المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأولالدولة الإسلامية - الفكر العربي في عصر النهضة

[ألبرت حوراني]

الفصل: ‌الفصل الأولالدولة الإسلامية

‌الفصل الأول

الدولة الإسلامية

العرب أشد شعوب الأرض إحساسًا بلغتهم (1). فهي ليست، في نظرهم، أعظم فنونهم وحسب، بل خيرهم المشترك. ولو سألت معظمهم تعريف ما يعنونه «بالأمة العربية» ، لبادروك إلى القول أنها تشمل جميع الناطقين بالضاد. لكن سرعان ما يذهبون إلى أبعد من ذلك، فيقولون إنها تشمل جميع من يدعون صلة ما بقبائل الجزيرة العربية، إن بالتحدر منها، أو بالانتساب إليها، أو باقتباس مثلها الأعلى، عن طريق اللغة والأدب، في كمال الإنسان ومقاييس الجمال. أما تعريف الأمة العربية تعريفًا كاملًا، فلا بد من الرجوع فيه إلى حقبة تاريخية لعب فيها العرب دورًا قياديًا كان خطيرًا، لا لهم فحسب، بل للعالم أجمع، بحيث حق لهم الادعاء بأنهم كانوا، في تاريخ البشر، شيئًا يذكر.

تبدأ تلك الحقبة حين دعا محمد، وهو من آل قريش، إلى رسالة آمن بأن الله عهد بها إليه بواسطة الملاك جبرائيل. كانت هذه الرسالة، في نظر أتباعه، من الخطورة بحيث أنها غيرت وجه التاريخ. دعا محمد الناس إلى التوبة قبل فوات الأوان، وإلى السعي وراء ما يرضي الله، كما أنه حدد العقائد والأفعال التي يأمر بها الله. وقد علم أن على الناس أن يؤمنوا بأن الله أحد، وبأنه أعلن إرادته بواسطة الأنبياء، وبأن محمدًا خاتمتهم، وبأن الرسالة المنزلة عليه، وهي القرآن، إنما هي كلام الله المنصوص المعبر عن مشيئته من أجل البشر، وبأن على البشر أن يعملوا بالأوامر الواردة فيه، وبأن

ص: 11

العالم سينتهي بيوم حساب تقوم فيه أعمالهم وعليها يحاسبون.

بدا جليًا لأتباع النبي أن لا بد للوحي الذي كان هو أداة تبليغه أن يكون الأتم لأنه الأخير، وأن لا بد للقرآن من أن يشتمل، هو وتعاليم النبي وسيرته، تصريحًا أو تضمينًا، على كل ما كان ضروريًا للحياة الصالحة. وعلى مرور الزمن، أثبت نص القرآن، وجمعت الأحاديث عما فعله النبي وعما تفوه به (سنة الرسول)، ثم محصت على يد علماء انصرفوا بكليتهم إلى التمييز بين الصحيح منها والمنحول. وعلى مرور الزمن أيضًا، نشأ عن القرآن والحديث نظام شامل للخلقية المثلى، كان بمثابة تصنيف خلقي للأفعال البشرية يوضح السبيل (الشريعة) الذي في إتباعه إرضاء لله وأمل في بلوغ الجنة. لم يكن ذلك عسيرًا في الأفعال التي نزل فيها نص من القرآن صريح أو ورد بها حديث مقبول. أما في غير ذلك، فكان لا بد لذوي العقول والخبرة اللازمة من استنطاق النصوص عنه، وفقًا لقواعد القياس الدقيق، أو لقواعد طريقة أخرى من طرق التعليل (الاجتهاد). وهكذا غدا نتاج هذه العملية مقبولًا على العموم لدى جمهور العلماء (الإجماع)، واكتسبت الأحكام أو الشرائع المجمع عليها سلطة لا تقل إلزامًا عن القرآن والحديث. إلا أن الآراء بقيت متباينة في كيفية إثبات وقوع الإجماع، وفي الأمور التي يضفي عليها الإجماع طابع الشرعية، كما بقيت الآراء متباينة أيضًا، خارج نطاق الإجماع، في طرق استخدام العقل البشري، وفي النتائج التي يفضي إليها استخدامه. وقد انتظمت، مع الزمن، هذه الخلافات في مذاهب اعتبرت جميعها متساوية في الشرعية، يحق للمؤمن إتباع أي منها.

أحدث نظام الخلقية المثلى هذا، على مختلف أشكاله، مجتمعًا جديدًا، كما خلق أيضًا إنسانا جديدًا. إذ كان لكل فعل جوهري من أفعال العبادة طابعه الاجتماعي. فكان المسلمون يصلون معًا في الجامع يوم الجمعة؛ وكان لصيامهم السنوي، في شهر رمضان،

ص: 12

طابع خاص يجعل منه ليس فعلًا فرديًا للترويض الذاتي فحسب، بل احتفالًا جماعيًا كبيرًا، وكانوا يؤدون معًا، في بياض ألبسة التوبة، فريضة الحج إلى مكة في أوقاتها؛ ويودعون الصدقات المفروضة بيت المال المشترك. وكانت الشريعة لا تقتصر على علاقة الإنسان بالله (العبادات)، بل تعنى أيضًا بالعلاقات بين الناس (المعاملات)، جاعلة منها أفعالًا ذات معنى ديني، يؤمر بها وينهي عنها. فالامتناع عن إيفاء الرسوم الشرعية ونفي وجوب أدائها هو جحود لا يقل عن إنكار وجود الله أو الطعن في صدق الرسالة النبوية (2). ولم يقم الدين الإسلامي جهازًا من الحقوق والواجبات فحسب، بل خلق أيضًا تضامنًا خلقيًا لدعمه. لقد آمن المسلم بأن عليه أن يعنى بضميره وضمير جاره معًا، كما أن عليه أيضًا أن لا يكتفي بعمل الصالحات، بل أن يحث غيره عليها ويساعده فيها.

لا يخفى أن العرب كانوا أول من دعا إلى الإسلام، وأن بعضهم على الأقل كان يعتبره دينًا عربيًا صرفًا. إلا أن هذا الحديث:«ما من نبي إلا أرسل لقومه، وأنا أرسلت للناس جميعًا» ، صحيحًا كان أم منحولًا، إنما يعبر عن النظرة التي توصل المسلمون، مع الزمن، إلى تكوينها حول دينهم. فقد أرسل الأنبياء السابقون، في بادئ الأمر، كل إلى أمة معينة لإنذارها وهدايتها. فكانت تتقبل الرسالة ثم تتنكر لها، أو تسيء فهمها، لا بل تعبث بنصوصها. لذلك نشأت الحاجة إلى تكرار الوحي. أما الوحي الأخير، الوحي النازل على محمد، فإنه يتميز عما قبله من وجهين: فهو رسالة إلى العالم أجمع، كما أنه يحمل في طياته ضمانة صدق تلك الرسالة وأمانة نقلها. والحديث:«لن تجمع أمتي على خطأ» ، يعبر أيضًا، مهما يكن من أمر ثبوته، عما استقر عليه رأي المسلمين. فالوحي المحمدي يعتبر نفسه حقيقة أزلية جاءت لتحل محل كل وحي سابق. لذلك كانت الأمة الإسلامية، إمكانيًا، أمة عالمية. وبما أنها عالمية،

ص: 13

فهي متحدة أيضًا وأعضاؤها متساوون. فالمسلمون كلهم، أيًا كانت ثقافتهم أو عرقهم، إنما ينتمون إلى الأمة بالتساوي، لهم حقوق واحدة وعليهم مسؤوليات واحدة. وقد جمعت هذه الوحدة المعنوية حتى بين من تباينت مذاهبهم في حقيقة الإسلام وقضايا النهج والعقيدة، منذ أن ظهرت فرقة الخوارج احتجاجًا على الميل إلى تضحية المبادئ في سبيل الغايات؛ كما كان قد برز الانقسام الكبير بين السنة والشيعة، الذي نشأ أصلًا عن نزاع سياسي حول خلافة الرسول، ثم امتد تدريجًا إلى ظلال من الفوارق في العقيدة والشرع والعرف؛ وعن الشيعة نفسها كان قد انبثق عدد من الفرق، كالإسماعيلية والنصيرية والدروز، غالت في بعض العقائد الشيعية وأدخلت عليها عقائد أخرى مستمدة من مصادر غريبة. نعم، كان المتزمتون من المسلمين السنيين يميلون إلى إخراج هذه الفرق من حظيرة التساهل، لما كانوا يرونه في تعاليمها من تهديد لتعاليم الإسلام الجوهرية؛ إلا أنه كان هناك شعور مشترك، لدى السنة والشيعة وتفرعات كل منهما، بالانتماء معًا إلى الجماعة الواحدة، شعور قائم على اعتقاد راسخ لدى المسلمين بأن وحدة العيش معًا إنما هي أهم من الدفع بالخلافات العقائدية إلى نتائجها المنطقية. وكان هذا يصح أيضًا على جماعات النصارى واليهود الذين استمروا على العيش تحت الحكم الإسلامي، في مصر وسوريا والعراق وغيرها من الأقطار. نعم، لم يعتبروا جزءًا من الأمة الإسلامية، إلا أنه كان معترفًا لهم، وهم «أهل الكتاب» ، بأنهم أصحاب وحي حقيقي، يؤمنون بالله وبالأنبياء وباليوم الآخر، وإنهم بالتالي ينتمون أيضًا إلى الأسرة الروحية الواحدة التي ينتمي إليها المسلمون. وعلى هذا كانوا، وهم «أهل الذمة» ، يتمتعون بالحياة وبالتملك وبممارسة دينهم وبالمحافظة على شرائعهم وعاداتهم، مقابل الولاء وإيفاء الجزية.

حددت الشريعة للناس ماهية العمل الصالح، كما فرضت عقوبات دنيوية معينة على العمل القبيح. فكانت الشريعة، بذلك،

ص: 14

نظامًا للشرائع ونظامًا للخلقية على حد سواء. لكنه كان لا بد، لحراسة الشريعة، وفرض العقوبات، والسهر على تنفيذ جميع الواجبات المأمور بها من الله، والدفاع عن الأمة ضد أعدائها، وتوسيع حدود الإيمان بالجهاد، أن يكون على رأس الأمة قائد ذو سلطة، أو بتعبير آخر أن يكون هناك سلطة سياسية. لذلك كان من المتعذر على المجتمع الإسلامي أن يكون تامًا، ما لم يكن دولة. وهكذا غدا العمل السياسي نوعًا من التعبد لله. «فالواجب اتخاذ الإمارة دينًا وقربة يتقرب بها إلى الله» (3).

وعلى هذا أصبحت مهمة تأسيس المجتمع وقيادته، في نظر معظم المسلمين، جزءًا من وظيفة النبي الجوهرية وخلفائه الشرعيين. إلا أنهم لم يجمعوا على خلافة الرسول. فذهبت الشيعة إلى أن سلطة محمد قد انتقلت، في بادئ الأمر، إلى صهره علي، ثم إلى سلسلة المتحدرين منه الذين اختفى أخيرهم، (وإن اختلف في أيهم كان هذا الأخير: الخامس أم السابع أم الثاني عشر)، ناسبة إلى أعضاء هذه السلسلة، وهم الأئمة، لا السلطة السياسية فحسب، بل العصمة في تأويل القرآن.

أما أهل السنة، فإنهم قالوا بانتقال سلطة محمد إلى الخلفاء من بعده، أي إلى أولئك القادة الذين بايعتهم الجماعة، فخلفوا النبي، لكن في جزء فقط من وظائفه وصلاحياته. إذ أن السيادة الحقيقية في الأمة إنما هي لله، بمعنى أن الله ليس هو مصدر كل سلطة فحسب، بل الممارس لتلك السلطة. فالحكام، كسائر الناس، ما هم بفاعلين مستقلين، إنما هم وسائل الله في عمله. وأن يكون الحاكم، كسائر المسلمين، صالحًا أو طالحًا، هو أن يخضع لمقاصد الله أو أن يخرج عليها. لذلك كانت الشريعة، أي التعبير عن الإرادة الإلهية، العنصر الأساسي في المجتمع، وكان شطر كبير من العمل السياسي، أي التشريع، خارجًا، من حيث المبدأ، عن صلاحية الحاكم. ولم يكن للخلفاء، نظريًا، لا قدرة الله على سن

ص: 15

الشرائع، ولا وظيفة النبي في إعلانها؛ وإنما كل ما في الأمر أن الصلاحيات القضائية والتنفيذية قد انتقلت منه إليهم. فكان على الخليفة، في الاعتقاد السائد، أن يقود الجماعة في السلم والحرب، ويستوفي الأموال الشرعية، ويشرف على تطبيق الشرائع؛ وهو، فضلًا عن ذلك، إمام الصلاة، وعليه أن يكون متضلعًا في علم الشريعة ومؤهلًا لممارسة سلطة الاجتهاد. فهو، بهذا المعنى المحصور فقط، خليفة للرسول. إلا أنه، حتى في هذا المعنى، لا غنى للجماعة عنه، كحاكم بحق إلهي يتولى، مبدئيًا، أمور الجماعة بكاملها. ذلك أن معظم الفقهاء، إن لم يكن كلهم، قالوا بأن وحدة الأمة تستلزم وحدة السلطة السياسية. «إن من مات على جهل خليفة زمانه كمن مات في عصر الجاهلية» .

كان الرأي المجمع عليه لدى أهل السنة أن لحاكم الأمة وحده، من دون الله، مسؤولية الحكم. فهو ليس مسؤولًا، في آخر الأمر، إلا أمام الله وأمام ضميره. أما طريقة تسلم الحكم، فكانت تتم، في عصر الإسلام الأول، بالشورى، أي باختيار، أعيان الجماعة. وقد بقيت فكرة الاختيار هذه حية مع الزمن، ترمز إليها دومًا مراسم البيعة، التي كان فيها يتم الاعتراف الرسمي بالخليفة الجديد، وبها يتم له ولاء أعيان الأمة. إلا أن البيعة تحولت، بعد انصرام العصر الأول، إلى مظهر شكلي فقدت فيه حتى نظريًا معنى الاختيار وغدت، بالأحرى، مناسبة للاعتراف بالخليفة لا لاختياره. إذ لم تكن الجماعة، في رأي معظم المفكرين، لتمنح السلطة بالبيعة، بل لتقبل بها. وهذا ما استلزم أن تكون طاعة الحاكم واجب الجماعة الأول نحوه. إلا أن هذه الطاعة ليست عمياء وبلا قيد. بل كان على الحاكم، في الرأي السائد، أن يستشير أعيان الجماعة (الشورى)، وكان عليهم أن يسدوا إليه المشورة. على أنه لم يكن واضحًا بالضبط ممن كان على الحاكم أن يلتمس المشورة والنصح، كما لم يكن واضحًا أيضًا مقدار التزامه بالأخذ بهما. كان أئمة العصور الباكرة

ص: 16

يقولون إن واجب الطاعة يبقى قائمًا ما دام الحاكم لا يأمر بما يخالف الشريعة. لكننا سنرى أن التفكير قد مال، في العصور المتأخرة، إلى تحويل الطاعة إلى واجب مطلق، لا بل إلى اعتبار الحاكم الظالم خيرًا من انعدامه أصلًا. ولم يبق بين المتأخرين سوى أقلية تجيز الثورة. بيد أن الأكثرية نفسها، التي رأت أن تكون للطاعة عامة، لم تذهب إلى حد الإصرار بأن تكون بلا تحفظ. فقال الغزالي (1058 - 1111)، بعد شرح واجب الطاعة للحاكم الظالم، بأن على المطيع أن لا يؤيد الظلم بطاعته. فالمسلم الورع، في نظره، هو من يبتعد عن بلاط الحاكم الظالم، ويتجنب عشرته، ويصده، إما بالكلام إذا استطاعه بأمان، وإما بالصمت إذا خشي أن يشجع الكلام على الفتنة (4).

لقد انطوت النظرة الإسلامية إلى المجتمع الحق على سلسلة من المفارقات المترابطة. أولها وأشدها عمقًا أن المسلمين جاؤوا، حين كان العالم يعبد الأوثان أو يشرك في عبادة الله (الشرك)، يعلنون أن لا إله إلا الله وأنهم لا يعبدون سواه (التوحيد)؛ وثانيها، وهذا مرتبط بالأول، يتعلق بتنظيم المجتمع: فبينما كان المجتمع الجاهل للإسلام خاضعًا لحكم العادة التي تعارف عليها الناس لأغراضهم الخاصة وعن جهل لوصايا الله (الجاهلية تعني جهل حقائق الدين)، جاء المجتمع الإسلامي يخضع لحكم الشريعة، كما خضعت لها أيضًا المجتمعات التي أسسها الأنبياء الأقدمون بمقدار ما بقيت كتبهم سالمة من التحريف؛ وثالثها أنه، بينما كانت الصلة بين البشر في مجتمعات ما قبل الإسلام من نوع الروابط الطبيعية القائمة على العرق او الشبيهة بما يقوم على العرق، كتضامن القبيلة أو العشيرة (العصبية)، كان ما يجمع بين المسلمين في الأمة صلة روحية هي الطاعة المشتركة للشريعة، والقبول بالحقوق والواجبات المتبادلة المعينة فيها، والتعاضد والتناصح في تنفيذها. ورابعها أنه، بينما كانت السلطة السياسية في مجتمعات ما قبل الإسلام تستند

ص: 17

إلى اعتبارات بشرية تهيمن عليها مشاعر بشرية أو مجرد حسابات بشرية للغايات والوسائل وتنصرف إلى أهداف أرضية (الملك)، جاءت السلطة في الأمة الإسلامية ولاية من الله، تخضع لإرادته، وتستهدف سعادة المسلمين في الحياة الآخرة أكثر مما تستهدف سعادتهم في الحياة الدنيا.

يرى المسلم السني أن التاريخ حركة صراع حل بفعلها المجتمع الإسلامي الأمثل محل مجتمع الجهل الديني الساعي وراء الأهداف الدنيوية، والمتحد بالتضامن الطبيعي، والخاضع لحكم الملوك. وعنده أن هذا الصراع قد استمر، بمعنى من المعاني، طوال التاريخ، في كل زمان وكل مكان أرسل الله فيهما أنبياءه إلى أمم معينة، وأنه لا يزال، بمعنى من المعاني أيضًا، مستمرًا حيثما تجابه الأمة الإسلامية العالم الذي لم يهتد بعد. إلا أن المسلم السني ينسب إلى حقبة معينة من التاريخ أهمية خاصة، هي تلك الحقبة التي تم خلالها تجسيد الوحي الأخير في مؤسسات المجتمع. خلال تلك الحقبة وفيما بعدها، تراءى للمسلم الورع أن معنى خاصًا يكمن في تاريخ الإسلام الأول، يوم كانت الجماعة على توسع وازدهار، وكان القرآن وأقوال النبي بمثابة مبادئ للعمل، وكانت الأمة واحدة، لا بالروح فحسب، بل بمظهرها الخارجي أيضًا. وبدت قرون الإسلام الأولى لمخيلة المسلم الخلقية كأنها دراما مثيرة مؤلفة من ثلاثة فصول: عصر النبي وخلفائه الأولين، وهو عصر الأمة الذهبي الذي كانت فيه على ما ينبغي أن تكون؛ والعصر الأموي، الذي طغت فيه على مبادئ الدولة الإسلامية نزعة الطبع البشري إلى الحكم الملكي المدني؛ وأخيرًا، العصر العباسي الأول، الذي عادت فيه مبادئ الأمة فتأكدت من جديد، وتجسدت في مؤسسات إمبراطورية عالمية تسودها الشريعة، وتقوم على المساواة بين جميع المؤمنين، وترتع في بحبوحة القوة والثروة والثقافة التي إنما هي ثواب الطاعة. وقد غدت هذه الحقبة التاريخية، خلال العصور المتأخرة، مثالًا

ص: 18

للحكام والمحكومين جميعًا، وأمثولة لما أنعم الله به على قومه، كما أصبحت درسًا في شرور التفرقة وعصيان مشيئة الله. لقد كانت، بالحقيقة، مادة للتفكير في القضايا الخلقية التي تعانيها الأمة في حياتها المشتركة: فالصراع على الخلافة بين علي ومعاوية، ثم بين الأمويين والعباسيين، ومصرع الحسن والحسين، وتقتيل الأمويين، وانسحاب الخوارج من صفوف الجماعة وقد اعتبروها متورطة في الخطيئة بلا أمل الرجعة عنها، وحركة الانقسام بين السنة والشيعة، كل هذه الأحداث إنما تعيش حية في الوجدان الإسلامي، فتجعله يعي الصعوبات التي تعترض تجسيد المشيئة الإلهية في حياة المجتمع، كما تحمله على الاعتقاد بأن ما له من معنى في التاريخ قد بلغ نهايته بتجسد رسالة محمد في جماعة عالمية تصدع للأمر الإلهي، وأنه لم يعد بوسع التاريخ من بعد أن يلقي على البشر دروسًا جديدة، وأنه إذا حدث التغير فلن يفضي إلا إلى الأسوأ، وأنه لا يمكن إصلاح الأسوأ بإيجاد شيء جديد، بل ببعث ما وجد من قبل. إن هذه النظرة إلى الماضي تنطوي في جوهرها على فكرة الانحدار: فقد قال الرسول في حديث مشهور: «خير القرون القرن الذي أنتم فيه ثم الذي يليه، ثم الذي يليه» . غير أن ما كان يعزي قلوب العامة إيمانها بظهور مصلح أو مجدد في كل قرن، وترقبها لمجيء المهدي المرسل من الله لاستئناف حكم الأولياء وتمهيد السبيل لمجيء عيسى ونهاية العالم.

التاريخ هو ما يحتاج الناس إلى تذكره من أحداث الماضي. والتحسس بالتاريخ لا يثير الرغبة في إعادة بناء الماضي بكامله إلا في أوقات نادرة ولدى جماعات صغيرة. لقد نظر المسلمون إلى عصر الإسلام الأول العظيم كأنه صورة لما ينبغي للعالم أن يكون عليه. وإذا طرحنا أسئلة مختلفة عن الماضي، أمكننا أن نرى ما كان منها. بمعنى من المعاني، غير وارد في نظرهم: واقع التطور التاريخي. فعلى ضوء هذا الواقع تخف حدة التباين. نعم، لا يزال بإمكان

ص: 19

المسلم أن يصر على القول بأن مبادئ الإسلام قد تجسدت في الجماعة على عهد الخلافة؛ غير أنه بوسعنا أن نرى عن كثب حركة التطور التي تم بها ذلك. ففي صميم حركة التطور هذه نجد التقليد الحي لأهل السنة والجماعة، تلك الفئة التي، بدون تنظيم وترتيب، ولت نفسها بنفسها واعترفت لنفسها بهذه الولاية، والتي كان قوامها أولئك المسلمين الغيارى، المؤمنين بالوحي المحمدي، الحريصين على صيانته من التحوير والتغيير وسط تقلبات الزمن، المستهدين به في القضايا الناشئة عن هذه التقلبات، المدافعين عنه، المستخرجين منه ما تضمنه من مستلزمات استخراجًا لا يرفض ما كان جديدًا، بل بالأحرى يميز بين ما يمكن أو لا يمكن للإسلام أن يتقبله. فهؤلاء هم الذين بنوا نظام المعتقدات السنية، ردًا على سلسلة من التحديات الصادرة عن الفلسفة الإغريقية، وعن الطريقة الصوفية ومذهبها الكلامي، وعن الشيعة وتفرعاتها. فمن الفلسفة الإغريقية اقتبسوا فن المنطق وبعض مفاهيم اللاهوت الطبيعي، بينما قاوموا نزوعها إلى تحويل الإله الحي، إله التوراة والقرآن، إلى مبدأ مجرد أو مقتضى فكري؛ وعن التصوف أخذوا حرصه على التعبد الداخلي وعلى إخلاص النية مع صحة الفعل، بينما نظروا بحذر إلى مذهبه في وحدة الوجود الذي يحجب التمييز بين الله ومخلوقاته، وقبحوا كل فكرة توحي بأن معرفة الله بالاختبار المباشر هي أهم من التقيد بشرائعه؛ ومن الشيعة استمدوا شعور الإجلال لأهل البيت بينما أدانوا الآراء العرفانية الكامنة بين طيات تعاليم غلاة الشيعة، وبنوع خاص نزوعها إلى إحلال فكرة الفيض الإلهي محل فكرة النبي الإنسان.

وقد جرت عملية تطور مماثلة على صعيد آخر. فقد أخذت العادات والتقاليد الخاصة بالمجتمع الإسلامي الأول، والتي كان الكثير منها متوارثًا عن عوالم ما قبل الإسلام البيزنطية والفارسية والعربية والجاهلية، تنساب تدريجًا إلى جسم الشرع الإسلامي. أو

ص: 20

قد يكون من الأصح القول بأن الشرع الإسلامي إنما نشأ عن امتزاج تلك العادات والتقاليد بالمبادئ والأحكام المستمدة من القرآن والحديث الصحيح. وقد اقتضت هذه العملية، ولا شك، بعض التعديل في الشرع والتقليد، كان من شأنه أن يحدث تقاليد جديدة تضفي بعض الجلال الإسلامي على ما لم يكن إسلاميًا في الأصل. غير أن الاتجاه المعاكس فعل فعله أيضًا، فجرت عملية انتقاء من بين العادات والتقاليد، فرفض البعض، وقبل البعض الآخر، وعدل حتى في البعض المقبول، على ضوء تعاليم الإسلام. بهذا التطور البطيء، الذي لم يكتمل قط، والذي لا يمكن بالفعل أن يكتمل أبدًا، تشبعت بمثل الإسلام الخلقية العليا تلك الأنظمة الاجتماعية التي كانت سائدة في البلدان العديدة المهتدية إليه، ونشأ مجتمع إسلامي عميق الوحدة.

لا ندري هل كان بوسع هذا التطور أن يحصل لو لم يكن للجماعة، في المرحلة الأولى من تكوينها، بناء سياسي وإداري موحد. لكننا نعلم أن المجتمع والشرع الإسلاميان الصرف لم يترعرعا إلا في عهد الخلفاء وبفضل سلطتهم. فليس مستغربًا، إذن، أن نعتبر الخلافة، يومئذ وإلى فترة طويلة، شرطًا ضروريًا للمحافظة على الشرع والمجتمع. ولم يكن من الضروري الدفاع عن وجوبها يوم كانت قائمة ومزدهرة. لكن، ابتداءً من القرن التاسع، أخذت وحدة الإسلام السياسية تتفكك، أو على الأقل، تتغير في شكلها. فأخذ جنود المرتزقة من الأتراك، الذين انتهى الأمر بالخلفاء العباسيين إلى الاعتماد عليهم، يمارسون سلطة كانت تتزايد يومًا عن يوم في العاصمة، فيولون الخلفاء ويخلعونهم ويتدخلون في السياسة والحكم. وأخذت تظهر في الأقاليم أسر حاكمة جديدة، بقيت تعترف مبدئيًا بسيادة الخليفة وتحكم باسمه، إلا أنها كانت عمليًا مستقلة في حكم دويلات محدودة المساحة. وتحدت الشيعة، التي عادت منتعشة في صيغتها الإسماعيلية، حق الخليفة في الحكم ونوع النظام الإسلامي

ص: 21

الذي كان يدافع عنه. ففي هذه الظروف اضطر المسلمون القائلون بوجوب سلطة الخليفة أن يشرحوا، بصراحة والمرة الأولى، حقيقة الخلافة ودواعي وجودها. وكان أشهر هذه الشروح شرح الماوردي (991 - 1031) في كتابه «الأحكام السلطانية» . ففيه يعرف الماوردي الخلافة بأنها ضرورة مستمدة بالأحرى من الشرع لا من العقل. فالقرآن يفرض على الناس طاعة أولي الأمر منهم (5)، وهذا يستلزم وجود من يخلف النبي في حراسة الدين وسياسة الدنيا، مما يجعل مهام الخليفة دينية وسياسية على حد سواء: فهو يعني بالحفاظ على الدين الحنيف، وبتنفيذ الأحكام الشرعية، وبحماية تخوم الإسلام، وبجهاد من يرفضون الإسلام بعد الدعوة، وباستيفاء الأموال الشرعية. وعلى العموم، فالخليفة معني بالإشراف على تدبير الأمور بنفسه، دون الإفراط في تفويض السلطة لغيره. وكان من واجبه أن يتحلى بصفات معينة، جسدية وعقلية وروحية، وأن يتوافر فيه أيضًا شرط خارجي: الانتساب إلى قبيلة النبي، قريش. وكان عليه أن يتسلم الخلافة من غيره، إما باختيار من أعيان الجماعة، «أهل الحل والعقد» ، وإما بعهد من الخليفة السابق. وكان على الناس، بعد توليه، أن يقوموا بواجب الطاعة له، ولا يسقط عنهم هذا الواجب إلا إذا كان الخليفة فاسقًا، أو دان بآراء منحرفة، أو كان على عاهات جسدية تحول بينه وبين قيامه بواجباته (6).

ما أن أعرب عن هذه العقيدة في السلطة حتى جاءت حركة التاريخ تتخطاها. ذلك أن انقسام السلطة بين الخليفة العباسي والأمير التركي كان قد أصبح أمرًا نهائيًا لا مرد له، كما لم يكن من مرد لانتقال الحكم من بغداد إلى عواصم أخرى. فبعد تدمير بغداد على يد المغول في منتصف القرن الثالث عشر، استمر الخليفة عائشًا، لكن كالظل، في بلاط سلاطين المماليك في مصر، وكان عدد قليل فقط من الفقهاء على استعداد للاعتراف بما يدعيه من

ص: 22

حقوق وهو في هذا الوضع. وقد أدى انتقال السلطة هذا إلى تغيير في المؤسسات السياسية. فالدول الجديدة التي نشأت، والتي كانت سلطنة المماليك في مصر أعلى نموذج لها، قد اختلفت في تركيبها عن الخلافة. فالحكم فيها كان في قبضة زمرة عسكرية، من أواسط آسيا أو من أصل تركي أو كردي أو قوقازي، قوامها السلطان ومواليه ومحاسيبهم، استولت على الحكم استيلاءً، فكان همها الأول الاحتفاظ به، فتفردت بمهمة الإشراف على الجيش وكافة الموظفين. وكانت الرابطة بين أفراد الفئة الحاكمة هي رابطة المصلحة المشتركة وتضامن اللغة الطبيعي وإن دون صلة الرحم. أما في تدبير مصالح الدولة، فكانت الشرائع كناية عن أوامر صادرة عن السلطان، يسهر على تنفيذها بنفسه أو بواسطة حكامه، ويستمدها من اعتبارات مصلحة الدولة. وهكذا كانت الدولة في جوهرها ملكًا. إلا أن ما كان يخفف من طابع هذا الملك الدنيوي ويضفي عليه مسحة خلقية إجلاله للإسلام والخليفة والعلماء. نعم، لم يكن الخليفة- الظل، بالواقع، سوى موظف في بلاط السلطان، لا حول له ولا قوة، إلا أنه كان ضمانة للعقيدة السنية في وجه خطر الشيعة المتربص في أشكالها المتعددة، كما كان قاعدة معنوية لشوكة السلطان. فالسلطان، وقد تولى الحكم بالاستيلاء، إنما كان ينصبه الخليفة رسميًا، ثم يعترف أعيان الشعب به في حفلة البيعة. أما العلماء وما يمثلونه، فكانوا يعاملون أيضًا باحترام على أنهم حراس الآداب والشرائع الإسلامية، واللغة والثقافة العربيتين المقترنتين بها. وكان السلطان يحمي ويكرم الشرائع التي كانوا يدرسونها ويفسرونها، والقضاة الذين كانوا يطبقونها، وإن كان هو الذي يحدد، استنادًا إلى الحق الممنوح للحاكم بموجب تلك الشرائع نفسها، القضايا التي يحق للقضاة الفصل فيها. وكان أيضًا يرعى المدارس التي كانت تلقن الشرائع الإسلامية واللغة العربية، وينتقي موظفي الدولة الدائمين من بين طلاب هذه المدارس، مقويًا بذلك

ص: 23

طابع الحكم العربي. ولم يكن العلماء قضاة وأساتذة وموظفين فحسب، بل كانوا مستشارين أيضًا، يعهد إليهم بالمفاوضات الأجنبية، كما كان لهم ضلع في سياسات القصر وثوراته. ومع أنهم كانوا على العموم طيعين للأمراء، يتجنبون الاشتراك في الثورات ضد حكمهم، فقد كانوا، بمعنى ما، زعماء الاتجاه الشعبي في مصر وسوريا، المعادي للطبقة العسكرية التركية أو القوقازية (7).

أثارت هذه التقلبات مجددًا مسألة السلطة بكاملها. فما صح على الخلافة من أنها كانت واحدة، مبدئيًا على الأقل، وعالمية، قائمة على مساواة رسمية في الحقوق والواجبات بين جميع المؤمنين، ومن أن صاحبها كان، بادعائه الشخصي وباعتراف الجميع، خليفة للنبي في وظيفته السياسية يمارسها وفقًا للشريعة، لم يعد يصح على السلاطين الذين استولوا على سلطته فيما بعد. فقد كان حكمهم محصورًا في بقعة محدودة. ومع أن حدودها كانت قائمة بمقتضى الواقع فقط -إذ لم يكن هناك حدود تفصل حقوقيًا بين دولة إسلامية وأخرى- ومع أن المماليك كانوا، باحتفاظهم بالخليفة في بلاطهم، يبررون مسبقًا ما قد يقومون به من فتوحات، فإنه لم يكن بوسعهم، ولا بوسع سواهم من حكام ذلك الزمان، الادعاء بأنهم كانوا يحكمون الأمة جمعاء. ثم إن السلطة السياسية كانت في حوزة فريق عرقي واحد، يعتمد في بقائه في الحكم على تعاون أبناء عرقه. نعم، كان السلطان لا يتولى السلطة رسميًا ما لم ينصبه الخليفة، إلا أنه لم يكن خافيًا على أحد أن توليه الفعلي كان بالاستيلاء أو بالوراثة، لا بالطريقة الشرعية المعتبرة لدى الفقهاء، وهي الاختيار من قبل أهل الشورى أو من قبل الخليفة السابق. وكانت الشريعة وقضاتها يتمتعون كذلك بالاحترام، إلا أنه كان يقوم إلى جانب الشريعة الأحكام والمراسيم الصادرة عن السلطان، يطبقها هو بنفسه أو بواسطة موظفيه وهم بحضرته في الديوان، مما كان من شأنه أن يجعل من الشريعة مبدأ سلبيًا لا غير، أي أمرًا على الحاكم أن لا يخالفه، لا أمرًا يوجه سلوكه. أما هدف السلطان

ص: 24

الإيجابي، فكان استمرار سلطته وتدعيمها وممارستها، على ضوء العدل الطبيعي أو مصلحة الدولة، لتنظيم طبقات المجتمع المختلفة. هذه هي النظرة التي جاء يعبر عنها ويشرحها نوع جديد من المؤلفات السياسية المخصصة لإرشاد الحكام إرشادًا عمليًا. وكانت أخطار من الخارج تتحدى الشريعة في الوقت نفسه. فمنذ القرن العاشر حدثت هجرات عديدة لقبائل عربية إلى الصحراء السورية، وعبر سيناء إلى وادي النيل وشواطئ أفريقيا الشمالية، حملت معها إلى قلب العالم المتحضر عصبية القبيلة وتقاليد الجاهلية الوثنية.

بدا إذ ذاك أن الملك قد عاد إلى الوجود، كما بدا أيضًا أن حكم الأتراك والقوقازيين كان ضروريًا للأمة. ذلك أنهم حموه من الأخطار الداخلية والخارجية، وأعادوا للعقيدة السنية سيطرتها برد تحديات الشيعة الإسماعيلية. نعم، كان من الصعب التوفيق بين نظام السلطنات وبين العقيدة السياسية في الخلافة، إلا أنه تعذر أيضًا إدانة ذلك النظام كليًا. وعلى هذا، أثيرت من جديد المسألة الأساسية للتفكير السياسي: بأي معنى يمكن القول إن للحكام الجدد الحق في حكم الجماعة الإسلامية؟ فإذا كان ليس لهم هذا الحق، فهل كانت الجماعة، التي أنشأها النبي وعهد بها إلى خلفائه، ما تزال قائمة؟

حاول الماوردي، يوم كانت السلطة في دور الانتقال، أن يرد على هذا السؤال بالقول إن للخليفة أن يفوض سلطته في إقليم بعيد من أقاليم الإمبراطورية إلى قائد عسكري (أمير)، وفي وسطها إلى «وزير تفويض» ، وأن هذا التفويض قد يتم اختيارًا، كما قد يتم اضطرارًا في حالة الفتح أو في ظروف أخرى، وبهذا يصان الأساس الشرعي والخلقي للحكم، فيخرج «من الفساد إلى الصحة ومن الحظر إلى الإباحة» (8). لكن كان على الأمير، مقابل ذلك، أن يعترف بوجوب الخلافة، ويظهر الطاعة والورع، ويحافظ على الشريعة ويطبق أصولها المالية. وفضلًا عن ذلك، فقد كان عليه أن

ص: 25

لا يحكم إلا نيابة عن الخليفة الذي يبقى محتفظًا بوظائفه السياسية والإدارية، حتى لو لم يمارسها بنفسه.

إلا أنه أصبح من الصعب، أكثر فأكثر، القول بأن السلطان يستمد سلطته من الخليفة، بعد أن اتضح أن السلطان هو الذي كان، في واقع الأمر، ينصب الخليفة ويخلعه. وإننا نستدل على ذلك في أقوال للغزالي مبعثرة في تآليفه الموضوعة بعد قرنين. من ذلك أن المهم الواجب، في نظر الغزالي، هو أن يكون هناك «إمام مطاع» أما مسألة من هو ذلك الإمام، وكيف يتم اختياره، فمسألة مهمة، لكنها تأتي منطقيًا في الدرجة الثانية من الأهمية. فالإمام واجب، لأن نظام الدين واجب، ولا يحصل نظام الدين إلا بنظام الدنيا الذي يكفل بقاء الحياة وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات وما أشبه.

وإذ اقتضى لهذين النظامين نظامًا شرعيًا، باتت وظيفة الإمام الجوهرية دعم هذا النظام الشرعي. ولهذا لا بد أن يتوافر في الإمام شرطان: أن يكون حائزًا على أوصاف شخصية معينة، وأن تتم توليته بعهد من غيره. والتولية تصدر، بحسب النظرية التقليدية، أما عن النبي أو عن الإمام السالف. أما الغزالي، فقد أضاف طريقة ثالثة هي ما يسميه «بالتفويض من رجل ذي شوكة» . وهو يذهب إلى أبعد من ذلك، فيقول بأنه من الممكن الاستغناء، عند الاقتضاء، عن الشروط المعتبرة في التولية، فيولي الإمام نفسه، إذا كان حائزًا على المؤهلات الضرورية، وهو حتى لو كان مفتقرًا إليها، ولكنه كان مستعدًا لاستفتاء العلماء في القيام بوظيفته، فلا يجوز خلعه، إلا إذا كان ذلك ممكنًا من غير إثارة الفتنة. هذا القول يكشف عن مصدر تفكير الغزالي، وهو أن «الضرورات تبيح المحظورات» . فالإمامة، مهما كانت، هي خير من «تشتيت الآراء» . إذ أنه لو لم يكن من إمام، لبطلت الأنكحة والأفعال الشرعية الأخرى، وانعدمت الشريعة وانتفى بذلك وجود الأمة. ويصح هذا التعليل

ص: 26

على الحكم المدني أيضًا. فأي حاكم، مهما كان مصدر سلطته، خير من الفوضى. نعم، على الإمام أن يحاول إقامة العدل الطبيعي بحيث لا يخالف الشريعة (وقد وضع الغزالي نفسه كتابًا في «نصيحة الملوك»)؛ ولكن حتى لو لم يعدل، فلا يجوز خلعه إذا كان في «منازعته إثارة الفتن» (9).

في تضاعيف هذا الرأي يكمن المبدأ القائل بأن السلطة السياسية ضرورة من ضرورات الحياة البشرية. لذلك، وبمعنى من المعاني، كانت كل سلطة من الله، ويجب أن تطاع. إلا أنه من الضروري التمييز، بالنسبة للشريعة، بين الحكم الصالح والحكم الفاسد. فعلى الحاكم أن يعمل في نطاق الشريعة الإسلامية وأن يؤيدها. ولما كانت الشريعة تقتضي إمامًا، وجبت الإمامة. أما شخص الإمام، فهو أمر ثانوي، ويجوز الاستغناء عن الأوصاف التي يعتبرها الفقهاء ضرورية، إذا كان التمسك بها يؤدي إلى إثارة الفتنة. كانت هذه النظرة كافية لسد حاجات الدول الجديدة، فقبلت بها تلك الدول كأساس معنوي لسلطتها. وقد برزت، بعد ثلاثة قرون، نظرة مماثلة لها على لسان مدافع رسمي عن المماليك، هو بدر الدين ابن جمعه (1241 - 1333). فقد قال بوجوب الحاكم وبأن لا عدل بدونه، فهو ظل الله على الأرض (10)، وعلى الجماعة القبول به أيًا كان. وهذا يصح في الإمام كما يصح في سائر الحكام. والإمام إما أن يختار اختيارًا، أو أن يفرض نفسه بشوكته الخاصة. وفي كلتا الحالتين، يجب أن يطاع للحفاظ على ترابط المسلمين وتأمين وحدتهم. وإذا خلعه آخر، فهذا يجب أيضًا أن يطاع:«نحن مع الفاتح» (11). ولما كانت الطاعة واجبة على كافة المسلمين، وجبت أيضًا على الإمام نفسه. فإذا استولى ملك على بلد بالقوة، فعلى الإمام أن يفوض الأمور إليه، وأن يدعو المؤمنين إلى طاعته، خوفًا من انقسام الأمة وحلول الوهن فيها. إلا أن الرابطة بين الحاكم والمحكومين تبقى رابطة خلقية. فحق لهم عليه حراسة الدين الحنيف،

ص: 27

والحفاظ على عباداته، وتنفيذ الأحكام القضائية، واستيفاء الأموال الشرعية، وحماية الأوقاف، وبكلمة واحدة، العدل في مختلف أشكاله؛ وحق له عليهم، طاعته إلا فيما يخالف الشريعة، وإسداء المشورة إليه، وإظهار الاحترام له، وإمداده بالمعونة في قيامه «بأوزار مصالح الأمة» (12). وكان من واجب الإمام أن يطيع الله كما يطيعه مأموروه. ولهذا كان عليه أن يستشير العلماء، حماة شريعة الله. أما إذا ظلم، فلا يجوز خلعه كما يخلع المأمور، خوفًا من «اضطراب الأمور» (13).

من الواضح أن محور التفكير السياسي قد تحول عن مسألة مصدر السلطة إلى مسألة كيفية ممارستها، وأن هذا التحول، وإن كان من الممكن رده إلى التغير في ظروف الأمة، قد يكون راجعًا أيضًا إلى نمو ذلك النوع الجديد من التفكير الذي لمسنا أثره لدى الغزالي. ففي وقت باكر، كانت الفلسفة الإغريقية قد تسللت إلى عقائد الإسلام، أو قد يكون من الأدق القول بأنه، بتوسع الأمة، اعتنق الإسلام أناس كانوا مشبعين بالتفكير الإغريقي، مما جعلهم يفكرون في الإسلام بمفاهيم الفلسفة الإغريقية. وهكذا نشأت عقيدة في الإمامة متأثرة بـ «جمهورية» أفلاطون و «نواميسه» و «أخلاق» أرسطو (ليس من الثابت أن كتاب أرسطو «في السياسة» قد ترجم إلى العربية)، فحاول أصحابها، على ضوء نظرية عامة في الحكم والمجتمع، أن يجيبوا على هذه الأسئلة: من هو الحاكم الشرعي للجماعة الإسلامية، وماذا عليه أن يعمل؟

انطلق الفلاسفة من العقيدة الإغريقية القائلة بأن هناك توافقًا جوهريًا بين الطبع البشري والمجتمع، مما يجعل من المحال على الإنسان أن يبلغ غايته الطبيعية إلا وسط الجماعة، وبأن الحياة الفاضلة هي حياة الفرد الذي يؤدي الوظيفة الخاصة به في الدولة الفاضلة. لذلك كانت الدولة ضرورة من ضرورات الطبيعة الإنسانية. والدولة الفضلى هي التي يحكمها الإنسان الأفضل. والإنسان الأفضل ليس هو

ص: 28

الحائز على الفضائل الخلقية التي يقتضيها حكم الآخرين فحسب، بل هو الحائز أيضًا على الحكمة في معرفة ما هو الخير. وغاية الحاكم إنما هي أن يقيم العدل. والعدل هو العلاقة الصحيحة بين الطبقات التي تقوم كل منها بوظيفة ضرورية حسب طاقاتها الطبيعية.

كان من السهل التوفيق بين بعض هذه المبادئ وتعاليم الإسلام، بينما لم يكن هذا التوفيق سهلًا بالنسبة للبعض الآخر. فالإنسان الكامل الذي يجب أن يتولى الحكم إنما هو، في نظر الإغريق، الفيلسوف، أي ذلك الإنسان الذي تحققت طاقة المعرفة لديه تحققًا تامًا. أما في نظر المسلمين، فمؤسس الجماعة وحاكمها الأول ومثالها الإنساني إنما هو النبي، ذلك الإنسان الذي اصطفاه الله لإبلاغ أوامره. والشريعة، في نظر الإسلام، أساس المجتمع، وهي إرادة الله. أما في نظر أفلاطون، فالحاكم الكامل لا تقيده إلا الحقيقة، الحقيقة التي يطلع عليها بعقله؛ أما الشريعة فليست ضرورية إلا للمحكومين. وهي، حتى في هذه الحالة، ليست إلا من نتاج عقل المشترع، بينما هي في نظر أرسطو من نتاج الحكمة الإنسانية، تلك الحكمة المتحررة من الشهوات تحررًا يعجز أي إنسان عن بلوغه بمفرده، والمستهدفة خلق ملكات فاضلة في المواطن. فمن هو إذن أفضل الناس، وحاكم أفضل مجتمع؟ النبي أم الفيلسوف؟ وهل الأمة الإسلامية أفضل المجتمعات؟ أو بتعبير أقوى: هل النبوة واجبة، وهل الشريعة المنزلة ضرورية لتحقيق طبيعة الإنسان؟ هذه أسئلة كانت تفرض نفسها على الفلاسفة المسلمين، الذين لم يكونوا فلاسفة فحسب، بل مسلمين أيضًا. نعم، كانوا قد ارتضوا بأفلاطون وأرسطو «معلمين الذين يعلمون» ؛ إلا أنهم كانوا أيضًا يؤمنون، بمعنى من المعاني، بأن محمدًا نبي وبأن الشريعة إرادة الله. فلم يكن بإمكانهم حل هذه المعضلة إلا باستنباط تفسير للنبوة وللشريعة يرتاح إليه العقل الفلسفي. وهذا ما حاوله الفارابي (870 - 950) في كتابه «آراء أهل المدينة

ص: 29

الفاضلة». إذ أعلن أن النبوة وظيفة من وظائف المخيلة. أما الفيلسوف، فهو إنسان يملك عقلًا قويًا وكاملًا بلغ أعلى درجات المعرفة الميتافيزيقية باتصاله بالعقل الفعال الذي هو أحد الكائنات المنبثقة عن الله والقائمة بينه وبين الإنسان. وإذا كان للفيلسوف أيضًا مخيلة قوية وكاملة، استطاعت هي أيضًا الاتصال المباشر بالعقل الفعال، فتتمثل فيها المعقولات المنحدرة إليها من صورها غير المنظورة بشكل رموز على أعلى درجات الجمال والكمال، كما استطاعت أن تتلقى معرفة الجزئيات الحاضرة والمقبلة والكائنات العليا. أن مثل هذا الإنسان يكون نبيًا وفيلسوفًا معًا، يعلم، كفيلسوف، الخاصة التي بوسعها أن ترى الحقيقة كما هي، ويعلم، كنبي، العامة التي تتأثر بأساليب الإقناع والخيال. ويكون له أيضًا وظيفة أخرى، هي أن يسن الشرائع، وأن يؤسس الدولة الفاضلة ويترأسها. والدولة الفاضلة هي التي يتعاون فيها الجميع على بلوغ الخير المشترك، ويعرفون الجميع الخير، إما مباشرة أو بالتمثيل والتصور، ويتنظمون بتراتب معين، وفقًا لطبيعتهم وملكاتهم الخلقية المكتسبة طوعًا. ولا يستطيع أن ينشئ مثل هذه الدولة وأن يحكمها إلا من كان فيلسوفًا ونبيًا معًا. إلا أنه من النادر أن تجتمع في شخص واحد جميع الصفات المطلوبة، صفات العقلين العملي والنظري والمخيلة. فإن لم تتوفر كلها معًا، كفى أن يكون للحاكم صفات العقل دون المخيلة، أو بتعبير آخر، أن يكون فيلسوفًا لا نبيًا، أو أن توزع السلطة بين عدد من الأشخاص، أو أن يرعى الشرائع الصادرة عن مؤسس الدولة حكام ليس بإمكانهم إصدارها بأنفسهم، إلا أنهم يعرفونها وبوسعهم تفسيرها. هؤلاء هم الخلفاء. إن الأمر الجوهري هو أن تكون معرفة الخير حاصلة في مكان ما من «المدينة» وفي العنصر الحاكم فيها. أما إذا كانت هذه المعرفة مفقودة، كانت المدينة غير فاضلة، بل جاهلة أو ضالة في آرائها، وكانت لعناصرها المختلفة مصالح متضاربة، ولم يكن لها خير

ص: 30

مشترك يوحدها، بل كان ما يربط فيما بينها شيء آخر، هو الغلبة، أو العقد، أو نوع من التجانس الطبيعي، كوحدة العرق أو الطبائع أو اللغة.

لم تعد النبوة، في نظر الفارابي، هبة مجانية من الله، بل حالة إنسانية طبيعية. وهي حالة من حالات المخيلة لا من حالات العقل، فلا توصلنا إلى إدراك معرفة عامة تعجز الفلسفة عن بلوغها. وهكذا فإن وظيفة النبي وظيفة عملية، لا بل سياسية، أكثر مما هي نظرية، تنحصر في تأسيس الدولة الفاضلة وحكمها. فحتى محمد نفسه لم ينفرد، في نظر الفارابي، بهذه الوظيفة. إذ لما كانت جميع الديانات الصحيحة تعبيرًا رمزيًا عن الحقيقة الواحدة، كان بالإمكان أن يكون هناك أمم ومدن فاضلة رغم اختلاف الأديان، لأن هذه الأديان إنما تبتغي جميعها السعادة الواحدة وتسعى نحو أغراض واحدة» (14). لقد عدل الفلاسفة فيما بعد بعض هذه الآراء. فابن سينا (980 - 1537) مثلًا، على ادعائه بأن الإشراق النبوي حالة طبيعية، لم يعتبر هذه الحالة خاصة بالمخيلة وحدها، بل نسبها إلى العقل أيضًا، لا بل رأى فيها بالحقيقة أعلى حالات العقل البشري، مهمتها الجوهرية سن الشرائع التي يجب على جميع البشر التقيد بها. أما محتوى الشريعة الإلهية، فقد اعتبره ابن سينا، مبدئيًا، في متناول العقل البشري بدون معونة إلهية، قائلًا إن لم يكن هناك من نبي، فمن الممكن أن ينشأ في المجتمع نظام شرائعي صالح بطرق أخرى. لكن هذه النظرة لم تلق قبولًا لدى المحافظين من السنة أكثر مما لقيت نظرة الفارابي. ذلك لأن الفيلسوفين حاولا عقلنة عملية الوحي، أي تحويل العلاقة البشرية بين المشيئة الإلهية والإرادة البشرية إلى مجرد علاقة بين عقول نظرية. ولما اشتدت المقاومة السنية لهذه الآراء، غدت دراسة أقوال الفلاسفة هامشية، إن لم نقل مشبوهة، مع أن نفرًا من العلماء استمروا عليها، كما بقيت تعاليم ابن سينا سائدة في المدارس الشيعية في الشرق. غير

ص: 31

أن الحركات الفكرية لا تخمد من غير أن تترك وراءها أثرًا. وهكذا بقي العنصر الفلسفي عالقًا بالتفكير الإسلامي اللاحق. فقد قال الفلاسفة أن الحكام يجب أن يحاسبوا على أساس نواياهم لا على أساس شرعية ولايتهم، وأن الأمة تستمد وحدتها من خيرها المشترك. فقبل بهذا فقهاء العصر اللاحق، على رفضهم آراء الفلاسفة العامة. ويتجلى معظم ذلك في رسالة ابن تيمية في «السياسة الشرعية» . فقد كان هذا المؤلف (1263 - 1328) من أتباع المذهب الحنبلي في الكلام والفقه، ذلك المذهب الذي كان، على الرغم من معارضته الشديدة لجميع المحاولات الرامية إلى إرجاع مبادئ الإسلام إلى نتاج العقل البشري، مرنًا جدًا في تطبيق تلك المبادئ على قضايا الحياة الاجتماعية. وقد واجهت ابن تيمية قضية نظامي الحكم: حكم الخلفاء المثالي الذي لم يكن قائمًا آنذاك، وحكم السلاطين من المماليك القائم في زمانه، والذي كان هو أحد موظفيه. كما واجهته قضية نظامي الشرائع: نظام الشريعة الإسلامية حيث باب الاجتهاد كان قد أقفل عمليًا، ونظام قواعد التصرف بمقتضى الحال والعدل الطبيعي، وهي قواعد كان الحكم يلتزمها ويطبقها. وقد حل ابن تيمية هذه القضية المزدوجة باستنباط نظرة جديدة في شرعية الحكم ووحدة الأمة وتنظيم الشريعة.

جعل ابن تيمية من قوة الإكراه جوهر الحكم. إذ لا غنى للبشر عنها للعيش معًا وللحؤول دون تفكك عرى التضامن بينهم بفعل الأنانية الطبيعية. ولما كانت قوة الإكراه هذه ضرورة من ضرورات المجتمع، فإنها تنشأ بفعل عملية استيلاء طبيعية يضفي عليها عقد التشارك طابع الشرعية. وللحاكم، كحاكم، أن يفرض واجب الطاعة على رعاياه. إذ أن الحاكم، ولو كان ظالمًا، لخير من الفتنة وانحلال المجتمع:«أدوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم» (15). بيد أن هناك فرقًا بين الحكم العادل والحكم الظالم، يعود أصلًا إلى الغاية الجوهرية من حياة الإنسان التي هي الخضوع لمشيئة

ص: 32

الله. فوظيفة الحاكم هي أن يفرض على الجميع شرائع عادلة مستمدة من أوامر الله ومستهدفة خير الجماعة الروحي والمادي. وعلى هذا، كان حكم محمد والخلفاء الأوائل الذي أقامه الله حكمًا عادلًا. لكن الخلافة قد تجزأت إلى «ممالك» ، فأصبح الملوك كالخلفاء، لهم الحق في أن يطاعوا، لكن عليهم أن يطيعوا الله وأن يقيموا حكمًا عادلًا. وينتج عن هذا لزامًا أن كل الحكام الذين نهجوا هذا النهج كانوا حكامًا شرعيين، وأنه يمكن أن يكون هناك أكثر من حاكم واحد، لا بل أكثر من إمام واحد، دون أن يؤدي ذلك إلى هلاك الأمة. فوحدة الأمة إنما هي وحدة العقول والقلوب لا وحدة الأشكال السياسية. والمسلمون إنما يشتركون في العقيدة واللغة والشريعة والهدف، فيجب تقدير جميع هذه العناصر المشتركة وتعزيزها. وعلى المسلمين أن يعيشوا معًا بروح التساهل المتبادل، لكن إزاء الفوارق في المذاهب لا إزاء الفوارق في قواعد الإيمان الأساسية. لقد أفتى ابن تيمية بعدة فتاوى في شرعية الحرب ضد أصحاب البدع أمثال الدروز والنصيرية. وكان له شبهات في النصارى واليهود الذين رأى فيهم خطرًا فكريًا وسياسيًا على حد سواء. وزعم أن على المسلمين أن يوحدوا لغتهم. بقدر الإمكان، باستعمال اللغة العربية، وذلك، لا في شؤون العقائد والعبادات فحسب، بل في جميع أغراض الحياة اليومية أيضًا، وأن يخصوا الأمة بمجموعها بولائهم الاجتماعي الأخير، دون اعتبار الملة أو الدولة، وأن يحاولوا قبل كل شيء أن يرتفعوا بتقواهم من صعيد الخضوع الخارجي للشريعة إلى محبتها وخدمة الله دون سواه. لكن ذلك يقتضي النصح المتبادل والتعاون فيما بين المؤمنين، وبين الحكام والمحكومين، وفيما بين مختلف الطبقات والفئات في الأمة. وعلى الحاكم أن يستشير الجماعة، من العلماء وقادة الرأي، أولئك المؤهلين لإبداء رأي ذي قيمة في القضايا المطروحة أمامهم.

ص: 33

إن المبدأ المنظم للأمة هو الشريعة. لذلك يجب أن تفي الشريعة بجميع أغراض الحياة والحكم. وهذا يعني أنه ينبغي تجنب موقفين متطرفين: موقف الفقهاء المتزمتين القائلين بأن على الحاكم أن يسترشد بالشريعة وحدها، مع أنها كانت قد اتخذت، في ذلك الحين شكلًا متحجرًا؛ وموقف الحكام المدعين حق التقرير على ضوء الظروف، والمعتبرين الشريعة مبدأً سلبيًا لا غير، من شأنه فقط أن يعين الحدود التي لا يجوز تخطيها. بين هذين الموقفين وقف ابن تيمية موقفًا وسطًا، فقال إن مفهوم الشريعة يجب أن يتسع كي يشمل جميع الأفعال المترتبة حتمًا على وظيفة الحاكم، وصلاحية التقدير التي بدونها لا يستطيع الحاكم البقاء في الحكم ولا رعاية خير الأمة. بذلك تعود الشريعة إلى احتلال مركزها السابق كمبدأ موجه للحكم وللأمة. وتوخيًا لهذه الغاية، دفع ابن تيمية بالمفهوم الحقوقي «للمصلحة العامة» في اتجاه جديد. لقد اعتبرت جميع المذاهب الفقهية السنية الحكم العقلي بالقياس عنصرًا من عناصر التأويل الشرعي الضروري. إلا أن كلًا منها رأى ضروريًا أيضًا إضافة عنصر آخر لتوجيه هذه العملية (لدى الاختيار بين قياسين متعادلين مثلًا) أو لإكمالها ضمن حدود معينة، كعنصر المصلحة العامة: فلما كان ما يبتغيه الله بشرائعه إنما هو الخير العام، توجب أن تكون المصلحة العامة معيارًا لتفضيل تفسير معين دون بقية التفسيرات الأخرى.

على أن ابن تيمية لم يطبق، كغيره من الفقهاء، هذا المبدأ في دائرة العبادات، إذ ليس لدينا من وسيلة لمعرفة مقاصد الله فيها، لكنه رأى واجب تطبيقه في دائرة المعاملات. فكل ما يؤول إلى خير البشر، دون أن يكون منهيًا عنه بنص صريح، إنما هو ليس بجائز فحسب، بل واجب أيضًا على سبيل الاستلزام. ولا يمكن لمهمة الاجتهاد الرامية إلى تقرير ما يؤول إلى خير البشر، أن تنتهي. فقد يكون إجماع صحابة النبي معصومًا عن الخطأ لما كانوا عليه من

ص: 34

الأمانة لأقواله وأفعاله؛ أما إجماع الفقهاء اللاحقين، فمن غير الممكن أن يكون معصومًا.

من السهل أن يعتبر هذا القول مجرد تبرير للحالة الراهنة. إلا أنه كان بالواقع ينطوي، لدي ابن تيمية، على شيء آخر أيضًا. نعم، لقد ضمنت عقيدته شرعية حكم المماليك، إلا أنها انطوت، في الوقت نفسه، على ما يجب أن يتقيد به من قواعد. فالحكم الصالح، في نظره، يتوقف على تحالف بين الأمراء، وهم الزعماء السياسيون والعسكريون، وبين العلماء، وهم شراح الشريعة. إن إعلان هذه النظرية في دولة المماليك، حيث كان الأمراء قوقازيين أو أتراكًا، بينما كان العلماء ينتمون خصوصًا إلى اللغة والثقافة العربيتين، كان بمثابة دعوة إلى عدم حصر الحكم في يد الأجانب دون سواهم. لكن ابن تيمية لم يكن يقصد دولة المماليك وحدها، بل كان يفكر على نطاق أوسع، معتبرًا أن الحكم في أي دولة إسلامية يجب أن لا يحصر في يد أي فئة خاصة، إذ يجب أن يكون لمتطلبات العدل والوحدة الأسبقية على متطلبات أي روابط طبيعية، كالصداقة أو العصبية القبلية أو أواصر الرحم. وفي ذلك يقول ابن تيمية: «فيجب على كل من ولي شيئًا من أمر المسلمين

أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه

فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة أو صداقة، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» (16). ثم يقول:«وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن، من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة، فهو من عزاء الجاهلية» (17).

كانت أباطيل الوثنية وأخطار العصبية أكثر من مجرد أفكار نظرية لدى الذين كتبوا في زمن اشتد فيه ضغط البدو على الأراضي

ص: 35

الحضرية. فعقائد ابن تيمية كانت تشكل، ضمنًا، احتجاجًا على الفوضى والعقائد الوثنية لدى البدوي العربي الذي لم يعرف قط الإسلام على حقيقته، ولدى الجنود الأتراك أيضًا. من هنا ذلك الخط الفاصل الذي رسمه مجددًا للتمييز بين الجاهلية والإسلام، بين العصبية والتضامن الديني. وقد بقيت هذه المفارقات قائمة لدى مفكر آخر، أتى بعده بقليل، ومر بخبرة مماثلة، إلا أنه كان على اقتناع أشد بتعقد الطرق التي يمكن بها الجمع بين النقيضين.

كان ابن خلدون (1333 - 1406) متنبهًا، كابن تيمية، إلى تحدي البدو للحياة الحضرية والمتمدنة. فهو يقول إنهم، إذا تغلبوا على الأوطان أسرع إليها الخراب، إذ طبيعتهم منافية للعمران، ولا تعنيهم الشريعة والقوانين، وهم يتنافسون على الرئاسة لأنهم أصعب الأمم انقيادًا بعضهم لبعض إلا إذا سهل الدين انقيادهم واجتماعهم (18).

غير أن ابن خلدون كان يعتقد أيضًا أن لهم دورًا آخر يقومون به. فهم، إذ يهدمون العمران يبنون الدول. وقد شغلته أيضًا مسألة أخرى، ربما تفرد بها بين مفكري الإسلام، هي مسألة كيفية الاستيلاء على الحكم والاحتفاظ به، والتغييرات التي تطرأ عليه، وثمرة الحكم الصالح التي هي العمران أو حياة المدن. فهو يعترف كل الاعتراف بالدور الجوهري الذي يلعبه الخير العام والشريعة الإلهية في الحفاظ على استقرار الدول وازدهارها، إلا أنه يعتقد بضرورة عنصر آخر لنشوء الدول، هو عنصر التضامن الطبيعي، القائم على أواصر الدم أو على شيء مماثل لها، والمستهدف استلام الحكم؛ وهو ما يسميه بالعصبية، التي هي أقوى لدى البدو منها في أي مجتمع بشري آخر. فالعصبية، كفكرة مجردة، قد تكون النقيض لمفهوم الخير العام المستمد من الشريعة المنزلة. لكن ابن خلدون كان يرى أن لا إمكانية لنشوء الدول المستقرة ما لم يتضافر الخير العام والشريعة مع العصبية بشكل من الأشكال، وأن هذا التضافر قد يتم على مختلف الوجوه. وعلى هذا، أقام سلمًا لأنواع

ص: 36

السلطة، يتدرج من «الملك الطبيعي» القائم على العصبية والمستهدف خير الحاكم، مرورًا «بالملك السياسي» المسترشد بالنظر العقلي والمعتمد مبادئ العدل الطبيعي لتحقيق خير الحاكم أو خير المحكومين، ثم ينتهي بالدولة القائمة على مبدأ الشريعة الإلهية المنزلة المستهدف تأمين المصالح الأخروية والدنيوية معًا (19). وهذا النوع الأخير هو أعلى ما يمكن تحقيقه من أنواع الدولة، ما دامت «مدنية الحكماء الفاضلة نادرة أو بعيدة الوقوع» (20).

يبين ابن خلدون أن هذه الأنواع مترابطة نشوئيًا ومنطقيًا على حد سواء. فالواحد منها ينزع إلى النشوء عن الآخر بتعاقب منتظم. فالسلطة الملكية تبرز إلى الوجود، بادئ الأمر، بحكم الضرورة: إذ على الناس أن يتعاونوا ليعيشوا، ولا يمكنهم التعاون إلا إذا كبتوا ميولهم الأنانية. وهي تنشأ، بطبيعة الحال، على يد فئة وحدتها العصبية، أي «التضافر واستماتة كل واحد دون صاحبه» (21). ولما كان للبدو عصبية من نوع خاص، وكان لهم من الصلابة والشجاعة ما ليس لسكان المدن عادة، فقد كانوا الأساس والمعين للعمران والمدن. ولكن، ما أن تقوم الدولة، حتى يفقد جمهور الشعب العصبية التي بها قامت الدولة، ويحل محلها، كقاعدة لسلطة الحاكم، شيئان آخران: الأول «قوة الاقتداء التي تجعل المغلوب مولعًا أبدًا بالاقتداء بالغالب (لأن النفس أبدًا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه)» (22)، أو «التكاسل الحاصل في النفوس إذا ملك عليها أمرها وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم» (23). والثاني، قيام فريق جديد من المرتزقة أو الموالي يتسنى للحاكم الاعتماد عليهم، لما ينشأ فيما بينهم من عصبية خاصة تمكن الحاكم من الاستغناء عن العصبية التي كانت قد حملته إلى الحكم أصلًا. ثم يلي ذلك عهد من الحكم المطلق، يكون الحاكم فيه لا يزال متمتعًا بسلطة كاملة ورأي مستقل، فيزدهر العمران، لأن الحياة المدنية والازدهار الناجم عن توزيع العمل بحاجة إلى سلطان سياسي قوي.

ص: 37

لكن مع الاكتفاء يدب الانحلال، فيفقد الحاكم استقلاله في الرأي ويحل الوهن في عصبية الموالي والجنود (وهي لم تكن قط بقوة رابطة الدم)، ويؤدي التبذير إلى زيادة الضرائب. وقد تنقسم الأسرة المالكة على نفسها، أو تخسر الدولة أقاليمها الخارجية. نعم، قد يستمر العمران المدني زمنًا بعد أفول السلطة الملكية، بفضل عصبية سكان المدن وسلطان عائلاتها، إلا أنه لا يلبث أن يزول في آخر الأمر، فتتسلم السلطة أسرة حاكمة جديدة تستمد قوتها من فريق جديد.

هذه هي «أعمار الدول» أو المجرى الطبيعي لحياة الأسر المالكة (24). لكنه من الممكن وقف هذا المجرى في أي وقت من الأوقات بإدخال عامل آخر فيه، هو الشريعة الدينية التي أتى بها الأنبياء. إن هذا العامل لا يستطيع بحد ذاته أن ينشئ الدولة، إلا أن من شأنه أن يقويها إذا ما أضيف إلى عصبية موجودة من قبل، إذ يمدها بالقوة الضرورية لتأسيس دولة مستقرة وثابتة. فالعرب، مثلًا، «ما عظم ملكهم وقوي سلطانهم» إلا بعد «أن قيد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة وأحكامها» (25). كذلك فإنه من الممكن، في العهود المتأخرة من مجرى الحياة الطبيعي، إذ تضعف العصبية الأولى وتضعف معها الرابطة بين الحاكم والمحكومين، أن ينشئ الدين صلة وحدة جديدة، وأن يبني قاعدة جديدة للفضائل التي بها تدوم الدول.

إن أمر الفضيلة السياسية والاستقرار والعمران مرتبط بعضه ببعض، ومرتكز إلى علاقة معينة قائمة ليس بين عناصر المجتمع المختلفة فحسب، بل بين عناصر النفس البشرية المختلفة أيضًا. لذلك يجب أن لا نقمع الميول والصلات الطبيعية، بل علينا أن نوجهها بالتبصر العقلي والديني. إن هذا التجانس قائم في جميع الدول التي تدوم؛ لكن هذا لا يعني أن جميعها متساوية في الفضيلة. إن السلم الخلقي واضح في ذهن ابن خلدون. فالدولة المهتدية

ص: 38

بالشريعة المنزلة هي لا شك على أرفع المراتب. لكن الخلافة ليست «من عقائد الإيمان» ، إنما هي، على الحد الأقصى، شأن من شؤون المصلحة العامة والتنظيم الاجتماعي (26). لقد وجدت لحماية الدين وتولي القيادة السياسية. وأي ملك يقوم بهذين الأمرين له مثل ما لها من السلطة. وهي، كالملك، قائمة على آصرة الدم الطبيعية، آصرة نسب قريش (27). وهي قابلة للتغير، لا بل أنها، بالواقع، قد زالت. إن عصبية العرب، التي أنشأت أولًا الدولة الأموية ثم الدولة العباسية. أدت مع الزمن إلى إنشاء ملك كانت غايته مصلحة الإسلام في بادئ الأمر، ثم أصبحت فيما بعد المصلحة الذاتية. وهذا الملك أدى بدوره إلى تلاشي العصبية العربية (28). ورأى ابن خلدون أيضًا أن الخلافة إنما كانت في حقيقتها من نتاج العهد العربي للإسلام، وأن نشوء أنواع أخرى من العصبية قد أدى إلى أنواع أخرى من الملك، وأنه لا بد أن تكون السلطة السياسية في يد الذين تجمعهم العصبية السائدة، لأنهم هم وحدهم قادرون على القيام بوظائف الحكم. ولما كانت العصبية الجديدة تركية في القسم الشرقي من العالم الإسلامي وبربرية في غربه، وكان العلماء من أصل عربي بنوع خاص، فليس بإمكانهم أن يشتركوا في عملية الحكم (29).

ص: 39