الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث عشر
خاتمة: الماضي والمستقبل
كان عام 1939 خاتمة عهد أنطوي بانطوائه نهج معين من التفكير، كان في أبرز مظاهره نهجًا «قوميًا» -عربيًا أو مصريًا أو تركيًا أو فارسيًا أو كرديًا أو يهوديًا أو أرمنيًا- يقول بوجود رابطة بين مجموعة معينة من البشر، وبأن هذه الرابطة هي من القوة والأهمية بحيث تفرض على هذه المجموعة تكوين مجتمع سياسي تتمتع فيه الحكومة بسلطة خلقية بمقدار ما تعبر عن إرادة هذا المجتمع وتخدم مصالحه. وقد توجد أنواع مختلفة من المجتمعات. ففي الشرق الأوسط، في المرحلة التي تناولها هذا الكتاب، كان هنالك ثلاثة أنواع من القوميات. وهي أنواع متداخلة، وإن انبثق كل منها عن مبدأ يختلف عن الآخر. أولها، في التسلسل الزمني، القومية الدينية القائلة بأن على جميع أتباع الدين الواحد أن يكونوا جماعة سياسية واحدة. كانت هذه الفكرة، بمعنى من المعاني، الفكرة السياسية الأساسية التي هيمنت على هذه المنطقة منذ أن اعتنقت الإمبراطورية الرومانية الدين المسيحي وغدا المعتقد الديني، شخصيًا كان أم موروثًا، الميزة التي بها يعرف الإنسان. لكن هذه الفكرة كانت، بمعنى آخر، فكرة جديدة، وشكلًا من أشكال القومية الحديثة. فالأمة الإسلامية، كما تصورها المفكرون من دعاة الجامعة الإسلامية، أو الشعب اليهودي كما تصوره الصهيونيين، لم يكن يوحد كلًا منهما الإيمان المشترك بعقيدة دينية، أو الإرادة في العيش وفقًا لشريعة منزلة، بل التراث المشترك القائم لا على العقيدة أو الحكمة الدينية فحسب، بل على الثقافة والعادات
والطبائع التي نشأت حولها. وكان المطلب الديني الوحيد الذي طالبت به هذه الحركات مطلبًا سلبيًا، يقضي على المسلم أو المسيحي أو اليهودي أن لا يرتد عن دين أجداده ولا يعتنق دينًا آخر. أما مطلبها الإيجابي، فقد كونته الروابط القائمة بين أبناء الأمة الواحدة، وهي روابط عاطفية ودنيوية، كالثقافة وذكريات ما أنجزوه معًا في الماضي، فضلًا عن المصالح الزمنية. وقد تميزت القومية الدينية بأنها كانت، باستثناء الحركة الصهيونية القائمة على حس بالتضامن وبالمصالح المشتركة فريد في قوته، أقل ثباتًا من الأنواع الأخرى، مع أنها كانت تشكل عنصرًا من عناصرها. فقد كان «التركي» يتضمن إلى حد ما معنى «السني» و «الفارسي» معنى «الشيعي» ، ناهيك بأن الوعي العربي ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالوعي الإسلامي. (عندما عمدت جامعة الأمم، بعد حرب 1920 - 1922 اليونانية التركية إلى إجراء تبادل بين الأتراك في اليونان واليونانيين في تركيا، لم تجد، للقيام بذلك، سوى المعيار الديني، فاعتبرت أبناء الكنيسة الأرثوذكسية يونانيين، سواءً كانت لغتهم يونانية أو تركية، والمسلمين أتراكًا، سواءً كانت لغتهم تركية أو يونانية).
أما النوع الثاني من القومية، وهو القومية الإقليمية، فقد كان مألوفًا بالأخص في البلدان القديمة والمستقرة من أوروبا الغربية. وهو كناية عن الشعور بالانتماء إلى جماعة واحدة من القاطنين رقعة محددة من الأرض والمتأصلي الجذور في حب هذه الرقعة. وكان هذا الشعور على أشده في تلك الأجزاء من الشرق الأوسط حيث يعيش في الرقعة الواحدة جماعة مستقرة فيها منذ زمن طويل، وحيث تكون لتلك الرقعة حدود واضحة وتقليد متصل من الكيان الإداري أو السياسي القائم بذاته، كما كانت الحال في مصر وجبل لبنان وتونس. وكان هذا النوع من القومية يثير، حيثما وجد، ذكريات البلد وسكانه في العصور القديمة، كالفراعنة والفينيقيين والحثيين. وذلك لأن إعلان الانتماء إلى ماض قديم كان أحد السبل للتهرب من
ماض أحدث، ولأن هذا الماضي الأحدث كان يمثل، في معظم أجزاء المنطقة، الاندماج في وحدات أوسع من القوميات، كالخلافة أو السلطنة العثمانية. إلا أن هذا النوع من القومية كان، على العموم، أضعف هنا مما كان عليه في أوروبا الغربية. وما ذلك إلا لأن الحدود كانت هنا أقل استقرارًا والكيانات السياسية أقل ثباتًا، ولأن الحياة الحضرية كانت، في كل مكان، ما عدا بعض المناطق المحظية، كوديان لبنان أو الساحل التونسي، أكثر تعرضًا لهجمات الأعداء.
أما النوع الثالث والأقوى من أنواع القومية، فهو القومية العنصرية أو اللغوية القائمة على الاعتقاد أن جميع الناطقين بلغة واحدة إنما ينتمون إلى أمة واحدة، وأن عليهم بالتالي أن يشكلوا وحدة سياسية مستقلة. وقد غدا هذا النوع، لحسن الحظ أو لسوئه، الفكرة السائدة في الشرق الأوسط، بحيث حل محل النوعين الآخرين، أو امتصهما. وعلى هذا، أصبحت الفكرة القائلة بأن جميع الناطقين بالضاد يكونون أمة واحدة وعليهم أن ينشؤوا دولة واحدة أو كتلة واحدة من الدول القوة السياسية العظمى في البلدان العربية، وإن لم تتجسد في كيان سياسي. غير أن الأفكار السياسية لا توجد غالبًا على النقاوة، بل تكون ممتزجة بغيرها، لا بل بأضدادها. ولا شك أن بروز فكرة القومية العربية بتلك القوة وذلك المنطق الظاهرين في كتابات ساطع الحصري كان أمرًا نادرًا. فقد كانت الفكرة العربية، لدى معظم المفكرين وفي برامج معظم الأحزاب السياسية والزعماء السياسيين، ممتزجة بأفكار مستمدة من نوعي القومية الآخرين. فكان اتصالها بفكرة الأمة الإسلامية وثيقًا، حتى أن قومية القوميين العرب المسيحيين أنفسهم لم تكن لتخلو من نوع من الانتماء المعنوي إلى الإسلام كحضارة، إن لم يكن كدين. كذلك كانت القومية اللغوية العربية، لدى معظم المفكرين الذين تناولناهم بالبحث سابقًا، ممتزجة بالقومية الإقليمية. فقد كانت القومية العربية، في هذه الحقبة، ذات أهمية بالغة في سوريا (نستعمل هنا مرة أخرى هذا
الاسم بمعناه الأوسع)؛ إلا أن المطالبة بتوحيد جميع العرب كانت تتضمن المطالبة بإعادة توحيد سوريا الجغرافية، على غرار ما كانت عليه (في كل النواحي ما عدا الناحية السياسية) قبل تقسيم البلدان العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى.
ليست القومية نظامًا فكريًا، بل فكرة منفردة، لا تكفي بحد ذاتها لتنظيم حياة المجتمع بأسرها. لكنها فكرة فعالة، فكرة من ذلك النوع الذي يقوم بدور مركز الجاذبية بالنسبة إلى الأفكار الأخرى. وعلى هذا، فقد نشأت، في الحقبة التي كانت موضوع بحثنا، وضمن إطار القومية، مجموعة من الأفكار حول طبيعة الإنسان وحياته في المجتمع. وقد رأينا كيف تكونت هذه الأفكار من تضافر عناصر مختلفة تحدرت من ينبوعين: الأول، العلمانية الليبرالية التي تميزت بها إنكلترا وفرنسا في القرن التاسع عشر، والتي كان استيعابها وقبولها مباشرًا. وكان أول من عبر عنها في اللغة العربية بطرس البستاني وأتباع مدرسته، ثم أخذها عنهم لطفي السيد ومدرسة القوميين المصريين التي أنشأها. كان هذا الاتجاه علمانيًا، بمعنى أنه كان يؤمن بأن المجتمع والدين يزدهران كلاهما الازدهار الأفضل عندما تكون السلطة المدنية منفصلة عن السلطة الدينية، فتتصرف وفقًا لمقتضيات خير البشر في هذا العالم. وكان اتجاهًا ليبراليًا، بمعنى أنه ارتكز إلى أن قوام خير المجتمع إنما هو خير الأفراد، وأن واجب الحكومة إنما هو حماية الحرية، وبنوع خاص حرية الفرد في تحقيق ذاته، وبالتالي في إنشاء المدنية الحقيقية. أما الينبوع الثاني، فكان حركة الإصلاح الإسلامية التي صاغ مفاهيمها محمد عبده ورشيد رضا. كانت هذه الحركة إسلامية، لأنها قامت على إعادة تأكيد حقيقية الإسلام الفريدة الكاملة؛ وكانت إصلاحية، لأنها استهدفت إحياء ما كانت تعتبره العناصر المهملة في التراث الإسلامي. غير أن عملية هذا الإحياء قد تمت تحت تأثير الفكر الليبرالي الأوروبي، فأدت تدريجًا إلى تفسير جديد للمفاهيم الإسلامية بغية جعلها معادلة
للمبادئ الموجهة للفكر الأوروبي في ذلك الحين. «عمران» ابن خلدون تحول تدريجًا إلى «تمدن» غيزو، و «مصلحة» الفقهاء المالكيين وابن تيمية إلى «منفعة» جون ستوارت مل، و «إجماع» الفقه الإسلامي إلى «الرأي العام» في النظرية الديمقراطية، و «أهل الحل والربط» إلى أعضاء المجالس البرلمانية. وكانت نتيجة ذلك، لدي ما سميناه بالجناح العلماني لمدرسة محمد عبده، الفصل الواقعي الحاسم بين دائرة الحياة المدنية ودائرة الدين، ثم فتح باب جديد أمام القومية العلمانية. لكن التمييز، حتى في الجناح الآخر، جناح رشيد رضا والوهابيين المتجددين، بين العقيدة والعبادة القائمتين على الوحي الذي لا يتغير وبين قواعد الخلقية الاجتماعية التي يجب سنها على ضوء المصلحة قد أدى إلى الاتجاه ذاته، وإن كانوا قد استمروا على الاعتقاد، أو بالأقل على التأكيد، بأن هذه القواعد يجب أن تستمد من المبادئ العامة للأخلاق الإسلامية.
في هذا النظام من الأفكار، سواء كانت مستمدة مباشرة من الفكر الليبرالي الأوروبي أو مداورة عن طريق حركة التجدد الإسلامية، كان الإلحاح على الاستقلال القومي أو الحرية الفردية أشد منه على العدالة الاجتماعية. لقد كان من السهل علينا أن نلاحظ، مما ورد في هذا الكتاب، ومن إشارتنا بصراحة إلى ذلك في حينه مرارًا، أن مضمون القومية لم يشتمل، في تلك الحقبة، إلا على القليل من الأفكار الدقيقة حول الإصلاح الاجتماعي والتنمية الاقتصادية، مما يمكن تفسيره إما باللامبالاة، أو بأن معظم زعماء الحركة القومية والناطقين باسمها كانوا ينتمون إلى عائلات ذات مكانة وثروة أو ارتفعوا إلى هذه الطبقة بمجهودهم الشخصي. لكن يمكن تفسيره أيضًا بمناخ الزمن الليبرالي. نعم، لقد كان هدف القومية تفجير الطاقة الوطنية في الحقل الاقتصادي كغيره من حقول الحياة الأخرى. إلا أنها كانت تنظر إلى الاستقلال، من ناحيته الاقتصادية، كعملية لتحرير حياة الأمة الاقتصادية من التحكم الأجنبي وتفجير
قوى العمل الوطني التي كان يعتقد إجمالًا أن من شأنها تحقيق ازدياد الثروة والرفاهية. لذلك كان من المسلم به، على وجه العموم، أن الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وإن كان بحد ذاته أمرًا مرغوبًا فيه، يمكن ويجب أن يؤجل إلى ما بعد الاستقلال، وأن من الممكن تحقيق الاستقلال بدونه، وذلك بوسائل سياسية وباستخدام القوى الوطنية المتوفرة حاليًا. كما كان من المسلم به أيضًا أن التغير الاجتماعي سيتم حتمًا عندما يتم الاستقلال، إذ كان قليلًا يومذاك عدد المفكرين المتنبهين إلى مشكلات السياسة الاجتماعية في الدول المستقلة حديثًا، تلك المشكلات التي تجابه تلك الدول في سعيها للاحتفاظ بالمستوى الإداري الذي تحقق بفضل السلطة الأوروبية، ولتعيين الحدود بين النشاط الخاص والرقابة الحكومية، وللحصول على الرأسمال الأجنبي الضروري للتنمية السريعة دون الوقوع تحت نوع جديد من النفوذ الأجنبي.
كانت إذن غاية القوميين الجوهرية تحقيق الاستقلال. لكن مفهوم هذا الاستقلال كان محدودًا لديهم. فقد كان يعني، في لغة العصر، الحصول على الحكم الذاتي الداخلي، والانتماء إلى جامعة الأمم. لكنه لم يكن لينفي (وبالواقع كاد أن يفرض) بقاء رابطة دائمة مع الدولة المحتلة سابقًا، تبقى على القواعد العسكرية والعلاقات الاقتصادية والثقافية، وتخضع لسياسة تلك الدولة الشؤون الرئيسية في العلاقات الخارجية. والواقع هو أنه لم يكن بالإمكان غير ذلك. فدول الشرق الأوسط، مستقلة كانت أو غير مستقلة، لم يكن بوسعها، في ذلك الحين، التخلص من سلطة إنكلترا وفرنسا المحيطة بها من كل جانب، مجسدة في الجيوش البرية والقوات البحرية والجوية وفي المدارس والمصارف والمشاريع الاقتصادية والتجارية. لذلك لم يكن لها أن تختار بين الاستعمار وبين الاستقلال الحقيقي، بل بين درجات وأنواع مختلفة من السيطرة.
كتب ابن خلدون عما يتمتع به الفريق الحاكم من قوة جاذبية
تستحوذ على عقول المحكومين ومخيلتهم، كما كتب «طوينبي» عن قوة الاستهواء التي بها تستطيع الأقلية أن تجر الأكثرية وراءها. لقد كان عدم إمكان التخلص من قبضة السلطة الأوروبية، الممقوتة والمقبولة في آن واحد، من أهم الأسباب التي جعلت قومية ذلك الجيل تتخذ موقفًا ازدواجيًا من أوروبا. فبالرغم من الرغبة في التخلص من سيطرة إنكلترا أو فرنسا، أو على الأقل من حكمهما المباشر، كانت هذه القومية تناشد الوجدان الليبرالي لدى البريطانيين والفرنسيين أنفسهم لمساعدتها في تحقيق تلك الرغبة. ولم يكن هدفها الصريح من السعي وراء الاستقلال تحرير نفسها تمامًا من أوروبا بقدر ما كان إقامة علاقة جديدة معها: علاقة متساوية ملؤها الثقة، قائمة على قبول عفوي وتام لقيم المدنية الحديثة التي خلقتها أوروبا. فها طه حسين يقول:«علينا أن نقتفي آثار الأوروبيين كي نصبح مساوين لهم وشركاؤهم في المدنية» . وهو يرى، كما رأى بطرس البستاني لجيلين مضيًا، أن العصر إنما هو عصر أوروبا، وأنه من الضروري، كي نكون عصريين، أن نوطد الصلة بها.
لم يمض طويلًا على كلمات طه حسين هذه حتى اندلعت نيران الحرب العالمية الثانية، وحدثت، خلال العشرين سنة اللاحقة، تغييرات كبيرة، تجلى بعضها بصورة أوضح من بعضها الآخر. وكان أبرز التغييرات الناجمة عن الحرب، التبدل في موقف الدول الأوروبية بعضها من بعض ومن بقية العالم. لقد فقدت الدول الأوروبية سيطرتها المعنوية، ومعها تلك القوة الاستهوائية التي كانت تتمتع بها منذ زمن طويل بفضل قوتها وفضائلها السامية الكامنة، أو المعتقد أنها كامنة وراء تلك القوة. فمنظر أوروبا تتمزق، وفرنسا تنهار فجأة، قد آثار الشكوك حول تلك القوة وتلك الفضائل: فمن يدري، قد تكون أوروبا لا تملك بالحقيقة «سر» السعادة الدائمة. وبالواقع، كانت تلك الشكوك في محلها إلى حد ما. فوضع أوروبا قد تغير بالفعل. غير أن هذا لا يعني أن قوتها قد ضعفت بالنسبة إلى بلدان
آسيا والشرق الأوسط. بل كان الأمر على خلاف ذلك. فإتقان الأسلحة الحديثة قد أدى إلى رجحان ميزان القوة العسكرية لصالح البلدان المتقدمة صناعيًا. أما التغير الذي نعنيه، فقد حدث على صعيد آخر. لقد انتاب أوروبا ما سمي أحيانًا، وربما بغير إنصاف، بـ «ارتخاء الأعصاب» . وهو الإحجام المتزايد مع الزمن عن استعمال القوة لقمع المقاومة كما كان يجرى في الماضي. وقد كان هذا التغير أسرع في إنكلترا منه في فرنسا، حيث جعلت الصعقة من الاحتلال الألماني وضعف الجهاز السياسي من الصعب على فرنسا التنازل برضى عما تبقى لها من مركزها الاستعماري. وفضلًا عن ذلك، فقد تغيرت علاقات الدول الغربية بعضها ببعض. فإنكلترا لم تعد الدولة الأقوى في العالم أو في الشرق الأوسط، مع أن تضافر الظروف مكنها من التصرف في هذه المنطقة من العالم كما لو كانت لا تزال الدولة الأقوى. وقد تمت خسارتها لمركزها المتفوق هذا في السنوات الواقعة ما بين 1945 و 1954، إذ تنازلت أولًا للولايات المتحدة عن مسؤوليتها في اليونان وتركيا وإيران؛ ثم عانت اندحارًا كبيرًا في أحد مراكز قوتها الرئيسية، فلسطين؛ وتراجعت أخيرًا بملء إرادتها عن مركزها في مصر والعراق. غير أن هذه الخسارة لم تبرز على أتمها حتى 1956، إذ حاولت للمرة الأخيرة أن تتصرف تصرف الدولة الأقوى، فلم تجن من ذلك سوى غضب الذين كانوا أقوى منها. بيد أن السيطرة التي فقدتها لم تنتقل إلى دولة أخرى بمفردها. بل الذي حدث هو أن سيطرة الدولة الواحدة حل محله توازن ضعيف بين دول عدة كانت كل منها قادرة على الإصرار على ضرورة أخذ مصالحها بعين الاعتبار، دون أن تكون قادرة على فرض سيطرتها بلا منازع.
كانت إحدى نتائج هذا الوضع الجديد أن أصبح بإمكان دول الشرق الأوسط، للمرة الأولى، أن تستقل استقلالًا حقيقيًا، بفضل ضعف الخصم، أو تغير المناخ السياسي، أو توازن القوى
الجديد في المنطقة. وهكذا، ما أن جاء عام 1962 حتى كانت المنطقة بكاملها مستقلة عمليًا، وأصبح هدف القوميين الأول، لا الحصول على الاستقلال، بل المحافظة عليه. من هنا كانت أهمية الكتلة الأسيوية الأفريقية في الأمم المتحدة، التي نفحت الدول الجديدة الضعيفة بقوة جماعية كانت سريعة العطب، لكنها لم تكن وهمية. ومن هنا أيضًا كانت أهمية فكرة الحياد، وهي الأساس النظري الذي قامت عليه هذه الكتلة. لم يكن هذا الحياد يمثل الرغبة في تجنب الانخراط في خصومات الدول الكبرى فحسب، بل كان يمثل أيضًا الشكل الجديد للرغبة في الاستقلال. فقد كان الحياد، بحد ذاته، يتوخى استخدام خصومات الدول الكبرى لإنشاء دائرة لا تستطيع أي منها أن تفرض إرادتها فيها. وهكذا عم، كموقف سياسي، جميع بلدان المنطقة تقريبًا، مع أنه اتخذ أشكالًا مختلفة في ظروف مختلفة: فتركيا وإيران اللتان مالتا نحو المعسكر الغربي تجنبًا لضغط المعسكر الثاني عليهما قد تعودان إلى موقف أسلم في الوسط فيما لو خف هذا الضغط.
ولعل ما لم يظهر بمثل هذا الوضوح قيام نوع آخر من الاستقلال. فالتمييز بين الشرق والغرب، المسيطر على تفكير الحقبة التي عالجها هذا الكتاب، كان قد اضمحل. لقد كان من الطبيعي، لأبناء جيل محمد عبده ورشيد رضا، بل حتى لخلفائهم في السنوات الواقعة بين الحربين، أن ينظروا إلى الغرب كمستودع للمدنية الحديثة وكمعلم في أساليب التفكير والتقنية التي كانت تلك المدنية متوقفة عليها. أما الآن، فقد أكمل الغرب رسالته التاريخية بخلق عالم جديد موحد. لقد أصبح العالم واحدًا: واحدًا، أولا، على صعيد التقنية المادية. فبالرغم من أن المراكز الكبرى للعلوم الخلاقة لا تزال حيث كانت قبل جيل، أي في أوروبا الغربية وروسيا الأوروبية وأميركا، فقد ظهرت المهارة التقنية بتزايد في كل مكان، ورافقها اقتناع عام بوجود طريقة صالحة واحدة لصنع الطيارات ومكافحة الأمراض
مثلًا. كذلك أصبح العالم واحدًا على الصعيد السياسي، بحيث غدا الكون مسرحًا واحدًا للحوار السياسي. لا شك أنه كان هناك أنظمة سياسية مختلفة؛ غير أنها لم تكن من النوع الناجم عن التراث أو عن الطابع الإقليمي أو القومي. فقضية آسيا والشرق الأوسط لم تعد قضية المحافظة على نظام تقليدي فريد، كالسلطنة الإسلامية أو الإمبراطورية الصينية، بل أصبحت قضية إنشاء نظام ما من الأنظمة المختلفة الممكنة في ظروف المجتمع الحديث، والمحافظة على هذا النظام. ذلك أن الأنظمة التقليدية كانت، في كل مكان، حتى في المجتمعات الأشد محافظة، في طريق التحول إلى شيء قريب من روح العصر الحديث. فسلطنة مراكش القديمة أصبحت، بالرغم من طابعها الديني، ملكية حديثة ذات طابع قومي؛ كما أن التغير السياسي، حتى في شبه الجزيرة العربية، قد أخذ في التحفز.
وهكذا أصبح بمقدور الدول الشرقية، للمرة الأولى في التاريخ الحديث، أن تقطع، إذا شاءت، صلتها تمامًا بالغرب وتستغني عن مثل هذه الصلة وتبقى، بالرغم من ذلك، جزءًا من العالم الحديث. لقد أصبح بإمكانها الآن أن ترفض الاتصال بالغرب، وتقتبس، مع ذلك، جميع الأساليب التقنية والأفكار التي تقوم عليها المدنية الحديثة. وكان لهذا بدوره نتيجتان متعاكستان: الأولى أن الاتصال بالغرب قد أصبح، بالنسبة إلى عدد قليل من السياسيين والمفكرين، شأنًا اختياريًا ومؤقتًا يتخذ على ضوء التفكير والتعقل أكثر من ذي قبل. وما ذلك إلا لسبب بسيط هو أنه لا بد من الاختيار ومن المدافعة عن هذا الاختيار. أما بالنسبة إلى الآخرين، وهذه هي النتيجة الثانية، فلم يعد الاتصال بالغرب ضروريًا، فضلًا عن أن رفضه أصبح واجبًا، باعتباره أثرًا من آثار عهد السيطرة الاستعمارية. كان هذا، بالحقيقة، أحد المعاني الذي انطوت عليه ثورة 1952 المصرية. فقد جاءت إلى الحكم برجال رفضوا، بالرغم من إدراكهم التام ضرورة اقتباس تقنية الصناعة الحديثة والعيش في عالم
الحوار السياسي الحديث، أن يعترفوا للغرب بأي مركز ممتاز، وأن يهتموا بالثقافة الغربية إلا قليلًا. وهكذا تسنى لمصر، للمرة الأولى في غضون ما ينيف عن القرن، أن يحكمها من لم يردد صدى كلمات الخديوي إسماعيل:«لم تعد مصر جزءًا من أفريقيا» ، ومن لم ينظر إلى باريس كعاصمة العالم الروحية.
لكن هذا لا يعني أن حكام مصر الجدد أشاحوا بوجوههم عن باريس وأداروها نحو مكة. فالشيء الجديد الأهم بين جميع التغيرات التي طرأت خلال العشرين سنة هذه، هو أن التاريخ قد ألغي، سواء تاريخ «تقليد الغرب» ، أو تاريخ المجتمع التقليدي السابق، في سبيل مجتمع جديد لاحت تباشيره في جميع بلدان العالم العربي. كان من ميزات هذا المجتمع، من الناحية الاقتصادية، نمو الصناعة على نطاق واسع، والتنظيم العلمي للزراعة، وتدخل الحكومة الإيجابي في كل منهما. وقد ظهرت للوجود، كنتيجة لهذه التطورات، ثلاث طبقات اجتماعية جديدة: طبقة وسطى من المقاولين ومديري الأعمال والتجار من أهالي البلاد؛ وطبقة النخبة الفكرية من التقنيين والموظفين والضباط والأخصائيين من رجال ونساء؛ وطبقة عمال المدن التي عززها تفاقم نزوح سكان الريف.
وفيما كانت هذه الطبقات آخذة في النمو، دخلت طبقتان أخريان قديمتان في طور التقهقر، هما طبقة البورجوازية الأوروبية والمشرقية التجارية في المدن، وطبقة كبار ملاكي الأراضي في الريف. وما ذلك إلا لأن الحياة العامة في المجتمع لم تعد وقفًا على فريق صغير من المحظوظين. وقد عاد الفضل إلى تحرر المرأة، وازدهار وسائل المواصلات الجديدة، كالصحافة والسينما والراديو والتلفزيون، ونشوء أدب جديد منسجم معها. وكانت القضايا التي أثارها ظهور هذا المجتمع الجديد على درجة من الجدة والتعقد والغرابة، بحيث عجز التاريخ حيالها أن يقدم أية عظة أو عبرة. نعم، كان لا يزال في وسع الناس أن يلتفتوا بعقولهم ومخيلاتهم إلى الماضي لاستلهامه، وأن يستمدوا منه
درسًا، محقًا أو مخطئًا، بأن العرب كانوا أسيادًا من قبل، فباستطاعتهم أن يستعيدوا سيادتهم اليوم، وإن اتخذوا الثقافة الموروثة عن الماضي أساسًا لتضامنهم القومي. لكنهم لم يعودوا يؤمنون، في غالب الأحيان، بأن الماضي قد سلمهم قاعدة للحكمة لا تقبل التغير، أي نظامًا من المبادئ وجه، ويجب أن يوجه دومًا، سير المجتمع ونشاط الدولة، أكانت تلك القاعدة مستمدة من عادات الأجداد أم من الشريعة المقدسة. لقد تخلوا عن الشريعة تخليًا مدهشًا بسرعته وشموله، بحيث قارب هذا التخلي، الذي بدأ في أوائل القرن التاسع عشر بتبني القوانين الحديثة، حد الاكتمال. ففي كل مكان، ما عدا بعض شبه الجزيرة العربية الأشد انعزالًا، حلت القوانين العلمانية محل الشرائع الدينية في كل من حقول التشريع المدني والجزائي والتجاري والدستوري. وقد كان هذا التحول تامًا في بلد كمصر، حيث جرى بصورة غير ملحوظة تقريبًا، كما كان تامًا في تركيا، حيث جاء نتيجة للثورة الكمالية. حتى أن هجومًا قد شن في تركيا وتونس على آخر معقل من معاقل الشريعة، أي القوانين الخاصة بالأحوال الشخصية. فألغى فيهما نظام تعدد الزوجات وسمح بالزواج المدني، دون أن يثير ذلك ضجة كبيرة على ما يظهر. ولا عبرة في عاصفة الاستياء التي أثارها في تونس انتقاد الرئيس بورقيبة فريضة الصوم في رمضان. ذلك لأن رمضان قد أصبح في العصر الحديث مظهرًا كبيرًا لوحدة الإسلام. وهو الشهر الذي يستيقظ فيه وعي المسلمين، مؤمنين أو غير مؤمنين، لماضيهم ولصلتهم بالأجداد. لذلك قد تكون عاصفة الاستياء تلك عائدة لا إلى ما يخالف الشريعة في انتقاد الرئيس بورقيبة، بل بالأحرى إلى ما قد يهدد تضامن الأمة الإسلامية في هذا الانتقاد.
لم تكن إذن القاعدة التي اتخذها المفكرون ورجال السياسة مقياسًا لأعمالهم مستمدة من الماضي، بقدر ما كانت مستلهمة من المستقبل. فقد وضعوا أمام أعينهم صورة للمستقبل، رمز إليها، مثلًا،
تبديل الطوابع البريدية، بحيث لم يعد يظهر عليها رسوم الجوامع أو أبي الهول أو الملوك، بل رسوم العمال والفلاحين في مواقف بطولية، وهم يهزون قبضاتهم في وجه القدر. وهذه الصورة تكاد أن تكون واحدة في كل مكان، سواء تحت نظام الحكم الجمهوري القومي أو الملكي الدستوري. وهي ترمز بقوة إلى القوم أو الشعب بعد أن كانت ترمز، قبل جيل، إلى الوطن. لقد كانت الوطنية القديمة تدعو ذوي النوايا الطيبة من الناس إلى الدفاع عن وطن مستعبد. أما في القومية الجديدة، فقد أصبح البشر هم الفاعلون: إنهم أصحاب السلطة وأسياد مصيرهم، يصرون على خلق عالمهم الاجتماعي خلقًا جديدًا، متخذين من مفهومهم الخاص لما هو خيرهم مقياسًا أخيرًا لأعمالهم. ولم يعد خير المجتمع يحدد بمفاهيم الحرية الفردية، بل بالنمو الاقتصادي، ورفع مستويات العيش العامة، وتأمين الخدمات الاجتماعية.
أثارت جميع هذه التغيرات قضايا جديدة أمام الفكر الاجتماعي والسياسي. أولاها، قضية ما هي الأمة، أي ما هي الجماعة التي هي، ويجب أن تكون، مصدر السلطة السياسية وقطب الولاء؟ والثانية، ما هي، وما يجب أن تكون عليه العلاقة بين خير المجتمع وبين أحكام الدين وشرائعه الموروثة؟ والثالثة، ما هو، وما يجب أن يكون موقف الأمة، أو الدولة التي تتجسد فيها الأمة، من العالم الخارجي؟ والرابعة، ما هو، بين الاتجاهات المتعددة، الاتجاه الذي يجب على الحكومة السير بموجبه في سعيها لتعزيز النمو الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية؟
كانت جميع الأجوبة التي تقدمت بها على هذه الأسئلة مختلف تيارات الفكر الكبرى في الشرق الأوسط، في غضون السنوات الخمسة عشرة بعد الحرب، واحدة إلى حد ما. لكنه كان بينها فروق كبيرة، ليس في برامج العمل فحسب، بل في المبادئ التي انطلقت منها تلك البرامج أيضًا. فقد كان لا يزال من الممكن العثور، في أبحاث
بعض الكتاب والمفكرين، على أفكار كانت قد ألهمت أبناء جيل أسبق، كأبحاث الفيلسوف اللبناني شارل مالك، حيث نجد تأكيدًا على الصلة بالغرب يزيد في وقعه صدوره عن إدراك أوضح لمعنى المدنية الغربية. فالغرب، عنده، لم يعد غرب روسو أو كونت أو مل، بل هو الحضارة الممتدة إلى الماضي البعيد، إلى عهود الشرق الأدنى القديمة. وفي هذا يقول: «إن عهود الشرق الأدنى العظيمة هي ديانة العالم
…
فالرسالة التي حملها عبر تاريخه الطويل قامت على أن هناك نظامًا متساميًا أصيلًا، مليئًا بالمعنى والقوة، ومنفتحًا للمؤمن والنقي- نظامًا يخلق ويدين ويقلق ويشفي ويسامح» (1). وقد أعاد الغرب بدوره هذه الحضارة إلى الشرق الأدنى، فعلى هذا أن يتقبلها، شرط أن يبقى الغرب وفيًا لذاته، أي لمبادئ العقل والحرية والتسامي الكامنة في صميم كيانه. وللبنان، في عملية العرض والقبول هذه، دور خاص. إذ لما كان الغرب مسيحيًا بجوهره، كان لا بد للشرق الأوسط من وسيط مسيحي يكون، بالوقت نفسه، جزءًا منه. وما من بلد سوى لبنان يستطيع أن يكون هذا الوسيط. أما إسرائيل، فلا يسعها القيام بهذا الدور، وإن ادعت ذلك، لأنها غير مرتكزة أصلًا إلى ما هو الأعمق في حضارة الغرب، ولأنها، بالوقت نفسه، غريبة عن الشرق الأدنى الذي أقامت كيانها فيه (2)».
كذلك يمكن العثور، في هذه المرحلة الأخيرة، على امتداد التفكير الإسلامي العصري الذي كان الموضوع الرئيسي لهذا الكتاب. فقد وضع كاتب عراقي، هو علي الوردي، عدة مؤلفات، أعاد فيها كتابة تاريخ الإسلام من زاوية النضال الثوري لتحقيق العدالة، متوخيًا تفسير الإسلام على ضوء ما كان يبدو أشد الأحداث وقعًا في زمانه، تمامًا كما فسرته مدرسة محمد عبده على ضوء أفكار زمانها ومنجزاته (3). وقد أوحت هذه الغاية ذاتها لمحمد كامل حسين، الطبيب المصري، كتابه المرموق «قرية ظالمة» (4). كان هذا الكتاب، في الظاهر، بمثابة تأمل في معنى صلب المسيح. أما في الواقع، فكان
عرضًا جديدًا لتعاليم الإسلام على ضوء مظهرين مهيمنين على عصره: علم النفس الذي جاء يزعزع التفكير المألوف، كما فعل علم الفيزيولوجيا لمائة سنة خلت، وخطر الحرب. يستهل المؤلف كتابه، أسوة ببعض أتباع محمد عبده، بالتمييز بين النظامين الروحي والزمني. فالنظام الزمني، في رأيه، هو من فعل البشر. إنه ناقص وموقت وعرضة للتغير
…
ولذا يجب أن تبقى النواحي المتعلقة بالحقل الاجتماعي شؤونًا بشرية صرف تحيط بها ضمانات يكون البشر أنفسهم مسؤولين عنها (5). غير أن تعاليمه حول النظامين لم تكن تمامًا كتعاليم أتباع محمد عبده. نعم، كان العقل في تعاليمهم هو المهيمن على الدائرة الزمنية. غير أن هذا العقل أخذ ينطق هنا، في تعاليم محمد كامل حسين، بلهجة أخرى أثارتها النزعة إلى الأممية والسلمية، واستفظاع إزهاق الروح البشرية، ومسؤولية الفرد الأدبية عن أعمال مجتمعه. وفيما كان صوت الله يخاطب الجيل السابق في الشؤون الدينية علنًا وبواسطة القرآن، أصبح اليوم يهمس كصوت الضمير الهاتف في سريرة الفرد. فالضمير هو، في اعتقاد المؤلف، ما يفرض الحدود على أفعال الإنسان ويضع القوانين التي على النفس التقيد بها، وإلا اعتراها المرض والفساد (6).
لقد حاول هذان الكاتبان أن يبينا أن انسجام العالم الحديث مع الإسلام أمر ممكن. وقد قام بمثل هذه المحاولة أيضًا، لكن بإطلاق أشد، عبد الله القصيمي في كتابه، «هذه هي الأغلال» . ففي هذا الكتاب، يطالعنا المؤلف بالتهجم المألوف على الجمود الديني وعلى الاستكانة إلى الآخرة، وعلى الطلاق بين الروحي والمادي، محاولًا شرح هذه الأخطاء التي وقع فيها المسلمون بردها إلى الفقه الإسلامي، ومنها اعتقاد علماء الكلام السنيين أن الله هو الفاعل الحقيقي الوحيد والعلة المباشرة لكل ما يحدث، بينما أساس القوة والتقدم إنما هو الاعتقاد أن الإنسان فاعل حر، وأن له القدرة على الكمال، وأن الكون مسير بناموس السببية. وهو يدعي أن العرب كانوا على هذا
الاعتقاد قبل الإسلام، كما كان عليه أيضًا المسلمون الأولون قبل أن تفسد دينهم التأثيرات الخارجية. لكن هذا لا يعني، عنده، أن على الإنسان الحديث أن يحاول محاكاة السلف، لأن التقدم يكتنف طبيعة الإنسان كما يكتنف المدنية، ولأن لا يمكننا العثور على الكمال في الماضي (7).
قد يكون على الدرجة ذاتها من الأهمية كتاب آخر وضعه خالد محمد خالد الذي، بالرغم من افتقاره إلى روح الابتكار في التفكير واللباقة في الأسلوب، استطاع أن يبث تفسيرًا عصريًا للإسلام بين جمهور كبير. وهو في هذا التفسير يعمد، بدوره، إلى التمييز المألوف بين الدين الحقيقي والدين المزيف، بين ما هو جوهري وبين ما هو عرضي. لكن الدين الحقيقي فقد عمليًا معناه على يده، إذ أصبح مجرد «ينبوع للقوة والأخوة والمساواة» . لقد بطل أن يكون عقيدة، بل غدا موقفًا روحيًا. زد على ذلك أن تمييزه هذا كان أحد، لا بل أقسى، من تمييز المفكرين قبله. فالدين الذي يتدخل في الحقل العلماني هو، في نظره، دين زائف، وآلة بين يدي «الكهنة» في سعيهم لاقتناص السلطة وإبقاء الناس على فقرهم وجهلهم. والدين الحقيقي لا يكون ممكنًا إلا إذا سادت العدالة الاجتماعية والاقتصادية. فالمعدة المليئة شرط ضروري للحياة الروحية (8). وهو يقول أيضًا أن على المجتمع، كي يحقق العدالة، أن يعيد بناءه من جديد، وإن التغييرات الضرورية عميقة وواسعة النطاق بحيث يستحيل تحقيقها إلا بوسائل ثورية. ويرسم خالد محمد خالد لنا، في كتاب آخر، خطوط الثورة الاجتماعية التي يتصور قيامها في مصر، فيقول إنها تقتضي تقسيم الأملاك الكبرى، وفرض إيجارات زراعية، وتأميم الموارد، وحماية حقوق العمل، وتحرير المرأة، وتحديد النسل. وهي تقتضي أيضًا إنشاء ديمقراطية برلمانية وأحزاب سياسية. إذ إن الثورة يجب أن تكون ثورة ديمقراطية (9).
لقد حاول هؤلاء المفكرون أن يفهموا الإسلام فهمًا جديدًا،
وأن يدافعوا عنه على ضوء مفاهيم عصر ساده علم النفس والنزعة إلى الثورة في كل شيء. وقد طرأ على فكرة القومية العربية تغير مماثل تحت ضغط كارثة جذرية، هي كارثة فلسطين. فقد كان لإنشاء دولة إسرائيل، واندحار الجيوش العربية، وتشريد السكان العرب، أثر عميق في التفكير القومي. وقد أسهم في النقاش الواسع حول أسباب التخاذل العربي بعض الشباب الفلسطيني (10). لكن خير من عالج هذا الموضوع من المفكرين هما قسطنطين زريق وموسى العلمي. الأول أتينا على ذكره، بصدد كتابه «الوعي القومي» . لكنه، في 1948 العصيبة، وضع كتابًا آخر عنوانه «معنى النكبة» (11)، ألح فيه على أن خطر التوسع الصهيوني أهم ما يواجه العرب اليوم، وأن لا سبيل لهم إلى صده إلا ببذل كل ما يملكونه من قوة، وهذا يقتضي منهم تحويل كيانهم تحويلًا تامًا. وهو يرى أن السبب الأساسي لهزيمة العرب وللخطر المحدق بهم إنما هو عدم وجود أمة عربية بالمعنى الصحيح. فالعقلية التقدمية والديناميكية لا تقوى عليها العقلية البدائية والجامدة (12)، ولا يمكن التغلب عليها إلا بتغيير أساسي في حياة العرب وتفكيرهم يفضي بهم إلى إنشاء دولة موحدة، متطورة اقتصاديًا واجتماعيًا، بحيث يصبح العرب، واقعيًا وروحيًا، جزءًا من العالم الذي نعيش فيه (13)، فيتبنوا أساليبه التقنية المادية، وعلمانيته، وطرق تفكيره العلمي، وقيمه الخلقية. ولا يحقق هذا الأمر إلا نخبة مثقفة تستطيع أن تنظر إلى نفسها وإلى العرب بالوضوح والتواضع اللذين لا ينجمان إلا عن فهم حقيقي للتاريخ. وقد حدد قسطنطين زريق، في كتاب لاحق، حقيقة التفكير التاريخي الصحيح ونطاقه (14).
أما موسي العلمي، فقد أعرب عن آراء مماثلة. في كتابه «عبرة فلسطين» (15) فسرد الأخطاء التي ارتكبها العرب في معالجتهم للقضية الفلسطينية، كتقصيرهم في إعداد العدة، وعدم اتحادهم، وعدم تفهمهم بوضوح لما ستكون عليه الحرب، وعدم الجد في
خوضها. لكنه انصرف، من جهة أخرى، إلى الكشف عن مصادر الضعف الكامنة، بوجه عام، وراء هذه الأخطاء، كعدم وجود وحدة دائمة وثابتة فيما بينهم، والخلل في أجهزة الحكم، وغياب الوجدان السياسي عند الشعوب العربية، وفقدان الاتصال بينها وبين حكوماتها. ثم يقول إن لا قدر للعرب على صد التوسع الصهيوني إلا بالوحدة الحقيقية بين بلدان الهلال الخصيب أولًا (مع الاحتفاظ بوضع خاص للبنان)، وبإصلاح أنظمة الحكم إصلاحًا يجعل منها أنظمة دستورية حقة، يوجه العقل سياستها، والعلم إدارتها، وتعني بخير الشعب، ويكون فيها الحق في الحرية وفي العمل وفي الأمن وفي الخدمات الاجتماعية معترفًا به. إذ لا يمكن أن يكون ثمة أمة بالمعنى الحقيقي إلا إذا كان فيها للشعب ما يملكه ويدافع عنه.
لقد وضع قسطنطين زريق وموسى العلمي ثقتهما، عند تفصيل وسائل تحقيق هذه الإصلاحات، حيث وضع القوميون الليبراليون ثقتهم، أعني في النخبة المخلصة العاملة على خلق رأي عام متنور وعلى استخدامه لتحقيق الإصلاح سلميًا. لكن هناك، حتى بين الذين شاركوهم نظرتهم العامة إلى الأمور، من كان يشكك في فعالية هذه الوسائل. فادمون رباط، الذي كان، لعشرين سنة خلت، من ألمع الداعين إلى القومية، يؤكد، في محاضرته عن «مهمة النخبة» ، أن القومية إنما كانت تعبيرًا عن طور اجتماعي معين، هو طور نهوض الطبقة الوسطى. أما الآن، وقد انطوى هذا الطور، فلم يعد بوسع النخبة القومية البورجوازية، التي أفلتت السلطة من يدها، أن تزود الأمة بزعماء منها (16). وعلى هذا الغرار يذهب فايز صايغ، أحد الشباب الفلسطيني، إلى أن إنشاء قومية عربية موحدة لن يتم بوسائل سياسية صرف، بل لا بد من تغيير اجتماعي أساسي، إذ لا تتحقق الوحدة إلا بالقوة الدينامية المتفجرة من مثل هذا التغيير (17). كما يفسر عبد العزيز الدوري، وهو مؤرخ ذو معتقدات قومية، تاريخ العرب بكامله على ضوء الحركات الشعبية المتكررة الرامية إلى
التحرر والوحدة (18).
وقد برز التوتر القائم بين مختلف أنواع القومية هذه في مؤتمر لكتاب العرب عقد في القاهرة عام 1957. فمن خلال المناقشات التي تناولت الأدب الخالص والأدب الملتزم، طرحت استطرادًا قضية الحرية الفردية والمصلحة القومية، فشدد طه حسين، وكان إذ ذاك عميد الكتاب العرب ومناصرًا، لا للقومية المصرية الصرف، بل للقومية العربية، على أن ما يميز روح القومية العربية جوهريًا إنما هو الحرية والتسامح؛ كما جعل مندوب تونس من الحرية الفكرية شرطًا لفعالية الأدب، بينما ألح غيرهما على مسؤولية الكاتب تجاه أمته، فقال أحدهم: لا نريد حرية تتناقض مع الحقيقة (19). وقد تكشفت الحرب الأهلية في لبنان عام 1958 عن توتر مفجع بين نوعين من القومية. فقد قام في لبنان، منذ 1943، «ميثاق وطني» بين الذين يؤمنون بلبنان مستقل متصل بالغرب، ومعظمهم من المسيحيين، وبين الذين يؤمنون بأن لبنان، على تمتعه بكيان منفصل، إنما هو جزء من العالم العربي، ومعظمهم من المسلمين. فقبل هؤلاء بأن يعترفوا باستقلال لبنان، على أن يقبل أولئك بأن ينسق لبنان سياسته وفقًا لسياسة الدول العربية. وقد أخذ هذا الاتفاق يتزعزع، بعد 1954، بظهور قومية عربية حيادية جديدة متطرفة، وبتمنع الدول الغربية عن القبول بحياد الشرق الأوسط. فأدت مخاوف القوميين اللبنانيين، والثقة المتزايدة لدى القوميين العرب الممزوجة بنقمة المسلمين على انحصار السلطة في أيدي المسيحيين، فضلًا عن عوامل شخصية مختلفة، إلى إضرام حرب أهلية خمدت بتأكيد جديد «للميثاق الوطني» ، الذي بقي، بالرغم من ذلك، سريع العطب (20).
وقد نشأ كذلك توتر مماثل في بلدان عربية أخرى. غير أن موجة الشعور بين الشباب كانت تتدفق، على العموم، نحو قومية عربية أكثر شمولًا. وقد أعطى «حزب البعث» شكلًا سياسيًا لهذه
القومية، حين تأسس في دمشق في الأربعينيات، فلعب دورًا مهمًا في لبنان والأردن والعراق فضلًا عن سوريا، كما كان له ضلع كبير في قيام الجمهورية العربية المتحدة في 1958. كان هذا الحزب يطمح إلى تسلم الحكم، فلم يسمح لنفسه بتحديد موقفه التحديد الدقيق الذي من شأن المفكر المنعزل أن يقوم به. غير أن دستوره انطوى ضمنًا على عقيدة متناسقة وصفها مؤسسه، ميشال عفلق، بأنها عقيدة عروبية شاملة قبل كل شيء، تقول بـ «أمة عربية ذات رسالة خالدة» (21)، وترى أن الرابطة القومية بين الفرد وأمته هي أساس الفضيلة السياسية، وأن هذه الرابطة لا يمكن أن تكون إلا رابطة عربية لدى كل من كانت لغته عربية وكان مستوطنًا بلدًا عربيًا ومؤمنًا بانتمائه إلى الأمة العربية (22). وهي تستبعد كل انتماء إلى وحدات إقليمية أو دينية أصغر، وتعتبر جميع البلدان العربية أجزاءً متساوية من الأمة العربية الواحدة.
وكان بين الانتقادات التي وجهها ميشال عفلق إلى القومية القديمة أنها بلا محتوى. وهكذا ألح «البعث» ، في سنواته الأولى، على المحتوى الإسلامي للقومية العربية، واعتبر أن الإسلام هو ثقافة العرب القومية والصورة الحقيقية والرمز الكامل الأبدي لطبيعة الذات العربية، وأن محمدًا يخص «العرب كلهم» . كما حذر هذا الحزب من خطر فصل الدين عن القومية الذي تعرض له الأوروبيون (23). لكن ميشال عفلق رأى جوهر الإسلام في ميزته «الثورية» ، فراح الحزب، فيما بعد، خصوصًا بعد اندماجه بحزب أكرم الحوراني الاشتراكي، يلح إلحاحًا أشد على الحاجة إلى الثورة الاجتماعية، فاشتمل برنامجه على إعادة توزيع الثروة، والحد من ملكية الأرض، والضمان الجماعي، وسن تشريع للعمل، وإنشاء نقابات حرة، وتأمين حد أدنى لمستوى المعيشة، مع التأكيد على أن الاستقلال العربي والوحدة العربية والعدالة الاجتماعية لا يمكن أن تتحقق، بعضها بمعزل عن البعض الآخر. ذلك أن الاشتراكية
جزء جوهري من القومية العربية.
لم يكن البعث شيوعيًا، بل اشتراكيًا ينادي مبدئيًا بالديمقراطية الدستورية، لكنه ارتبط إلى حد كبير بنظام الحكم العسكري في مصر خلال السنوات السابقة لقيام الجمهورية العربية المتحدة. وما ذلك إلا لأن سياسته الخارجية كانت حيادية، ولأن علاقاته الخارجية كانت وثيقة مع الكتلة الأسيوية الإفريقية التي كان الرئيس عبد الناصر أحد زعمائها (24). بيد أن هناك سببًا إيجابيًا وطبيعيًا لذلك، هو تطلع الراغبين في إحداث تغييرات سريعة في منطقة لم يكتمل وعيها السياسي بعد إلى قوة ما تستطيع أن تحقق بنفسها ما يحققه ضغط الرأي العام المثقف والمنظم في بلدان أخرى. وفي ذلك يقول أحد مراقبي الحياة السياسية العربية:«أن طبقة الضباط العرب النبهاء غدت مستودع القوة السياسية الواعية في وقت كانت فيه الطبقة الحاكمة التقليدية قد أفلست، ولم تكن القوى الأخرى النامية قد تبلورت بعد، فأخذت الجماهير ترى بالفعل في هذه الطبقة «المخلص المنتظر» (25) والواقع أن الفئة العسكرية المصرية كانت، من بين جميع الفئات العسكرية التي تسلمت الحكم في مختلف البلدان، الفئة التي أحرزت أقصى النجاح في استقطاب آمال القومية العربية وأمانيها ومطامحها. على أن «الناصرية» ، على حد قول المراقب المذكور، هي حركة راديكالية اختبارية. «فهي ليست عقيدة، بل موقفًا ذهنيًا» (26)، إذ عنيت أولًا بمصالح مصر كما فهمتها، وسعت لتأمينها بوسائل مختلفة ومرنة، معبرة بذلك عن إحساسين كانا واسعي الانتشار في مصر وفي بلدان عربية أخرى. أولهما هو الإحساس بمصلحة طبقة الفلاحين التي خرج منها معظم القادة العسكريين. لذلك عمدت الناصرية، من البدء، إلى انتزاع ملكية الأراضي من كبار الملاكين، فدشنت تلك السياسة التي وصفها الرئيس عبد الناصر بـ «السياسة الاشتراكية الديمقراطية التعاونية» (27)، والتي رمت إلى إنشاء تعاونيات زراعية، وإلى تحسين الأوضاع الاجتماعية في القرى،
وتحويل الرأسمال الأجنبي والمصري عن توظيف الأموال في الأراضي والبنايات إلى توظيفها في الصناعة. وإذ كان من طبيعة الأنظمة الجديدة التي تقوم على أنقاض أنظمة قديمة أن تحتفظ بزخمها الثوري، وإذ أثبت إصلاح 1952 الزراعي عجزه عن سد حاجات الفقراء من الفلاحين، فقد انحرفت سياسة مصر الاجتماعية والاقتصادية في 1961، ربما أيضًا بتأثير من بعض أعضاء الكتلة الأسيوية الإفريقية، انحرافًا حادًا نحو تأميم الصناعة وفرض رقابة الدولة على الحياة الاقتصادية بكاملها.
أما الإحساس الثاني الذي هيمن على توجيه السياسة المصرية، فهو الإحساس بالتضامن مع الأمم الأسيوية الإفريقية الساعية إلى التحرر من السيطرة الأوروبية، وبالحاجة إلى الاتحاد لمجابهة خطر الدول الكبرى. وفي هذا الإطار، نمت سياسة مصر العربية وتطورت. فقد كان من الطبيعي لمصر، بعد أن سمح لها جلاء إنكلترا عنها بتقرير سياستها بنفسها، أن تعمل على تعزيز علاقاتها وإنشاء صداقات لها في المنطقة العربية المحيطة بها. فاتجهت سياستها، منذ توقيع المعاهدة الإنكليزية المصرية في 1936، اتجاهًا متزايدًا نحو دعم الوحدة العربية واستقلال العرب. ثم جاء النظام العسكري يتابع هذا النهج ويدفع به إلى الأمام. ويشرح الرئيس عبد الناصر بنفسه العاملين اللذين حملاه على انتهاج سياسة عروبية، فيقول إنهما الحرص على مصالح مصر العسكرية الدفاعية، والعطف على البلدان العربية الأخرى التي كانت تجابه قوة بريطانيا وفرنسا (28). غير أن تمتع مصر، لمدة طويلة، بكيان منفصل، ونمو وطنية مصرية صرف في العصر الحديث، لونا مفهومها للوحدة العربية بلون خاص. فالخطابات التي ألقاها الرئيس عبد الناصر، بعد الوحدة المصرية السورية، تبين بوضوح أن هذه الوحدة لم تكن تعني له ما كانت، قبل كل شيء، تعني للسوريين، أي إحلال نظام طبيعي محل نظام سياسي مصطنع، بل كانت تعني له أن شعبين تربط بينهما روابط
تاريخية وثقافية يكون لهما من القوة متحدين أكثر مما يكون لهما منفصلين (29). كذلك اعتبر الرابطة بين البلدان الإسلامية رابطة مصلحة سياسية قائمة على شعور مشترك. فالحج إلى مكة لم يكن، في نظره، بطاقة سفر إلى الجنة، بل «مؤتمرًا سياسيًا دوريًا» لبحث التعاون بين البلدان الإسلامية (30).
كان المبدأ الموجه لهذه الأنظمة والأحزاب مبدأ المصلحة القومية، أي حق كل مجتمع في العمل وفقًا لمصالحه. غير أن هذا المبدأ، وإن كان هو المبدأ السائد، وجد من يعارضه. فقد كانت هناك نزعات فكرية أخرى تهتم أيضًا بالمصلحة القومية، لكنها لم تكن لتعتبرها المبدأ الموجه للمجتمع، كالإخوان المسلمين، والكتاب المتصلين بهم في مصر، وعلى درجة أقل، في بلدان عربية أخرى. وقد لعب الإخوان المسلمون دورًا مهمًا في السياسة المصرية خلال فترة البلبلة التي سادت مصر من 1945 حتى 1954، ثم كفوا عن نشاطهم العلني بعد قمع حركتهم في 1954. لكن نوع التفكير الذي يمثلونه لم يفقد أهميته. لقد اعتقدوا أن القومية ليست أمرًا كافيًا بحد ذاته، وذلك لا لأنهم تطلعوا إلى مجتمع إسلامي أوسع يقوم ما وراء الأمة فحسب، بل لأنهم آمنوا بأنه ينبغي للجماعة، قومية كانت أم دينية، أن تسعى وراء خيرها ضمن الحدود التي وضعتها لها الشريعة الدينية.
كان حسن البنا، مؤسس هذه الحركة، يتردد في حداثته على حلقة رشيد رضا. ثم حاول، فيما بعد، متابعة إصدار مجلة «المنار» بعد وفاته (31). وهذا له مغزاه. وهو أن الإخوان المسلمين قد تبنوا نظرة رشيد رضا العامة، مع أنه ربما لم يكن ليوافق هو على أساليبهم السياسية. فعلى غراره قبحوا التجديد في العقيدة والعبادة، وأقروا ما للعقل وللخير العام من حقوق في حقل الخلقية الاجتماعية، لكنهم أصروا على إبقاء مفعول هذه الحقوق ضمن الحدود التي فرضتها مبادئ الإسلام الخلقية (32). أما كيفية تطبيق هذه المبادئ
في المجتمع الحديث، فقد بقيت غامضة لديهم. نعم، كان لحسن البنا آراء معينة في تنظيم الدولة، كتحظير قيام الأحزاب السياسية، وإصلاح القوانين وإخضاعها لأحكام الشريعة، وإسناد المناصب الإدارية إلى ذوي التربية الدينية. وقد أوضح أيضًا أن على الحكومة الإسلامية أن تفرض رقابة صارمة على التصرفات الخلقية الخاصة وعلى التربية، بحيث تكون المدارس الابتدائية ملحقة بالجوامع، ويكون الدين محور التربية وتكون اللغة العربية أداتها (33). لكن آراءه في تنظيم الحياة الاقتصادية لم تكن بمثل هذه الدقة. فمع أن كتاب هذه المدرسة الفكرية ألحوا على أهمية العدالة الاجتماعية، وعلى أن الإسلام لا يرضى بعدم المساواة في الثروة وبالتقسيم الطبقي، كما ألحوا على المسؤولية الاجتماعية المترتبة على الثروة (34)، إلا أن البرنامج الذي انبثق عن هذه المبادئ لم يختلف عمليًا عن برنامج القوميين الراديكاليين في ذلك الوقت؛ حتى ليصعب القول بدقة في أي من النواحي يختلف التنظيم الاقتصادي للمجتمع الإسلامي كما تصوروه عن التنظيم الاقتصادي المعروف لدى دول العالم الحديث الأخرى. أما من الناحية السياسية، فقد كانت حركة الإخوان المسلمين أقرب إلى الحركة القومية منها إلى الحركة المهدية أو الوهابية. إذ كان هدفها توليد الزخم الشعبي للاستيلاء على الحكم، لا لإعادة حكم الفضيلة الإسلامية.
ومن جهة أخرى، نادت الأحزاب الشيوعية، مع عدم تنكرها للمطالب القومية، بمبدأ آخر على ضوئه يمكن تبرير القومية وبه ينبغي ضبط أعمالها. فأصر ذوو النزعة الشيوعية من الكتاب على القول بأنهم هم القوميون الحقيقيون، وبأن القومية تختل عندما لا تقوم على العدالة الاجتماعية (35). وقد استهوت برامج الأحزاب الشيوعية المشاعر القومية بمقاومتها للاستعمار ومطالبتها بنزع ملكية المرافق العامة من الأيدي الأجنبية بدون تعويض. غير أن هذه الأحزاب استعانت، في نواح أخرى من برامجها، بمبادئ تتعارض مع
المبادئ المقبولة من معظم القوميين. فمحاولتها إثارة صغار المزارعين ضد كبارهم وضد كبار الملاكين جاءت تتنافى وفكرة الوحدة الوطنية التي كانت تعتبر عقيدة مقدسة من عقائد القومية (36). كذلك كانت دعوة تلك الأحزاب إلى سياسة الحياد خطة لا مبدأ. وقد برز هذا الخلاف بين الشيوعية والقومية بروزًا علنيًا خلال السنوات التي كان فيها للشيوعيين نفوذ كبير في العراق، إذ تباينت تباينًا شديدًا سياسة الشيوعيين عن سياسة القوميين بشأن إصلاح نظام الأملاك، والأقليات، والوحدة العربية. ولم يصدر في اللغة العربية حتى الآن، باستثناء بعض المؤلفات المصرية، أي تحليل وافٍ لمشاكل المجتمع العربي يرتكز إلى معرفة ناضجة للفكر الماركسي.
في هذه الحقبة من الزمن بدأت شمالي أفريقيا الناطقة بالضاد تسهم في التيار الرئيسي للفكر العربي. فحركة الإصلاح والتفكير العصري اللذين عرفتهما تونس في أواسط القرن التاسع عشر لم يكونا بدون تأثير في العالم العربي الشرقي. لكن الاحتلال الفرنسي للجزائر في 1830 ولتونس في 1881 ولمراكش بين 1912 و 1914 وضع هذه البلدان أمام قضية خاصة بها. وهذه القضية لم تنشأ عن مجرد وقوع هذه البلدان تحت السيطرة الفرنسية، بخلاف معظم بلدان الشرق الأوسط التي كانت واقعة تحت السيطرة البريطانية؛ ولا عن سياسة الفرنسيين في الحد من تسرب الأفكار السياسية الخطرة من الشرق العربي إليها؛ وإنما نشأت، بالأحرى، عن أن احتلال فرنسا الشمالي أفريقيا اختلف نوعيًا عن السيطرة البريطانية أو الفرنسية في الشرق الأوسط. فقد كان لهجرة المزارعين ورجال الأعمال وأصحاب المهن من الفرنسيين إلى الجزائر أولًا، ثم إلى تونس ومراكش، نتائج مهمة، هددت شباب شمالي أفريقيا بالاستعباد الدائم أو بخسارة أراضيهم تدريجًا، وزادت في صعوبة حصولهم على الاستقلال برغم فرنسا أو برضاها، كما أدت إلى إقامة إدارة فرنسية (مباشرة في الجزائر وغير مباشرة في البلدين الآخرين)
تتناسب مع حاجات الجاليات الفرنسية أكثر مما تتناسب مع حاجات سكان البلاد الأصليين، مما كان يشكل خطرًا على مؤسسات تونس والمغرب السياسية وعلى مركز اللغة العربية فيهما، كما أنه خلق صعوبات عديدة للشعبين، لاضطرارهما إلى التعامل مع الدولة الأجنبية بلغة أجنبية ولحرمان أبنائهما من احتلال مناصب مهمة في الإدارة. وقد استنفد السعي لمجابهة هذه الصعوبات نشاط أهالي أفريقيا الشمالية لعشرات السنين.
ففي الجزائر، كانت البورجوازية القديمة وطبقة أصحاب الحرف اليدوية قد اضمحلت إلى حد كبير في أثناء الاحتلال، ولم تأخذ طبقة جديدة وسطى في الظهور إلا بعاه 1860 (37)، كما لم تنشأ طبقة من الجزائريين المشبعين بالفكر الفرنسي إلا بعد إصلاح نظام التربية في أواخر الثمانينيات. كذلك لم تظهر في تونس طبقة مماثلة إلا بعد جيل من الحكم الفرنسي. وعن هذه الفئات انبثقت حركة فكرية سياسية جديدة اتجهت نحو إقناع الفرنسيين بأن التونسيين والجزائريين مستعدون لموالاة النظام القائم، إذا توفر لهم فيه مركز أفضل. وكان من دعاة هذه الحركة «تونس الفتاة» المؤلفة من فريق من الشبان المثقفين المتحدرين خصوصًا من أصل تركي، والذين أخذوا على عاتقهم، في أواخر القرن التاسع عشر، مهمة الإسهام في تثقيف أبناء الوطن. وقد عبر هؤلاء عن أفكارهم ببلاغة في جريدة «التونسي» التي أصدرها في اللغة الفرنسية علي باش همبا في تونس من 1907 إلى 1910، وفي المذكرات التي رفعوها إلى مؤتمري أفريقيا الشمالية المنعقدين، الأول في مرسيليا في 1906، والثاني في باريس في 1908 (38). وكانت نقطة الانطلاق في تفكيرهم واقع الحماية الفرنسية، الذي قبلوا به قبولًا تامًا. ولم يكن قبولهم هذا ناجمًا عن مجرد مهارة سياسية، بل عن أنهم كانوا، كغيرهم من قومي زمانهم، قد استمدوا مبادئهم من مبادئ الثورة الفرنسية، ووثقوا بالوجدان الليبرالي الفرنسي، آملين منه أن يصلح في المستقبل
ما اقترفته السياسة الفرنسية من أخطاء. أما مبتغاهم، فلم يكن الاستقلال التام، بل مركزًا أفضل تحت نظام الحماية، يتحقق بتقييد سلطة الباي المطلقة، ووضع دستور للبلاد، وإعطاء التونسيين حصتهم من أملاك الدولة التي كانت توزع على المستوطنين الأوروبيين (وهم لم يرفضوا مبدئيًا الاستيطان الأوروبي)، وتشجيع صناعتهم وزراعتهم (وقد كان لهم آراء دقيقة وناضجة حول الإنماء الاقتصادي)، وجعلهم مؤهلين للترقية حتى إلى أرفع المناصب في الإدارة (39). ولعل أهم ما أرادوه، بالإضافة إلى ذلك كله، فتح عدد أكبر من المدارس الحديثة. وليس لنا أن نستغرب كيف يطالب رواد النزعة الوطنية بالتربية الفرنسية، بينما كان ممثلو المستوطنين الأوروبيين يصرون على ضرورة تثقيف أهالي شمالي أفريقيا ثقافة عربية قائمة على التفسير الليبرالي للقرآن ومشتملة على تلقين مبادئ العلوم والزراعة باللغة العربية، مستندين في ذلك إلى المبدأ القائل بأن على أبناء البلاد أن يتطوروا ضمن نطاق مدنيتهم الخاصة بهم. وقد أجابهم التونسيون بالقول إن هذا المبدأ، إن صح في حقلي الأدب والفن، لا يصح في ميدان الحياة الاقتصادية التي لم يكن فيها من درب معبد سوى الذي سارت عليه أوروبا وأميركا. لذلك، فمع تدريس علوم اللغة العربية وآدابها بإتقان، يجب على السلطات تدريس علوم العصر باللغة الفرنسية وفي مدارس عصرية (40). وقد أدى نشاط هذا الفريق إلى إنشاء «الخلدونية» ، وهي رابطة توخت إطلاع الذين تربو تربية تقليدية في المدارس القرآنية وفي «جامع الزيتونة» على العلوم العصرية.
وقد نهج بعض الجزائريين المتخرجين من مدارس فرنسا العليا في ذلك الوقت النهج ذاته تقريبًا، فأكدوا أن على الفرنسيين أن يتحاشوا مخاطر عصيان جزائري جديد كعصيان 1871، فيحسنوا حال الجزائريين، وذلك بتوسيع تمثيلهم في المجالس المحلية، وإفساح المجال أمامهم لتحصيل ثقافة عصرية، وإعدادهم إعدادًا
صالحًا للحياة الاقتصادية، وإزالة أسباب الشكوى من الإدارة (41). وهنا أيضًا نجد النداء موجهًا إلى أولئك الفرنسيين الذين اعتبروا «فرنسا الإفريقية امتدادًا للوطن الأم» (42). ولم يكن هذا أيضًا من قيل الحيطة السياسية، بل كان تعبيرًا عن اقتناع عميق في نفوس أولئك الذين شعروا، بدراستهم في مدارس فرنسية. بوجود عالم جديد.
إلا أن تفكير هذه الفئات أخذ يتجه، حتى قبل حرب 1914، اتجاهًا قوميًا. فهجرة الجزائريين من تلمسان إلى أراضي الإمبراطورية العثمانية في 1911 كانت دلالة على أن بعضهم على الأقل قد فقد الأمل بالعدالة، مما أثار كثيرًا من القلق في فرنسا وأدى إلى إجراء تحقيق رسمي في الأمر (43). وكانت العلاقات، في ذلك الوقت، تزداد سوءًا بين التونسيين الشباب والإدارة الفرنسية، بحيث وقعت اضطرابات عديدة أدت إلى إبعاد علي باش- همبا وسواه من البلاد. فالتجأ باش- همبا إلى إسطنبول حيث انضم في أثناء الحرب إلى لجنة شمالي إفريقية كانت تحاول، مع بعض الحظ في النجاح، تنظيم حركات ثورية ضد الفرنسيين (44). وعندما وضعت الحرب أوزارها، برز الشعور الوطني هنا، كما برز في أماكن أخرى، بروزًا علنيًا. فقامت في الجزائر حركة تزعمها أمير من سلالة عبد القادر، كان قد حمل لواء النضال ضد الاحتلال الفرنسي. لكن هذه الحركة لم تعمر طويلًا. أما في تونس، فقد تجلى الشعور الوطني في إنشاء حزب «الدستور» وفي وضع برنامج له ظهر في كتاب نشر في اللغة الفرنسية بعنوان «تونس الشهيدة» ، وانطوى على مطالب عديدة لم تبلغ حد طلب الاستقلال، إلا أنها طالبت أن يكون الباي ووزراؤه مسؤولين أمام مجلس أعلى مؤلف من ستين عضوًا كلهم من المواطنين التونسيين، على أن ينتخب معظمهم باقتراع واسع النطاق، وأن لا يكون بعد الآن للمستوطنين الأوروبيين أي امتيازات، بل أن يعتبروا مواطنين تونسيين بعد إقامة عشر سنوات في البلاد، وأن
تضمن السلطة حقوق الأفراد، وأن يكون القضاء مستقلًا، وأن يكون للتونسيين حق الفرنسيين في شراء أملاك الدولة. إلا أن لهجة الكتاب كانت تعكس، بوضوح، شعور الاعتزاز الوطني والمرارة ضد فرنسا. وقد تزعم عبد العزيز الثعالبي هذا الحزب ونطق باسمه. ومع أنه تربى تربية إسلامية تقليدية وتأثر بمحمد عبده، فقد تعاون مع الشباب التونسي المثقف ثقافة عصرية. لكن لم تكد أن تمضي عشر سنوات حتى أخذ يتحدى زعامته فريق من الشبان انتظم في حزب «الدستور الجديد» ووضع نصب عينيه استخدام ضغط الرأي العام والقيام بما يلزم من العمل لتحقيق الاستقلال التام. ولما عاد الثعالبي إلى تونس في 1937، بعد أعوام من النفي، خسر المعركة التي شنها الحزب الجديد على زعامته، فانتقلت الزعامة الوطنية إلى مؤسسه ورئيسه الحبيب بورقيبة. ومن ذلك الحين قاد الحبيب بورقيبة معركة الاستقلال، إلى أن حالفه الفوز في 1955، فبنى الدولة التونسية مع رفاق له كان الاستقلال يعني لهم الدخول في العالم الجديد وفي مجتمع الثقافة الأوروبية الحديثة.
وقد تجلى أثر الثقافة الغربية العميق بوضوح في ما كتبه وأعلنه أعضاء حزب «الدستور الجديد» . ففي «يوميات» ، خلفها وراءه في المنفى طاهر سفار، أحد أعضاء الحزب القدماء، تبرز أمامنا سعة اطلاعه على الثقافة الفرنسية، فضلًا عن ما تتصف به هذه الثقافة من ملكة التحليل الذاتي الدقيق وتمحيص المشاعر الخلقية. فهو، مثلًا، عندها يتأمل في معنى التضحية، يضرب على وتر لم يعهده الأدب السياسي العربي من قبل بقوله: «غالبًا ما يرافق التضحية الجماعية نشوة الفرح. إنها تضحية متهللة. أما التضحية الفردية، فهي كئيبة
…
والإنسان يحب ما يفقد» (45).
كذلك كان التأثير الغربي عميقًا في أساليب الدستوريين الجدد السياسية. فقد كانوا السياسيين العرب الوحيدين الذين نجحوا في تنظيم نقابات العمال واستخدامها في النضال السياسي. ويرجع
تاريخ إنشاء هذه النقابات، كهيئات قائمة بذاتها، إلى العشرينيات. ومع أن هذه الحركة الأولى لم تعمر طويلًا، فقد تركت أثرها في كتاب للطاهر الحداد تنعكس فيه الأفكار الاشتراكية الفرنسية (46). ثم بذلت محاولة ثانية كانت أكثر نجاحًا، إذ أسفرت عن إنشاء منظمة قوية هي «الاتحاد العام للعمال التونسيين» . وقد لعبت دورًا مرموقًا في النضال في سبيل الاستقلال، لا يضاهيه في ذلك سوى «حزب الدستور الجديد» بخلاياه المنتشرة في جميع أنحاء البلاد والتسلسل الدقيق في أجهزة قيادته ووسائل مواصلاته، والذي يعود الفضل في تأسيسه وتوجيهه إلى الحبيب بورقيبة الذي دلت كتاباته وأفعاله على أنه منظم سياسي ومفكر سياسي من طراز رفيع (47). كانت نقطة الانطلاق في تفكيره أولوية العقل الذي، على حد قوله، «يجب أن يسيطر على كل شيء في هذا العالم ويوجه كل نشاط بشري» (48). وهذا ما قولب خطته السياسية القائلة بأنه لا يجوز لنا الانقياد للعاطفة انقيادًا يؤدي بنا إلى تجاوز الحد، فنطالب بأكثر مما يسع تونس، في ضعفها، أن تأمل في الحصول عليه، أو نرفض. ما يعرض علينا لكونه أقل مما طالبنا به. بل الصواب هو أن نقبل بالعرض الجزئي ونستخدمه كمرتكز ونقطة انطلاق للمطالبة بما هو أكثر منه. لكن هذا يقتضي التمييز الواضح بين ما هو غير جوهري وبين تلك الشؤون الجوهرية التي لا تقبل المساومة. فعندما تقدمت الحكومة الفرنسية في 1951 بمشروع سيادة فرنسية تونسية مشتركة، رفض بورقيبة هذا المشروع في الحال. وحجته في ذلك أن دولة تونسية محدودة السيادة خير من دولة تونسية فرنسية مشتركة ذات سيادة أوسع (49).
وقد تحقق الاستقلال التونسي وفقًا لهذه الخطة. واعتقد بورقيبة أنه يجب تطبيقها أيضًا لبناء مجتمع جديد. وكانت لديه فكرتان عما يجب أن يعمل تحقيقًا لهذه الغاية: فكرة تتعلق بالدولة وفكرة تتعلق بالأمة. فالدولة يجب أن تكون قوية، ومحترمة، وفوق جميع
مصالح الجماعات والأفراد، لأنه بذلك فقط يمكن ضبط النزعة الشديدة في تونس وفي بلدان عربية أخرى نحو الفردية والتفكك (50). ويجب أن تكون دولة تونسية قبل كل شيء. فقومية بورقيبة إقليمية أكثر مما هي عنصرية، بالرغم من إيمانه بوحدة شمالي أفريقيا كهدف نهائي. وقد تخلل خطبه إحساس حي بالمكان والزمان وبقيم الحياة الحضرية في الأرياف. ومما قاله:«كان علينا أن نتخلص من الحياة القبلية التي كانت تعبث بالبلاد والتي، بإذكائها روح العشيرة، تتنافى مع بنيان حضارة حقيقية، إذ لا حضارة إلا للشعوب الحضرية» (51). لذلك كانت الأهداف الملحة للسياسة الداخلية هنا، كما في مصر، بعث حياة مزدهرة في الأرياف والمدن، وزيادة الإنتاج، وتوزيع ثماره بقسط أوفر من المساواة. لكن بورقيبة فضل تحقيق هذه الأهداف بواسطة حزب قوي متجانس منضبط على تحقيقها بواسطة الجند.
وينظر بورقيبة إلى تونس نظرته إلى دولة منتمية إلى الغرب، تحترم الحرية والعقل والنظام في الحياة الاجتماعية. فهو متأثر بباريس الجمهورية الثالثة حيث ترعرع، وبمبادئ الثورة الفرنسية. ولم يفقد يومًا، في أثناء الحرب العالمية الثانية، إيمانه بانتصار إنكلترا وفرنسا والولايات المتحدة النهائي. كما أنه لم يقبل، حين وقع في قبضة الطليان، أن يلزم نفسه بتأييدهم، بل راح بحث أتباعه على مساعدة الحلفاء بلا قيد ولا شرط (52). لكن هذا لا يعني أنه كان يفضل مصلحتهم على مصلحة بلاده. فهو يشدد في كتاباته على الذل الشخصي في الانتماء إلى شعب مستعمر، ويوجه النقد اللاذع إلى فرنسا على قلة السخاء في موقفها من الأقاليم المستعمرة الطامحة إلى الاستقلال. وقد أفسد دعمه للقضية الجزائرية علاقاته مع فرنسا، حتى قبل أن كادت أزمة بنزرت أن تقضي عليها.
كذلك لا يعني تمسكه بالقيم الغربية تجاهلًا لروابط تونس بالعالم الأسيوي الأفريقي أو لماضيها الإسلامي. والواقع أنه كان على
وعي شامل للتاريخ الإسلامي ولمركز تونس فيه ولمركز الإسلام فيها. وقد بدا له، يوم كان حديث السن، أن انعقاد مجمع أو خرستي في تونس إنما هو إهانة لشعبها المسلم (53). وهو لا يؤمن بوجوب إقصاء الدين بقدر ما فعلت تركيا، إذ فيه إضعاف للوحدة الوطنية. لكنه لا يؤمن، من جهة ثانية، بجواز تطبيق الشرائع الدينية تطبيقًا ضيقًا يعرقل العمل في سبيل الخير العام. فقد أكد، في نقده للصوم في رمضان، أن من الضروري تفسير مبادئ الإسلام بمرونة. فكما أعفت المسلمين في الماضي مشاق السفر من فريضة الصوم، كذلك يجب أن يعفيهم منها اليوم العمل الشاق الذي يتطلبه الإنماء الاقتصادي في بلد متخلف كتونس (54).
إذا كانت هذه النزعة الإسلامية حاضرة في ذهن أشد السياسيين التونسيين وعيًا للدعوة العلمانية، فأحر بها أن تكون أكثر حضورًا في ذهن الآخرين. فقد كان جامع الزيتونة، منذ قرون، دارًا للعلوم الإسلامية في شمال أفريقيا. ثم أصبح، تحت الاحتلال الفرنسي، مركزًا لمقاومة المحاولات الرامية إلى الإضعاف من شأن اللغة العربية. وكان هناك مؤسسة أخرى جديدة، أنشأها خير الدين، لعبت دورًا مماثلًا. إنها «المدرسة الصادقية» التي درجت على تزويد الطلاب بتربية عصرية وعلى توجيه عناية خاصة باللغة العربية إلى جانب اللغات الأوروبية. وقد لعبت النزعة الإسلامية هذه دورًا مهمًا أيضًا في الحركات القومية في بلدان شمالي أفريقيا الأخرى. فالسنوسية في ليبيا هي التي نظمت حركة المقاومة ضد الطليان. وهي حركة دينية إصلاحية كانت تتمتع بنفوذ كبير في برقه قبل دخول الطليان، كما كانت القوة الوحيدة القادرة على الوقوف في وجههم. وفي المغرب، حيث كانت الروح العصرية عند فرض الحماية الفرنسية في 1912 لم تمس بعد نسبيًا جهاز المجتمع التقليدي، لعب جامع القرويين في فاس دورًا مماثلًا لدور جامعي الزيتونة والأزهر في استقطاب الشعور العام. فكانت المحاولات المغربية الأولى لإثارة
الشعور الوطني، في أثناء الحرب العالمية الثانية، مستوحاة من رجال الدين (55). وعندما استيقظ الوعي الوطني في الثلاثينيات في صفوف الشباب من أبناء الأسر الكبرى في المدن، لم تظهر هوة بين العناصر العلمانية والعناصر الدينية، ولم تتغلب الفئات العلمانية ودعاة الغرب، كما حدث في بعض البلدان الأخرى. ويعود ذلك إلى أن الاحتلال الفرنسي هنا لم يكن قد مضى عليه وقت طويل، فبقيت اللغة العربية قوية في أوساط العائلات البورجوازية الكبرى. لذلك لم تنشأ طبقتان مثقفتان منفصلتان. بل إن الشعور بالاستياء الذي أثارته محاولة الفرنسيين في 1930 لإنشاء محاكم للبربر خاصة بالأحوال الشخصية وفقًا للعادة لا للشريعة، جعل أولئك الذين كانوا يحرصون على الوحدة المغربية وأولئك الذين أغضبهم التهجم على الشريعة المنزلة يقفون معًا في صف واحد. وعندما أيد السلطان القضية الوطنية، خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، التف حوله شطر كبير من الرأي العام. وهكذا تمكنت الفئات الدينية والعلمانية من العمل معًا في وضع أول مخطط للإصلاح عام 1934 وفي تأسيس حزب الاستقلال عام 1935.
قد يبدو أن الحركة الوطنية في الجزائر قد شذت عن هذا الخط. فهي، إذ أصبحت قوة سياسية فعالة، وأعلنت الثورة في 1954، وألفت جيشًا وحكومة في المنفى، إنما تزعمها رجال معظمهم شبان تثقفوا في الجيش الفرنسي أو في المدارس المهنية، واستعملوا في تثقيفهم وعملهم السياسي اللغة الفرنسية، واستمدوا من فرنسا نظرتهم إلى الخطط السياسية وتنظيم الحكم، ومن الراديكاليين الأوروبيين أفكارهم في التنظيم الاجتماعي والاقتصادي. وكان من الواضح أنهم كانوا يأملون، بعد إحراز النصر، أن يعملوا جذريًا على إعادة بناء المجتمع الجزائري ويجعلوا من الجزائر الدولة الأكثر عصرية بين الدول العربية. لكن لا يخفى أن من مهام الثورات الوطنية هو أن تخلق أمة، أي أن تجمع في بوتقة واحدة العناصر المختلفة، لا
بل المتضاربة (56). وبالواقع، لم يكن عنصر الرابطة الدينية العنصر الأقل شأنًا بين العناصر التي احتضنتها «جبهة التحرير الوطنية» . فقد قاد الحركة الأولى لمقاومة الغزو الفرنسي في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن التاسع عشر الأمير عبد القادر، الذي كان الدين أساس سلطته، والذي عرف كيف يكتسب التأييد بمزيج إسلامي بحت من التقوى والمهارة السياسية. ثم قام بالحركة الثانية في 1871 رجال ينتمون إلى أسر ذات تراث من العلم والسلطة. وعندما نشأت طبقة جديدة من المثقفين في العقود الأولى من القرن الحالي، لم يسلك كل أعضائها طريق الوطنية الصرف الذي سلكه الشباب التونسي، بل بالعكس، كان الكثيرون من «المتطورين» ، حتى أولئك الذين انتقدوا السياسة الفرنسية بعنف، مستعدين لقبول اندماجهم بفرنسا لقاء إزالة المساوئ العملية التي كانوا يعانونها ومنحهم حقوقًا متساوية، شرط أن لا يفقدوا، كمسلمين، استقلالهم في أحوالهم الشخصية (57). وعندما أخذت المقاومة للفكرة القائلة بـ «جزائر فرنسية» تظهر من جديد، كان أول ما ظهرت في أوساط حركتين كان تفكيرهما إسلاميًا أو تفكيرًا يتضمن عنصرًا إسلاميًا. الأولى رابطة العلماء الجزائريين التي تأسست في 1931، والتي استمدت وحيها من بن بادس، سليل إحدى الأسر في قسطنطينية، تلك التي حافظت وحدها تقريبًا على مكانتها منذ القرون الوسطى. كان هدف هذه الرابطة الأول نشر معرفة الإسلام الحقيقي وتوسيع نطاق التربية الإسلامية بشتى الوسائل، منها إنشاء المدارس. لكن نشاطها اعتورته مضاعفات سياسية. فقد كانت تعتقد أن اليقظة القومية الحقيقية لا تقوم إلا على أساس حياة دينية صحيحة، مما حملها على مقاومة فكرة «الاندماج» . وهي بتشديدها على الوحدة الإسلامية، شددت أيضًا على وحدة الجزائريين الوطنية ونادت بشخصية الجزائر الإسلامية وباستقلالها في المستقبل بمعونة فرنسا (58). أما الحركة الثانية، فهي التي أسسها مصلي حاج بين العمال الجزائريين في باريس.
وقد اتخذت هذه الحركة أشكالًا مختلفة منذ 1926، إلا أنها كانت، منذ نشأتها، شديدة النزعة الوطنية، وذات سياسة اشتراكية راديكالية تتأثر بالشيوعيين بالرغم من مقاومتها لهم؛ كما كانت، بالوقت نفسه، تنادي بجعل اللغة العربية لغة رسمية، وبتقوية الأساس الإسلامي للمجتمع (59).
كان حتى أولئك الوطنيون المثقفون ثقافة فرنسية كاملة يحسون بتراثهم الإسلامي العربي. نعم، كان هذا التراث، منذ القدم، أضعف في الجزائر التي لم تعرف مدنها المراكز الثقافية الكبرى منه في تونس. ثم جاءت حروب الاحتلال الطويلة فقضت عليه تقريبًا. لكن عندما وعى الوطنيون شخصيتهم الجزائرية، شعروا بالحاجة إلى تأكيد جديد على ما يربطهم بالماضي قبل فوات الأوان. فإذا بمصطفى الأشرف يشدد، في بحث له عن الوطنية الجزائرية غني بالأفكار، على روابط هذه الوطنية بالجزائر القديمة السابقة لقدوم الفرنسيين (60). وإذا بفرحات عباس يبدي وعيًا لتراثه واعتزازًا به، حتى قبل أن يستخرج منه مستلزماته السياسية. لقد تم ببطء اهتداؤه إلى الوطنية الجزائرية بمعناها الكامل، وانتقاله تحت ضغط الأحداث، من مؤيد لفكرة إلحاق الجزائر بفرنسا، إلى مؤيد لفكرة الاتحاد بدون اندماج، ثم، في بيان 1943، إلى مطالب بجمهورية ذات حكم ذاتي مشتركة مع فرنسا، وأخيرًا، وبعد خيبة أمل طويلة الأمد، إلى مناصر لجبهة التحرير الوطنية (61). لكننا نراه، حتى في مجموعة أبحاث يعود صدورها إلى 1931، يتغنى بسعادة الجزائر قبل الاحتلال، ويتحدث عن بلد الفلاحين المزدهرين بالرغم من الحكم الفاسد (62)، ويندد بفظائع الفتح الفرنسي، «فظائع تلك السنوات الخمسين التي كانت بالنسبة إلينا السنوات المرعبة، إذ كنا نطارد بلا شفقة كالوحوش البرية» (63)؛ نعم، إنه يعترف بما للوجود الفرنسي من فضل في تزويد الجزائر بإدارة حسنة وتحقيق وحدتها الإقليمية، لكنه يأخذ عليه أنه جرد الجزائريين
من الحقوق، مؤكدًا على أن الاندماج الحقيقي لم يتم، لأنه لا يتم إلا على أساس المساواة. فلو استهدف الفرنسيون حقًا استمرار البناء الذي أقاموه، لاعتبروا الجزائريين مساوين لهم مع احتفاظهم بدينهم الإسلامي. وفي هذا قوله: «أشاء أهل أفريقيا اللاتينية أم أبوا، فنحن مسلمون كما نحن فرنسيون
…
نحن أبناء البلاد ونحن فرنسيون» (64). ولا يخفف من حماسه في الدفاع عن الإسلام كونه قد درسه باللغة الفرنسية. فالإسلام، في نظره، إنما هو دين بسيط يبشر بالفضائل العائلية والديمقراطية النقية، ويدعو إلى استخدام العقل والمساواة الحقيقية. وهو قد جابه، بنجاح، المشكلة التي تجابهها فرنسا اليوم، أي مشكلة منح المساواة للذين ضمهم إليه ودمجهم فيه. وها هو اليوم يعود إلى الانتعاش بعد انحطاط طويل الأمد. ويذكر فرحات عباس، في مجرى بحثه، أسماء ابن سعود ومصطفى كامل ومحمد عبده (65).
ليس من المستغرب أن يذكر محمد عبده، إذ أن الإسلام الذي كان يدعو وطنيو شمال أفريقيا إليه، باستثناء ليبيا التي كانت تسودها ظروف خاصة، إنما هو الإسلام الإصلاحي الذي دعت إليه مدرسة محمد عبده. فأعضاء حزب «تونس الفتاة» وحزب «الدستور» في تونس كانوا على اتصال بحزب الإصلاح في جامع الزيتونة (66). وكان الإسلام الحقيقي الذي يبشر به العلماء الجزائريون هو الإسلام الذي بشر به محمد عبده. أما في المغرب، فقد كانت إحدى الروابط بين الوطنيين وبين السلطان مقاومتهم المشتركة لنوع التصوف الذي انتقده محمد عبده. ويعود ذلك إلى تأثير محمد عبده الشخصي، وهو الذي زار تونس مرتين وتعاون مع عدد من العلماء فيها، فضلًا عن تأثير شكيب أرسلان الذي دعا من جنيف، بعد جيل، إلى مزيج من الإصلاح الإسلامي والقومية العربية استهوى كثيرًا شباب شمال أفريقيا. ثم إن لذلك أسبابًا أخرى، منها أن أتباع الطرق الصوفية كانوا قد لعبوا، طيلة قرون عديدة، دورًا على
درجة خاصة من الأهمية في إسلام شمال أفريقيا. وكانوا مشبوهين في نظر الوطنيين هناك لسببين: الأول هو الظن بأن الفرنسيين يستخدموهم لإبقاء الأهالي في حالة الاستكانة والجهل، والثاني هو أنهم كانوا يدعون إلى التقاعس في شؤون هذا العالم، مما يتنافى مع رغبة الوطنيين في إثارة الهمم واستخدامها للفوز بالاستقلال وإعادة بناء المجتمع.
وقد وضع عدد من كتاب أفريقيا الشمالية، المتأثرين بمحمد عبده، مؤلفات تشرح نظرة في الإسلام شبيهة بنظرته. فدافع الثعالبي عن روح القرآن المتحررة في كتاب وضعه باللغة الفرنسية مع بعض المساعدة (67)؛ كما عكف الطاهر الحداد، في العشرينيات، على دراسة وضع المرأة في الشريعة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، صدرت في كتاب يذكرنا بمؤلفات قاسم أمين (68). وبعد الحرب العالمية الثانية، أثار عدد من الكتاب، مجددًا، قضية ما هو الإسلام الحقيقي وما هو مركزه في المجتمع الحديث. فزعم محجوب بن ميلاد التونسي أن التراث الإسلامي الحقيقي إنما هو تراث المعتزلة والفلاسفة العقلي (69)، كما نقد علال الفاسي، زعيم حزب الاستقلال المغربي، الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي ووضع مخططًا للإصلاح، وذلك في كتاب يكشف عنوانه عن محتواه، دعاه «النقد الذاتي» . ففيه يستهل الفاسي كلامه بتفنيد الاتجاهات الفكرية الخاطئة حول القضايا الدينية والاجتماعية، وبتحديد الاتجاه الصحيح. وهو يشرح، بنوع خاص، ما يجب أن نفهمه بالأمة، فيقول إن الأمة تنشأ عن العلاقة القائمة بين أرض معينة والشعب القاطن فيها؛ وعلى هذا فهناك أمة مغربية (شمالي أفريقية) قائمة بذاتها، كونتها طبيعة الأرض والماضي، ولا يمكن فصل حياتها القومية عن تعاليم الإسلام. وما التفكير في فصل الدين عن المجتمع وفي إقامة الدولة العلمانية إلا من نتاج المسيحية واختبار أوروبا، وهو تفكير لا يمكن أن يظهر في المجتمع الإسلامي، وليس من حاجة لظهوره فيه،
إذ أن الدولة الإسلامية لا ترتكز إلا إلى الدين المفسر تفسيرًا صحيحًا. وتعتبر نظرة الفاسي إلى الإسلام، على وجه العموم، كنظرة محمد عبده إليه. فالإسلام يجل العقل والحرية، ويشجع على التقدم، ويرفض جميع الوسطاء بين الإنسان والله. والإسلام يجب أن يكون قاعدة للتربية القومية الصحيحة وللنظام الشرعي الحديث. ثم إن الواجب أن يكون هناك «قانون مغربي إسلامي» مستمد من الشريعة ومن عادات المغرب في آن واحد، من شأنه أن يزيل التعدد الحالي في الأنظمة الفقهية المختلفة. وليس ما يمنع الإسلام من أن يكون قاعدة للحياة الاقتصادية أيضًا، إذ أن له نظرة خاصة في استخدام الملكية، يكفي تطبيقها حتى تتأمن العدالة ويتحرر الإنسان من «الاستعباد الاقتصادي» (70).
ويطرح مالك بن نبي القضية بطريقة أخرى. وهو مفكر جزائري تثقف ثقافة فرنسية، وكان على شيء من قوة الإبداع. فعزا انحطاط الفكر والمجتمع الإسلاميين إلى انحطاط الإنسان المسلم، مؤكدًا أن الدين، بعد أن يكون في عهد نموه، «مولدًا للفضائل الإنسانية» ، يصبح، في عهد انحطاطه، فرديًا أنانيًا يحول نظر المؤمنين عن المجتمع الإنساني. وبين مالك بن نبي أن العلامة الدالة على انحطاط الإسلام اليوم هي سيطرة أتباع الطرق الصوفية وبروز ذهنية عاجزة عن التفكير ومقعدة خلقيًا. ثم يقول إن مجيء أوروبا قد فسح المجال أمام المسلمين للتغلب على انحطاطهم، وذلك بتحطيمه نظامهم الاجتماعي الجامد، وتحريرهم من الاعتقاد بالقوى الخارقة والأوهام. لكن المدنية الغربية، وهي ذاتها في حالة انحطاط، لم تتمكن من مد المسلمين بالأساس الضروري للفضائل الاجتماعية، هذا الأساس الذي يفتقرون إليه اليوم والذي لن يعثروا به إلا بإعادة بناء عقيدة الإسلام الحقيقية في الإنسان (71).
وقد مال مالك بن نبي إلى الظن أن بوسع الإخوان المسلمين إمداد الإسلام بهذه العقيدة. إلا أن محمود مسعدي يترك هذه القضية
مطروحة في أذهان قرائه، بالرغم من تشديده أيضًا على الحاجة إلى مثل هذه العقيدة في الإنسان. وقد سبق لنا أن التقينا بهذا الكاتب التونسي يدافع عن الحرية الفكرية في مؤتمر الكتاب العرب في القاهرة (72). لقد أثار سخطه الكثير مما سمعه هناك، فكتب فيما بعد سلسلة من المقالات عن الخطر الكامن في نزعة الفكر العربي الحديث. وفيها يلاحظ أن وعي العرب الجماعي قد مر بثلاثة أطوار في العصر الحديث، منتقلًا من فكرة الجامعة الإسلامية إلى فكرة العروبة إلى فكرة القومية الجديدة، وأن هذه الفكرة الأخيرة تختلف عن الفكرتين الأخريين في أنها ترتكز إلى اللغة لا إلى الدين، وأنها على اهتمامها بالعدالة الاجتماعية، ترفض أو تتجاهل العقيدة في الإنسان، تلك الكامنة في مبادئ الإسلام الأساسية، وهي لذلك تنزع إلى «دمج الإنسان بالمجتمع دمجًا متسرعًا وتامًا يجعل من الإنسان في ذهنيته وتصرفه وفكره، وحتى في أخلاقه، مسيرًا بالمجتمع» (73).
في وجه هذه الفكرة يرتفع صوت محمود مسعدي ليعلن عن إيمانه «بعقيدة إنسانية، عربية إسلامية، مؤهلة للبقاء، هي عقيدة الإسلام في الإنسان الجديرة بالاعتبار» ، وليعلن أيضًا عن اقتناعه بأن حرية الإنسان تتعدى حدود كل تسيير اجتماعي واقتصادي.
إنه لمن الصعب الجزم بما يعنيه هذا الموقف. هل هو بدء محاولة جديدة للخوض في خضم قضايا الإسلام الصميمة، أم أنه مجرد تعبير عن الاحترام الذي يكنه مسلم عربي لعقيدة لا تزال عزيزة على قلبه وتذكره بعظمة الماضي، وإن لم تعد قادرة على صياغة قوانين حياته.