الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن
القومية المصرية
كان أتباع محمد عبده وسطًا بين طرفين متناقضين: التقاليد من طرف، والعلمانية من الطرف الآخر. فتبنوا مؤسسات العصر الحديث وأفكاره وعملوا على تشجيعها، لكنهم اشترطوا ربطها بمبادئ الإسلام التي رأوا فيها الأساس الوحيد الصالح للتفكير الاجتماعي أو، بتعبير الشيخ بخيت. «القانون السياسي المقبول من الجميع» . ثم أخذوا، مع الأيام، يتوجهون باهتمامهم نحو الطرف الثاني. اعتقادًا منهم أن الخطر الحقيقي قد كمن فيه لا في الطرف الأول. ذلك أن النزعة التقليدية المتحجرة لا بد من أن تظهر يومًا عجزها عن تفهم العالم الحديث فيستحيل عليها توجيهه، بل ربما اضمحلت آخر الأمر. أما الأفكار الحديثة فبوسعها، نظرًا لزخمها الذي لا يقاوم، إما أن تهدم المجتمع الإسلامي، وإما أن تعيد بناءه من جديد. وهي تهدمه إذا ما بقيت طليقة، أو تعيد بناؤه من جديد إذا أخضعت لغايات الإسلام الأزلية. وكان لا بد من أن يرافق محاولة إخضاعها لهذه الغايات تنازلات متوالية.
هذا ما نراه في الموقف الذي وقفه «العصريون» من فكرة القومية، وهي الشكل الذي تجلت فيه، على أقوى وجه، فكرة المجتمع العلماني بالمفهوم الحديث. وسنتحدث، في فصل لاحق، عن كيفية انتقال تلاميذ محمد عبده السوريين، من حيث يدرون أو لا يدرون، من الفكرة السياسية الإسلامية إلى الفكرة العربية، وهو أمر يسهل إدراكه نظرًا لمركز العرب الخاص في الإسلام،
كواقع كرسته سيطرة العنصر العربي في بدء التاريخ الإسلامي. أما العلاقة بين الإسلام والقومية المصرية. فلا يستطاع إدراكها بمثل هذه السهولة: ذلك أن فكرة الأمة المصرية، ككيان ذي وجود سياسي منفصل، تقتضي إنكار وحدة الأمة الإسلامية سياسيًا، لا بل القول بإمكان قيام مجتمع فاضل على غير الأساس المشترك الذي وضعه الدين والشريعة المنزلة. ومما أدى إلى جعل هذه العلاقة بين الإسلام والقومية المصرية أمرًا ملحًا ومتأزمًا، الوضع الذي صارت عليه مصر وبعد الاحتلال البريطاني في 1882. إذ عمد البريطانيون إلى صهر النزعة الإسلامية العصرية في القومية المصرية، فنشأت عن ذلك، كما سنرى، فكرة قومية أنشأها وقادها أحد معاوني محمد عبده المقربين، ثم لم تلبث في أثناء تطورها أن تخلت عن مبدأ الإمام الأول.
لم يقم بالفعل، أي نزاع حول هذه الفكرة في مراحلها الأولى، فقد كان العلماء، وهم الذين تزعموا ثورة القاهرة ضد بونابرت في 1798، ثم دعموا محمد علي في 1805، يتصرفون كزعماء الرأي العام في البلاد. لكن الدافع الذي حركهم، إذ ذاك، لم يكن فكرة الأمة القومية بمفهومها الصريح. إذ كانت فكرة الجماعة الإسلامية تسير جنبًا إلى جنب مع فكرة القومية المصرية، حتى في ذهن الطهطاوي بعد ذلك بجيل، دون أن يشعر بالتناقض المحتمل بينهما. فقد أصر، كأمر مفروغ منه، على وجود ولائيين: الواحد تجاه من يدينون بالدين الواحد. والآخر تجاه المواطنين، واعتبر أن من البديهي بقاء سيطرة الشريعة في دولة مصرية، كما في دولة الفقهاء الإسلامية المثلى. لكن فكرة «الوطن» الفرنسية كانت قد انتصرت في مصر بعد وفاته. وكان من مظاهر انتصارها إنشاء إحدى الصحف الكبرى الأولى، في 1877، باسم «الوطن» . وعندما وضع حسين المرصفي، أحد أساتذة الأزهر وكبار علماء اللغة فيه، كتيبًا، في 1881، لشرح بعض «المفردات الشائعة على ألسنة
الناس»، أدخل كلمة «الوطن» و «الأمة» في عداد تلك المفردات. كان عنوان الكتيب «رسالة الكلم الثمان» . لكنه كان غير ما ينطوي عليه هذا العنوان. إذ أنه لم يتقدم بشرح واضح للمفردات المختارة، بل أتى على تبيان كيفية انتشارها وتطور معانيها. فللأمة مثلًا، في نظره، معنى أوسع بكثير من المعنى الديني. فقد تستعمل للدلالة على أي فريق من الناس تربط بينهم رابطة ما، كاللغة والبلد والدين. والأمة التي تستحق هذه التسمية أكثر من سواها هي الأمة القائمة على رابطة اللغة، لأن وحدة اللغة تحقق، على أكمل وجه، الغاية من المجتمع. ومهما يكن الأساس الذي تقوم عليه، فلكل إنسان دور فعال فيها، وعلى الحكومة أن تستشير الجميع، كما أن من واجب الحكام أن لا يعاملوا عامة الناس معاملة البهائم (1).
ثم كان لتطور مصر في السبعينيات من القرن التاسع عشر والأحداث التي انتهت بالاحتلال البريطاني في 1882 شأن في سيطرة هذه الأفكار على عقول الناس، وأهمية في الحياة السياسية. فحوالى 1879، انتظم عدد من الضباط في حزب شبه سري دعوه «الحزب الوطني» (2). وقد جذب هذا الحزب إليه عددًا من المدنيين وأصبح، بقيادة عرابي باشا، محور الحركة الوطنية. ثم تسلم الحكم في الأشهر الأخيرة التي سبقت الاحتلال البريطاني. ومع اقتراب خطر الاحتلال، التف حوله أولئك الذين أرادوا صد هذا الخطر. لكن هذا الالتفاف لم يكن سوى تحالف مؤقت أدى إليه الضغط الخارجي، إذ كان يخفي تباينًا عميقًا بين من استهدف خلق الشعور القومي وبين من آثر خلق حياة وطنية سليمة قائمة على مبادئ صالحة. وقد رأينا هذا التباين في ما أخذه محمد عبده على عرابي باشا من جهل لحقيقة معنى الكلمات التي كان يستعملها. وهو يتجلى أيضًا في مقابلتنا بين مقالات محمد عبده الباكرة وبين مقالاته خلال هذه الحقبة. وفي هذه الحقبة نفسها، بدأت الصحافة التوجيهية
تلعب دورًا مهمًا في الحياة السياسية المصرية، وبرزت شخصية الصحافي السياسي كشخصية رئيسية في العصر الحديث، وهو الذي عني خصوصًا، لا بنشر الآراء، بل، لمهارته في استعمال اللغة، بإثارة المشاعر الصاخبة.
كان بين الممثلين الأول لهذه الشخصية يهودي مصري هو جيمس صنوع (3)، ومسيحي سوري لعب دورًا قصيرًا مهمًا في السنوات التي انتهت بالاحتلال في 1882، هو أديب إسحاق (1856 - 1885). كان هذا الأخير من تلك القافلة التي أضافت، كما سنرى، عنصرًا جوهريًا على عناصر الفكر العربي الحديث. وقد تتلمذ أديب إسحاق على الآباء اللعازاريين الفرنسيين في دمشق واليسوعيين في بيروت، ثم سافر إلى مصر في حداثته ورأس تحرير جريدة «مصر» ، أولًا في الإسكندرية، ثم في باريس، تحت اسم آخر. ولم يلعب أديب إسحاق دورًا كبيرًا في حوادث 1882، ولم تكن أهميته ناجمة عن تأثيره السياسي المباشر، بقدر ما كانت ناجمة عن نقله إلى القراء المصريين بعض الأفكار التي استمدها من تربيته الفرنسية. كانت فكرة المجتمع السياسي، القائم على تضامن غير التضامن الديني، تحتل مكانًا رئيسيًا في تفكيره. ولعل ذلك عائد إلى كونه من أصل مسيحي سوري، وإلى مشاعره العدائية نحو الإكليروس. وقد نادى أيضًا بعدد من أمثال الأفكار الآتية: فكرة الجماعة «الشرقية» التي يوحدها احتقار أوروبا لها ومقاومتها للنفوذ الأوروبي، وفكرة الجماعة «العربية» القائمة على وحدة الشعور، وفكرة الجماعة «العثمانية» التي تربط بينها شريعة مشتركة وسلطة واحدة ورغبة في العيش المشترك، وفكرة «الوطن» الذي هو الوحدة الإقليمية التي ينتمي إليها جميع القاطنين فيها والغيورين عليها.
غلب على كتابات أديب إسحاق طابع أدبي فضفاض، ونداء إلى الوحدة والقوة، حد من جموحه اهتمامه بالفضيلة السياسية.
فقد رأى أن الجماعة ليست شرعة عليا لنفسها. كما رأى مع لابرويار أن لا وطن بدون حرية. ولا حرية بدون فضيلة (4). وزعم أن الشرق الأدنى بحاجة ملحة إلى التربية السياسية، أي إلى تهذيب الخلقية السياسية، لأنه لا يزال في بدء المرحلة السياسية من التطور الاجتماعي، التي يكون الناس فيها مسؤولين عن أنفسهم. لكن هذا الاتزان الذي يظهر لدى أديب إسحاق ينحرف قليلًا لدى صحفي آخر من صحفيي ذلك العهد هو عبد الله النديم (1844 - 1786). كان عبد الله النديم، إبان الأزمة بين مصر وبريطانيا، لسان حال عرابي ورفاقه، ثم أصبح بفضل مواهبه كخطيب شعبي ذا نفوذ كبير. لكنه توارى عن الأنظار بعد إخفاق حركة عرابي، ولم يعد إلى الظهور حتى 1891. إذ ألقي القبض عليه ونفي. وعندما خلف عباس حلمي الخديوي توفيق، سمح لعبد الله النديم بالعودة إلى مصر. لكنه ما لبث، حين استأنف نشاطه كصحفي شعبي، أن أثار عليه حفيظة الخديوي، فأعاده إلى المنفى مرة أخرى، حيث قضى أيامه الأخيرة في إسطنبول على نفقة السلطان.
عبرت مقالات عبد الله النديم: للمرة الأولى، تعبيرًا كاملًا عن تلك المشاعر التي تراكمت حول مفهوم الأمة وكونت الحالة النفسية المعروفة «بالقومية» . وقد شدد، قبل كل شيء، على أهمية الوحدة الوطنية. فوضع رواية كانت من أولى الروايات التمثيلية، عنوانها «الوطن» ، أظهر فيها «الوطن» ، في صورة رمزية، مبشرًا بأهمية التعاون (5). وكان يعتقد أن الوحدة الوطنية تشمل الأقباط في أرض مصر كالأجانب، وخصوصًا السوريين الذين هاجمهم بعنف بالغ على أنهم دخلاء ومرابون فاحشون وصنائع للفاتح الأجنبي (6). وأعار أهمية خاصة للتربية الوطنية التي تعلم الناس المحافظة على الثقافة الوطنية التي هي خيرهم المشترك. وكان يقول إن الشبان المصريين، ممن توافدوا على باريس. كانوا
يعودون منها، أكثر الأحيان، غرباء عن أمتهم (8). وهاجم أيضًا المرسلين الأجانب بحجة أن التربية التي يقدمونها تشكل خطرًا لا على لغة التلاميذ وثقافتهم فحسب، بل على معتقداتهم الدينية الموروثة أيضًا. وقد تخللت كتاباته نزعة إلى «كره الأجنبي» كثيرًا ما ترافق المشاعر القومية الحادة، وبعض التزمت الذي غالبًا ما يقترن بها أيضًا. ففي مقال كتبه في نقد الخديوي إسماعيل، نراه يلومه على إدخاله أوروبيين إلى مصر يفتحون قاعات للتمثيل ونواد للرقص وأماكن أخرى للفساد (9). وهكذا يمكن اعتبار عبد الله النديم أول الوطنيين المصريين الشعبيين. غير أنه لم يكن يعتقد، بالرغم من قوة شعور الإباء وسوء الظن لديه، أن الأمة المصرية مكتفية بذاتها وتستطيع بعث نهضتها بالاقتصار على مواردها الخاصة. نعم، كانت أوروبا في نظره العدو السياسي، لكنها كانت، مع ذلك، المعلم أيضًا. وقد عنون إحدى مقالاته الطويلة بهذا العنوان:«لماذا يتقدمون ونحن على تأخر؟ » . وهو يدحض تفسيرين خاطئين لهذا الواقع، فيقول إن مصر ليست متأخرة بسبب المناخ أو الدين، بل لأنها لا تملك مصادر القوة الأوروبية بعد، مع أن باستطاعتها امتلاكها جميعًا، وهي اللغة والدين، والوقوف في وجه العالم الخارجي، والنشاط الاقتصادي، ونظام التعليم الشامل، والحكم الدستوري، وحرية التعبير.
كان عبد الله النديم خطيبًا وكاتبًا يبشر بفجر سرابي. وما كانت السنوات التسع من الانفراد والصمت التي عاشها إلا رمزًا لما جرى للوعي الوطني في مصر بعد الاحتلال البريطاني. فطيلة ثلاث وعشرين سنة (1884 - 1907) كان حاكم مصر الفعلي قنصل بريطانيا العام السير أفلين بارينغ، الذي سمي فيما بعد بالورد كرومر. نعم، لقد حقق كرومر الاستقرار المالي لمصر، وزودها بجهاز للأقنية أفضل وأوسع، وبقضاء أكمل، لكنه أخضع البلاد مجددًا لسلطة الخديوي التي لم يكن ليحد منها سوى الرقابة البريطانية،
كما أخضعها لسلطة حاملي الأسهم الأجانب، ولنظام الامتيازات الاقتصادية والحقوقية الخاص بالجاليات الأجنبية. وهكذا انهارت، على حد تعبير لطفي السيد، ثقة الأمة بنفسها قبل أن تشتد، أو تزعزعت، على الأقل لدى طبقتها المثقفة الصغيرة. فالذين شاهدوا، بعد «تل الكبير» ، تصدع الأمة وعدم أهلية زعيمها وعجز مصر اليائس أمام دولة أوروبية، اعتزلوا أو استنتجوا من هذه العبرة، كما فعل محمد عبده نفسه، أن مصر، ما دامت عاجزة عن إخراج البريطانيين، فلتحاول الاستفادة من وجودهم. لكن عندما أخذ الشعور الوطني، بعد نصف جيل، يبرز من جديد، كان قواده أحدث سنًا وأشد تصلبًا. ولم ينجم ذلك عن سنوات الاحتلال العشر وعن الفارق بين الصراع لمنعه والصراع لإنهائه فحسب، وإنما نجم أيضًا عن تحد جديد جاء يهدد الفكرة الوطنية. فبينما كان على رجال السبعينيات من القرن التاسع عشر أن يحاربوا التمسك بالقديم لدى المحافظين المسلمين والجمود لدى الشعب، كان على رجال التسعينيات أن يقارعوا أيضًا فكرة أتت من الخارج، أي من حكام مصر البريطانيين والجاليات الأجنبية المسيطرة على حياة مصر الاقتصادية، تقول بأن مصر لا تشكل أمة ولا يمكنها تحقيق كيان وطني مستقل. ومع أن هذه النظرة يمكن اعتبارها تعبيًرا عن مصالح الدولة الحاكمة والتجار الأجانب، فقد كان لها بعض التأثير على عقول المصريين المثقفين أنفسهم. وإننا لنعثر بشروح لها في تقارير كرومر السنوية، كما في كتابه «مصر الحديثة» . وقد نشأت الرغبة لدى لطفي السيد والوطنيين الجدد في دحض هذه النظرة التي تتلخص في أن الحكم الذاتي الحقيقي الوحيد الذي يناسب مصر هو الذي يسمح لجميع القاطنين فيها من مسلمين ومسيحيين، ومن أوروبيين وأسيويين وأفريقيين أن ينصهروا معًا في هيئة حاكمة واحدة. فإذا لم يتحقق ذلك، وقد يتطلب تحقيقه أعوامًا لا بل أجيالًا، فمن الضروري أن تتخلى مصر عن فكرة الحكم الذاتي (10).
وبتعبير آخر. كان هذا الذي زعمه كرومر ينفي أنه كان أو يمكن أن يكون هنالك أمة سياسية واحدة في مصر. فكل ما في الأمر أن هنالك عددًا من الجماعات المنفصلة، بعضها عن بعض، لكنها تشترك فيما بينها اشتراكًا متساويًا في الحكم. وإذا ما بلغت مصر الحكم الذاتي. توجب إنشاء «مجلس تشريعي دولي» تتمثل فيه الجاليات الأجنبية وفقًا لعددها، وعلى بريطانيا أن تبقى في مصر لعدة سنوات بعد ذلك، إن لم يكن لعدة أجيال. إلا أن مثل هذه الأفكار كانت تتعارض تمامًا مع أفكار محمد عبده ورفاقه. وقد نشأت كتابات لطفي السيد السياسية عن الحاجة إلى دحضها دحضًا عقليًا. غير أنها استدعت، لدى فئة أخرى، جوابًا أعنف، يؤكد من جديد وجود أمة مصرية يجب أن تحكم نفسها بنفسها. كان مصطفى كامل هو مؤسس هذه الوطنية الجديدة وزعيمها. وما أن جاء 1913 حتى كانت أفكار أتباعه وأتباع محمد عبده قد تقاسمت عقول المصريين وولاءهم.
ولد مصطفى كامل في 1874، وهو تاريخ له أهميته (11). وقد بدأت حياته السياسية في السبعينيات وتوفي في 1908. لكنه كان ينتمي إلى جيل لم يبلغ، على وجه العموم، النضج السياسي إلا فيما بعد. كان له من العمر ثماني سنوات فقط عندما احتل البريطانيون مصر. وهذا يعني أنه لم يتذكر ما كانت عليه مصر قبل مجيء البريطانيين. لقد كان معقولًا أن يتردد أبناء الجيل السابق في رفض سلطة البريطانيين رفضًا قاطعًا، وذلك إما لشعورهم بالضعف، أو لعجزهم عن أن ينكروا أن مصر كرومر كانت في كثير من النواحي أفضل من مصر إسماعيل. أضف إلى ذلك أن إخفاق حركة عرابي بددت ثقة الناس بعدد منهم. فلما أعاد انتعاش قوة مصر وازدهارها إلى الأمة ثقتها بنفسها، لم ينهض واحد منهم ليتزعم حركة المقاومة الوطنية، فملأ ذلك الفراغ شاب في العشرين من العمر تجدوه ثقة الشباب الصلبة ويعتبر إنكلترا العدو الأوحد.
كان هذا الشاب ينتمي هو أيضًا إلى ذلك الجيل الذي أفاد من
المدارس التي أنشأها إسماعيل ثم نمت، وأن في حدود ضيقة، تحت الحكم البريطاني. وكانت عائلة والده وعائلة والدته تنتميان إلى الطبقة المثقفة الجديدة التي أوجدها محمد علي. ولم يتلق مصطفى كامل التربية التقليدية في الأزهر، بل تربى تربية حديثة، إذ دخل كلية الحقوق في 1891، ثم كلية الحقوق الفرنسية التي أنشئت بعد عام في القاهرة، إلى أن تخرج في 1894 من جامعة تولوز. وكان، في هذه الأثناء، قد برز اسمه كزعيم لفريق من الشبان أخذ يعرف إجمالًا بالحزب الوطني. وكان قد قاد هجومًا على مكاتب «المقطم» التي كانت أهم صحيفة في ذلك العهد، والتي أسسها مسيحيان من لبنان، والتي كانت تدعم، على وجه العموم، سياسة كرومر. وكان أيضًا قد قام بزيارتين إلى فرنسا وألقى هناك محاضرات وأدلى بتصريحات عن مطامح بلاده، كما أخذ يقيم علاقات حميمة مع سياسيين وطنيين فرنسيين ممن كانت وطنيتهم في ذلك الوقت لا تقل مناهضة للبريطانيين عن وطنيته.
وقد تكونت أفكاره الرئيسية في هذه الفترة أيضًا، مع العلم بأنه طرأ عليها، فيما بعد ومع تغير الظروف، شيء من التعديل من حيث التشديد على بعض الآراء. لقد دعا إلى وضع حد للاحتلال البريطاني، ورأى إمكان تحقيق ذلك بمساعدة دولة ثالثة، هي إما فرنسا، الخصم التقليدي لإنكلترا في الشرق الأدنى، أو السلطان العثماني. واعتقد أيضًا أن مصر أمة واحدة، لكنها جزء من عالم أكبر لا بل من عدة عوالم: العثماني والمسلم والشرقي، كما اعتقد أن عليها أن توطد علاقاتها مع كل من هذه العوالم الثلاثة. وقد نشر هذه الأفكار خطابة وكتابة، فكان خطيبًا مفوهًا وصحافيًا ناجحًا. ويعزى إليه الفضل في إنشاء ثاني صحيفة مصرية في 1900، هي «اللواء» ، بعد أن كان علي يوسف قد أنشأ «المؤيد» في 1889، حين كانت معظم الصحف بأيدي اللبنانيين. وقد أصدر أيضًا صحيفته «اللواء» في طبعتين إنكليزية وفرنسية. وهكذا أكسبته
أفكاره وبلاغته وصحفه نفوذًا لدى الشباب المثقف. لكن ما أكسبه النفوذ السياسي المباشر تأييد الخديوي عباس حلمي له وصلته به. وقد كان عباس، بخلاف سلفه توفيق الذي أعاده البريطانيون إلى عرشه، فكان، عن ضرورة وعن ضعف. آلة طيعة في يد كرومر، شابًا يكره الائتمار بأوامر رجل مسن ويرغب في أن يحكم بنفسه. أضف إلى ذلك أنه كان متأثرًا، وإن بمقدار ضئيل، بفكرة الوطنية المصرية. فوجد في مصطفى كامل أداة مفيدة للحد من سلطة كرومر، كما وجد مصطفى كامل فيه وسيلة لكسب النفوذ. وظن كل منهما أنه يستخدم الآخر. وعلى هذا الأساس المتزعزع قام بينهما تحالف ذو فائدة متبادلة. وكانت سياستهما واحدة: استخدام سلطة القصر وتأييد الجماهير ونفوذ إسطنبول وباريس لمنع مصر من الوقوع كليًا وبشكل دائم في دائرة النفوذ البريطاني. إلا أن هذا التحالف أخذ يضعف تدريجًا ببروز نقاط الضعف في هذه السياسة. فانخذال فرنسا في فاشودا، في 1898، والاتفاق الإنكليزي الفرنسي، في 1904، جعلا من الصعب التصديق أن بإمكان فرنسا دعم الوطنيين في مصر. فاتجه الخديوي، بعد 1904، نحو التقرب من البريطانيين، إذ أصبح هذا ممكنًا بعد اعتزال كرومر ومجيء غورست خلفًا له. وكان مصطفى كامل قد توصل إلى الاعتقاد أن اهتمام الخديوي عباس بسلطته الخاصة كان أشد من اهتمامه باستقلال مصر، كما كانت حاجته إلى الخديوي قد أخذت تتضاءل، إذ وجد له وسائل أخرى لنشاطه. من ذلك أن نمو طبقة الطلاب قد أتاح له مجالًا أوسع للخطابة والكتابة، كما أن حادث دنشاواي الشهير قد فجر الشعور بالذل الوطني. ففي 1906 نشب قتال بين أهالي قرية دنشاواي قرب طنطا على الدلتا وبين فريق من الضباط البريطانيين كانوا يصطادون الحمام في الجوار، فوقع بعض الجرحى من الضباط ومات أحدهم من الرعب ومن حرارة الشمس. فما كان من الجنود البريطانيين إلا أن ضربوا أحد القرويين حتى الموت بعد أن اكتشفوا جثة الضابط
القتيل. وكان كرومر في إجازة، ذلك الوقت، ففقد الذين كانوا متسلمين مهامه صوابهم، وأقاموا محكمة خاصة قضت بشنق عدد من القرويين وبجلد عدد آخر. وقد نفذت فيهم الأحكام بتشهير بربري، وما ترك في الشعور العام تأثيرًا عميقًا (12). وبضغط هذا الشعور وبفضل تخفيف شدة الرقابة في عهد كرومر في أعوامه الأخيرة، ثم في عهد غورست، خطا الوعي السياسي خطوة إلى الأمام، وظهرت الأحزاب السياسية المنظمة. فبرزت إلى الوجود في 1907 ثلاثة أحزاب، هي: الحزب الشعبي الذي أنشأه أتباع محمد عبده، وحزب الإصلاح الدستوري الذي أسسه علي يوسف، وكان بالواقع حزب الخديوي، والحزب الوطني الذي كان قائمًا، لسنوات خلت، فأعطاه الآن مصطفي كامل ورفاقه طابعًا رسميًا. وهكذا بدا مصطفى كامل، بعد أن تسلم زعامة الطلاب والشارع وبفضل نمو الوعي السياسي والهيجان الشعبي، قادرًا على تسلم زمام الحكم، إلا أنه توفي في السنة التالية.
وبعد وفاته، أحيط بالشهرة التي خلفها وراءه بعض الالتباس. فكان، في نظر بعض المصريين من جيله، حتى لبضع سنوات خلت، زعيم مصر الحقيقي، لا يحجب مجده لديهم مجد زغلول والنحاس. أما محمد عبده ورفاقه، فاعتبروه خطيبًا شعبيًا فارغًا. وقد هاجمه بعض خصومه السياسيين، بعنف، فوصفه مثلًا زعيم «حزب الأحرار» القصير العدر «بالمنافق الدنيء
…
والخائن لوطنك والعدو لشعبك! يا من حركك الشر فبعت نفسك مادحًا أساليب العبودية والاستبداد والانحطاط وأسوأ المفاسد ومبطنًا إياها بكلمات الحرية والإيمان» (13). لقد كان له في فرنسا مؤيدون عنيدون. أما في بريطانيا، فقد انقسمت حوله وحول نشاطه الآراء. فسماه السكرتير الشرقي للوكالة البريطانية، وكان رجلًا لا يخلو من العطف على المصريين وعلى الناحية الماجنة من الطبيعة البشرية، «دجالًا من الطراز الأول، ومخجلًا في حياته الخاصة، ومرتشيًا حتى قمة
رأسه من قبل جميع الفرقاء» (14)، أما بلنط فرسم لنا عنه صورة أخرى، إذ قال عنه: «إنه متحمس وبليغ وذو موهبة فائقة في الخطابة
…
وأفكار واضحة كل الوضوح
…
ومعرفة بالناس وبالأشياء عجيبة
…
وإني أعتبره أيضًا مخلصًا في وطنيته، ولم أتمكن أن أكتشف لديه طيلة حديثه اليوم أية نغمة زائفة. وهو فضلًا عن ذلك شجاع مقدام وذو رأي ثاقب ثابت» (15).
ومهما يكن من أمر خصاله الحميدة ونقائصه الشخصية، فالأكيد أنه كان في نظر الكثيرين من المصريين رمزًا ضخمًا لآمالهم. وكان مأتمه أول وأكبر تظاهرة شعبية للروح الوطنية الجديدة. فقد قال قاسم أمين إنه لم يشعر بقلب مصر يدق إلا مرتين: في دنشاواي، وعندما دفن مصطفى كامل.
لم ليس محتوى تعاليمه هو ما استهوى مواطنيه، على ما في خطبه وكتاباته من أفكار في كيفية تنظيم المجتمع. فقد استشهد مرة بعبارة الخديوي إسماعيل الشهيرة، وهي أن مصر جزء من أوروبا (16). ليدلل على ضرورة تبني ما كان ذا قيمة في المدنية الغربية. فما من أمة يمكنها أن تعيش عيشة كريمة ما لم تسر على هذا الدرب (17). غير أن هذا لا يعني أن على مصر تقليد أوروبا تقليدًا أعمى، إذ يجب أن تبقى وفية لمبادئ الإسلام المفسرة تفسيرًا صحيحًا. فالإسلام الحقيقي هو الوطنية والعدل، النشاط والاتحاد، المساواة والتساهل (18)، وبإمكانه أن يكون أساسًا لحياة إسلامية جديدة تستمد قوتها من العلم ومن الفكر الواسع والرفيع (19). وكان مصطفى كامل يردد كلمتي «الحرية والتقدم» الرنانة، ويشدد على أهمية الثقافة العالمية، ويشير، وإن عرضًا، إلى الصناعة الوطنية (20). لكن كل هذا وأمثاله من الآراء كان مألوفًا لدى الفكر التقدمي المصري منذ أيام الأفغاني. غير أن ما يستحق الذكر هو أن اتصاله الشخصي بأفكار الأفغاني قد تم على يد عبد الله النديم الذي تعرف إليه في 1892 (21)، فكان أقرب روحيًا إلى خطيب الحركة العرابية
منه إلى أتباع المدرسة الأفغانية الأكثر رزانة وتعقلًا. ولم يكن همه الرئيسي تحليل طبيعة المجتمع المصري ولا تربية المصريين على الفضيلة السياسية، بل تحريك الهمم في الصراع ضد البريطانيين.
كان يعتبر البريطانيين أعداء الشعب المصري، ويعتقد أن هذه العداوة لن تزول إلا بزوال الاحتلال. فوجودهم، في نظره، لم يكن ضروريًا للإصلاح. فالإصلاح يتم بدونهم، لا بل يتم على وجه أكمل (22). لذلك كان شعار حزبه، حتى طويلًا بعد موته: الجلاء الفوري بلا قيد ولا شرط. وبعد جيل، كان ما تبقى من حزبه يشكل الفريق السياسي الوحيد الذي رفض أن يشترك في المفاوضات الإنكليزية المصرية حول معاهدة 1936. وكان البريطانيون أيضًا، في نظره، أعداء الإمبراطورية العثمانية. وقد وضع تاريخًا مطولًا للمسألة الشرقية أوضح فيه العلاقة بين سياسات الدول والحركات الداخلية في الإمبراطورية، مشددًا على الأخطاء الناجمة عن الاستغلال البريطاني لهذه الحركات. قائلًا إن من الثابت أن بريطانيا عدوة العثمانيين من مسلمين ومسيحيين على السواء، وإنها، من أجل الاحتفاظ بمركزها في مصر، تعمل على إضعاف السلطان وتحول دون إثبات حقوقه في السيادة. لذلك أرادت نقل الخلافة من يد السلطان إلى رجل يأتمر بأمرها. وما فكرة الخلافة العربية إلا خطة بريطانية، وما كتاب بلنط، «مستقبل الإسلام» ، إلا نشرة دعائية للسياسة البريطانية. زد على ذلك أن بريطانيا شجعت، للسبب نفسه، الحركات الانفصالية لدى المسيحيين، وتدخلت بينهم وبين سيدهم باسم الدين. لكن ذلك بقي بدون كبير جدوى، إذ حافظ معظم المسيحيين على ولائهم للسلطان الذي كانت حكومته تعاملهم دومًا معاملة حسنة، ولم يتجه إلى الدول الأجنبية سوى بعضهم، فعانوا المتاعب من جراء ذلك (23).
وكان مصطفى كامل يحاول تحريك العالم الخارجي ضد سلطة بريطانيا وخطتها. فكان يناشد الضمير الليبرالي في العالم وبالأخص في
فرنسا، حيث كان يحسبه حيًا أكثر من أي مكان آخر، إذ كانت فرنسا غريمًا لإنكلترا، ومهد الثقافة الأوروبية كما عرفها دائمًا، وأم الثورة الفرنسية. وكان أول عمل رسمي قام به في هذا السبيل رسالة قدمها، في 1895، إلى الجمعية الوطنية الفرنسية يطلب فيها مساعدة فرنسا لتحقيق الاستقلال. وقد أرفقها بصورة رمزية تمثل مصطفى كامل ووراءه شعب مصر يقدم طلبه إلى فرنسا، فرنسا التي «أعلنت حقوق الإنسان» ، ودعمت التقدم والمدنية، وحررت عددًا كبيرًا من الأمم (24). وكان يشجعه ويساعده عدد من الفرنسيين من الرجال والنساء، أمثال الكاتبة القومية جوليات آدم والكاتب القصصي بيار لوتي. وكتب مصطفى كامل، في 1894، هذه العبارة:«إن حلمي هو أن أكون أخًا لبيار لوتي الذي أحب الشرق والمسلمين كما لم يحبهم ويفهمهم أي فرنسي من قبل» (25). لكن انسحاب فرنسا من فاشودا أثبت له أن فرنسا لم تكن قادرة أو عازمة على تحدي مركز بريطانيا في وادي النيل. وقد قضى اتفاق 1904 على آخر أمل لديه. فكتب في هذه الفترة إلى مدام آدم قائلًا: «إنني أكون سخيفًا لو اعتقدت أن فرنسا تستطيع أن تكون صديقة لمصر وللإسلام. فوداعا لكل أحلام الماضي، وليس لي في فرنسا سواك» (26).
وفي أعوامه الأخيرة حصر آماله في قوة السلطان العثماني من بين جميع القوى الأخرى. فكان يقول إن بقاء الإمبراطورية أمر ضروري للجنس البشري، إذ أن انهيارها قد يؤدي إلى حرب عالمية (27)، وأن على المسلمين أن يلتفوا حول عرش السلطان، وأن هذا الالتفاف مهم لمصر بنوع خاص، لأن الدول الكبرى لا تستطيع، ما دام السلطان سيدًا، أن تفعل بها ما تريد. فما تمكنت بريطانيا من احتلال مصر إلا لسوء العلاقات بين السلطان والخديوي، وهي لن تستطيع دمج مصر في إمبراطوريتها إلا إذا تمكنت من عقد اتفاق مع تركيا مماثل لاتفاقها مع فرنسا. لذلك فعلى الذين يريدون أن تكون مصر مستقلة أن يساعدوا على إبقاء تركيا مستقلة. وقد
أيد مصطفى كامل ورفاقه تركيا في الشؤون الدولية. كالحرب اليونانية التركية في 1897، وحادث العقبة في 1906 (28)، فمنحه السلطان لقب باشا في 1904. غير أن هذا لا يعني أن مصطفى كامل ورفاقه أرادوا أن تقع مصر مجددًا تحت الحكم العثماني. فقد صاح مرة في فقرة تنم عن خصائص عقله الخطابية وعن ازدواجية موقفه من الإمبراطورية قائلًا: إنه من غير المعقول أن يريد المصريون، بعد مئات السنين من المدنية، أن يصبحوا عبيدًا من جديد، وأضاف:«رمانا الطاعنون أيضًا بأننا نريد أن نخرج الإنكليز من مصر لنعطيها لتركيا كولاية عادية، أي إننا نريد تغيير الحاكمين، لا طلب الاستقلال والحكم الذاتي. وما هذه التهمة إلا تصريح بأن علوم الغرب وآدابه التي نقلت إلى مصر من مدة قرن من الزمان ما زادتنا إلا تمسكًا بالعبودية والمذلة، وإن معرفتنا لحقوق الأمم وواجباتها لم ترشحنا إلا أن نكون عبيدًا أرقاء. فهذه التهمة هي مسبة للمدنية والمتمدنين وقضاء على الأمة المصرية بأنها لا ترقى أبدًا ولا تبلغ مبلغ غيرها من الشعوب» (29).
كان السلطان في نظره خليفة أيضًا، وبهذا الوصف استقطب ولاء جميع المسلمين. وكان التضامن الإسلامي أمرًا حقيقيًا، وإن لم يكن يعني، في نظره، إقامة دولة واحدة أو تعبيًرا عن بغض أعمى لجميع من كانوا غير مسلمين. غير أنه رأى أن هناك في ما وراء العالم الإسلامي شيئًا آخر: عالم الشرق بكامله الذي توحده مقاومة التوسع الأوروبي المشتركة والحاجة لقبول المدنية الأوروبية. وقد رأى في انتصار اليابان على روسيا في 1905 الدلالة الأولى على إمكانية ذلك، وفي نهضتها التي هزت شعور الوطنيين الشرقيين في كل مكان برهانًا على أن الشرق لم يمت. وكان هو يشارك في هذا الشعور القوي، فكتب كتابًا عن اليابان الجديدة بعنوان «الشمس المشرقة» .
غير أنه لم يكن يعتقد أن بإمكان مصر أن تستقل بالاعتماد فقط
على المعونة الخارجية. فهي لا تستطيع بالواقع الحصول على هذه المعونة ما لم يكن لها قوتها الذاتية، كما أثبت ذلك بوضوح الاتفاق الإنكليزي الفرنسي في 1904. وقد قال مصطفى كامل عن هذا الاتفاق أنه ألقى على مصر درسًا علمها أن لا نهوض لها إلا بجهودها الخاصة، وهو يعني بذلك جهودها في سبيل الوحدة قبل كل شيء، وأن الاحتلال البريطاني ما كان ليحصل لولا الانشقاق داخل المعسكر المصري الذي شجع عليه البريطانيون أنفسهم، وبالأخص الانشقاق بين «الجراكسة» و «المصريين»، ذلك الانشقاق الذي لم يكن له من داع ما دام كلا الفريقين مصريين بالفعل. وقد أنحى باللائمة في ذلك على عرابي، قائلًا إن خطة ما قد وضعت لمغادرة عرابي مصر كي يتمكن الفريقان من التفاهم، وهو أمر كان من شأنه أن يحول دون التدخل الأجنبي، وأن حس عرابي الوطني كان يجب أن يحمله على القبول بتلك الخطة (30).
لكن كيف يمكن تحقيق هذه الوحدة؟ كان مصطفى كامل يعتقد، على غرار سواه من وطنيي زمانه، أنه بالإمكان إقامة الوحدة على «الشعور» ، أي الإحساس بالانتماء إلى الأمة وبالمسؤولية تجاهها. ففي الوطنية يكمن سر القوة الأوروبية وأساس التمدن. وفي هذا يقول:«وكل ما في هذه الديار من عدل ونظام وحرية واستقلال ونعيم عظيم وملك كبير هو ولا ريب من مبتدعات هذا الإحساس الشريف الذي يسوق أفراد أمة بأسرها إلى العمل لغرض مشترك ومطلب واحد» (31).
أما «موضوع» هذا الشعور، لدى مصطفى كامل وسواه ممن سبقه من الكتاب، فلم يكن لا اللغة ولا الدين، بل أرض مصر. فهو يتغنى بجمال مصر وماضيها العظيم. وهو لا يعتبر المصريين، بل «بلاد» مصر هي الإله الذي يعبده، «لأن مصر، وهي جنة الدنيا، لا تستحق أن يداس شرفها بالأقدام ونصبح فيها، نحن أبناءها الأعزاء، ممقوتين غرباء» (32).
لكنه يتحدث أحيانًا، لا عن مصر وحدها، بل عن وادي النيل أيضًا، بما فيه السودان. فالشعبان المصري والسوداني كانا عبر التاريخ شعبًا واحدًا (33). وكان كثير الشك في نوايا البريطانيين ويخشى أن يحاولوا، بعد افتتاح السودان، أن يجعلوا منهما شعبين (34). وقد عبر بقوة عن تخوفه من هذا الخطر يوم حضر حفلة فتح سد أسوان في 1902، فقال:«إذا قام الإنكليز في المستقبل ببناء خزانات في السودان، فستصبح مصر تحت رحمتهم وتتعرض لأشد الأخطار» (35).
وكان يعتقد أنه لا يجوز للغة أو للدين أو للوضع الحقوقي أن يؤثر في تعيين من يمكن أن تشملهم «الوطنية» . فهي تضم مبدئيًا جميع القاطنين في مصر. لكنها يجب أن تجمع أولًا بين الحاكم والشعب. وقد ذكرنا سابقًا أن مصطفى كامل كان ينعم برضى الخديوي في سنواته الأولى، فكان من الطبيعي أن يلح على أهمية الرابطة بين الخديوي والأمة. ولكن آماله بعباس حلمي أخذت تتضاءل تدريجًا. فقد تسنى له أن يرى عيوبه الخلقية تتكشف مع مرور الزمن: كشغفه بالمال، وعدم الاستقرار، وقلة الثبات في طبعه. فصرح لبلنط في 1906 «بأن عباسًا وأسرته لا ينفعون شيئًا» (36). وقد تباعد الاثنان بعد 1904، وجرت مصالحة بينهما فيما بعد، ثم وقع التباعد النهائي عندما وضع غورست سياسته موضع التنفيذ. ولا شك في أن هذا ما حمل مصطفى كامل، في السنوات الأخيرة، على المطالبة بحكم دستوري وتمثيلي. لكنه كان يعتقد، بصرف النظر عن رأيه في شخص الحاكم، أن الأسرة المالكة هي التي خلقت مصر الحديثة. ففي خطاب ألقاه في الذكرى المئوية لمجيء محمد علي، أثنى على هذا الأخير لتحقيق الاستقلال وتنظيم الحكم وفتح باب التوظيف لجميع المصريين وتحاشى الديون (37). لكنه أضاف إلى ذلك قائلًا: لم يكن الحاكم في كل هذا سوى تعبير عن إرادة الأمة التي رفعته إلى الحكم باختيار الشعب. والواقع أن تعاونًا وثيقًا قد قام بين محمد
علي وزعماء أهالي القاهرة في أثناء حوادث 1905 المعقدة، أسفر عن أن هؤلاء عرضوا عليه حكم مصر فوافقت الحكومة العثمانية فيما بعد على هذا الاختيار (38). وهنا يقول مصطفى كامل: في هذه البرهة نشأت الرابطة المعنوية بين الأسرة الحاكمة والأمة (39).
ويقول مصطفى كامل أيضًا إن هذه الرابطة قائمة بين الأقباط والمسلمين إذ عاشوا معًا، طيلة قرون عديدة، في منتهى الوحدة والتجانس. لكن هذا لا يعني، في نظره، أن على أي من الفريقين أن يتخلى عن دينه، أو أن على مصر أن تكف عن كونها إسلامية قبل كل شيء. فهناك دائرتان: الدين والحياة الوطنية، وليس من داع لأن يقوم نزاع بينهما، إذ أن الدين الحقيقي يعلم الوطنية الحقيقية (40). وقد كانت هذه المبادئ التي أعلنها مصطفى كامل فوق الشبهات، لكن الأقليات لم تثق به، بل كانت تأخذ عليه ضعف إيمانه بتلك المبادئ، لا بل استعداده لتضحيتها في سبيل بلوغ السلطة أو من أجل المصلحة الوطنية كما كان يفهمها، هذا فضلًا عن أنها رأت خطرًا في إثارته لقوى شعبية يستحيل عليه ضبطها فيما بعد. ويصح هذا أيضًا على علاقاته بالجاليات الأجنبية في مصر. فقد حاول استمالتها إليه، وكان يصرح بأن الأجانب والمصريين مصلحة واحدة في منع البريطانيين من الاستيلاء على كل شيء في مصر، وأن الأجانب ينفعون مصر نفعًا حقيقيًا، فهم «طلائع المدنية الغربية» فيها، و «ضمانة التقدم والرفاهية» (41). لكن نبرة صوته كانت تتغير كلما تحدث عن «الدخلاء» اللبنانيين الذين كانوا، في اعتقاده، يساعدون السلطة المحتلة. وهذه هي تعابيره عنهم بالحرف الواحد:«الدخلاء! الدخلاء! الدخلاء! هؤلاء هم الأعداء! .. لقد أنكروا وطنهم ولم يبادلوا كرم مصر وضيافتها إلا بالعقوق والكراهية» (42).
إن ما يشرح ازدواجية موقف مصطفى كامل وشكوك الأجانب والأقليات فيه إنما هي تلك الأساليب التي كان يأمل تحقيق الوحدة
بواسطتها. ربما كان مصطفى كامل مداهنًا، لكنه كان أيضًا أول سياسي شعبي في مصر الحديثة. فهو، لاعتقاده بأنه لا يمكن للدبلوماسية السرية أن تحمل البريطانيين على إقامة حكومة دستورية. إذ أنهم لا يرضخون إلا للضغط، قد حاول إثارة الهمم الوطنية بتشجيع الجمهور على الاهتمام بالسياسة وبتوجيه هذا الاهتمام في سبل من شأنها أن تؤدي إلى تحقيق هدفه. ومن هذه السبل إنشاء حزب ينتشر في طول البلاد وعرضها، وإقامة تظاهرات شعبية، وتنظيم إضرابات يقوم بها الطلاب. ففي 1906 نظم إضرابًا في مدرسة الحقوق كان فاتحة عهد طويل من الهيجان بين الطلاب لم يهدأ إلا عندما هدأ النشاط السياسي نفسه بقيام الحكم العسكري في 1952. كان هناك من يفكر تفكيره، لكن لم يكن لأحد غيره تأثيره في الجماهير. ويمكن القول إن حزبه لم يستعد ما فقده قبل 1914. فهو، وإن ظل يشكل قوة تهابها بريطانيا والخديوي على السواء، لم يوفق قط بعد وفاة مصطفى كامل إلى إيجاد الزعيم المناسب. كان رئيسه الأسمى محمد فريد، وهو رجل جليل لكنه غير فعال. وقد تنحى من تلقاء نفسه عن العمل في 1911 وتوفي في 1919. فتسلم السلطة الحقيقية في الحزب عبد العزيز شاويش الذي كان أستاذًا للغة العربية في جامعة أكسفورد فيما قبل. كان هذا خطيبًا عنيفًا، عرف كيف يوجه مبادئ مصطفى كامل نحو الوحدة الإسلامية والوحدة العثمانية (كان من أصل تونسي لا مصري). إلا أن العمل الوحيد الذي أتاه هو تفجير التوتر الخفي بين الأقباط والمسلمين، بحيث برز بروزًا لم يسبق له مثيل في تاريخ مصر الحديث. وقد غادر، هو أيضًا، مصر إلى تركيا في أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم فقد نفوذه عند انتهائها.
لقد غيرت الحرب ماهية القومية المصرية، إذ تحولت من حركة خاصة بالنخبة المثقفة، إلى حركة كان بوسعها، في أوقات الأزمات، أن تظفر إلى حد بعيد بتأييد الشعب بكامله. ويعود هذا التغيير
إلى الأفكار الجديدة وإلى الروح الجديدة الناجمة عن الحرب، وإلى الوعود المبذولة والبيانات الصادرة في أثناء الحرب. وهي وعود وبيانات لم تقتصر على المصريين، إلا أنها أثرت فيهم. كما يعود إلى الضيم الذي عانته مصر في تلك الحقبة. ففي مطلع الحرب، استبدل الخديوي عباس حلمي بعم له كان ألين منه تجاه البريطانيين. ثم ألغيت السيادة العثمانية على مصر وأدخلت هذه في عداد المحميات البريطانية. فأغاظت هذه التدابير مؤيدي الخديوي والمتمسكين بالرابطة العثمانية، كما أذكت مخاوف الذين كانوا يعتقدون أن السياسة البريطانية كانت تتوخى جعل مصر جزءًا من الإمبراطورية البريطانية إلى الأبد. وبالواقع، فقد عوملت مصر، تحت ضغط ظروف الحرب، معاملة المستعمرة. فتكاثر عدد الضباط البريطانيين فيها، دون أن يرفق ذلك تحسن في النوعية، وسيق كثيرون من الفلاحين إلى الخدمة في صفوف القوات الحليفة في فلسطين. نعم، لقد جلب وجود جيش أجنبي كبير في مصر نفعًا للبعض، لكنه أدى أيضًا إلى متاعب ومشاحنات صغيرة وكبيرة. كذلك أفضى ازدياد الطلب العالمي على القطن إلى إثراء بعض الناس، لكنه سبب أيضًا تخصيص مساحات كبرى من الأرض لزراعة القطن، مما جعل المساحة اللازمة لإنتاج الغذاء غير كافية. وعندما ضاق باب الاستيراد، في السنوات الأخيرة من الحرب، أصبح الغذاء قليلًا وباهظ الثمن. وبتغيير الروح تغيرت القيادة. فلم يعد الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل الحزب المعبر عن المشاعر الجديدة، بل انتقلت الزعامة إلى رجل لم يكن قط من مدرسة مصطفى كامل، وإلى حزب كانت مبادئه مختلفة عن مبادئها.
كان هذا الزعيم الجديد سعد زغلول (43). لكنه لم يكن جديدًا إلا كسياسي شعبي. فقد كان ينتمي إلى جيل أقدم بقليل من جيل مصطفي كامل، وكان معروفًا جدًا كشخصية من أبرز الشخصيات بين رفاق محمد عبده. وكانت أصوله العائلية شبيهة جدًا بأصول محمد عبده.
كما كانت وشخصيته تعكس صورة تلك الطبقة التي خلقت مصر الحديثة واحتلت مركز الصدارة على مسرح حياتها العامة، إلى أن حلت محلها طبقة جديدة في 1952. ولد على الأرجح في 1857، في إحدى قرى ولاية الدلتا الغربية، من أب مزارع يشغل مركز العمدة فيها، وأم تنتمي إلى عائلة مماثلة شغلت مراكز رسمية منذ عهد محمد علي. وإذ لم يكن في الولاية مدارس حديثه في صباه، دخل مدرسة دينية قديمة، ثم جاء الأزهر في 1871. ولهذا التاريخ أهميته، ففيه أتى الأفغاني القاهرة وأقام فيها. وكان سعد زغلول، طيلة السبعينيات، من تلاميذه المقربين، كما كان أيضًا من تلاميذ محمد عبده. وفي 1880، ألتحق بمحمد عبده كمحرر للجريدة الرسمية، ثم شغل وظائف رسمية أخرى. لكن الاحتلال البريطاني وضع حدًا لنهج حياته هذا. وليس من الواضح ما هو الدور الذي لعبه في الحركة الوطنية في ذلك الحين؛ لكن من الأكيد أنه كان يعطف عليها، حتى أنه سجن لفترة قصيرة بتهمة تأسيس «جمعية الانتقام» . ثم تعاطى المحاماة لمدة عشر سنوات تقريبًا. وفي 1892 رضيت عنه السلطات فعين قاضيًا في محكمة الاستئناف. واستمر في عمله هذا طيلة أربع عشرة سنة، كان خلالها يتعاون مع محمد عبده ولطفي السيد وقاسم أمين في ما اعتبروه أهم عمل في زمنهم: إعادة صياغة القوانين وإصلاح المؤسسات في مصر تلبية لحاجات العصر الحديث. وفي ذلك الوقت نفسه، خطا خطوته الأولى نحو الحياة السياسية، فأخذ يتردد على أول «صالون» سياسي في الشرق الأدنى الحديث هو صالون الأميرة نازلي. ثم تعلم الفرنسية، ودرس في مدرسة الحقوق الفرنسية في القاهرة، قبل أن يتزوج في 1896 بابنة رئيس الوزراء مصطفى فهمي باشا. وقد عرفت زوجته هذه، على الرغم من انتمائها إلى الأرستقراطية التركية القديمة، كيف تنسجم مع دوره كزعيم للأمة المصرية وكيف تعيش سنوات عديدة بعد وفاته محاطة بالاحترام «كأم المصريين» .
وهكذا ألتحق سعد زغلول، بفضل حمية، بالفئة الحاكمة في مصر. وعندما اقتنع كرومر، آخر الأمر، بضرورة إدخال مصريين في الحكومة ممن لهم صفة تمثيلية، وقع اختياره على سعد، فعينه الخديوي عباس وزيرًا للتربية، مع أن الخديوي لم يكن يحبه، إذ اعتبره، بحق، خصمًا للحكم الطلق. وبقي سعد وزيرًا للتربية مدة أربع سنوات كان خلالها وزيرًا قديرًا، وإن قاسيًا. فقد زاد عدد المدارس وأدخل في برامجها بعض التعديلات، كإبدال اللغة الإنكليزية في بعض المواد باللغة العربية. وأهم من ذلك هو أنه كان أول وزير مصري يفرض سلطته، دون خصام يذكر، على المستشارين والموظفين البريطانيين. وكان هؤلاء، على وجه العموم، يحبونه. وقد قال عنه أحدهم إنه، برغم «طريقته الصلبة والجافة» ، إداري يقظ، يبدي اهتمامًا بالغًا بتفاصيل الأعمال في الوزارة (44). وفي 1910، رقي إلى وزارة أهم، هي وزارة العدل. لكنه أخذ يشعر، أكثر فأكثر، بصعوبة الاشتراك في الحكم. كان على صلة طيبة بكرومر، حتى أنه علق صورته في مكتبه إلى جانب صور بسمارك والأفغاني وعبده (45)؛ وكان يحلم، كمحمد عبده، بتعاون المصلحين البريطانيين والمصلحين المصريين لوضع حد لسلطة الخديوي والقيام بالإصلاحات الضرورية. لذلك فإنه لم يحبذ سياسة غورست القائمة على توسيع صلاحيات الخديوي، كما أنه لم يستطع التفاهم مع كتشنر، فاستقال من الوزارة في 1913، ثم قدم ترشيحه لعضوية الجمعية التشريعية التي أنشأها كتشنر، ففاز بها كما فاز بنيابة الرئاسة. وحين انعقدت الجمعية، لبضعة أشهر في 1914، برز سعد زغلول كزعيم للمعارضة ضد الحكومة وضد البريطانيين من ورائها. وقد كان في سياسته أقرب إلى حزب الأمة منه إلى حزب مصطفى كامل الوطني، لذلك هاجمه أتباع مصطفى كامل بعنف، عندما كان وزيرًا للتربية. أما الآن، إذ أصبح نائبًا، فقد نظروا إليه كمعبر عن الرأي العام الوطني. وعندما عادت الحياة السياسية إلى نشاطها بعد انتهاء الحرب العالمية
الأولى، وأخذ المصريون يتباحثون بتأليف وفد تمثيلي يدافع عن قضية استقلال مصر في مؤتمر الصلح، كان من الطبيعي أن يتزعم سعد زغلول هذه المباحثات. فانعقد الاجتماع الأول في بيته الريفي وضم لطفي السيد وسواه. وبعد الاتصال ببعض من كانوا يشاطرونهم هذه الفكرة، بمن فيهم عدد من الوزراء: قرر سعد زغلول ورفاقه تأليف «الوفد» . ويبدو من الراجح أن الحاكم فؤاد (الذي خلف عباس حلمي حين إلغاء السلطنة) كان على علم بنواياهم وموافقًا عليها. وفي 13 تشرين الثاني 1918، أي بعد مرور يومين على الهدنة، توجه سعد مع عضوين من «الوفد» إلى مقابلة المفوض السامي البريطاني لطلب التسهيلات اللازمة للذهاب إلى لندن لعرض قضية مصر على الحكومة البريطانية. ومن ذلك الحين حتى وفاته، اقترن تاريخ حياته بتاريخ مصر. لقد رفضت الحكومة البريطانية ذلك الطلب. وكان لها بعض العذر، إذ كان من الصعب عليها قبول سعد زغلول ممثلًا للمصلحة الوطنية عوضًا عن الحكومة المصرية. لكن وزارة الخارجية البريطانية رفضت أيضًا طلبًا مماثلًا تقدم به رئيس الوزراء، رشدي باشا، مما حمله على الاستقالة. وهكذا اشتد التوتر، فألقي القبض على سعد وبعض رفاقه في آذار 1919 ونفوا إلى مالطا، مما أدى إلى وقوع اضطرابات واسعة. إذ ذاك ضحت الحكومة البريطانية بمفوضها السامي، جاعلة منه كبش المحرقة، فاستبدلته بالجنرال ألنبي، المنتصر على العثمانيين في حرب فلسطين. ثم أحلت سياسة التفاهم محل سياسة القمع، فأطلقت سراح سعد وسمحت له بالذهاب إلى باريس لعرض قضية مصر على مؤتمر الصلح، وأعلنت أن بعثة خاصة برئاسة اللورد ميلنر ستدرس الموضوع. وحين وصلت بعثة ميلنر إلى مصر في كانون الأول 1919 قاطعتها البلاد بأجمعها تقريبًا. وقد برهنت هذه المقاطعة، التي دبرها أتباع سعد، على نفوذ سعد المتزايد. أما تأثيرها على البعثة فكان شديدًا. لذلك راحت، بعد عودتها إلى
لندن، تفاوض سعد على الصعيد الشخصي (وكان لا يزال في أوروبا). عارضة عليه اعتراف بريطانيا بمصر كدولة مستقلة ومملكة دستورية لقاء ارتباط مصر ببريطانيا بتحالف يمنح البريطانيين حق الاحتفاظ بقوة عسكرية فيها تقتصر على تأمين مواصلات الإمبراطورية. وإذ فشلت هذه المفاوضات مع سعد، حاولت الحكومة البريطانية الاتفاق مع المصريين بدونه. وكان رئيس الوزراء عدلي يكن باشا مستعدًا للقبول بذلك، متحديًا موقف سعد. على أنه طلب إلى سعد الاشتراك في المحادثات، فرفض وراح ويعارض مهمة عدلي بنجاح. إذ ما كادت أن تبدأ المفاوضات، حتى وجد عدلي نفسه عاجزًا عن عقد أي اتفاق. وما ذلك إلا لأن أي اتفاق كان يعني التسوية. فإذا ما قبل هو بالتسوية، تسنى لسعد أن يزايد عليه فيجعل موقفه صعبًا. لذلك استقال في تشرين الثاني 1921. ثم ألقي القبض مجددًا على سعد ونفي إلى جزر سيشيل. لكن هذا التدبير ضد سعد جاء متأخرًا، إذ كان قد أثبت أن ليس بالإمكان عقد أية معاهدة إنكليزية مصرية إلا معه ومع أنصاره. مما لم يترك للحكومة البريطانية إلا سبيلًا واحدًا مفتوحًا أمامها، وهو أن تتنازل، من طرفها وحدها، عما كانت مستعدة للتنازل عنه في أية معاهدة. فأصدر مفوضها السامي، في شباط 1922، إعلانًا باستقلال مصر. وهكذا زالت الحماية وأصبحت مصر مستقلة. إلا أن بريطانيا احتفظت لنفسها بأربع مسائل ريثما يتم الاتفاق عليها فيما بعد: مواصلات الإمبراطورية، والدفاع، والمصالح الأجنبية والأقليات، والسودان.
وهكذا نجح سعد في أن يحقق لمصر استقلالًا مؤقتًا على الأقل، دون أي ارتباط. ثم سمح له بالعودة إلى مصر في أيلول 1923، وكان الدستور قد وضع في أثناء غيابه، كما كانت الانتخابات قد أسفرت عن فوز أنصاره الذين انتظموا في حزب برلماني أطلقوا عليه اسم «حزب الوفد» . فاستلم سعد زغلول رئاسة الوزارة، ودخل في
مفاوضات مع الحكومة البريطانية حول المسائل الأربع المعلقة. وكان رامزي ماكدونالد قد أصبح رئيسًا للوزارة البريطانية، وهو ممن كانوا يعطفون على المطالب المصرية. لكن المفاوضات فشلت، فاشتد التوتر في مصر. وهاجمت دوائر الدعاية في الوفد السياسة البريطانية بعنف. وحين قتل قائد القوات البريطانية، ألقى المفوض السامي المسؤولية على سعد وأتباعه، فوجه إلى الحكومة المصرية إنذارًا صارمًا أدى إلى استقالتها. ثم بدأت مرحلة ظهر فيها الوفد وكأنه خسر المبادرة، إذ تسلمت السلطة حكومة ائتلافية من أشخاص عينهم القصر، ومن الأحرار المستقلين. لكن هذا الائتلاف كان مزعزعًا، ولم يمض وقت طويل حتى طغت قوة القصر على كل شيء، فتصالح المستقلون مع الوفد الذي أخذ يطالب بانتخابات جديدة. وجرت الانتخابات في 1926، ففاز فيها الوفد بالأكثرية. لكن سعد لم يتسلم رئاسة الوزارة في وجه معارضة بريطانيا، بل انتخب رئيسًا لمجلس النواب. وهكذا تشكلت حكومة ائتلافية من الوفدين والأحرار. لكن هذا الائتلاف كان مزعزعًا أيضًا. غير أن تأثير سعد على أتباعه جعله يستمر حتى وفاته في 1927.
تنقسم حياة سعد زغلول العامة إلى قسمين واضحين، تفصلهما حرب 1914 - 1918. على أن هذا التقسيم، ككل التقسيمات في التاريخ أو في حياة الإنسان، إنما هو أقل دقة في الواقع مما هو في الظاهر. لكن من المؤكد أن هناك فرقًا بين سعد زغلول القاضي المصلح، وسعد الزعيم الشعبي، ينم عنه ذلك التباين البادي، إن لم يكن في محتوى تفكيره في شؤون السياسة والمجتمع، فعلى الأقل في مدى إلحاحه على بعض نواحيها. لقد بقيت أفكاره إجمالًا أفكار مدرسة محمد عبده، إلى أن انخرط انخراطًا تامًا في الحياة السياسية. كان موضوع تفكيره مصر، كشيء محدد في المكان ومتصل في الزمان، فرعوني وعربي على السواء. وكان يعتقد أن على مصر أن تستقل، وأن الاستقلال الحقيقي لا يتم إلا بالإصلاح؛
وأن الحاجة إلى الإصلاح هي على أشدها في حقلي التربية والقانون. وأنه من الضروري إقامة نظام تشريعي مستمد من مبادئ الفقه الإسلامي، على أن يلبي، بالوقت نفسه، حاجات العصر. ومن شأن هذا النظام أن يسيطر على المجتمع كي لا يقع في الفوضى وعلى الحكم كي لا ينقلب إلى استبداد.
هذه المجموعة من المعتقدات تفسر نشاطه قبل 1914. فقد كان معروفًا، في ممارسته القضاء، بحرصه على إقامة العدل. لكنه كان، في حالات الشك، يميل إلى التسامح، إذ كان يرى أنه من الأفضل تبرئة المجرم من تجريم البريء (46). وكان أيضًا، في بعض الحالات، يخالف القواعد الإجرائية لتصحيح خطأ في الحكم. وكان يشجب التجاء البوليس إلى وسائل التهديد والضغط، لأن ذلك كان في نظره أشد خطرًا على الناس من اختفاء المجرم أو تهربه من العقاب. كما كان من شأنه أن يلحق الضرر بالقضاء، فيجعل منه حليفًا للاستبداد لا نصيرًا للعدل (47). فالعدل، في اعتقاده، يجب أن يسود، لكن من الواجب تحديد العدل على ضوء المصلحة العامة، وتحديد المصلحة العامة على ضوء مجموع المصالح الخاصة. لقد أعلن، في أثناء حكم أصدره ضد سلطات الري في الإسكندرية لتعديها على أملاك خاصة، أنه من غير الممكن أن يكون القصد من هذا القانون إجازة التدابير الجورية المخالفة للعدل والقانون والملحقة للضرر بحقوق الأفراد والخالية من النفع العام (48). وهكذا يمكن اعتبار عمله في القضاء كمحاولة لجعل مبادئ محمد عبده الرامية إلى إصلاح الشرع أساسًا للمحاكم العلمانية أيضًا. أما الشرع بحد ذاته، فقد حول إليه بعض الاهتمام بوصفه وزيرًا للعدل، فأسس مدرسة لقضاة الشرع يتلقون فيها التربية الحديثة.
إن حرصه هذا على إصلاح جهاز المجتمع يتجلى في البيان الانتخابي الذي ألقاه يوم ولج باب الحياة السياسية كمرشح في انتخابات 1913. ومما جاء فيه أنه سيسعى، إذا قدر له الفوز
في الانتخابات، إلى إصلاح النظام التشريعي، وتوسيع نطاق التربية بحيث تشمل أولاد الفقراء، ومنح الصحافة حرية أوسع ضمن حدود النظام العام، وإصلاح البلديات في القاهرة، وتحسين أوضاع الفلاحين (49). وعندما اضطر، بعد انتخابه، إلى معارضة الحكومة، متخذًا بذلك أولى خطواته نحو الشهرة، بقي سائرًا على هذا النهج ذاته. ذلك أن عدم سيادة القانون، أو حكم الخديوي المطلق، قد ظل، كما كان، موضع خصومته. ومن أجل إحراز النصر، لم يتردد في استخدام البريطانيين ما أمكن، مع أنه لم يكن من مؤيدي وجودهم بلا حساب، ولا ممن يطيقون منهم كثرة الرقابة والتدخل.
أما شخصيته فلم تتغير إلا قليلًا، بعدما أصبح الزعيم الشعبي لمصر. فقد بقيت الأفكار ذاتها قابعة في ذهنه حتى آخر حياته، كما بقي، على الأقل في الساعات الهادئة، تلميذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. ولم يتنازل عن إيمانه بالديمقراطية أسلوبًا للحكم. ذلك أن الحكومة في نظره هي لخدمة صالح الفرد والمجتمع، ولذلك حق لها أن تطلب مساعدة الشعب. لكن الشعب المصري ينظر إلى الحكومة نظرة العصفور إلى الصياد، لا نظرة الجيش إلى القائد. فمن الواجب استبدالها، بحيث يثق الشعب بالحكومة ويقتنع بأنها جزء من الأمة (50). وقد حاول، في الخطب الأولى التي دشن بها زعامته السياسية، إزالة المخاوف بالتعبير عن اعترافه بمصالح جميع الفئات: مصالح الأجانب المالية، ومصالح العالم في قناة السويس، ومصالح الأقباط داخل المجتمع القومي المصري. وهكذا كانت روحية الوفد الأولى روحية «الاتحاد المقدس» ، ووحدة الرابطة القومية التي فيها تذوب الفروقات الدينية. لكن هذه الروحية لم تدم، لأنها ربما كانت أبسط مما ينبغي، إذ لا تتلاشى الفروقات الدينية بهذه السهولة. لكن ليس من داع للشك في إخلاص سعد زغلول، وهو الذي لم يفقد يومًا تأييد كبار الأقباط. وعلى هذا النحو أيضًا استهوت وطنية الوفد عنصرًا مضطهدًا آخر، هو المرأة المصرية
المثقفة. والواقع أن فكرة مناصرة المرأة كانت قد أصبحت، منذ قاسم أمين، هاجس التفكير الوطني في مصر. وليس من قبيل المصادفة أن تدخل في عداد الأيام الوطنية الخالدة تلك الأيام التي سارعت فيها النساء، بقيادة هدى شعراوي، إلى خلع الحجاب والاشتراك في الحياة العامة.
لكن استمرار الصراع أدى تدريجًا إلى تضاؤل ساعات التفكير الهادئ. فأخذ الجميع يلاحظون، مصريين كانوا أم أجانب، أن «الزعيم» بدأ يتكلم بلهجة جديدة وبإلحاح آخر. لقد أصبح أكثر استبدادًا، لا بل أكثر ميلًا إلى الانتقام في علاقاته مع الزعماء الآخرين. ولم يمر زمن طويل على الوفد حتى أخذ يتصدع من أعلى. فلم ينفصل عنه السياسيون الطموحون فحسب، أمثال محمد محمود وإسماعيل صدقي، بل لطفي السيد أيضًا، وهو ذلك المتعقل القنوع وزميل سعد في التلمذة على محمد عبده. وأصبح سعد أيضًا أكثر تعنتًا في تصرفاته مع الآخرين وأضيق في مفهومه للأمة المصرية. فقد قال في إحدى خطبه بأن أهم نتائج الثورة كانت تمصير الاقتصاد المصري، وخلع الحجاب، واشتراك المرأة في الحركة الوطنية، وإزالة طبقة الباشوات، وتسلم الفلاحين الحكم، واختفاء العنصر التركي من السياسة المصرية (51). ثم أضاف قائلًا: أن الاستقلال آت بعد كل ذلك. لأن لا قيمة للاستقلال الخارجي إن لم يرافقه التحرر الداخلي أيضًا. كانت آراء كهذه مما يرضى عنه محمد عبده، باستثناء المسائل الثلاث الأخيرة. فقد كان محمد عبده يدعو دومًا إلى الوحدة الاجتماعية (الوطنية والدينية على السواء)، وإلى توافق جميع المصالح، وإلى فكرة عن الأمة المصرية لا تعير العرق أي وزن.
فما الذي أحدث هذا التغيير في سعد زغلول؟ هنالك من يزعم أن بريق السلطة قد أخل بتوازن طبعه. وفي هذا، ولا شك، بعض الحقيقة. فمن شأن الحياة السياسية أن تقوي في الإنسان ما قد يكون عليه أصلًا من ميل إلى العنف والانتقام. وقد ظهر ذلك بوضوح،
عند سعد زغلول، حين واجهت المصاعب علي عبد الرازق من جراء كتابه عن «الإسلام وأصول الحكم» . كان من المتوقع أن يبدي سعد بعض العطف على رجل لم يكن من أتباع محمد عبده فحسب، بل ممن توسعوا في تطبيق مبادئه في التفسير- حتى لو اعتبر هذا التوسع انحرافًا. فكان شهيدًا للحرية الفكرية. لكن سعد لم يظهر نحوه أي عطف، لا بل سره أن تحل به هذه المحنة، لاتصاله بالحزب الدستوري الحر الذي أسسه المنشقون الأول عن الوفد، ولأن مثل هذه المحنة فضيحة كان من شأنها إضعاف هذا الحزب المنافس (52).
لم يكن سعد رجل فكر بالمعنى الدقيق، بل رجل اتجه ذهنه بطبيعته نحو الأمور العملية. كانت ثقافته ثقافة رجل عملي: فلم يطالع من الكتب إلا ما كان له علاقة بعمله، ولم يدرس اللغة الفرنسية لأنها كانت مفتاح كنوز المدنية الحديثة، بل لأنها كانت ضرورية لعمل رجل سياسي طموح. كما أنه لم يدرس اللغة الإنكليزية إلا لتساعده على التعامل مع الإنكليز، وبعض أصول اللغة الألمانية في أثناء الحرب العالمية الأولى إلا تحسبًا للمستقبل. وكان دافعه الرئيسي لقراءة القرآن العثور على آيات مفيدة يستشهد بها (53). وإذا كانت وجهة نظره قد تغيرت فيما بعد، فليس لتغيير طرأ على طبعه، بل لضرورة الاستجابة لقضايا عملية جابهته. فتردده، في هذه المرحلة، في التعاون مع الإنكليز لا يفسره إلا ما طرأ من تحول على وضع بريطانيا في مصر والعالم. ففي 1918 كانت السلطة الإدارية الإنكليزية في مصر قد تزايدت وأخذت تستهدف حماية المصالح البريطانية، لا تحقيق ما كان ضروريًا لإصلاح مصر، كما كان في الماضي. أضف إلى ذلك أن نقاط ولسن الأربعة عشرة ووعود الحلفاء الأخرى كانت قد خلقت روحًا جديدًا في العالم. ولعل هذا التغير هو ما يفسر اهتمام سعد، آنذاك، بالإصلاح الداخلي أكثر من اهتمامه بالاستقلال. فقبل 1914، كان حتى الاستقلال المحدود مستحيلًا، ولم يكن لمصلح مصري عملي من خيار سوى القبول بالوجود
البريطاني ومحاولة الانتفاع به لمصلحة البلاد. وعلى هذا قد يكون الكثير من تصرفات سعد التي بدت عنيفة وغير متعقلة راجعًا إلى طبيعة المشاكل السياسية التي واجهته. وبتعبير آخر، كان سعد يحاول أن يقود حركة جديدة لا عهد لمصر بها من قبل، وفي ظروف كانت تجعل بعض الأعمال مستحيلة وبعضها محتمة، فأثرت طبيعة الأفعال التي كان عليه القيام بها في المفاهيم التي كان يفهم ذاته على ضوئها ويبرر نفسه.
كان الوفد الذي زار السير رجينالد فنفات في تشرين الثاني 1918 وفدًا قد شكل نفسه بنفسه، وكان ادعاؤه التكلم باسم الشعب المصري لا أساس له سوى ذلك الادعاء نفسه. وإذ لم يكن هناك برلمان أو جهاز آخر منظم ومعترف به ومؤهل للتعبير عن الرأي العام، فلم يكن من بد لذلك الوفد، لدعم ادعائه هذا تجاه البريطانيين وتجاه منافسيه، من فرض إرادته عليهم، وذلك بتوليد نوع من القوة يستعيض بها عن القوة التي كان من الممكن استمدادها من أكثرية برلمانية في بلد دستوري، أو من جيش، أو من شبكة من العلاقات الخارجية في بلد مستقل. وهكذا كان لا بد له من تحقيق غرضين جوهريين، الواحد مرتبط بالآخر: إيجاد قوة بديلة عن القوة البرلمانية والوطنية، وإيجاد أساس معنوي لأعماله، أي نوع من التبرير المعنوي لادعائه حق التفاوض باسم الشعب المصري، وعند الاقتضاء تحدي السلطة القائمة، أكانت سلطة الدولة الحامية أم سلطة الحكومة الشرعية.
وقد اجتازت هذه العملية فترتين حرجتين: الأولى فترة اصطدام سعد الأول بالبريطانيين في 1918 - 1919، إذ رفضت وزارة الخارجية البريطانية السماح له بالسفر إلى لندن وباريس للتباحث في مستقبل مصر. كان هذا الرفض بالحقيقة بمثابة عدم قبول البريطانيين بادعائه حق التكلم باسم الشعب المصري. نعم، كان سعد رجلًا ذا منزلة وخبرة؛ لكنه لم يكن وحده يتحلى بهذه الصفات، فضلًا
عن أنه لم يكن عضوًا في الحكومة. فجرت في بادئ الأمر محاولة لإضفاء نوع من الشرعية على الوفد، وذلك بربطه بالهيئة التمثيلية الوحيدة التي قد يجوز القول بأنها كانت موجودة في ذلك الحين، أي الجمعية التشريعية، التي كانت قد انتخبت في 1913 لكنها توقفت عن الانعقاد منذ وقوع الحرب، والتي كان بعض أعضائها (بمن فيهم سعد) أعضاء في الوفد. ثم ظهرت تدريجًا نظرية أخرى تقول بأن سعد لم يكن مجرد زعيم سياسي كغيره، وبأن الوفد لم يكن حزبًا سياسيًا بالمعنى المألوف، وإنما كان ممثلًا للشعب المصري على نحو خاص، مما يلقي على عاتقه بعض الالتزامات ويحرره بالوقت نفسه من بعضها؛ وبأن وفدًا كهذا يعود له وحده القرار النهائي في ما يجب أن يقوم به.
وقد نص الدستور الأول للوفد، الموضوع في 1918، على أن «الوفد يستمد سلطته من إرادة الشعب المصري المعبر عنها إما مباشرة وإما بواسطة ممثليه في الهيئات التمثيلية» (54). وفي مرحلة سابقة، جرت محاولة للحصول على توكيل من المصريين في سائر أنحاء البلاد يخول الوفد العمل من أجل استقلال مصر بجميع الوسائل الممكنة. وقد وقع بالفعل هذه الوثيقة أبناء الطبقات المثقفة، لا بل أعضاء المجالس المحلية، ومخاتير القرى وأعيان الريف، بتشجيع من الحكومة المصرية في ذلك الحين (55). وعلى هذا الأساس ادعى سعد زغلول بأنه يتكلم باسم مصر في وجه بريطانيا. وقد صرح، في رده على فنفات في 1918، بأنه هو ورفاقه إنما هم الممثلون الطبيعيون المكلفون من قبل الأمة المصرية نفسها (56). وبعد ثلاث سنوات، ذهب سعد أبعد من ذلك، فاستخرج من هذا الادعاء مستلزماته المنطقية. ففي كانون الأول 1921، وفي فترة الاضطرابات التي نشبت على أثر إخفاق المفاوضات بين عدلي وكرزون، حذر مستشار وزارة الداخلية آنذاك سعد زغلول من تعاطي النشاط السياسي. فأجابه بأنه لا يستطيع الكف عن هذا
النشاط. لأن القانون الخلقي الوحيد الذي يمكنه الاعتراف به إنما هو الواجب الوطني. ثم أضاف قائلًا أن الأمة انتدبته للعمل من أجل استقلالها، وما من أحد سواها له الحق في أن يمنعه من القيام بهذا الواجب المقدس (57). إن مثل هذا الموقف إنما هو تأكيد للمبدأ، ناهيك بأنه يتضمن. منطقيًا، منهاجًا للعمل. فالطريقة الوحيدة التي كان يمكن لسعد بلوغ أهدافه بها إنما كانت توليد التأييد الشعبي، أو بكلمة أخرى، جعل الأمة تتصرف كما لو كان ادعاؤه صحيحًا. نعم، كان بإمكانه استخدام وسيلة أخرى. فهو، كمصطفى كامل، لا بل كجميع الزعماء الوطنيين في البلدان الخاضعة للدول الديمقراطية، قد وثق إلى حد ما بالأحرار الأوروبيين، فكان يقول: إذا لم تساعدنا أي حكومة أجنبية، فلنا بين شعوبها عددًا من الأحرار ممن يعطفون على قضيتنا ويخدمونها بالخطابة والكتابة (58). لكن هذه الوسيلة لم تكن في نظره سوى وسيلة ثانوية. أما الوسيلة الأولى، فهي التأييد الشعبي. ولكي يتمكن من استخدام هذه الوسيلة، توجب عليه أن يفرض سلطته على الشعب المصري، بحيث يضطر البريطانيون للقبول به ناطقًا وحيدًا باسم مصر.
وفي أواخر 1919، كان هذا النهج الذي سلكه قد بلغ نهايته أو كاد. فمقاطعة الشعب المصري لبعثة ميلنر، وصعوبة تأليف حكومة تتسلم الحكم في أثناء إقامة تلك البعثة في مصر، قد ترك أثره في ميلنر وزملائه، بحيث حملهم على التفاوض مع سعد بصفة شخصية. إذ بدا لهم أن اتفاقًا يعقده سعد مع بريطانيا، هو اتفاق يقبل به الشعب المصري ولا يقبل بسواه. وهكذا لم يعد أحد يشك بصحة أوراق اعتماده كزعيم الشعب. لكنه، مع هذا، لم يكن هو الحكومة المصرية. وهذا ما كان محور القضية في أثناء الأزمة الثانية، أي أزمة 1921، التي وقعت عندما حاول عدلي باشا آن يهيئ نفسه لإجراء مفاوضات تمهد لعقد معاهدة مع بريطانيا. وهو في ذلك قد كاد يتغلب على سعد، لا لأن في يده سلطة الحكومة
فحسب، بل لأنه كان بإمكانه أيضًا اكتساب عاطفة الشعب الوطنية. إلا أنه كان يشكو من عيب كبير، هو انتماؤه إلى إحدى العائلات التركية القديمة التي أثرت وقويت في خدمة محمد علي وخلفائه. ولعله لم يستطع، لكونه «السيد الكبير» ، أن يستهوي المصريين كما استهواهم سعد الذي كتب عنه دبلوماسي إنكليزي قائلًا: «كان زغلول إنسانًا إلى حد بعيد. فهو، مثلًا، يحب القمار والنكت البذيئة والطعام الطيب
…
وهو، بمعنى من المعاني، أول مصري يمثل المصريين حقًا ويعتبر ابن الأرض النقي. فهو إن أرعد فكنبي صغير، أو مزح فكأحد أبناء العامة» (59).
لكن عدلي كان، من جهة أخرى، رجلًا سياسيًا موهوبًا، وذا أخلاق شريفة ولطيفة، وليبراليًا، ووطنيًا أيضًا لكن على طريقته الخاصة. فقد شجع الوفد في مراحله الأولى، وذهب إلى باريس بطلب من سعد في 1920 للعمل على إنجاح المحادثات مع بعثة ميلنر. لكن المنافسة قامت بين الرجلين بالرغم من العلاقات الودية التي كانت تربطهما. فقد اختلف أعضاء الوفد فيما بينهم حول الموقف الواجب اتخاذه من اقتراحات ميلنر، فالتف حول عدلي القائلون بقبولها، بما فيهم لطفي السيد. وعندما أعلنت الحكومة البريطانية، بعد نشر اقتراحات ميلنر، استعدادها للمفاوضة، اتسع الخلاف. فأصر عدلي، وكان قد أصبح رئيسًا للوزراء، على أن الحكومة هي التي يجب، مع موافقة الوفد طبعًا، أن تقوم بالمفاوضات، بينما أصر سعد على أن يكون الوفد هو المفاوض الوحيد. وقد بدا إذ ذاك لبعض الزعماء المصريين أن إصرار سعد هذا إنما هو بمثابة الزعم بأن من حق رجل واحد، لم تمنحه القوانين المرعية هذا الحق، أن يفرض إرادته على صاحب العرش وعلى البلاد بمجموعها، وأن يتعدى في سبيل ذلك حدود القانون والنظام (60). لذلك كان في وسع البعض ممن كانوا أكثر تحفظًا وخبرة من سعد، أو على غير استعداد لقبول وجهة نظره، أن يجدوا في عدلي زعيمًا يسهل العمل معه.
وهكذا كان من الضروري لسعد أن يمنع عدلي من التفاوض باسم مصر. أو إذا استحال ذلك، أن يحول دون نجاح المفاوضات. واستمر هذا الصراع حول السلطة طيلة ذلك العام، حتى انتهى بزج سعد في السجن ثم بنفيه مرة ثانية، كما انتهى أيضًا بإخفاق المحادثات بين عدلي وكورزون. وقد ظهرت، في أثناء هذا الصراع، نظرية جديدة لسعد في ماهية الوفد، وفي ما هو بالنسبة للوفد، فقال بأن الوفد ليس حزبًا سياسيًا، شارحًا ذلك بقوله: «يقولون أين برنامجكم؟ فنقول نحن لسنا بحزب وإنما نحن وفد موكل عن الأمة يعبر عن إرادتها في موضوع عينته لنا، هو الاستقلال التام. فنحن نسعى لهذه الغاية وحدها
…
أما المسائل الداخلية: هل يكون التعليم إجباريًا ومجانًا أم بمصاريف؟ هل يجب في الأمور الاقتصادية أن يكون هناك فوائد على الدين؟ هل نزرع القطن في ثلث الزمام أو نصفه؟ فهذه مسائل أترك الأمر فيها لمن هو أعرف مني بها. وأما فيما يتعلق بالاستقلال، فنحن أمة لا حزب. ومن يقول لنا إننا حزب يطلب الاستقلال يكون مجرمًا. لأن هذا يدل على أن في الأمة حزبًا أو أحزابًا أخرى لا تريد الاستقلال. أن الأمة بتمامها تريد الاستقلال التام، ونحن تراجمة الأمة فيما يتعلق بهذا الاستقلال. نحن أمناء الأمة فيما يتعلق بهذا الاستقلال» (61).
كان الوفد جزءًا ثابتًا من كيان مصر السياسي، لا بل الأمة المصرية نفسها منتظمة للعمل في سبيل أهداف سياسية. كانت مهمة الحكومة أن تحكم، أما مهمة الوفد وزعيمه فكانت تمثيل الرأي العام. فعلى الحكومة أن تقبل بذلك، فلا تحاول توجيه الرأي العام أو التأثير فيه ضد الوفد؛ وإذا ما دخلت في مفاوضات فعليها أن تضع أمام الوفد نتيجة مفاوضاتها (62). وبتعبير آخر، كان الحكم أمرًا ثانويًا بالنسبة للوفد، فهو، في الحكم أو خارج الحكم، الحارس الدائم للمصلحة العامة. إن هذه التأكيدات التي صيغت خلال استعار النزاع غدت، فيما بعد، جزءًا من عقيدة الوفد، وكان لها تأثير عميق في آرائه وسياسته.