الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
الانطباع الأول عن أوروبا
كان لا بد للسلطان، كي يصون وحدة الجماعات المختلفة في إمبراطورية بهذا الاتساع وهذا التنوع، أن يستخدم سلطته التنظيمية بصورة مستمرة وبكثير من المهارة. فالأصوات لم تنقطع، حتى في أوج المنعة العثمانية على عهد سليمان القانوني، عن تذكير السلطان ووزرائه بأن بنيان الدولة سريع العطب. وبالواقع، لم يدخل القرن السابع عشر حتى أخذت معالم التصدع تظهر بوضوح (1). وقد تنبه لهذا فعلًا بعض كتاب العصر وأدركوا أسبابه.
أما حقيقة العلاقة بين هذه الأسباب، والتمييز الدقيق بين ما كان منها بالفعل سببًا وما كان مجرد عرض من أعراضها، فهي مسائل لا يمكن طبعًا الإجابة عليها. إلا أنه باستطاعتنا، على الأقل، أن نلاحظ سلسلة من الأمور «المتعاقبة» المرتبط الواحد منها بالآخر ارتباطًا محكمًا. كان جهاز الحكم آخذًا بالتفكك. فالسلطان كان محور الدولة، ولم يكن بإمكان الدولة أن تسير سيرًا سليمًا ما لم تكن قيادتها فعالة. والواقع أنه، ابتداءً من القرن السابع عشر، كانت السلسلة الطويلة من السلاطين الأذكياء والأقوياء قد انتهت، وتلاها عهد ضعفاء الخلق والذكاء من السلاطين الذين لم يكونوا قد أعدوا إعدادًا صالحًا للقيام بمهامهم. فكانت النتيجة أن نشأ صراع على النفوذ بين فئات الموظفين وقواد الجيش المتحالفين مع العلماء ومع نساء القصر وعبيده. وفي أواخر القرن السابع عشر، أوقف التيار المنحدر وزراء أسرة كوبرولو، بنقل محور السلطة من السلطان إلى
كبير الوزراء، أو الصدر الأعظم. فأصبحت داره، الباب العالي، مركز القرارات، بدلًا من الغرفة ذات القباب في القصر حيث كان ينعقد مجلس السلطان؛ كما أصبح رئيس كتاب الصدر الأعظم بمثابة وزير الخارجية. لكن مركز الصدر الأعظم نفسه كان ضعيفًا بطبيعته، إذ كان تعيين الصدر الأعظم وإقالته متوقفين على مشيئة السلطان، فضلًا عن افتقاره إلى جهاز فعال يحكم به. فقد كانت الإدارة، في عهد الاضطراب والتشويش، قد أصابها الخلل، وفقد نظام جباية الضرائب فاعليته ونزاهته، وانهار نظام تملك الأراضي «الإقطاعي» القديم، كما أخذ الجيش يفقد انضباطه تدريجًا. كان من الممكن تقويم هذا الاتجاه، لو لم يكن أساس النظام الخلقي قد زال أيضًا. فقد ضعفت العصبية المهنية لدى نخبة العبيد، ولدى العلماء، وانحل الانضباط الصارم والولاء الخالص لدى الإنكشارية، فسمح لأولادهم بأن ينضموا إلى فرقها، كما سمح أيضًا للمسلمين الأحرار المولد بأن يدخلوا الجيش الذي غدا الالتحاق به يشترى ويباع ويورث. وأخذ هؤلاء يتقلدون، أكثر فأكثر، المناصب العليا في خدمة السلطان، فصار منهم الوزراء وحكام الولايات وقواد الجيش. وقد استمرت الخرافة القائلة بأن هؤلاء كانوا عبيد السلطان، مع أنهم كانوا، بالواقع، ينتقون بتزايد من الأتراك بين الرعايا المسلمين إذ كانت اللغة التركية لغة الحكام المشتركة، وكان من لم يكن منهم تركيًا بالعرق تركيًا بالتبني. وعلى هذا النمط أيضًا اشتدت نزعة كبار العلماء إلى أن يصبحوا فئة خاصة وممتازة. فقد كان هؤلاء مرتبطين بعضهم ببعض أصلًا برابطة التربية المشتركة، وكانوا يرسلون أولادهم إلى مدارس إسطنبول الكبرى التي كانت المناصب العليا تملأ من بين متخرجيها. وكانوا حراس الأوقاف ومستغليها، وذوي نفوذ اجتماعي وسياسي، كما كانوا ينعمون بفرص خاصة للحصول على الالتزامات وتملك الأراضي. ولما كانوا، كهيئة دينية، في مأمن نسبيًا من تدابير المصادرة فقد ادخروا ما كسبوه. وأملوا بتوريثه أولادهم من بعدهم.
وفيما كان هذا التغير السياسي آخذًا مجراه، كانت الإمبراطورية تجتاز أزمة اقتصادية تجمعت عناصرها منذ زمن طويل. لا شك أن الإدارة الفاسدة قد زادتها خطرًا، إلا أن سببها الحقيقي كان خارجيًا، يعود إلى توسع أوروبا الجغرافي شرقًا وغربًا. فالمراكز التجارية الأوروبية المنشأة في الأقيانوس الهندي كانت قد فككت الخطوط التجارية التقليدية بين الإمبراطورية والعالم الخارجي في آسيا وأوروبا معًا. وكان لاكتشاف أميركا تأثير أشد من ذلك أيضًا، إذ أدى إلى تحول الذهب والفضة إلى بلدان البحر المتوسط، وبالتالي إلى ارتفاع الأسعار، مما زعزع مالية الدولة وأنزل الضرر بالطبقات المنتجة. وكانت النتيجة أن ازدادت الضرائب وتقهقرت الزراعة والحرف وجلا السكان عن الأرياف.
وفيما كان هذان التطوران، السياسي والاقتصادي، مستمرين، كانت سلطة الحكومة المركزية في الولايات تضعف رويدًا رويدًا، مما ترك للقوى المحلية حرية أوسع للعمل. فبعد أن كان جيش الإنكشارية عماد النظام في عواصم الولايات، أصبح الآن الخطر المهدد له، إذ غدا بالواقع حزبًا سياسيًا يستمد تأييده من الجماهير التي طغى عليها الفلاحون النازحون من الأرياف، وأصبح بوسعه حقًا أن يقاوم السلطة، كما أنه انشق في بعض الأماكن إلى أحزاب متنافرة، أو راح يتناحر مع فئات ممتازة أخرى، فخلق بذلك حالة توتر دائمة. أما في الأرياف، فضعف المخافر العسكرية وجلاء الفلاحين عن القرى مكن البدو من النزوح إلى الأراضي المأهولة وإخضاع المزارعين فيها أو ترحيلهم عنها. وكان القرن السابع عشر عصر تحركات في قلب الجزيرة العربية. فكانت قبائل جديدة تنزح إلى صحراء سوريا والعراق، متحدية سيطرة القبائل القديمة فيها، كقبائل الموالي التي توصلت إلى نوع من التعايش مع حكومة السلطان، إلا أنها كانت تقطع طرق التجارة وتسلب الحجاج أحيانًا وتطارد القبائل الأضعف منها حربيًا إلى حافة الأماكن الحضرية. وأمام
هذا التحدي الصادر عن الإنكشارية وعن البدو، تبدلت طبيعة الحكم في الولاية العثمانية. فبينما بقيت السلطة المركزية محتفظة بسيطرتها على الولايات الأوروبية، نشأت في كل من آسيا وأفريقيا فئات حاكمة شبه مستقلة، كـ «أسياد الوادي» في آسيا الصغرى، الذين كانوا موظفين محليين من أعيان الملاكين، فتوصلوا إلى جعل سلطتهم دائمة ووراثية؛ وكفئات المماليك في القاهرة وبغداد وصيدا، الذين كانوا أصلًا من جنود القوقاز المغامرين، فاشتراهم ودربهم وأعتقهم أولئك الذين سبقوهم إلى تلك الديار؛ وكأفراد تلك العائلات المحلية في دمشق والموصل الذين كانت الحكومة المركزية قد قبلت إدراجهم في عداد حكامها. وقد تمكنت هذه الفئات الحاكمة من إيقاف الإنكشارية عند حدها، وأحيانًا من رد البدو على أعقابهم، كما استطاعت أن تؤمن إدارة فعالة للسكان الحضر، وأن تستوفي الضرائب وتدافع عن الحدود، وأن تجعل ولاياتها تحافظ، وإن على درجات متفاوتة، على ولائها الأخير للسلطان. لكنه لم يتسن لها كل ذلك بدون ثمن. فقد كان عليها، للحفاظ على النظام، أن تنشئ جيوشًا خاصة بها، مما اقتضى زيادة في الضرائب، كما أنها اضطرت لأن تمنح نفوذًا أشد ومجالًا أوسع لتلك القوى المحلية التي كانت قوة السلطان التنظيمية، في أوج الإمبراطورية، قد أقامت توازنًا موقتًا في ما بينها. فأصبح للأعيان والعلماء تأثير أشد على الحكومة المحلية منه على الحكومة المركزية. كما أن العائلات الكبرى في الجبال استطاعت أن تخضع من حولها السهول، أمثال آل معن وشهاب وأبي اللمع وجنبلاط في لبنان، وظاهر العمري في الجليل، وبابان في كردستان.
وقد أثرت كل هذه الحركات الداخلية، ولا شك، في طبيعة الإمبراطورية، إلا أنها لم تؤثر، إلا على المدى الطويل، في وجودها. أما في القرن الثامن عشر، فقد جابهت الإمبراطورية تحديًا لوجودها نفسه من جهات أخرى. فعلى حدود الإمبراطورية الصحراوية،
وفي قلب الجزيرة العربية، نشأت حركة إصلاحية، استلهمت تفكيرها من المذهب الحنبلي. فأعلن صاحبها، محمد بن عبد الوهاب (1703 - 87)، أن الإسلام ليس مجرد أقوال أو ترديدًا لأقوال، فلن يكفينا يوم الحساب أن نتوسل بالقول: سمعت الناس يقولون بهذا فقلت به (2)، بل علينا أن نعرف ما هو الإسلام الحقيقي: إنه قبل كل شيء رفض جميع الآلهة إلا الله، ورفض إشراك سواه في التعبد الذي لا يجوز إلا له. فالشرك شر مهما كان موضوعه، أكان ملكًا أم نبيًا أم وليًا أم شجرة أم قبرًا (3). والتعبد للأتقياء شر كعبادة الأوثان. ولا يقتصر الشرك على الأقوال والأفكار، بل يشمل أيضًا جميع الأعمال المنطوية عليه ضمنًا: فإتيان أعمال هذه الدنيا نوع من الشرك (4). هذا الإسلام الحقيقي كان، في نظر ابن عبد الوهاب، دين الجيل الأول، دين السلف الصالح. فهو، باسم هذا السلف، يعترض على تلك البدع اللاحقة التي أدخلت في الإسلام آلهة جديدة: تطور الفكر الصوفي الأخير وعقيدته في وحدة الوجود، وإعراضه الزهدي عن خيرات هذه الدنيا وانتظامه في الطرق، وطقوسه الغريبة عما رسمه القرآن. وهو يعترض على الغلو في إكرام محمد على أنه إنسان كامل وشفيع بين الناس والله (مع أنه يحيطه بالإجلال العظيم كنبي)؛ وعلى التعبد للأولياء وتكريم قبورهم؛ وعلى انبعاث تقاليد الجاهلية وعاداتها في الإسلام.
طبعًا، لم تكن تعاليم ابن عبد الوهاب جديدة. فقد تأثر بابن تيمية، عن طريق عائلته التي كان أعضاؤها من علماء الحنبلة، بفضل دروسه في المدينة وغيرها (5). إلا أنه فسر الإسلام تفسيرًا لم يكن لمعلمه عهد به. إذ لم تقتصر تعاليمه، في ظروف زمانه، على الدعوة إلى التوبة، بل غدت تحديًا للقوى الاجتماعية السائدة- تحديًا، من جهة، للقوة المتجددة لدى القبائل العربية التي كانت لا تزال تعيش على جهل بالدين والشريعة، وتحديًا، من جهة أخرى، للسلطنة العثمانية التي كانت تدعم السنة
الإسلامية، لا كما كان يفهمها السلف، بل كما كانت قد تطورت إليه خلال العصور. إن حقيقة ما كان يقوله ابن عبد الوهاب هو أن ذلك الإسلام الذي كان السلطان يحميه ليس بالإسلام الحقيقي، وهذا يعني ضمنًا أن السلطان ليس الإمام الحقيقي للأمة. وقد تجسدت حركته هذه، كمثيلاتها في الإسلام، في دولة، وغدا تحديه للعقيدة تحديًا للسلطة أيضًا. فقد تحالف مع أسرة حاكمة صغيرة في أواسط الجزيرة، أي أسرة ابن سعود، على إقامة دولة يمكن للمسلمين أن يحيوا فيها الحياة الصالحة وفقًا للشريعة كما يفهمانها. في هذه الدولة كانت الشريعة تطبق بكل تفاصيلها، ولم يكن لأي قوانين أو عادات أخرى أي مفعول. وكانت السلطة في يد الإمام، وهو الزعيم المدني وإمام الصلاة، يمارسها بمشورة العلماء والجماعة. وكانت الدولة أيضًا، بحكم الجغرافيا من جهة، وبتشديدها على العودة إلى عهد الإسلام الأول من جهة أخرى، عربية في روحها. فقد قال أحد الأئمة الوهابيين بفخر، في معرض حديثه عن الإمامة، إنه إذا كان نوالها بالاختيار، فالعرب أحق بها من الأتراك (6). غير أن هذه الدولة كانت تدعو، لا إلى تضامن عربي، بل إلى تضامن إسلامي، وتذهب جوهريًا إلى أنها الدولة الإسلامية الوحيدة التي يمكن للجميع الانتماء إليها. كان في هذا تحد ضمني لسلطة العثمانيين السياسية، بل تحد خطير، لأن سياستها في الجزيرة كانت ترمي إلى إحلال الشريعة محل عادات الجاهلية، وروح التضامن الإسلامي محل العصبية القبلية، ومن ثم توجيه قوى البدو الحربية نحو جهاد دائم. وفي أواخر القرن الثامن عشر، كان الوهابيون قد سيطروا على أواسط الجزيرة والخليج الفارسي، ثم ما لبثوا أن دمروا كربلاء في أطراف العراق، واحتلوا الحجاز، وأخذوا يهددون دمشق.
وفي الوقت نفسه تكونت، ما وراء حدود الإسلام، حركة كان لا بد أن يكون لها تأثير أشد على الإمبراطورية: هي الثورة العلمية
في أوروبا الغربية وما انبثق عنها من قوة عسكرية واقتصادية. وكان العثمانيون، في القرن السادس عشر، قد أوشكوا على تنصيب أنفسهم أسيادًا على أوروبا. وبعد ذلك بقرن واحد كانوا ما يزالون من القوة بحيث استولوا على جزيرة كريت وهددوا فيينا وحاربوا الدول الأوروبية محاربة الند للند. إلا أنهم لم يتمكنوا من استيعاب الاكتشافات الجديدة في فنون الحرب، كما فعلوا في عهد سابق. لذلك لم يكن بوسعهم، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، محاربة الدول محاربة الند للند. فكانت النتيجة أن ازداد نفوذ الدول الدبلوماسي في القسطنطينية. ولكن لما كانت الدول على خلاف فيما بينها، وكانت تنظر إلى تأثيرها على السلطان كوسيلة من وسائل التنافس، فقد أدى ازدياد هذا التأثير إلى ازدياد الصراع أيضًا. وقد تمكنت الحكومة العثمانية من استغلال هذا التنافس للاحتفاظ بشيء من الاستقلال في العمل، غير مضمون. لكن هذا التوازن الذي كان قائمًا في قلب الإمبراطورية اختل في أطرافها. ففي حرب 1768 - 1774، أنزلت البواخر الروسية جيوشًا في اليونان وفي بيروت، بينما توغلت الجيوش الروسية في البلقان والقوقاز. وفي نهاية الحرب، فرض على السلطان التخلي عن القرم التي كانت إذ ذاك منطقة إسلامية في معظمها، فكانت أول مقاطعة إسلامية تنسلخ عن الإمبراطورية. كما أن البواخر الفرنسية والإنكليزية مخرت بحرية أيضًا عباب ما كان يعرف إذ ذاك بالمياه العثمانية في شرقي البحر المتوسط. وقبل نهاية القرن جرت فرنسا وإنكلترا ولاية عثمانية إلى حومة النزاع بينهما، فاحتل الفرنسيون مصر، في 1798، ولم يتمكن الأتراك من طردهم منها إلا بمساعدة الإنكليز.
كان لتأثير الدول مفعوله حتى على الولايات التي لم تكن معرضة للخطر العسكري. فكانت كل قنصلية أوروبية مركز نفوذ تلتف حوله فئة من الرعايا المحميين، المسيحيين منهم واليهود العثمانيين، الذين منحوا بعض امتيازات الأجانب. ولم تقتصر الحماية الأوروبية
على الأفراد، بل تعدتهم إلى جماعات بكاملها. فمنذ القرن السادس عشر، كانت «الامتيازات» قد منحت فرنسا حق حماية الكاثوليك الأوروبيين بكنائسهم وكهنتهم في الأراضي العثمانية. ثم وسعت فرنسا تلك الحماية تدريجًا حتى أصبحت تشمل الكاثوليك العثمانيين والإرساليات الأوروبية العاملة بينهم. وكانت أكبر طائفة كاثوليكية وأهمها طائفة الموارنة، التي كانت تعيش خصوصًا في لبنان، والتي كانت قد اعترفت بالسلطة البابوية في أثناء الحروب الصليبية وأقامت لها علاقات مباشرة ومستمرة مع الفاتيكان منذ القرن السادس عشر، وعلاقات مباشرة مع ملك فرنسا في 1649، بحيث أصبح النفوذ الفرنسي فيها كبيرًا. وعندما نمت الطوائف الكاثوليكية الأخرى، شملتها أيضًا حماية فرنسا، وإلى حد أقل، حماية النمسا. ولم يقبل السلطان قط بهذا رسميًا، إلا أنه رضخ له إلى حد ما، خصوصًا كلما شعر بالحاجة إلى دعم فرنسا له ضد روسيا. أما المسيحيون الأرثوذكس، وخاصة اليونانيون منهم، فقد كانوا مرتبطين بعلاقات مع روسيا. وقد جعلت روسيا لنفسها، في معاهدة كوتشوك كاينرجي عام 1774، أساسًا حقوقيًا لتلك العلاقات، أصبح له فيما بعد مضاعفات سياسية هامة، إذ كان الأرثوذكس يشكلون أكبر طائفة مسيحية في الإمبراطورية.
كانت الطوائف الأرثوذكسية وغيرها من الطوائف المسيحية تزداد ثروة وثقافة ونفوذًا طوال القرن الثامن عشر. فالحماية الأجنبية لم تمنحها امتيازات سياسية فحسب، بل وفرت لأبنائها أيضًا، وهم عملاء التجارة مع أوروبا في ذلك الحين. منافع تجارية ومالية. وقد اغتنى، بنوع خاص، اليونانيون والأرمن والمسيحيون السوريون الناطقون بالضاد، فارتفع مع هذا الغنى مستواهم الثقافي واشتد شعورهم الطائفي. وقد تجلى ذلك، في الأكثر، لدى اليونانيين الذين كانت عظمة البيزنطيين لا تزال ماثلة في ذاكرتهم، فاستعادوا، بطريقة أخرى، تلك السلطة السياسة التي كان محمد،
فاتح القسطنطينية، قد جردهم منها. فكان بطريرك القسطنطينية، اليوناني أبدًا، الرئيس المدني أيضًا «للأمة» الأرثوذكسية بكاملها. وقد توصل في القرن الثامن عشر إلى جمعها تحت سلطته، وذلك وإخضاع البطريركيات الأخرى أو بترئيس مرشحيه عليها. وكانت أيضًا أسرة الفنار اليونانية الكبيرة تحتل، في تلك الحقبة، وبلا انقطاع تقريبًا، وظائف معينة ذات نفوذ في الدولة: فكان منها تراجمة الباب العالي، وتراجمة البحرية، وحكام ولايات فالاشيا ومولدافيا. وفي نهاية القرن، أصبحت قلوب اليونانيين مشبعة بروح الثقة بالنفس كشعب يحكم الآخرين ويشعر بقوته آخذة في الازدياد. كما أنهم بدأوا يتحسسون وجود عالم جديد من الأفكار والثروات في أوروبا، وإمكانية العثور هناك على أصدقاء وحلفاء. وكان يحمل إليهم أفكار عصر التنور الفرنسي أبناؤهم الطلاب الذين كانوا يتلقونها في جامعة بادوا. وفي ذلك الحين أنشئت المدارس الوطنية الأولى، وأسست الجمعيات، وأخذت العلاقات مع روسيا تزداد تقاربًا.
وكان قد مضى زمن أقبل فيه العثمانيون على التعلم من أوروبا بدافع من مصلحتهم. فعرفوا، في أيام الفتح العظيمة، كيف يستفيدون من مهارة بعض المسيحيين المرتدين من سكان أوروبا الوسطى، وكيف يقتبسون منهم ثمار التقدم الأوروبي في فن الحرب. وقد سهل عليهم استخدام البارود والأسلحة النارية امتداد سلطتهم إلى مصر وسوريا في أوائل القرن السادس عشر. وكانت بحريتهم تستخدم، على أوسع نطاق، الأساليب الفنية الجديدة في الملاحة وفي التخطيط الحربي، بعد أن كانت القسطنطينية قد اطلعت بسرعة على الاكتشافات الجغرافية التي تمت في عصر النهضة. وكان محمد الفاتح، إلى حد ما، على اهتمام عام بالمدنية الغربية. فدعا بعض الرسامين ورجال الأدب الإيطاليين إلى بلاطه، وأمر بترجمة مؤلفات بطليموس وبلوطارخوس إلى اللغة التركية. ولعل اهتمامه هذا قد نشأ عن الحاجة العسكرية، إذ كان الرسامون الإيطاليون خبراء
أيضًا في فن التحصين، ناهيك بقيمة المعلومات الواردة في كتب بطليموس. على أن ذلك، كما يبدو، قد أثار فيه رغبة مجردة في المعرفة، وحبًا في الاستطلاع. وهو أمر أصبح نادرًا فيما بعد، حين فقدت الدولة حيويتها بعد انصرام عهد العظمة الأول الطويل، كما فقدت مهارتها السياسية، ولم يعد بوسعها التكيف وفقًا للتغير، في وقت أصبح التغير فيه سريعًا وواسعًا. فلم يكن للاكتشافات العلمية أي صدى لديها، حتى إن الإشارة الواحدة إلى كوبرنيكوس في الأدب العثماني، قبل آخر القرن السابع عشر، لم تكن إلا إشارة عابرة (7). كما أن الجيش والبحرية لم يقتبسا شيئًا من التحسينات الفنية الجديدة. وقد برز الانحطاط في أواسط القرن الثامن عشر بروزًا لم يعد من الممكن تجاهله. لا بل يبدو أن الشعور بالانحطاط كان قد بدأ منذ أوائل القرن السابع عشر، كما يدل على ذلك، ابتداءً من كوسى بك وصاعدًا، سلسلة الكتب التي عينت بوضوح تام أسباب هذا الانحطاط. وقد يكون من الدلائل عليه أيضًا الاهتمام بابن خلدون، الذي ترجمت «مقدمته» إلى اللغة التركية في القرن الثامن عشر، وكان انتشارها واسعًا على ما يبدو. إلا أنه، مع تصرم القرن، تبدلت النظرة إلى العلة وإلى الدواء. فقد كان المفكرون والأدباء يحثون السلاطين على إعادة بناء مؤسسات الماضي العظيم. أما الآن فقد وجدت الإمبراطورية نفسها بحاجة إلى أكثر من ذلك. إذ كان عليها، للدفاع عن نفسها، أن تجد حلفاء أوروبيين ضد أعداء أوروبيين، وأن تفتح صدرها لفنون الحرب الجديدة في العالم الحديث. وقد أدت هذه الحاجات إلى قيام الرعيل الأول من السياسيين الغربي التفكير في الشرق الأدنى.
ففي عهد باكر، أي منذ 1720، عاد من فرنسا مبعوث خاص بتقرير مشبع بالإعجاب بها. وحاولت الحكومة العثمانية مرارًا، ابتداءً من ثلاثينيات القرن الثامن عشر، إنشاء جيش على أسس أوروبية. وفي حقبة السنوات العشر تلك، طلب السلطان من مرتد
فرنسي، اسمه دي بونفال، أن يفتح مدرسة للهندسة العسكرية، فلم تعمر طويلًا بسبب مقاومة الإنكشارية لها. إلا أنه أنشأ بعد جيل، أي في سبعينيات ذلك القرن، مدرسة الرياضيات لضباط البحرية، كان أول أستاذ فيها جزائري يعرف لغات أوروبا، كما كانت الكتب المدرسية فيها أوروبية مترجمة إلى اللغة التركية (8). وفي عام 1789، تسنم العرش سلطان ذو أفكار إصلاحية، هو سليم الثالث، فبدأ بإصلاح الجيش على نطاق واسع، وفتح مدارس كان معظم أساتذتها من الفرنسيين، باستثناء السنوات التي تلت غزو مصر، إذ انفصمت موقتًا عرى الصداقة الفرنسية التركية. وكانت هذه المدارس تلقن اللغتين الفرنسية والإيطالية وكان في بعضها مكتبة فرنسية تحتوي مؤلفات معظمها تقنية إن لم يكن كلها. وفضلًا عن ذلك، فقد ترجمت في هذه الفترة إلى اللغة التركية كتب في الرياضيات والملاحة والجغرافيا والتاريخ، وطبعت على أول مطبعة تركية تأسست في العشرينيات من القرن الثامن عشر تحت رعاية الحكومة. وهكذا نشهد في ذلك الحين فورانًا فكريًا، جاءت الثورة الفرنسية تحره وتغذيه. وكانت هذه الثورة أول حدث في السياسة الأوروبية راقبه الأتراك عن كثب، فأثر فيهم تأثيرًا عميقًا وأدى، فيما أدى إليه، إلى احتكاك الدبلوماسيين الفرنسيين، أكثر من ذي قبل، بالموظفين وبرجال الدولة العثمانيين (9).
هذه كانت الأفكار والدوافع الأولى التي حاول سليم الثالث تنسيقها. ففي 1792، طلب من كبار الشخصيات في الإمبراطورية أن يضعوا له تقارير عن حاجات الإمبراطورية. فاتفق معظمهم على ضرورة الإصلاح العسكري بمساعدة ضباط واختصاصيين أوروبيين، على أن يتم ذلك الإصلاح دون مساس بالشريعة أو إثارة عداء المحافظين (10). وقد حاول السلطان سليم، طيلة العشرين سنة اللاحقة، أن يطبق هذه الآراء، غير أن محاولته إنشاء جيش مثالي جديد أثارت عليه نقمة الإنكشارية الذين ما أن شعروا بمركزهم مهددًا حتى هبوا ثائرين، يؤيدهم
العلماء والجماهير، فخلعوا السلطان سليم عن عرشه. وبعد حقبة من البلبلة، ارتقى العرش محمد الثاني، الذي شارك سليم الثالث سجنه، كما شاركه آراءه. إلا أنه رأى، وقد اعتبر بإخفاق سلفه، أن ينتظر عشرين عامًا بروز العاملين اللذين مكناه من التغلب على الإنكشارية: الأول نشوء فريق من دعاة الإصلاح ظهروا تدريجًا وكانوا مطلعين اطلاعًا واسعًا على العالم الحديث ومقتنعين بأن الإمبراطورية إما أن تنتمي إلى ذلك العالم أو تفنى. كان منهم ضباط في الجيش تخرجوا من المدارس الجديدة وأتقنوا لغات أوروبية وألموا بالتقنية العلمية الحديثة، كما كان منهم من نشأ نشأة أخرى مختلفة أكسبتهم، في تلك الظروف، نفوذًا أكبر: نعني بهم فئة الدبلوماسيين والتراجمة الدبلوماسيين الشباب. كانت الإمبراطورية تعتمد، في عهودها الأولى، على اليهود والمرتدين الأوروبيين في جمع الأخبار الخارجية وفي المهارة الدبلوماسية. وإذ أخذ معين المرتدين ينضب، بدأت تلتفت أكثر فأكثر إلى رعاياها اليونانيين، وبنوع خاص، إلى بعض أسر الفنار الكبرى التي كانت على معرفة ومهارة سياسية موروثة وعلى فهم دقيق للسياسات الأوروبية استمدته من صلاتها الواسعة ومن دراساتها في إيطاليا. إلا أن ولاء هؤلاء لم يكن دومًا فوق الشبهات. وإذ أخذت العلاقات بين العثمانيين والأوروبيين تتوثق وتعمق بشكل لم يعد يسمح بتركها بين أيدي وسطاء مغرضين، أخذ الباب العالي، ابتداءً من القرن الثامن عشر، ينشئ سفارات له في أوروبا ويرسل إليها موظفين شبابًا لدرس لغات أوروبا وسياساتها. فضلًا عن أنه أنشأ له فيما بعد، مكتبًا للترجمة.
كان هناك، إذن، في العشرينيات والثلاثينيات من القرن التاسع عشر، رعيل من العثمانيين أصبح دون أن تقتلع جذوره، جزءًا من المجتمع الأوروبي، مشبعًا بأفكاره. نذكر من هذا الرعيل أحمد وفيق باشا، الذي كان جده أول المترجمين الأتراك الجدد، وأبوه من العاملين في السفارة في باريس، حيث تلقى هو علومه، فأصبح، في جيل لاحق، كبير الوزراء. وبحكم هذا المنصب نشأت علاقة
حميمة بينه وبين السفير البريطاني، السر هنري ليارد، الذي كان قد عرفه شابًا. وقد ترك لنا ليارد صورة عنه وعن أبيه. كان الأب «سيدًا تركيًا وافر النبل، مرهف الأدب، مهيب الطلعة، تزينه الحية بيضاء كالثلج وعمامة وجبة» . لكن شتان ما بينه وبين ابنه، «الذي كان اطلاعه على المؤلفين الإنكليز والفرنسيين مدهشًا يثير الإعجاب
…
كنا نقرأ معًا أفضل الكلاسيكيين الإنكليز، بمن فيهم غيبون وروبرتسون وهيوم، وندرس علم الاقتصاد السياسي في كتب آدم سمث وريكاردو. وقد حملناه أيضًا على قراءة روايات شكسبير، فاستوعبها وقدرها، وعلى قصص ديكنس فتفهم روحها تمامًا
…
وقد استمتع بقراءة «بيكويك» ومؤلفات ديكنس الأخرى التي صدرت آنذاك، وبالغ من اطلاعه عليها أنه اعتاد فيما بعد على الاستشهاد بها» (11).
ومن هذا الرعيل أيضًا مصطفى رشيد باشا الذي تلقى تربيته الأولى في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، عندما كان دبلوماسيًا في باريس، حيث تعلم «اللغة الفرنسية وبواسطتها درس الكثير من أدب أوروبا السياسي» (12). ومن هذه الدراسة استمد الآراء التي كانت ستوجه، بواسطته وبواسطة أمثاله، سياسة الإمبراطورية لنصف قرن. وتتلخص هذه الآراء في أن على الإمبراطورية أن تتحول إلى دولة مركزية حديثة، وأنه لا بد، لتحقيق ذلك، من توفير شروط عدة: إنشاء جيش حديث، مما يقتضي إنشاء صف من الضباط المثقفين، واستخدام هذا الجيش لاستعادة السيطرة المركزية على الولايات المتمتعة بحكم شبه ذاتي وباستقلال عملي، ومن ثم لإبعاد خطر الثورة والتدخل الأجنبي؛ وأخيرًا إنشاء نظام تشريعي وإداري حديث في جميع أنحاء هذه الإمبراطورية الموحدة من جديد يكون قائمًا على مبدأ المساواة بين جميع المواطنين.
أما العامل الثاني، الذي مكن محمد الثاني من مقاومة الإنكشارية، فهو تلك القوة الجديدة التي ظهرت، في 1821، على مسرح الحياة العثمانية، والتي كان من شأنها أن تلعب دورًا في تاريخ الإمبراطورية
اللاحق لا يقل أهمية عن دور فكرة الإصلاح «الغربي» التي لم تكن تلك القوة إلا تعبيرًا عنها. فقد ثار اليونانيون في روسيا واليونان، وكانت ثورتهم، من جهة، محاولة لقلب الميزان الديني، بل السياسي أيضًا، في شرقي البحر المتوسط، وإحلال السيطرة الأرثوذكسية اليونانية محل السيطرة الإسلامية التركية. لكنها كانت أيضًا، من جهة أخرى، ثورة قومية تستمد وحيها لا من بيزنطية، بل من ذكريات اليونان القديمة، وتستهدف إنشاء دولة حرة في وطن الهلنيين القديم. وقد عجز الجيش عن قمع الثورة فانتهت، بعد التدخل الأوروبي، بالاعتراف باستقلال اليونان، فكان ذلك حدثًا حاسمًا في تاريخ الإمبراطورية. إذ أخذت الشعوب المسيحية الأخرى، من ذلك الحين، تفكر أكثر فأكثر بالثورة القومية وباجتذاب قوى أوروبا الليبرالية. أما الذين كانوا يرغبون في استمرار الإمبراطورية، فقد قويت لديهم فكرة الإصلاح، على اعتبار أنه لا يمكن كسب ولاء الشعوب الحكومة وتأييد أوروبا الغربية إلا بالإصلاح. وفي 1826 آنس السلطان محمود في نفسه القوة الكافية للإقدام على خطوة الإصلاح الأولى التي كان لا بد منها، فحل فرق الإنكشارية وأبادها، دون أن يرتفع صوت واحد للدفاع عنها حتى بين المحافظين المتدينين. فلعل عجزها عن قمع الثورة اليونانية كان قد انتزع سيطرتها من مخيلة الشعب. وقد فتح هذا الحدث الباب لنصف قرن من الإصلاحات التي عرفت «بالتنظيمات» ، فغدا من الممكن إنشاء جيش جديد بمساعدة المدربين الفرنسيين والبروسين، واستخدامه لإنهاء الحكم الذاتي الذي كان يستأثر به «أسياد الوادي» في الأناضول، وبعض الأمراء في الكردستان، والمماليك في بغداد. وقد تمت أيضًا إصلاحات أخرى: ففتحت مدارس لتخريج الضباط والأطباء والموظفين، وأرسلت بعثات تربوية إلى أوروبا، وأنشئت جريدة رسمية، وألغيت الإقطاعات المتبقية، وأصلحت إدارة الأوقاف، وأعيد تنظيم الحكومة المركزية، واعتمد اللباس الحديث، كعمل
رمزي، في المناسبات الرسمية.
إلا أن كل هذا لم يكن سوى إصلاحات مبعثرة، لم تتعرض للقضية الجوهرية، أي قضية الأساس المعنوي والحقوقي للإمبراطورية ومركز الرعايا المسيحيين فيها. وبقيت الحال على هذا المنوال حتى 1839، أي إلى ما بعد وفاة السلطان محمود بقليل، إذ عمد خلفه السلطان عبد الحميد، بتأثير من رشيد باشا، على إصدار أول بيان عام لمبادئ الإصلاح، عرف بقرا ر «جلهانه» الذي يستهله بهذه المقدمة:
«من المعلوم لدى الجميع أن تعاليم القرآن المجيدة وشرائع السلطنة كانت أبدًا محترمة على عهد الدولة العثمانية الأولى، فازدادت من جراء ذلك قوة السلطنة وعظمتها، وبلغ كافة الرعايا بلا استثناء أعلى مراتب البحبوحة والازدهار. لكن حدثت، خلال المائة وخمسين سنة الفائتة، سلسلة من الأحداث والأسباب المختلفة أدت إلى تجاهل الشرائع المقدسة والأنظمة المستمدة منها. فانقلبت القوة والازدهار السابقين إلى ضعف وفقر. والواقع أن الدول تفقد استقرارها حالما تتوقف عن التقيد بشرائعها
…
لذلك، رأينا مناسبًا، ونحن على ثقة بمعونة العلي وعلى يقين بتأييد نبينا، أن نزود الولايات التي تتألف منها السلطنة بإدارة صالحة» (13).
إن نقطة الانطلاق في هذا الاستهلال إنما هي النظرية الإسلامية التقليدية في الدولة، القائلة بأن الدول تكون فاضلة إذا ما أطاعت الشريعة، ومستقرة إذا ما كانت فاضلة. أما الجديد فيه، فهو الاستنتاج المستخلص من هذه المقدمة، وهو أنه عندما تشح الفضيلة وتهن القوة تصبح الحاجة ماسة، لا إلى الإصلاح الخلقي فحسب، بل إلى تغيير في المؤسسات. ثم يمضي القرار، فيتساءل عما ينبغي للمؤسسات الجديدة أن تكون عليه، فيقول:
«يجب أن تقوم على الأسس الثلاثة الآتية:
1 -
ضمانات تومن لرعايانا تأمينًا تامًا الحياة والشرف والرزق.
2 -
نظام قانوني لتحديد الضرائب وجبايتها.
3 -
نظام قانوني للتجنيد ومدة الخدمة.
ثم يضيف قائلًا:
«وإذا فقد المرء شعوره بالأمن على رزقه، فلن يصغي إلى صوت الحاكم أو البلاد
…
أما إذا كان بالعكس آمنًا على ما يقتنيه، فإنه يشعر بإخلاصه نحو بلده ينمو ويتضاعف كل يوم، ويصبح شعوره هذا مصدرًا لأنبل الأعمال».
ثم يقدم القرار عدة خطوات عملية، منها إلغاء نظام الامتيازات، وإنفاق مبالغ معينة ومحدودة على الجيش والبحرية، والتجنيد النظامي، والعدالة العامة والنظامية، وضمان حقوق الملكية وعدم الحجز الكيفي، ودفع معاشات الموظفين بصورة منتظمة، وسن قوانين دقيقة ضد الرشوة. ويقضي القرار بأن تطبق هذه التدابير على جميع رعايا السلطان بالتساوي مهما كان دينهم أو طائفتهم. ويشير أيضًا إلى عزم السلطان على أداء القسم أمام العلماء وعظماء الدولة بأنه سيضع هذه التدابير موضع التنفيذ، كما يشير أيضًا إلى أن هؤلاء سيقسمون بدورهم على ذلك، وأن القرار سيبلغ إلى سفراء الدول الصديقة ليكونوا شهودًا على تكريس هذا التعهد بإجراء هذه الإصلاحات.
من نص هذا القرار يتضح طابعه العام. فهو إعلان صادر، من طرف واحد، لنوايا السلطان، العاهل المطلق، الذي أراد، من تلقاء نفسه، أن يضفي على إعلانه طابع العقد بينه وبين رعاياه
وبينه وبين الدول الأوروبية. إن هذا البيان لا يمس، رسميًا، جهاز الشرع الإسلامي. أما في الواقع، فهو يستهدف تحويل الدولة من سلطنة إسلامية إلى سلطنة يكون فيها أتباع جميع الأديان أعضاء متساوين في جسم الجماعة السياسي ومشتركين معًا في شعور الولاء الوطني. وقد تجسدت هذه النوايا جزئيًا في القوانين التي صدرت خلال العشرين أو الثلاثين سنة اللاحقة: فقد أعيد تنظيم الحكومة المركزية والمحلية على نطاق أوسع، وأقر التجنيد، وأنشئت محاكم مدنية وجزائية وتجارية، وسن قانون جزائي وقانون تجاري جديدان. وفي 1856، أي أثناء حرب القرم، أصدر السلطان بيانًا إضافيًا عن ذلك، عرف «بخط هامايون» ، يؤكد فيه السلطان أن مبتغاه إنما هو سعادة جميع رعاياه على السواء. ويثبت جميع الضمانات الممنوحة بموجب القرارات السابقة وجميع الامتيازات الروحية للطوائف غير المسلمة التي لم تكن قد منحت لهم من قبل، ويصرح بأنه من الآن وصاعدًا لن يكون ثمة أي تمييز قائم على الدين أو اللغة أو العرق في توزيع وظائف الدولة، أو الدخول إلى المدارس الحكومية، أو دفع الضرائب، أو الخدمة العسكرية (14). وفي معاهدة باريس التي أنهت حرب القرم في السنة نفسها، أخذت الدول المتعاقدة علمًا بهذا القرار الذي كان السلطان قد أبلغها إياه، معلنًا أنه أصدره عفويًا عن إرادته السنية؛ إلا أنها صرحت بأن هذا التبليغ لا يمنحها الحق في التدخل، لا جماعيًا ولا فرديًا، في علاقات السلطان مع رعاياه، أو في إدارة شؤون إمبراطوريته (15).
إن الاعتناء في انتقاء العبارات وتركيبها في نص هذه المعاهدة ينم عن الضعف الذي كان ملازمًا لطريقة الإصلاح. فكل شيء فيه كان وقفًا على إرادة السلطان. نعم، لقد عقدت في 1845، جمعية من أعيان الولايات، لمناقشة شؤون الإمبراطورية. إلا أن ذلك لم يحدث أي تغيير، وبقي الحكم في قبضة السلطان، لا بل أخذت سلطته تزداد إذ جاءت المؤسسات الجديدة الصادرة عن إرادته تحل محل المؤسسات
القديمة التي كانت تحد منها، كما أخذت القوانين الجديدة تنمو إلى جانب الشريعة السائدة منذ زمن بعيد. كان عبد المجيد وخلفه عبد العزيز، راغبين على العموم، في التعاون مع رجال الدين المصلحين، إلا أنهما كانا ضعيفين، ومتقلبين، وواقعين تحت تأثير مستشاريهما. ولم يتمكن رشيد باشا وتلميذاه فؤاد وعلي (والاثنان دبلوماسيان سابقان)، إلا بصورة متقطعة، وبمساعدة سفيري بريطانيا وفرنسا، من جعل السلطان يصغي إليهم ويحقق الإصلاحات التي كانوا يعتقدونها ضرورية.
كان يقاومهم في مهمتهم تلك أولًا المحافظون المتدينون، الذين كانوا يحرصون على الاحتفاظ بأساس الدولة العثمانية التقليدي، وذلك إما لارتباط مصالحهم به، وإما لاعتقادهم بأنه موافق لإرادة الله، وبأنه الضمانة الوحيدة للاستقرار. وقد نجحوا مثلًا في تأخير تطبيق القانون التجاري الجديد، مدعين أنه يتناول دائرة من الحياة قد عالجتها الشريعة بتفصيل ودقة. وأتت المقاومة أيضًا من الذين لم يعترضوا مبدئيًا على الإصلاحات، إلا أنهم كانوا يعتقدون أن تطبيقها يستحيل في دولة كالسلطنة العثمانية. فالتصريحات، كبيان 1839 وبيان 1856، كان من شأنها بالواقع أن تعطي الدول الأخرى فرصة جديدة للتدخل، بالرغم مما ورد في معاهدة باريس. كما كان من شأنها، فضلًا عن ذلك، أن تمنح حرية جديدة للشعوب المحكومة، تتيح لها أن تقوي نفسها وتثور. فالشعوب المسيحية في البلقان كانت تشعر بشعور وطني خاص، وكانت ترغب في الاستقلال، بينما كان الشعور الوطني العثماني يكاد لا يكون موجودًا. وعلى هذا، فقد كان المعترضون يقولون بأن هذه الإصلاحات، إذ كانت مبنية على مبدأ لم يمتحن بعد ولم يكن يؤمن به حقيقة أحد، لا بد أن تهدم تلك المبادئ التي كانت قوة الإمبراطورية، لا بل كيانها، قائمًا عليها: أي سلطة الشرع الإسلامي وسيطرة العنصر التركي المسلم. فمن الأفضل، إذن، الاحتفاظ بالنظام القديم،
على أن يطهر من الفساد والجمود، ريثما يتم التغير البطيء في المشاعر، الذي يجعل من الممكن إحداث مؤسسات جديدة بأمان. وهذا كان رأي أحمد وفيق، فهو يقول:«إن محاولة إدخال مؤسسات أوروبية بالجملة إلى تركيا وتلقيح النظام التركي السياسي التقليدي القديم بالمدنية الأوروبية، قبل أن يكون مهيئً لمثل هذا التجديد الحاسم، لا يمكن أن تنجح، بل لا بد لها من أن تضعف السلطنة العثمانية أضعافًا يفقدها القوة الضئيلة والاستقلال الذين تبقيا لها» .
وقد توصل أحمد وفيق، في أواخر أيامه، إلى تحقيق مبادئه. فبعد صدور الدستور العثماني، في 1876، أصبح رئيسًا لأول مجلس منتخب. وقد أظهرت إدارته الصلبة للمناقشات أنه لم يفقد شيئًا من حذره القديم من المؤسسات التي كان يعتبرها غير ملائمة، لا بل خطرة.
كانت القضية التي بقيت بالواقع قضية الإمبراطورية، طيلة القرن الأخير من وجودها، ما يلي: كيف يمكنها أن تدخل جسم الدولة السياسي تلك الإصلاحات في المؤسسات وفي الخلقية السياسية التي تشكل مصادر القوة في العالم الحديث. على أنه كان في الإمبراطورية ولايات بعيدة، تتمتع بالحكم الذاتي وذات شعوب متجانسة، لم يثر فيها الإصلاح مثل هذه المشاكل، بل لاقى لديها نجاحًا أوفر. من هذه الولايات مصر، التي كانت أفكار الثورة الفرنسية قد أتتها متجسدة في جيش أوروبي. كان آخر كبار المؤرخين من المدرسة القديمة، الجبرتي (1756 - 1825)، عائشًا في مصر عندما نزلها جيش بونابرت، فجاء وصفه لوصول الفرنسيين يعكس قوى التجاذب والتنافر التي كانت تتنازع ضمنًا مصر الحديثة في علاقتها بأوروبا الحديثة. فهو يقول: «حضر إلى الثغر مراكب من مراكب الإنكليز
…
فانتظر أهل الثغر ما يريدون. وإذا بقارب صغير واصل من عندهم وفيه عشرة أنفار. فوصلوا البر واجتمعوا بكبار البلدة
…
فاستخبروهم عن غرضهم فأخبروا
…
إنهم
حضروا للتفتيش عن الفرنسيين لأنهم خرجوا بعمارة عظيمة
…
فربما دهموكم فلا تقدروا على دفعهم ولا تتمكنوا من منعهم
…
فجاوبوهم بكلام خشن
…
فقالت رسل الإنكليز: نحن نقف بمراكبنا في البحر محافظين على الثغر، لا نحتاج منكم إلا الإمداد بالماء والزاد بثمنه. فلم يجيبوهم إلى ذلك وقالوا: هذه بلاد السلطان وليس للفرنسيين ولا لغيرهم عليها سبيل، فاذهبوا عنا». وقد ردد صدى هذه الروح المتحدية صوت أمراء المماليك في القاهرة الذين، إذ سمعوا بالخبر:«لم يهتموا بشيء من ذلك، ولم يكترثوا به» ، بل هتفوا:«إذا جاءت جميع الإفرنج فلا يقفون في مقابلتنا وإننا سندوسهم بخيولنا» (17).
أصدر بونابرت، في اليوم الثاني لاحتلاله الإسكندرية، بيانًا باللغة العربية، افتتحه بالدعاء الإسلامي التقليدي:«باسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، ولا ولد له ولا شريك له في ملكه» . غير أن الحملة التالية جاءت بمبدأ جديد، إذ ذكرت أن البيان صادر عن الحكومة الفرنسية «المبنية على أساس الحرية والمساواة» . ثم يمضي البيان في تطبيق هذه المبادئ على مصر، فيقول:«إن جميع الناس متساوون أمام الله، وأن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط. وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب. فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء حسن فيها من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المفرحة؟ »
…
لقد أفسدوا هذا الإقليم الحسن الأحسن
…
«وهدموا فيه المدن العظيمة والخلجان الواسعة»
…
التي بها اشتهر. لقد زال حكمهم الآن
…
«ومن الآن فصاعدًا لا ييأس أحد من أهالي مصر من الدخول في المناصب السامية وعن اكتساب المراتب العالية. فالعلماء الفضلاء بينهم سيديرون الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها» . ثم يختم البيان بهذه الكلمات: «لعن الله المماليك وأصلح حالة الأمة المصرية» (18).
وقد أعيدت هذه الأمثولة في بيان آخر صدر، بعد مدة وجيزة، بمناسبة إنشاء الديوان الأعظم: لقد خرب الأتراك مصر بجشعهم. أما الآن، «فالطائفة الفرنسوية
…
اشتاقت أنفسهم لاستخلاص مصر مما هي فيه وإراحة أهلها من تغلب هذه الدولة» (19).
ثم نصل إلى النداء الرئيسي الموجه إلى الشعور القومي والممتزج أيضًا بنداء موجه إلى الشعور الديني: «يا أيها المصريون! لقد قيل لكم إني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم. فذلك كذب صريح، فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين إني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن العظيم
…
أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجبربجية، وأعيان البلد، قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضًا مسلمون مخلصون؛ وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دائمًا يحث النصارى على محاربة الإسلام. ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا أمتها الكوالليرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين. ومع ذلك الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني وأعداء أعدائه» (20).
لم يكن هذا مجرد «دعاية» ، على حد تعبير عالمنا المعاصر. فلعل بونابرت رأى، وهو ابن عصر التنور الفرنسي، أن الإسلام دين أقرب إلى العقل من المسيحية. وقد حافظ، حتى آخر أيامه، على اهتمام حي بالإسلام. أضف إلى ذلك أنه، بمهاجمته المماليك وبإظهار احترامه «لرجال الفضل والعلم» ، كان يرسم فعلًا السياسة التي كان ينوي إتباعها: وهي نقل السلطة المحلية من أمراء المماليك إلى العلماء، زعماء مصر الشعبيين، والطبقة الحاكمة الوحيدة التي يمكن استبدال المماليك بها. إلا أنه كان من المستبعد، حتى لو استمرت إقامته في مصر مدة أطول، أن ينجح في الحكم بالمشاركة مع العلماء، لأنهم كانوا يعتقدون أن أي نفع يمكنه جلبه لمصر لا
يوازي كونه غير مسلم يحكم بلدًا مسلمًا، بدون إرادة السلطان. كما كان من المستبعد أيضًا أن تنطلي تأكيداته هذه على أحد من المسلمين. فالجبرتي نفسه، وكان من مشايخ الأزهر، يبدأ روايته للاحتلال الفرنسي بقوله: إن هذا كان بدء «انعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع وحصول التدمير وعموم الخراب» (21). نعم، لم يتردد الجبرتي في الاعتراف بفضل الفرنسيين في الأمور التي كان يستحسنها، كالمعهد العلمي بصوره وخرائطه وكتبه ومجموعاته واختباراته العلمية، وكالعلماء الفرنسيين بشغفهم بالمعرفة وحرارة استقبالهم للزوار المسلمين الذين كانوا على رغبة خالصة في العلم. إلا أنه كان يشعر دومًا بالخطر على الدين والأخلاق الملازم لكل حكم غير مسلم: كتسليح الجنود المسيحيين وتدريبهم، والصلاحيات الممنوحة لجباة الضرائب من الأقباط، والتجديدات الخبيثة التي أدخلت على النظام الشرعي، وفساد المرأة. وهنا يذكر أن ابنة أكبر أعيان الدين، الشيخ البكري، كانت تخالط الفرنسيين وتلبس لباس السيدة الفرنسية، ولذلك أعدمت بعد عودة الأتراك (22).
لعل شيئًا من ذكرى البيان والمعهد قد علق في أذهان شيوخ الأزهر، أو لعل الإدارة الفرنسية المنظمة التي كان الجبرتي معجبًا بها قد تركت أثرها في ذهن محمد علي، الذي تسلم السلطة، في 1805، وسط البلبلة التي أحدثها رحيل الفرنسيين. فسعى إلى جعل مصر دولة حديثة على نمط ما فعله السلطانان سليم ومحمود. ولتحقيق ذلك، أزال العقبة الرئيسية أمام سلطته وأمام الإصلاح بإبادة المماليك واستملاك أراضيهم. وقد أنشأ جيشًا وبحرية حديثين، تدربا على أيدي الضباط الفرنسيين، كما أقام نظامًا مركزيًا للإدارة والضرائب كان على درجة لا بأس بها من الفعالية. غير أن إصلاحاته لم تكن منبثقة عن عقيدة ما، شأنها في ذلك شأن إصلاحات سليم ومحمود. فقد قام بها، قبل كل شيء، لتدعيم مركزه الخاص تجاه مولاه ورعاياه والدول الأوروبية. ثم إنه كان، وهو الذي لم يتلق
أي دراسة ولم يتعلم القراءة إلا في الأربعين من عمره (23)، أقل استجابة من سلاطين زمانه للأفكار السياسية المنطلقة من أوروبا الحديثة. نعم، كان على شيء من الاهتمام بالكتب، لكن اهتمامه هذا لم يكن إلا بمقدار ما كانت تنفعه في إتقان فن الحكم. لقد ترجمت وقرئت عليه كتب عن نابليون، كما استنسخت، بناءً لطلبه، مقدمة ابن خلدون عن مخطوطات في شمالي إفريقية وترجمت إلى اللغة التركية (24). لكنه أصغى بإعجاب أقل إلى مؤلفات مكيافالي التي كان وزيره أرتين يترجمها له بمعدل عشر صفحات باليوم. وفي هذا يقول المترجم: «أما في اليوم الرابع، فاستوقفني قائلًا: لقد قرأت كل ما أعطيني إياه من مكيافالي، فلم أعثر على شيء جديد يذكر في صفحاتك العشر الأولى. إلا أنني كنت آمل أن تتحسن الحال. لكن الصفحات العشر الأخرى لم تكن أفضل. أما الأخيرة، فليست سوى مجرد عموميات. إني أرى بوضوح أنه ليس لدى مكيافالي ما يمكنني أن أتعلمه منه. فأنا أعرف من الحيل فوق ما يعرف
…
فلا داع للاستمرار في ترجمته» (25).
لم يصدر محمد علي أي بيان في الحقوق، ولم يقم بأية محاولة لإصلاح مؤسسات البلد السياسية. بل كان يحكم حسب النمط التقليدي، باستثناء دعوته لمجلس استشاري واسع في 1829. كان يتخذ القرارات شخصيًا، بعد مناقشة تامة ووجيزة مع مستشاريه. أما العلماء، فلم يكونوا في عداد مستشاريه الأقربين. لقد ساعدوه، وهم لسان حال شعب القاهرة وزعماؤه، على الوصول إلى الحكم؛ غير أن الدرس القائل بأن على الحاكم تحطيم أولئك الذين رفعوه إلى الحكم كان من الدروس التي تعلمها بدون قراءة مكيافالي. فجاء إلغاؤه لنظام الالتزامات وتدخله في شؤون الأوقاف، بقصد منه أم بلا قصد، ضربة معول في أساسات مركز هؤلاء العلماء السياسي ونظام المدارس الإسلامية. وقد أقام مكانهم ومكان المماليك فئة حاكمة تضم جنودًا من الأتراك والأكراد والألبانيين
والشراكسة، كما تضم أيضًا عددًا من الأوروبيين والأرمن وغيرهم من الملمين بسياسات أوروبا وشؤونها المالية. كذلك لم يشجع الاهتمام الشعبي بالسياسة. فقد قال له أحد الطلبة يومًا أنه درس علوم الإدارة المدنية في باريس، فأجابه بحدة:«أنا الحاكم، فأذهب إلى القاهرة وترجم المؤلفات العسكرية» (26).
إلا أنه كان ذا نظرة خاصة إلى أوروبا الحديثة، كمجتمع نشيط، يستثمر موارده ويدير شؤونه استنادًا إلى العقل، ويتخذ له من القوة الوطنية معيارًا للقانون والسياسة. ومع أنه كان يتصرف أحيانًا كبطل من أبطال الإسلام العثماني، كما تصرف عندما قضى على السلطة الوهابية في الجزيرة العربية بطلب من السلطان، إلا أن سياسته على العموم كانت قائمة على المساواة الدينية. فكان المسيحيون واليهود من مختلف البلدان يدخلون مصر بالترحاب، فتضمن حقوقهم ويؤيد نشاطهم التجاري. وكان هناك أرمن بين معاونيه المقربين. وكان متيقظًا أكثر من معاصريه الأتراك إلى الأساس الحقيقي للقوة الغربية، أعني التنظيم العلمي للإنتاج. فبنى دعامة اقتصاد مصر الحديث، حين أمر بزراعة القطن زراعة كثيفة في الأراضي التي ترويها المياه. كما باشر بإنشاء جهاز جديد للنقليات وللتسويق. وحاول إنشاء صناعات حديثة، لكن نجاحه هنا كان أقل، لفقدان اليد العاملة الماهرة والسوق الداخلية. ولعله تأثر في كل هذا بأفكار أتباع سان سيمون الذين صرفوا بعض الوقت في مصر، في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، يعملون في الطب والهندسة والتعليم. وقد ساعدوه في تخطيط أول عملية كبيرة حديثة من عمليات الري في مصر وفي تنفيذها: إقامة السدود على النيل. غير أنه من المستبعد أن تكون قد استهوته نظرة سان سيمون إلى المجتمع الأمثل الذي تقوده رهبنة من العلماء والذي يحل فيه نظام الحقيقة العلمية محل الأنظمة الدينية المنهارة. لكن من المؤكد أن اطراد النمو الصناعي والاقتصاد المخطط كان يلائم مصالحه الخاصة. كما كان في صالح سياسته العسكرية
إنشاؤه المدارس المهنية، وإيفاده طلابًا إلى أوروبا، وحمله إياهم على ترجمة المؤلفات التقنية بعد عودتهم، وتأسيسه مطبعة لطبع الترجمات، وإصداره جريدة رسمية لنشر نصوص المراسيم والقرارات. لكنه لم يرغب في أن يكتسب الطلاب من المهارة فوق ما هو ضروري، فكان يضعهم تحت مراقبة دقيقة. من ذلك أنه رفض مرة السماح لفريق من الطلاب بالتجول في فرنسا للتعرف عن كثب إلى الحياة الفرنسية (27). إنما كان لا بد للأفكار الجديدة من أن تدخل مع المهارات الجديدة. وهكذا كان للمدارس والبعثات العلمية تأثير أبعد مما كان يشتهي. فقد استعان، أول الأمر، بمدرسين من الطليان، إذ كانت اللغة الطليانية، لغة المشرق العامة يومذاك، أول لغة أوروبية للتدريس. إلا أن محمد علي ما لبث أن استعاض عنها باللغة الفرنسية التي حملت معها أفكار فولتير وروسو ومونتسكيو. فمنذ 1816، دخلت مؤلفاتهم مكتبة إحدى المدارس (28). وابتداءً من 1826 أخذت البعثات ترسل إلى فرنسا بانتظام، فكان أعضاؤها يقرأون الكتب الفرنسية ويشاهدون الحياة الفرنسية في تلك الفترة من فترات الثورة التي تحول فيها النزاع بين الأفكار العامة إلى صراع بين القوى الحضارية. وكان معظم تلاميذ المدارس والبعثات الأولى من المسيحيين الأتراك أو المشرقيين. إلا أن العنصر المصري ازداد فيما بعد، وكان هو العنصر الذي تألفت منه الطبقة المثقفة الأولى لمصر الحديثة، هذه الطبقة التي أخذت، منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، تلعب دورًا في شؤون البلاد. فكان أعضاؤها يترجمون وينشرون، إلى جانب الكتب التقنية الصرف، كتبًا أخرى. وكانوا يتعاونون تعاونًا وثيقًا مع أتباع سان سيمون في إعادة تنظيم المدارس (29). وقد تخرج من بين صفوفهم أول المفكرين السياسيين العظام في مصر الحديثة، أعني به رفعت الطهطاوي.
أما المسلمون العرب في سوريا، فكان وصول المعرفة والآراء الجديدة إليهم أكثر بطءً. ومع أن العائلات الكبيرة في المدن كانت
تلعب دورها في السياسات المحلية، فإنها لم تكن تشترك مباشرة في حكم الإمبراطورية، ككل، إلا نادرًا. وهي لم تبدأ بتوظيف أبنائها في الإدارة المدنية عن طريق التخرج من المدارس المهنية إلا في آخر القرن التاسع عشر. وكانت علاقاتها في مطلع القرن مقتصرة على الهيئات الدينية التي كانت لا تزال مغلقة في وجه أفكار الإصلاح، إن لم نقل معادية لها. كما أنها لم تشعر، كما شعرت الطبقة المماثلة لها في مصر، بالهزة الفكرية والاجتماعية التي أحدثها الاحتلال الأوروبي. لقد حاول نابوليون أن يحتل سوريا، إلا أنه أخفق. ولو قدر له النجاح في محاولته هذه، فليس من الأكيد أنه كان يحاول تطبيق السياسة التي حاول تطبيقها في مصر، أي الاعتماد على أعيان الدين كممثلين للرأي الوطني. ففي البيان الذي وجهه إلى أهالي البلد، لم يخاطب الشعب «العربي» أو «السوري» ، بل أكد مرة أخرى أنه إنما ينوي طرد المماليك (وبالمماليك كان يعني الطغمة العسكرية التي أنشأها الجزار حاكم صيدا)، واعدًا بأنه لن يلحق الضرر بالشعب أو بدينه. وهو لم يخاطب «الأمة» كما خاطب الأمة المصرية، بل خاطب فقط «سكان أقضية غزة والرملة ويافا» (30).
أما سكان سوريا المسيحيون، فقد كانوا متأثرين ببعض نواحي الفكر الأوروبي. فمنذ القرن السادس عشر، كانت الكنيسة الكاثوليكية قد أقامت أولى علاقاتها النظامية بالطوائف المسيحية الشرقية. وكان المرسلون اليسوعيون وغيرهم يرسلون إلى الشرق الأدنى، لا لضم الكنائس المنشقة إلى الحظيرة الرومانية وحسب، بل لإصلاح العقيدة والنظام لدى الموارنة وأمثالهم من العناصر التي كانت تعترف بسلطة روما. وقد عقد الموارنة اتفاقية كنسية (كونكوردا) مع روما في 1736. ومنذ ذلك الحين أقيمت معهم علاقات نظامية، كانت تضمن لهم سلطتهم الكهنوتية وطقوسهم وحقهم الكنسي وعاداتهم، كما كانت تحافظ على استقامتهم العقائدية واعترافهم
بسلطة البابا. وكان من نتيجة عمل الإرساليات أن نشأت، تدريجًا، طوائف متحدة مع روما من داخل الكنائس الشرقية الأخرى، كالأرثوذكسية الأرمنية والقبطية والسريانية الأرثوذكسية والنسطورية. وقد برزت هذه الطوائف، بعد صراع على السلطة في البطريركيات والمطرانيات في أوائل القرن الثامن عشر، كنائس مستقلة عمليًا، يرأس كلا منها بطريرك، مع أنها لم تحصل على اعتراف مدني من الحكومة العثمانية حتى القرن التاسع عشر.
وبفضل الإرساليات وحماية فرنسا، نشأت شبكة من المدارس الكاثوليكية في كل مكان تقطنه طوائف كاثوليكية أو قابلة لأن تصبح كاثوليكية، وبنوع خاص في لبنان وحلب. وفي قلب الكنيسة الكاثوليكية في روما تأسس عدد من المعاهد لتنشئة اكليروس كاثوليكي مثقف ومستقيم العقيدة، كالمعهد الماروني والمعهد اليوناني ومعهد جمعية نشر الإيمان.
وقد برز من الطوائف المسيحية التي أنشأتها أو عززتها الإرساليات فريق من المثقفين، وعوا عالم أوروبا الجديدة بل اعتبروا أنفسهم، بمعنى من المعاني، جزءًا منه. وقد كان الإكليروس في أواخر القرن السادس عشر مثقفًا، خصوصًا بين الموارنة والروم الكاثوليك، ذا حياة ونظام مثاليين، ذا معرفة باللغتين اللاتينية والإيطالية وبالثقافة التي كانتا مفتاحًا لها. كما كان أفراد هذا الإكليروس على معرفة أعمق من ذي قبل بلغاتهم الشرقية وآثارهم وتاريخ طوائفهم وعاداتها. وكان بعضهم، كالعلماء المشهورين من عائلة السمعاني في روما، وكالكهنة الموارنة الذين كانوا يدرسون اللغة العربية في السربون، قد أسهم إسهامًا كبيرًا في تعريف أوروبا بالشرق الأدنى. كما قام بعضهم بتوسيع آفاق طوائفهم بترجمة مؤلفات اللاهوت الكاثوليكي الغربي أو باقتباسها. فقد ترجمت «الخلاصة اللاهوتية» للقديس توما الأكويني بكاملها في مطلع القرن الثامن عشر.
وقامت أيضًا، بتأثير من المعاهد والإرساليات، في أواخر القرن السابع عشر، أديرة تتبع قواعد الترهب الغربي، وبنوع خاص في لبنان، في أودية تلك الجبال الحرة والمنعزلة، وتحت حماية العائلات الكبرى، درزية كانت كآل جنبلاط، أم مارونية كآل الخازن. ثم غدت هذه الأديرة نفسها مركزًا للعلم والتربية، إذ نشأت تحت جناحها معاهد للرهبان محلية ومدارس قروية. وكانت هذه المدارس تعلم الإكليريكيين والمدنيين على حد سواء. وهكذا نشأت، مع الزمن، طبقة من المدنيين المثقفين وجدوا مجالًا لمواهبهم في دواوين الحكام المحليين. ففي القرن السابع عشر، كان أمير الجبل، فخر الدين، قد أخذ يستخدم كهنة موارنة في مراسلاته الدقيقة مع بلاطات أوروبا، كما أخذ، فيما بعد، الحكام الأتراك على الشاطئ السوري، كحكام طرابلس وصيدا، يستخدمون في دوائرهم المالية مسيحيين على معرفة جيدة باللغة العربية. وقبل نهاية القرن الثامن عشر، كان المسيحيون السوريون قد تسلموا إدارة الجمارك في مصر، فاستعان بهم محمد علي، عندما خلف المماليك، في رقابته المالية وفي علاقاته مع حكام سوريا المحليين.
كان المدنيون المثقفون علماء وموظفين معًا. ففي أوائل القرن الثامن عشر، نهض عدد من المسيحيين في حلب للتعمق في علوم اللغة العربية على يد الفئة الوحيدة التي كانت تملك ناصيتها يومذاك. أعني مشايخ الدين الإسلامي. وقد كتب بعضهم الشعر والنثر الصحيحين بشغف، ومنهم امتدت شعلة الأدب العربي إلى لبنان. وكان الذين يرغبون في التوظف يدرسون اللغة العربية بحماس كجزء من إعدادهم المهني، وكانوا ينقلون إلى أولادهم ما قد تعلموه. وهكذا نشأت أسر بكاملها من رجال الأدب. وقد خرج من هذه الأسر، كآل اليازجي والشدياق والبستاني، مؤسسو نهضة العرب الأدبية في أوائل القرن التاسع عشر.
في القرن الثامن عشر، كانت طبيعة التجارة بين الشرق الأدنى
وأوروبا آخذة في التغير. فجاليات التجار الأوروبية في المدن العثمانية كانت على تقهقر، أولًا لصعوبة التجارة في المناطق غير الآمنة، وثانيًا لقدرتها على تحقيق أرباحًا أوفر في بلدان أخرى. وهكذا أخذت التجارة تنتقل إلى أيدي المسيحيين واليهود الشرقيين بفضل الحماية القنصلية لهم، كما بفضل معرفتهم اللغات والأساليب التجارية الأوروبية. فتمكن المسيحيون واليهود الناطقون بالضاد، في دمشق وحلب ومدن الساحل، من أن يبنوا، على غرار اليونان والأرمن، شبكة تجارية تربط مدنهم بمدن الإسكندرية وليفورنو وتريستا ومرسيليا. فنشأ عن ذلك فئة جديدة على معرفة مباشرة بالحياة الأوروبية، كانت أول فئة في الشرق الأدنى أتقنت الأساليب الحديثة للتجارة والشؤون المالية.
كانت الثقافة الغربية التي اقتبستها هذه الفئات، فئات الكهنة والتجار والكتاب، ثقافة لاهوتية، على الأخص. لقد وقفوا على آداب اللاهوت الكاثوليكي وعباداته وكانوا يطالعونها؛ لكن لا يبدو أن آداب أوروبا الرفيعة وأفكارها السياسية قد استرعت اهتمامهم قبل انقضاء شطر كبير من القرن التاسع عشر، بينما أحدث اهتمامهم الجديد باللغة العربية تأثيرًا عميقًا في حياتهم الفكرية. فأدى ذلك، قبل كل شيء، إلى إثارة وعيهم التاريخي، مما دفع بعض الكهنة المثقفين إلى دراسة آثار العرب، بالإضافة إلى دراسة تاريخ الكنائس الشرقية، وحمل غيرهم من الكهنة ومن المدنيين على الاهتمام بالتاريخ المدني أيضًا. فقامت في لبنان مدرسة من المؤرخين، كان محور عنايتها التاريخ الخاص بالجبل: نشوء طائفتيه الدينيتين، الموارنة في الشمال، والدروز في الجنوب، وترعرع الإمارة، وقيام جهاز من الأسر النبيلة تنتمي إلى الطائفتين معًا، وتطور الاستقلال العملي عن سلطة المماليك ثم عن سلطة الأتراك في البلدان المجاورة وكيفية المحافظة عليه.
كان أول مؤرخ جدير بالذكر من هذه المدرسة البطريرك
الماروني اسطفانوس الدويهي (1603 - 1704) الذي درس في المعهد الماروني في روما، وتعلم اللاتينية والإيطالية، كما تعلم العربية والسريانية، واعتمد وليم الصوري كما اعتمد المسعودي. وقد جاء مؤلفه الرئيسي، «تاريخ الأزمنة» ، في شكله، تاريخًا للكنيسة المارونية وللموارنة وبطاركتهم ورؤسائهم المدنيين، ولصراعهم ضد الهرطقة اليعقوبية، ولتدخل الحكام المسلمين. إلا أنه، في جزئه الأخير، كان تاريخًا لنشوء لبنان كوحدة جغرافية وترعرع حكمه الذاتي ووحدته. وتابع كتابة التاريخ المحلي، التي شق الدويهي طريقها، سلسلة من المؤرخين من كهنة وعلمانيين، بلغت أوجها في كتابين شاملين، يختصران تاريخ لبنان السياسي، وينطويان على عقيدة في ما هو لبنان. أولهما للأمير حيدر الشهابي (1761 - 1835) الذي كتب تاريخًا للبلاد جاء بالحقيقة تاريخًا للعائلة الشهابية. وقد عاونه في ذلك عدد من المؤرخين، أحدهم طنوس الشدياق (1794 - 1861). وثانيهما لهذا الأخير نفسه، وهو تاريخ للأسر المارونية والدرزية والمسلمة البارزة في لبنان. وقد بدا لبنان فيه وكأنه جهاز هرمي من الأسر، تغلبت فيه المحالفات العائلية والمصلحة العامة على الفوارق الدينية للحؤول دون مدخلات العثمانيين (31).
لم يكن حيدر الشهابي غافلًا عن تاريخ أوروبا. فهو، بالعكس، يقطع روايته المحلية ليصف الثورة الفرنسية واحتلال بونابرت لمصر. وكانت الثورة، في نظره، كما كانت في نظر المؤرخين الأتراك في زمانه، عملًا هدامًا قبل كل شيء، إذ كانت عصيانًا على سلطة الملك الشرعية. إلا أننا نلمس لديه بعض الإحساس بالعقائد الإيجابية الكامنة وراء الثورة، ذلك الإحساس الذي دخل لبنان مع التجار اللبنانيين الذين كان لهم اتصال بالجيش الفرنسي في مصر، أو ممن تعاطوا أعمال الترجمة. كذلك نجد، لدى كاتب من الجيل اللاحق، سجلًا لفكر عصامي تنبه للأفكار العلمية والنظريات التي انبثقت عن عصر التنور الفرنسي. هذا الكاتب هو مخايل مشاقة
(1800 - 1888) الذي ولد من أصل يوناني في قرية لبنانية وتربى في مدينة دير القمر الجبلية الصغيرة. كانت عائلته على شيء من الثقافة، إذ كان أبوه مدرسًا للعلوم. إلا أنه تثقف خصوصًا على نفسه، مدفوعًا إلى ذلك بملكه حب الاستطلاع الذي استفاق لديه في وقت باكر من عمره وأطلق فكره بعيدًا إلى ما وراء حدود قريته. وهو يروي بشكل طريف كيف اهتدى، عن طريق خال له من مصر، إلى الرياضيات والعلوم الطبيعية، حين لم يكن في دير القمر أحد يعرف من علم الحساب أكثر من عملية الجمع (32).
كان محمد علي، ككل حكام مصر الأقوياء، يريد على حدوده الشرقية نظام حكم مؤيد أو مطيع له. وقد تمكن من بلوغ مأربه هذا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر. فبعد أن أنشأ جيشًا من القوة بحيث يقدر على قمع أي مقاومة من مولاه السلطان، وعلى تعزيز نفوذه في وجه حكام سوريا المحليين، بعث بجنوده في 1831 إلى سوريا، فاحتلها دون صعوبة تذكر. وحكم ابنه إبراهيم باشا سوريا طيلة عشر سنوات تقريبًا. وهنا، كما في مصر، سجل عهد محمد على مرحلة جديدة من مراحل التعرف إلى أوروبا. فغدت البلاد أكثر ترحيبًا بالأوروبيين من المسافرين والمستوطنين والتجار والمرسلين والمراقبين المستطلعين. وقد وضعت البلاد، لمدة عشر سنوات، تحت إدارة من نوع جديد، قائم على المبادئ التي بثتها حكومة فرنسا الثورية: المركزية، وجيش مدرب ومنضبط، والاستثمار العلمي للموارد الطبيعية، والمساواة بين أتباع جميع الأديان. ويبدو أن محمد علي أصر فعلًا على المساواة بين المسيحيين والمسلمين في سوريا أكثر مما فعل في مصر، فجلسوا جنبًا إلى جنب في المجالس المحلية التي أقامها، واستخدم جنودًا مسيحيين من لبنان لإخماد الثورات الدرزية والنصيرية. وكان لإبراهيم مستشاران رئيسيان هما المثري المسيحي حنا البحري، وأمير لبنان بشير الشهابي. وكانت معتقدات هذا الأخير غامضة، لكنه اعتمد على مؤازرة الموارنة ومات كاثوليكيًا.
ومن غرابة الأقدار أن يكون الطابع العصري لحكم محمد علي هو ما أثار عليه، في آخر الأمر، نقمة السوريين، وأن يتجلى ذلك الحس الحديد بالمساواة الدينية الذي حاول خلقه في تحالف الطوائف الدينية ضده. فقد حاول إبراهيم باشا، في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، أن يدخل إلى لبنان وإلى الأقضية الجبلية الأخرى المبادئ الحديثة في فرض الضرائب وجبايتها، وأن يجرد الأهالي من السلاح، وأن يفرض التجنيد العام، فكان الاستياء العام ثمرة ذلك. وفي الوقت نفسه، كان إبراهيم باشا، بعد أن دحر العثمانيين في نزيب، قد زحف بجيشه على آسيا الصغرى، فاعتبرت جميع الدول الأوروبية، عدا فرنسا، هذا الانتصار تهديدًا لوجود الإمبراطورية، وبالتالي لمصالحها هي أيضًا. فقام تحالف فيما بينها لإرغام محمد علي على سحب جيوشه، ليس من آسيا الصغرى فحسب، بل من سوريا أيضًا. وكانت أحد تدابير الضغط عليه إمداد العناصر المستاءة في لبنان بالسلاح والمعونات الأخرى. فقامت ضده وضد الأمير بشير، الذي ظل مواليًا له، ثورة تتكشف وثائقها عن اتجاه جديد، هو التعاون بين فئات من مختلف الأديان للدفاع عن المصالح الناجمة عن العيش في وطن مشترك. ففي 1840 اجتمع زعماء الطوائف المختلفة في كنيسة مار إلياس في انطلياس، قرب بيروت، وأقسموا اليمين على العمل معًا بأمانة لمقاومة المحاولة التي كان يقوم بها الأمير بشير والمصريون لفرض نزع السلاح والتجنيد العام، فوقعوا وثيقة هذا نصها «إنه يوم تاريخه، حضرنا إلى مار إلياس انطلياس، نحن المذكورة أسماؤنا به بوجه العموم من دروز ونصارى ومتاولة وإسلام المعروفين بجبل لبنان من كافة القرى وقسمنا اليمين على مذبح القديس المرقوم بأننا لا نخون ولا نطابق بضر أحد منا كائنًا من يكون. القول واحد والرأي واحد» (33).
لعب الأوروبيون دورًا كبيرًا في إعداد هذه الثورة وتنظيمها. فقد كان في لبنان عملاء بريطانيون، نخص بالذكر منهم ريتشارد وود
الموظف الشاب في السفارة البريطانية في القسطنطينية، والمتعمق في لغات الشرق الأدنى وسياساته. كان هذا الشاب قد قام بمهمة دقيقة في كردستان، ثم أرسل إلى لبنان للاتصال بالمستعدين لمقاومة الحكم المصري. وعاش فيه سنتين بحجة تعلم اللغة العربية. وكان هناك أيضًا في الوقت نفسه واحد أو اثنان من الفرنسيين الذين كانوا، على الرغم من سياسة دولتهم العامة، يناهضون إبراهيم باشا ويدعمون هذه الحركة. ويظهر تأثير أمثال هؤلاء الرجال في النداء الذي وجهه الثوار إلى مواطنيهم، والذي يقفز بنا قفزًا إلى العالم الحديث، عالم الحركات الشعبية والروح القومية. وهذا نصه:
«أيها المواطنون الأعزاء!
«في علم جميعكم المظالم التي أنزلتها الحكومة المصرية بنا والضرائب الباهظة والمعاناة وضروب الاستعباد التي رزحت تحتها سوريا بأسرها، وقد جرت الخراب على كثير من العيال. على أن سكان لبنان، رغمًا عما هم فيه من الأنفة وروح الاستقلال، احتملوا بصبر مظالم السلطة الجائرة مراعاة لخاطر الأمير بشير الشهابي، على أمل أن يضمن لهم صبرهم هذا حفظ شرفهم وحريتهم وكيانهم.
«وإذا كنا لم نلجأ قبل الآن إلى السلاح للتخلص من السلطة الجائرة، فلأننا كنا نبني كل آمالنا على أن توسط أميرنا الأمير بشير الصادر عن أريحية ووطنية يخفف من شقائنا. إنما لسوء الحظ هذه الحكومة المستمرة على غيها وظلمها لم تحفظ جميلًا لأميرنا على ما أدى لها من الخدم
…
«ولنكن على يقين تام أن الندامة المتأخرة لا تنقذنا إذا لا سمح الله افترقنا أو ترددنا لحظة طرف عن توحيد قوانا لاستعادة حريتنا.
«ولكي نسلك بحزم
…
مطبقين عملنا على الحكمة والرزانة الجديرتين بشعب حر مثلنا، يجب أن نعقد اجتماعات من الرجال المعروفين بعلو المنزلة وسمو المدارك، ويكون قوام هذه الجمعية
خمسة رؤساء ينتخبون بأكثرية الأصوات في كل إقطاعه، ويعقدون كلهم أو بعضهم مجلسًا في مكان مناسب للاتفاق على وضع إدارة منظمة
…
ويقتضي أن تكون روابط أعضاء هذا المجلس مع بعضهم متواصلة ليتسنى لنا اتخاذ التدابير العاجلة لحماية مواطنينا المحدق بهم الخطر وإنقاذًا لأنفسنا من العبودية والظلم وإخفاقًا لجميع مؤامرات وحيل سلطة مكروهة تقصر عن تفريقنا عن بعضنا. وقد سبق لليونان أن كانوا أحسن قدوة لنا فحصلوا على حريتهم وكان الله معينهم» (34).
بالرغم من ذكر اليونان، لم يكن في هذا البيان دعوة إلى الاستقلال. فالثورة قامت بمساعدة الدول الكبرى التي كانت سياستها ترمي إلى إعادة نفوذ السلطان العثماني إلى سوريا. كما أن الثوار صرحوا عن طاعتهم وخضوعهم للسلطان عن طيبة خاطر (35). إلا أن البيان نفسه كان ينطوي ضمنًا على فكرة الحرية، والذين أصدروه كانوا على علم من أين أتتهم هذه الفكرة. إذ أنهم وجهوا، في الوقت نفسه، نداء إلى السفير الفرنسي يطلبون منه أن يتخلى عن دعمه لمحمد علي يساعدهم على الانعتاق من جوره بقولهم:«إن فرنسا، الأمة العظيمة، المشهورة بكرم أخلاقها، الناشرة في كل مكان أعلام الحرية، المريقة الدماء في مدى قرون طويلة لتأييدها في حكومتها، تأبى علينا اليوم مدنا بنفوذها الفعال للتمتع بمثل هذه النعمة! » (36).
وقد أسفر الأمر عن انسحاب إبراهيم باشا وجيشه إلى مصر، وعودة الحكم العثماني، وخلع الأمير بشير واستبداله بعضو ضعيف من عائلته. وبعد ذلك بقليل، خلع الأتراك الأمير الجديد، وأزالوا الإمارة، وقسموا لبنان إلى قائمقاميتين يحكم إحداها ماروني والأخرى درزي. ثم تبع ذلك أزمة استمرت عشرين عامًا، أضاف فيها تزايد النفوذ الأوروبي وانتشار الأفكار الغربية بعدًا جديدًا على أبعاد النزعات المحلية. فقد أدى زوال إطار الوحدة السياسية، والتدخل
البريطاني والفرنسي، ومحاولات الحكومة التركية فرض حكم مباشر على لبنان. بالإضافة إلى التدابير التي كان قد اتخذها الأمير بشير أثناء حكمه لإضعاف شوكة أعيان الدروز، إلى خلق توتر بين الطوائف لم يسبق له مثيل من قبل. إلا أن ذلك التوتر الطائفي كان ينطوي أيضًا على شيء آخر، حمل في طياته بذور تململ اجتماعي وفكري. ذلك أن التوازن الاجتماعي بين الدروز والموارنة كان على تحول، كما كان التوازن الداخلي في قلب الطائفة المارونية نفسها على تحول أيضًا. فقد رأت عائلات الجبل الإقطاعية أن سلطتها المحلية أخذت تنهار شيئًا فشيئًا بفعل تحديين: تحدي الإكليروس الذي كان يستعمل أحيانًا نفوذه المتزايد لدعم الفلاحين في نزاعهم مع أسيادهم؛ وتحدي تجار المرفأ الأوروبيين والشرقيين معًا الذين كانوا يستوردون البضائع المصنوعة ويصدرون الحرير ويستولون تدريجًا على وظائف الملاكين الاقتصادية. ثم إن الطبقة المسيحية المثقفة كانت تتكاثر بسرعة. فالإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية كانت في أيام المصريين تعمل بحرية أوسع من قبل، فتنشئ المدارس على نطاق أوسع وعلى مستوى أرفع، وتؤلف كتبًا مدرسية وتترجمها وتطبعها على مطابعها. فخرجت من المدارس طبقة جديدة من المثقفين اتقنت إلى جانب اللغة العربية لغة أو أكثر من اللغات الأوروبية، واطلعت، بقصد من أساتذتهم أم بغير قصد، على أفكار القرن التاسع عشر.
كان، إذن، لهذا التوتر وللأزمة التي أدى إليها وجهان: كفاح الدروز للاحتفاظ بسيطرتهم التقليدية، وكفاح أعيان الموارنة ضد قوى التغير. وكان قد سبق النزاع الديني في 1860 نزاع اجتماعي. ففي 1858، ثار فلاحو قضاء كسروان الماروني الصرف ضد أسيادهم من عائلة آل الخازن، فطردوهم، في أوائل 1859، بقيادة البطل القروي طنوس شاهين، وأقاموا «حكومة جمهورية» بنظام بدائي للتمثيل الشعبي (37). ثم نشبت الحرب بين الموارنة والدروز في 1860، فأدت إلى انتصار الدروز،
وتذبيح المسيحيين في دمشق. إذ ذاك تدخلت الدول الكبرى، فرنسا بجيشها، والدول الأخرى بدبلوماسيتها. وبعد مناقشات جرت في بيروت والقسطنطينية، وضع نظام أساسي للبنان، أنهى النزاع الاجتماعي والديني معًا، إذ تم الاتفاق على أن يحكم لبنان متصرف مسيحي يعينه الباب العالي، على أن تعاونه مجالس مركزية ومحلية تمثل مختلف الطوائف وتنتخب انتخابًا بعد التشاور، وعلى أن تتمثل فيها الطوائف بالتساوي، وعلى أن يكون جميع الأفراد متساوين أمام القانون، وعلى أن تلغي جميع الامتيازات «الإقطاعية» (38).
أما في الغرب، فكانت ولاية تونس تابعة للسلطان منذ القرن السادس عشر، إلا أنها سرعان ما أصبحت مستقلة فعلًا، تدفع الجزية، لكنها تدير بنفسها شؤونها الخاصة، وإلى حد بعيد، علاقاتها الخارجية. وقد مارس السلطة، منذ القرن السابع عشر، فريق عسكري محلي، ومنذ القرن الثامن عشر، عائلة آل الحسيني، التي انبثقت من هذا الفريق وشغلت منصب الباي. وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر، واجه الباي انحطاطًا في النظام والأمن واتساعًا في النفوذ التجاري الأوروبي، فسارع إلى استعادة سلطته بإنشاء جيش حديث، وبتغيير أساليب الإدارة، وبتشجيع التجار الأجانب على الإقامة في البلاد لتأمين المال الضروري للجيش وللإدارة. وقد نجم عن ذلك مشاكل جديدة، إذ أفسحت مصالح الأجانب والمرابين المتزايدة مجالًا لتدخل الدول، وأصبح ضباط الجيش الحديث حملة أفكار سياسية جديدة. فقام محمد باي، لإزالة الشكاوى المشروعة الصادرة عن الجماعات الأجنبية، ولاجتذاب تأييد أصحاب الأفكار الجديدة، ولتثبيت جذور الولاء للحكم لدى جميع فئات الشعب، بإعلان إصلاح من عنده على غرار الإصلاح التركي، دبج مبادئه في «عهد الأمان» الصادر في 1857. وقد بدأ هذا الإعلان بالإشارة إلى المصلحة العامة كمبدأ من مبادئ تفسير الشرع: «الحمد لله
…
الذي جعل العدل لحفظ نظام العالم كفيلًا، ونزل
الأحكام على قدر المصالح تنزيلًا» (39). ثم يمضي في شرح القواعد التي عليها تنهض المصلحة العامة: أولًا الحرية، إذ أن الإنسان لا يستطيع بلوغ الفلاح إلا إذا كانت الحرية مضمونة له وكان العدل سياجًا له ضد العدوان. وثانيًا، الأمان التام. وثالثًا، وهذا متضمن في النقطة الثانية، المساواة التامة بين المسلمين وغير المسلمين أمام القانون، لأن هذا الحق إنما هو ملك لجميع الناس. ويجب أيضًا أن يكون للأجانب حقوق التونسيين، وأن يمارسوا الأعمال التجارية على أنواعها، وأن يكون لهم حق التملك. وبعد ثلاث سنوات من ذلك. أي في 1760، صدر «القانون السياسي» ، وهو نوع من الدستور، فكان أول دستور يصدره بلد مسلم في العصر الحديث. وليس من الواضح من كان وراء فكرة الدستور تلك. أيكون ريتشارد وود، القنصل البريطاني العام الذي تعرفنا إليه في بدء حياته في بلد آخر، هو الذي أوحى بها؟ لكن تونس، من جهة أخرى، لم تكن بعيدة عن إيطاليا. كذلك كان في بلاط الباي منفيون سياسيون إيطاليون، فضلًا عن موظفين تونسيين ممن أتقنوا اللغة الفرنسية وقاموا بزيارة فرنسا. فليس من الصعب، إذن، تعيين المصادر التي انبعثت عنها فكرة الدستور. إلا أن هذا الدستور كان، على كل حال، وثيقة متحفظة، تقبل بمبدأ التمثيل، لكن في نطاق حدود معينة، وتترك السلطة التنفيذية في يد الحاكم. نعم، لقد نصت أيضًا على أن يقسم الحاكم أنه لن يقوم بأي عمل مخالف «لعهد الأمان» . وأنه مسؤول عن أفعاله أمام المجلس الأعلى؛ لكن كان من المقرر أيضًا أن يضم هذا المجلس وزراء أو موظفين بمعدل ثلث أعضائه، وأن يعين الباي فيه الثلثين الآخرين في بادئ الأمر، ثم يصار إلى ضم أعضاء جدد في فترات دورية.
لم يعمر اختبار الحكم الدستوري طويلًا، بل انهار بعد بضع سنوات، بسبب أزمة مالية، وهيجان بين القبائل، وضغط إنكلترا وفرنسا وتنافسهما، ورغبة الباي في الاحتفاظ بسلطته اللامقيدة.
إلا أن هذه الحقبة تركت وراءها أثرًا. فقد ساعدت على خلق وعي سياسي جديد في تونس، وعلى إبراز فئة من رجال الدولة المصلحين والموظفين والكتاب الذين قدر لهم أن يلعبوا دورًا ضخمًا في مجابهة الصعوبات، حتى مجيء الاحتلال الفرنسي الذي بعثرهم في 1881 (41). وقد نهلت هذه الفئة من معينين: الأول، مسجد الزيتونة، مركز التعليم الإسلامي التقليدي حيث كان تأثير الأستاذ محمد عبده ملموسًا؛ والثاني، المدرسة الجديدة للعلوم العسكرية التي أنشأها أحمد باي بمديرها الطلياني وأساتذتها البريطانيين والفرنسيين والطليان، والتي كان الشيخ محمد عبده نفسه أستاذًا للغة العربية والعلوم الدينية فيها (42).
كان لخريجي هاتين المدرستين مكانتهم: فكان لهم نفوذ في الجيش، كما كان لهم نفوذ كوزراء وكأساتذة رسميين. وكان خير الدين، المشرف الأول على المدرسة العسكرية، زعيمهم المطاع. وهو من أصل مملوكي بدأ حياته في خدمة الباي، ثم أصبح فيما بعد، وفي فترة دقيقة، رئيسًا للوزراء، ومؤلفًا لكتاب سنعود إليه فيما بعد.