفرنسا. كما أن النشوة التي أحدثتها معاهدة 1936 لم يتخللها أي شعور معاد لإنكلترا. إنما كان هناك خوف من مطامع إيطاليا في غربي مصر وجنوبها.
بهذا المعنى كانت تمثل أوروبا العالم الحديث. وكان طه حسين يعتقد أن مصر المستقلة يجب أن تصبح جزءًا من أوروبا، إذ بذلك فقط تصبح جزءًا من العالم الحديث. وهذا هو، في نظره، المعنى الحقيقي للمعاهدة الإنكليزية المصرية ولاتفاقية مونترو. فهاتان الوثيقتان هما بمثابة اتفاقية بين مصر وأوروبا، بها تؤكد أوروبا إيمانها بالمدنية المصرية، وبها تلتزم مصر التزامًا صحيحًا وقاطعًا، أمام العالم المتحضر، «بأننا سنسير سيرة الأوروبيين في الحكم والإدارة والتشريع» (4).
لذلك أصبح على عاتق مصر أيضًا أن تثبت أنها أهل لهذه الثقة، وأن بإمكانها تنفيذ هذا الالتزام. ويخاطب طه حسين مواطنيه قائلًا إن على المصريين أن يرفعوا من شأن مصر بحيث يكف الأوروبيون عن اعتبارهم أدنى منهم شأنًا ويكف المصريون عن اعتبار أنفسهم أدنى منهم قدرًا. ومن ميزات الزمن الذي ألف فيه كتابه أن الطريقة عنده لبلوغ ذلك لم تكن بإنشاء مدنية مصرية تضاهي مدنية أوروبا، بل باستيعاب مدنية أوروبا ذاتها، وباقتناع المصريين بأن لا فرق بينهم وبين الأوروبيين. وفي ذلك يقول:
«صدقي يا سيدي القارئ أن الواجب الوطني الصحيح، بعد أن حققنا الاستقلال وأقررنا الديمقراطية في مصر، إنما هو أن نبذل ما نملك وما لا نملك من القوة والجهد ومن الوقت والمال لنشعر المصريين، أفرادًا وجماعات، أن الله قد خلقهم للعزة لا للذلة، وللقوة لا للضعف، وللسيادة لا للاستكانة، وللنباهة لا للخمول، وأن نمحو من قلوب المصريين، أفرادًا وجماعات، هذا الوهم الآثم الشنيع الذي يصور لهم أنهم خلقوا من طينة غير طينة الأوروبي وفطروا على أمزجة غير الأمزجة الأوروبية ومنحوا عقولًا غير العقول الأوروبية
…
علينا أن نصبح أوروبيين في كل شيء، قابلين ما في ذلك من حسنات وسيئات .... علينا أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادًا ولنكون لهم
شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد فيها وما يعاب» (5).
وكيف يتم ذلك؟ يعتقد طه حسين أن أول خطوة في هذا السبيل هي أن يدرس المصريون تاريخهم، ويفهموا أن مصر كانت دومًا جزءًا من أوروبا. كان طه حسين يكتب في زمن كان فيه التمييز بين «الشرق» و «الغرب» مألوفًا لدى الكتاب الشرقيين والغربيين على السواء. وكانت مصر تعتبر على العموم من الشرق. وقد مثل هذا التفكير على أكمله كتاب بعنوان «الشرق والغرب» وضعه معاصر لطه حسين، هو أحمد أمين. فهذا الكتاب الذي صدر بعد كتاب طه حسين بعشر سنوات يعكس الأفكار الشائعة في ذلك العهد، وهي أن الغرب يأخذ بالسببية، ولا يعني إلا بخيرات هذا العالم، وأن روحه علمية، وتفكيره في الشؤون الاقتصادية تفكير عقلي؛ في حين أن الشرق لا يفتقر إلا إلى اقتباس روح الغرب العلمية ونظمه الإنتاجية كي ينتعش من جديد ويعطي العالم ما عنده من «روحانيات وأديان وتأملات» (6). لكن طه حسين، على قبوله بتقسيم العالم إلى شرق وغرب، يعتقد جازمًا أن مصر تنتمي إلى الغرب لا إلى الشرق. فالتمييز الجوهري، في نظره، ينجم عن جغرافية الروح لا عن جغرافيا الطبيعة، إذ أن في العالم مدنيتين تختلف الواحدة منهما عن الأخرى اختلافًا جوهريًا: الأولى متحدرة من فلسفة الإغريق وفنهم، وشرائع روما وتنظيمها السياسي، وقيم المسيحية الخلقية، والثانية متحدرة من الهند. أما مصر فهي من الأولى لا من الثانية.
لكن لماذا تعتبر مصر عادة بلادًا شرقية؟ يذهب طه حسين إلى أن الفكرة الخاطئة القائلة بانتماء مصر إلى العالم الشرقي تعود إلى واحد من سببين: الأول هو وجود مصلحة مشتركة ما، سياسية أو اقتصادية، كمصلحة البلدان الأسيوية والإفريقية في التحرر من السيطرة الأوروبية. لكنه يرى أن هذه المصلحة سطحية وعابرة ولا تخلق الرابطة الدائمة الضرورية لمدنية مشتركة. والثاني هو الوحدة الدينية التي هي
أيضًا لا تستطيع أن تكون أساسًا لأسرة اجتماعية سياسية. ويعتقد طه حسين أن الرجوع إلى تاريخ مصر يكفي للتأكد من أن «الوحدة» التي تشترك فيها مصر، على هذا المستوى، إنما هي «الغرب» . فهي لم تكن ذات صلة مستمرة مع بلدان الشرق بمعناه الدقيق، بينما كان لها مثل هذه الصلة بالبلدان التي نشأت فيها المدنية الأوروبية، أي بلدان الشرق الأدنى والبحر الإيجي والبحر المتوسط. وهي لم تلعب، في ذلك دور المتأثر فحسب، بل شاركت في خلق مدنية البحر المتوسط. وكان تيار التأثير، طيلة العصور القديمة، يسير بينها وبين اليونان في كلا الاتجاهين. وكان تاريخ مصر، داخل العالم الغربي، متصلًا. فكانت مصر، حتى ضمن الإمبراطورية الإسلامية، من أولى المناطق التي «استعادت شخصيتها القديمة» في عهد ابن طولون وبعده. وهذه الشخصية لا تزال اليوم قائمة على أساس ثابت من الجغرافيا والدين واللغة والتاريخ العريق (7).
لماذا إذن ظهرت الفوارق الحاضرة؟ ولماذا تخلفت مصر وسائر بلدان شرقي البحر المتوسط عن بلدان أوروبا في المدنية؟ كان جواب طه حسين على هذا السؤال الجواب الشائع آنذاك، وهو أن السيطرة العثمانية هي التي أنزلت الخراب بالمدنية. لكنه يوضح أن المرحلة الحالية ما هي إلا مرحلة عابرة. فأوروبا كان لها أيضًا عصورها المظلمة، وعصر الإسلام المظلم إنما هو أقل ظلامًا في مصر منه في غيرها من البلدان. وللأزهر، بالرغم من كل ما يقال فيه، فضله في حماية المدنية من الأتراك. إن عصر الانحطاط يسرع نحو نهايته في مصر أكثر من البلدان الأخرى. فهي قد «تأوربت» من جديد، خلال المئة عام الفائتة، في جميع نواحي حياتها المادية والمعنوية. وهي، حتى في حياتها السياسية، إنما تعاني قضية أوروبية صرف هي قضية الديمقراطية والأوتوقراطية. فالذين حكموها استبداديًا (وهو يشير هنا إلى إسماعيل)، كانوا أقرب شبهًا بلويس الرابع عشر منهم بعبد الحميد (8). بل إن مؤسسات مصر
الإسلامية قد «تأوربت» أيضًا. فالمحاكم الشرعية فيها، مثلًا، أقرب إلى المحاكم الأوروبية منها إلى المحاكم الإسلامية التقليدية. نعم، لا تزال هناك فروق بين مصر وأوروبا. لكن هذه الفروق ناجمة جميعًا عن عامل واحد، هو أن نهضة أوروبا قد تمت في القرن الخامس عشر، بينما نهضة مصر لم تبدأ إلا في القرن التاسع عشر. غير أن مصر آخذة الآن في الاستعاضة بسرعة عما فاتها. وهذا تطور لا يعكس. فحتى الذين يلقبون أنفسهم بالمحافظين لا يريدون، بالحقيقة، العودة إلى الماضي.
يمكن، ولا شك، الاعتراض على نظرية طه حسين هذه بالقول إن الغرب، بالمفهوم العادي، مسيحي، بينما مصر إسلامية. ولعل طه حسين تحاشى، في هذا الكتاب، التطرق إلى مسألة الفارق الديني. فالعاصفة التي أثارها كتابه في الشعر الجاهلي ربما هزت أعماقه بحيث أنه أخذ، منذ ذلك الحين، يتحاشى أي نقاش حول الإسلام من شأنه إثارة عاصفة أخرى. غير أن اللجوء إلى مثل هذا الافتراض الذي ينتقص من قدر طه حسين ليس ضروريًا. فعدم إعارته الفارق الديني أي أهمية ينسجم هنا تمامًا مع تفكيره العام. إذ أنه رأى أن للعالم الحديث ميزة خاصة في فصله عمليًا بين الدين والمدنية جاعلًا لكل منهما دائرة خاصة به. لذلك أصبح بالمستطاع اقتباس «أسس» المدنية الأوروبية بدون اقتباس دينها (9). غير أن هذا يفترض توفر شرط واحد، هو أن يقبل المصريون على إجراء فصل مماثل بين الدين والمدنية. وهم قادرون على ذلك، لا بل إن ذلك أسهل على المسلمين منه على المسيحيين، ما دام لا كهنوت في الإسلام، ولم تنشأ فيه طبقة ذات منفعة معينة في سيطرة الدين على المجتمع. لقد اقتبس الإسلام المدنيتين الإغريقية والفارسية بسهولة، وبإمكانه أن يفعل ذلك إزاء مدنية أوروبا الحديثة. وفي وسع الإسلام، في المجتمع الحديث، حيث تتعلق مهمة الدين الحقيقية بالعواطف لا بالعقل، أن يقوم بهذه المهمة على خير وجه
كالمسيحية. فالمذهبان واحد في الجوهر: فالإسلام لم يأت ليحل محل التعاليم المسيحية، بل ليكملها (10).
الأمة، في العالم الحديث، هي قطب الولاء ووحدة المجتمع. وأمة طه حسين هي مصر. فالأرض الواحدة، في نظره، كما كانت في نظر بعض من سبقه من المفكرين، هي المحور الرئيسي للشعور الاجتماعي. أما شعوره الوطني فهو، كشعور أقرانه وشعور لطفي السيد من الجيل السابق، رومانسي حار، ينصب على الوطن ذاته، لا على القاطنين فيه، وتغذيه صور نابضة من حياة الريف المصري بأفراحها وأتراحها، وذلك بخلاف ما عرفه الفكر المصري السابق أو الفكر المعاصر في البلدان العربية الأخرى، ربما باستثناء لبنان. ويمكن اعتباره إسهامًا خاصًا أداه هؤلاء إلى الوعي العربي الحديث. وهم، حين كتبوا أفضل قصصهم عن حياة الريف، إنما فعلوا ذلك بتواضع وقليل من التبجح.
أما الأمة المصرية فلا تزال، عند طه حسين، تلك التي تشتمل مبدئيًا على جميع من يقطنون أرض مصر ويعتبرونها وطنًا لهم. لكنها أضيق مما كانت عليه في ذهن الطهطاوي. فهو يميز، كسعد زغلول، بعض التمييز بين المصريين الأصيلين وبين الجاليات الأوروبية والمشرقية المسيطرة على حياة مصر الاقتصادية. لكنه لا يفرق قط بين المصري المسلم والمصري المسيحي. فالشعور الوطني، في نظره، أهم من أي شيء آخر. ثم إن الفرد وحقوقه فوق الأمة، لكن الأمة فوق كل الجماعات التي تتألف منها. أما الدين، فإنما يكتسب قيمته الاجتماعية مما يقدمه للفكرة الوطنية من محتوى ولوحدة الأمة من قوة: فالإسلام عنصر من عناصر الوطنية المصرية (11). وعلى المدارس أن تلقن الدين الوطني كما تلقن التاريخ الوطني. وهذا أيضًا مما ينسجم مع معتقداته العامة. فمهمة الدين أن يشبع عواطفنا، لا أن يوجهنا في المجتمع الحديث أو يزودنا بالمبادئ التي بموجبها نحاسب على أفعالنا. وبما أن الإسلام هو دين المسلمين
التقليدي الذي يرضي قلوبهم، فمن الواجب أن يتعلموه. لكن أديانًا أخرى قد تصلح أيضًا لأمم أخرى. وعلى هذا، فالمسيحية القبطية التي ترضي قلوب المصريين الأقباط يجب أن تدرس على ما ينبغي، وذلك حفاظًا على عافية الأمة الروحية.
قد يتبادر إلى الذهن أن نظرة طه حسين إلى الصلة بين الدين والأمة قد تغيرت خلال العشرين سنة الأخيرة. فغالبًا ما قيل إن أهمية العنصر الديني قد تزايدت في ما كتبه في الثلاثينيات والأربعينيات عن النبي، وقادة الإسلام الأولين، وعهود الإسلام البطولية، أسوة بمعاصريه كالعقاد وهيكل. لكننا إذا تحرينا الطريقة التي بها يعالج طه حسين الدين في هذه الكتب، ككتاب «على هامش السيرة» (1937 - 1943)، وكتاب «الوعد الحق» (1950)، لتبين لنا بوضوح أنها لا تدل على تغير في نظرته إلى الإسلام. فالدين إنما وجد لبعث الطمأنينة في النفوس، بما يكشفه من حقائق عن الكون، مغلفة برموز ذات قوة وتأثير. هذه الرموز يجب تقييمها حسب نتائجها، أي بمقدار ما تزيد في قوة الفرد أو الأمة. على أن عقول الناس تتغير من زمن إلى زمن، لذلك توجب التعبير عن هذه الرموز تعبيرًا جديدًا. من هنا يجب أن نرى في مؤلفات طه حسين الدينية محاولة لسرد قصة الإسلام سردًا جديدًا، بطريقة تستهوي الوجدان المصري الحديث. فهو يصور لنا النبي بطلًا بالمعنى الحديث، وعثمان رمزًا للضعف البشري، وعلى نموذجًا للحاكم المسلم المنصف. كما يصف لنا تاريخ الأمة في عهدها الأول كصراع الحقيقة والفضيلة ضد العالم، وكمسعى إلى إقامة حكم العدل في الأرض. وهو، في جميع هذه الحالات، لا يكتفي بعرض الرمز عرضًا جديدًا، بل يرسمه لنا بلباقة رسمًا من شأنه أن يستهوي عقول المثقفين ثقافة غربية. ففي كتابه «الوعد الحق» يلح على ما قاساه المسلمون الأولون من آلام، وذلك بأسلوب يؤثر في أولئك الذين يعيشون، عن رضى أو غير رضى، في العالم الروحي الذي أقامته المسيحية.
وفي «الفتنة الكبرى» ، يصف الخلفاء الراشدين كثوار باكرين يبتغون حكمًا قائمًا على العدل الاجتماعي، هو بمثابة «طريق وسط» بين الاشتراكية والرأسمالية، أو نظام للضمان الاجتماعي شبيه بـ «مشروع بيفريدج» - حكمًا فريدًا من نوعه يضم جميع حسنات سواه، حكمًا يشكل تجربة جريئة أطلقتها روح المغامرة، لكنها قد أخفقت لأنها جاءت سابقة لأوانها (12).
ويرى طه حسين أن الدين، مهما بلغت أهميته العاطفية، لا يستطيع أن يوجه الحياة السياسية. ففكرة الأمة يجب أن تقوم على مفاهيم غير المفاهيم الدينية، بخلاف ما زعمه الطهطاوي ولطفي السيد إلى حد ما. وقد بقيت المرحلة العربية من التاريخ المصري محور اهتمامه، بالرغم من إشادته الشكلية بماضي مصر الفرعوني. فاللغة العربية هي، عنده، خير المصريين المشترك. وهو خير ورثوه عن الماضي ووهبهم ما لديهم من فرص وطاقات. إلا أن طه حسين، بخلاف المصلحين المسلمين، لا يشدد على أهمية اللغة العربية كوسيلة للبعث الديني، بل كأساس للحياة الوطنية السليمة، مستنتجًا من ذلك أن أهميتها بالنسبة إلى الأقباط لا تقل عن أهميتها بالنسبة إلى المسلمين: فهي، على حد قوله، ليست لغة المسلمين فحسب، إنما هي لغة جميع الناطقين بها على اختلاف أديانهم (13). على أنه شكا من ركاكة اللغة العربية في الكنائس الشرقية، فتبرع، كما قيل، بالإسهام في وضع صيغة جديدة لها، تتيح للمسيحيين العرب عبادة الله بلغة عربية صحيحة.
وفي رأي طه حسين أن مصر هي التي حفظت اللغة العربية وثقافتها في أيام الأتراك المظلمة، وهي التي تعمل اليوم على تجديدها وتعزيزها، لذلك أصبحت هي مركز الثقافة العربية الحديثة، وغدت رسالتها في البلدان العربية السعي إلى نشر العلوم الحديثة فيها، بتوزيع الكتب والمجلات، وإعارة الأساتذة، واستقبال الطلاب العرب استقبالًا حسنًا في مصر، وتوحيد برامج التعليم، وإنشاء
مدارس ابتدائية وثانوية مصرية (معاهد التعاون الثقافي) في البلدان العربية الأخرى (14).
وهكذا كان كتاب «الوعد الحق» تعبيرًا أخيرًا عن نوع معين من الوطنية المصرية الخالصة، يعكس الحقبة التي وضع فيها، ويعتبر الخطوة الأولى نحو الانصهار في بوتقة القومية العربية. فقد أتاحت المعاهدة الإنكليزية المصرية لمصر، للمرة الأولى منذ جيلين، فرصة انتهاج سياسة خارجية مستقلة، نسبيًا على الأقل، في شؤون الشرق الأوسط. فغدت الحكومات المصرية، أيًا كانت، ترى في البلدان العربية المجاورة المجال الطبيعي لاهتمامها، كما كانت الحال دومًا منذ قديم الزمن. لكن طه حسين، وهو الوفي لسلسلة التفكير التي كان هو آخر حلقة فيها، لم يدع أن اللغة العربية وثقافتها التقليدية تتفوق على اللغات الأخرى وثقافاتها، إنما كان غرضه من إنعاش اللغة العربية تمكين الإنسان العربي الحديث المثقف من أن يعيش بلغته، مما يقتضي أن تستوعب اللغة العربية التفكير الأوروبي بأسره. وقد خصص جزءًا كبيرًا من حياته لتحقيق هذا الغرض. فشجع، مثلًا، على ترجمة الأدب الإغريقي القديم، لا بل قام هو بنفسه ببعض هذه الترجمات، وحاول تجربة تدريس اليونانية واللاتينية في الجامعات، وأقنع الحكومة، في السنوات اللاحقة، أن تعد العدة لترجمة آثار شكسبير بكاملها.
إن الأمم التي أنجزت وحدتها واستقلالها وحققت استقرارًا ثقافيًا واجتماعيًا عميقًا قبل قيام الاستقلال الشعبي، والتي فيها تكون الفضائل التي بها تحيا المجتمعات سائدة في المنزل، وعبر الماضي، وفي الحياة العامة المزدهرة، قد تجد من الصعب أن تقدر ما كان وما يزال للمدرسة الحديثة من أهمية عظمى في بلد كمصر. إن اقتناع طه حسين بهذه الأهمية، فضلًا عن تنشئته الخاصة، هو ما يشرح الاهتمام الذي أعاره لإصلاح النظام
المدرسي. نعم، إنه يعتبر غاية التربية الأولى تلقين الثقافة والعلم، لكنه يرى أيضًا أنها تلعب دورًا حيويًا في تلقين الفضائل المدنية وخلق الظروف التي يمكن فيها لحكم ديمقراطي أن يعيش.
لذلك عني القسم الأكبر من كتابه بنقد التربية المصرية ووضع برنامج إصلاحي لها. فالتربية الابتدائية، وهي أساس الحياة الديمقراطية، يجب أن تكون عامة وإجبارية، لكن التربية الثانوية تواجه مشاكل أصعب، لأنها حاليًا في مصر على أنواع كثيرة، دينية، وأجنبية، وحكومية، تسبب باختلافها بلبلة ثقافية. فمن الضروري، وإن كان لا بأس من التنوع بحد ذاته (15)، أن يكون هناك حد أدنى من الانسجام فيما بينها، وهذا ما لا يمكن تحقيقه إلا بتدخل الدولة. إن المدارس الأجنبية هي أفضل المدارس في البلاد، وهي تكون بذلك شكلًا من أشكال الثروة الثقافية؛ فلا يجوز إذن إغلاقها؛ لكنها يجب أن تخضع لرقابة ما فيما يتعلق بتعليم لغة البلاد وتاريخها وجغرافيتها، وفيما يتعلق بتلقين الدين أيضًا: فمن حق الأولاد المسلمين أن يتلقنوا دينهم حتى لو كانوا في مدارس الإرساليات المسيحية. إلا أن هذه المدارس لا يمكنها قط، حتى لو تم ذلك، أن تفي تمامًا بالغرض. وما ذلك إلا لأنها، بطبيعتها، لا تستطيع أن تلقن الفتى المصري أن يحب الأمة المصرية، أو أن يحمي الديمقراطية المصرية (16). أما المدارس الدينية المصرية، وهي المدارس الابتدائية والثانوية التابعة للأزهر، فيجب أن توضع تحت رقابة الحكومة (17). وأما المدارس الحكومية، فيجب إدخال ثلاث تعديلات هامة عليها: أولًا، يجب أن تنتشر في البلاد بالسرعة الممكنة. ولا يخفى على طه حسين الاعتراض القائل بأن ذلك يؤدي إلى قيام طبقة مثقفة لا تجد لها مجالًا للعمل، وهو ما احتج به كرومر لتبرير تقاعسه عن إعارة التربية اهتمامًا أوفى. وكان هذا الخطر قد أصبح خطرًا حقيقيًا في 1938، وذلك بسبب ازدياد عدد العاطلين عن العمل من المتخرجين وما دون المتخرجين. لكن طه حسين كان يرد على هذا
بقوة قائلًا: إنه قد يجوز لدولة أجنبية، حريصة قبل كل شيء على تجنب الاضطرابات السياسية، أن تتذرع بمثل هذه الحجة. لكنه من المخجل أن تلجأ حكومة وطنية إلى ذلك، إذ أن هدفها الأول يجب أن يكون خلق الديمقراطية الصحيحة. فالحد من التربية يعني جعل الجهل أساس الحياة الوطنية. أما إذا أدى توسيع التربية إلى مشاكل اجتماعية معقدة، فالدواء الوحيد لذلك إنما هو في تغيير النظام الاجتماعي لفتح مجالات جديدة للعمل، وخاصة لوضع حد للظلم، وهذا معناه تصغير الأملاك الكبرى، وتمصير الحياة الاقتصادية (18).
ويقضي التعديل الثاني يجعل التربية الثانوية في متناول جميع القادرين على دفع رسومها، وبتوفير مقاعد مجانية للأولاد الأذكياء من الفقراء. أما التعديل الثالث، وهو الأهم، فإنه يرمي إلى تغيير مواد التعليم. وهذا يعني، في تلك الحقبة، تغييرًا في مادة تعليم اللغات في المدارس المصرية. إذ في هذه المادة بالذات تكمن المشكلة الرئيسية للمدارس العربية اليوم: كيف تلقن اللغة العربية، هذه اللغة الصعبة التي تدرس وفق أساليب تقليدية محددة؟ وما هي اللغات الأجنبية التي يجدر تعلمها كمفتاح لا لتلقي التعليم العالي فحسب بل لمعرفة العالم الحديث؟ ومتى تعلم هذه اللغات وكيف؟ وعلى هذا يجيب طه حسين بالقول إنه لا يجوز تدريس أي لغة أجنبية قبل السنة الخامسة، لكنه يجب فيما بعد تدريسها بوفرة. وعلى التلميذ أن يختار بين اللغة الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، كما يجب أن تتوفر، للذين يطمحون إلى التضلع، دراسة اللغات الكلاسيكية: اليونانية واللاتينية لمن يريد التخصص في تاريخ أوروبا ومدنيتها، والعبرية والفارسية للمعنيين باللغة العربية وآدابها. ثم يضيف على ذلك قوله بأن معرفة اللغات الكلاسيكية، بصرف النظر عما فيها من قيمة بحد ذاتها، ضرورية للمصريين، إذا هم أرادوا أن يتبنوا شطرًا كاملًا من تاريخ مصر. فقد كانت مصر يونانية لعدة قرون،
ثم رومانية. وما دام المصريون يجهلون اليونانية واللاتينية، فلا مفر لهم من النظر إلى جزء من تراثهم القومي بمنظار أجنبي. إن الثقافة الكلاسيكية هي من المقتضيات الضرورية للقومية المصرية (19).
أما التعليم العالي، فلا يتعرض له طه حسين بمثل هذه الاقتراحات التفصيلية. وما ذلك إلا لأنه يعتقد أن الجامعات يجب أن لا تخضع لرقابة الحكومة أو توجيهاتها، بل من الضروري لها أن تتمتع بحرية مطلقة: حرية مالية للتصرف كما تشاء بما تقدمه لها الحكومة من مخصصات، وحرية أكاديمية في كل ما يتعلق بالتعليم والتعلم. غير أن من الواضح أن مفهومه للتعليم العالي، لا بل للتربية بكاملها، إنما هو مفهوم إنساني: فالجامعة يجب أن تكون، قبل كل شيء، مجتمعًا فكريًا قائمًا على المودة والصداقة والتعاون والتضامن (20).
أما الأزهر، وهو مركز رئيسي من مراكز التعليم العالي، فيجب أن يتمتع بالحرية التي يتمتع بها سواه، لما له من دور مهم في تكوين ثقافة مصر القومية، وذلك لكثرة عدد طلابه، وصلاته الوثيقة بجميع طبقات الشعب، وتراثه الخاص. لكن وظيفته تنحصر في أمر واحد، هو أن يكون مركز الدراسات الدينية، وبالتالي «معينًا للحياة الروحية» في الأمة. وليس للأزهر له أن يعني بالتربية العامة: فاحتكاره التقليدي لتخريج أساتذة اللغة العربية للمدارس يجب أن يبطل ما دام هو نفسه لا يحسن تعليم اللغة العربية. (تناول طه حسين، في الجزء الثاني من سيرة حياته، بالنقد اللاذع الطريقة التي تلقن بها اللغة العربية هناك). والأزهر يجب أن يتغير أيضًا حتى «كمعين للحياة الروحية» ، فيعمد إلى تدريس الإسلام الحقيقي، دين الحرية والعلم والمعرفة. دين التطور والتقدم ونشدان المثل الأعلى في الحياتين المادية والروحية على السواء. وعلى الأزهر أن يلقن المعنى الصحيح للوطنية الإقليمية، لا الفكرة القديمة عن القومية الدينية (21). (لا شك، قياسًا على هذا، أن طه حسين كان يفكر التفكير ذاته في التربية الدينية القبطية. فتدريس المسيحية القبطية
تدريسًا صحيحًا هو، في نظره، على الدرجة ذاتها من الأهمية لقوة مصر وخيرها) (22).
لقد تمكن طه حسين من وضع بعض هذه الأفكار على الأقل موضع التنفيذ. فكان له ضلع كبير، بوصفه مستشارًا لوزارة التربية من 1942 إلى 1944، في تأسيس جامعة الإسكندرية التي كان هو أول عميد لها. ولم يكن الغرض من تأسيس هذه الجامعة جعلها نسخة طبق الأصل عن جامعة القاهرة أو امتدادًا لها، بل كان الغرض من ذلك جعلها جامعة حقيقية، متحررة من ضغط الوزارة والجماهير، تحدد بنفسها أهدافها ومقاييسها، وتجتذب إليها أحسن الطلاب والأساتذة، وتكون منفتحة على البحر المتوسط ووريثة لتاريخ الإسكندرية برمته، ومركزًا للدراسة الإنسانية الكلاسيكية. وقد قام طه حسين، فيما بعد، بوصفه وزيرًا للتربية، بعملية واسعة النطاق لتوسيع المدارس الحكومية على جميع مستوياتها: فأنشأ جامعات ومعاهد عليا ومختلف أنواع المدارس الجديدة، وجعل التعليم الثانوي مجانًا، وعدل منهاج الدروس وفقًا للخطوط التي كان قد رسمها. وقد وجهت إلى مساعيه هذه انتقادات كثيرة، مستندة إلى أن من شأنها أن تحدث تغييرًا وتوسيعًا في النظام التربوي بسرعة لا تتناسب مع طاقته على النمو. وسواء كانت تلك الانتقادات مصيبة أو مخطئة، فإن مساعيه التربوية تدل، كما يدل كتابه نفسه، على مقدار حرصه على توفير الفرص المتساوية للجميع. وهذا، بالواقع، عنصر ثابت من عناصر تفكيره تجلى بصورة أوضح في مؤلفاته اللاحقة. ففي كتابه «المعذبون في الأرض» (1949) مثلًا، يبسط الرأي القائل بالأمتين، الغنية والفقيرة، اللتين لا تربط بينهما عاطفة. فيعلن خيبة أمله من ذلك الاستقلال الذي كان قد أثار، لعشر سنوات خلت، آمالًا كبيرة، فيقول: إن هذا البلد الذي خلق الحرية لا يزال مستعبدًا (23).
غير أن طه حسين لم ينتقد النظام الاجتماعي والاقتصادي إلا لمامًا.
وليس في ما كتبه ما ينم عن معرفة تفصيلية بالقضايا الاجتماعية، باستثناء قضايا التربية؛ فيما برزت هذه المعرفة وهذا الاهتمام بصورة أجلى لدى غيره من كتاب عصره. فموسى سلامه القبطي، وهو معاصر له، قد دعا إلى نوع من الاشتراكية استمده من «الفكر التقدمي» الذي عرفت به إنكلترا الإدواردية، ومن كتابات شو، وويلز، وبواسطتها من إبسن ونيتشه وتولستوي، أكثر مما استمده من ماركس. كان سلامه موسي قوميًا، وقوميًا مصريًا صرفًا. ومن آرائه أن لا قيمة للاستقلال بحد ذاته ما لم يقترن بالإصلاح الداخلي. فالاستقلال والإصلاح صنوان، وأعداؤهما لمتحالفون أبدًا. فالمستعمرون الأوروبيون والرجعيون المصريون يعملون يدًا بيد. والإصلاح يعني، في جوهره، إنشاء صناعة حديثة واستيعاب الثقافة العلمية. أما الثقافة المصرية الحديثة فهي ليست علمية، بل لا تزال أدبية متطلعة إلى الوراء، نحو الماضي، وقائمة على احتقار الفلاحين والعمال أو تجاهلهم (24). وهنا أيضًا نرى أن التفاصيل لا تخلو من الإبهام. لكنه قدر لكاتب آخر من أبناء هذا الجيل أن يسد هذا النقص، هو حافظ عفيفي، أحد رفقاء لطفي السيد الحديثين في السن، وأحد مؤسسي «حزب الأحرار الدستوريين» في 1920. فقد حول حافظ عفيفي اهتمامه إلى التنظيم الاقتصادي، بحيث أسهم في إنشاء مجموعة «شركات مصر»، التي كانت أول خطوة ناجحة يخطوها المصريون في حقل التنظيم الاقتصادي الحديث. وقد أصدر، في 1938، كتابًا بعنوان:«على هامش السياسة» ، كانت نقطة الانطلاق فيه قريبة جدًا من نقطة انطلاق طه حسين. فقال بأن المصريين قصروا تفكيرهم على علاقاتهم ببريطانيا وبالجاليات الأجنبية. أما الآن وقد نالت مصر الاستقلال، فعلى المصريين أن يتساءلوا ما هي الغاية منه؟ وفي جوابه على هذا السؤال يصرح، كطه حسين، بأن مصر هي أمة مميزة ومتجانسة؛ وبأن نظام الحكم فيها يجب أن يكون ديموقراطيًا، مما يقتضي أن يكون لها
برلمان وأحزاب منظمة وانتخابات حرة. والانتخابات الحرة هي، بالضرورة، انتقاء عقلي بين مخططات للعمل هي من صنع العقل وصياغته، تنوي الأحزاب حقًا وضعها موضع التنفيذ. وفي كتابه «على هامش السياسة» اقترح مخططًا للعمل الاجتماعي الإيجابي، تناول فيه الصحة العامة والتربية والدخل الوطني، كما تناول مسألة تنظيم الحياة الاقتصادية. وكما رسم طه حسين نظامًا تربويًا مثاليًا حاولت حكومات لاحقة تطبيقه إلى حد بعيد، هكذا رسم عفيفي في كتابه سياسة اقتصادية غدت فيما بعد هدفًا تبنته جميع الأحزاب. وقد برز في هذا الكتاب أعقد قضايا الحياة المصرية وأصعبها حلًا، هي قضية تزايد عدد السكان في وقت تسعى مصر فيه أن تصبح جزءًا من العالم الحديث، وتعمل على رفع مستوى معيشة سكانها. ويعتقد عفيفي أنه وإذا كان لهذه القضية من حل، فهو في التصنيع السريع، مما يقتضي سياسة ضرائبية جديدة، وتشريعًا جديدًا للعمال، وخطوط مواصلات أصلح، واعتمادات صناعية، ومساهمة مصرية في الشركات الأجنبية.