المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[الجهل] (والجحود) إنكار (بعد وضوح الدليل) وثبوت العلم، قال الله تعالى: - الكافي شرح أصول البزدوي - جـ ٥

[الحسام السغناقي]

الفصل: ‌ ‌[الجهل] (والجحود) إنكار (بعد وضوح الدليل) وثبوت العلم، قال الله تعالى:

[الجهل]

(والجحود) إنكار (بعد وضوح الدليل) وثبوت العلم، قال الله تعالى:(وجَحَدُوا بِهَا واسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ)[النمل:14].

وقوله: «بعد وضوح الدليل» أي على حدوث العالم، فإنه لما شاهد حوث العالم وجب عليه أن يعتقد بأن له محدثًا أحدثه؛ لأن الحادث هو ما كان مسبوق العدم، والعالم موجود مشاهد والعدم لا يوجد نفسه، فلا بد له من موجد يخرجه من العدم إلى الوجود وهو المحدث، والإنكار لوجود المحدث وصفاته التي هي لازمة الإحداث من الحياة والعلم والقدرة بعد ذلك إنكار بعد وضوح الديل، (فإنها تصلح دافعة للتعرض) كاستصحاب الحال.

يعني لو أراد واحد التعرض لإتلاف خمره يدفعه الكافر بديانته أي باعتقاده بأن الخمر كانت حلالًا متقومة في الأصل، فيبقى كذلك وصف الحل والتقوم، ونحن أمرنا بأن نتركهم وما يدينون.

ص: 2314

(في الأحكام التي تحتمل التغير) مثل حرمة الخمر وحرمة نكاح الأخت فإن هذه الأحكام تحتمل التغير.

ألا ترى أن نكاح الأخت كان صحيحًا في عهد آدم عليه السلام، والخمر كانت مباحة في ابتداء الإسلام، فيصلح أن تكون ديانة الكافر في مثل هذه الأحكام دافعة للدليل الموجب للحرمة.

(الاستدراج): اندلت اندك نزديك كردانيدن خداي تعالى بنده بخشم وعقوبت خود.

(والمكر): هو الأخذ على الغرة، (وتمهيدًا لعقاب الآخرة) يعني أن قصور الخطاب عنهم وإن لم يكونوا مخاطبين بأداء العبادات لم يكن للتخفيف عليهم بل للتغليظ وهو تمهيد عقاب الآخرة بسبب ذلك القصور وترك الخطاب بأداء العبادات.

وهذا لأن الخطاب بأداء العبادات إنما يكون ليسعى المرء بأدائها في فكاك نفسه. قال النبي عليه السلام: «الناس غاديان بائع نفسه فموبقها» ، يعني

ص: 2315

يترك الائتمار بالأوامر، والقول بأن الكافر ليس بأهل للسعي في فكاك نفسه ما لم يؤمن لا يكون تخفيفًا عليه، بل هو نظير أداء بدل الكتابة لما كان ليتوصل به المكاتب إلى فكاك نفسه، فإسقاط المولى هذه المطالبة عند عجزه بالرد في الرق لا يكون تخفيفًا عليه، فإن ما يبقى فيه من ذل الرق فوق ضرر المطالبة بالأداء.

ونظيره أيضًا من الحسيات أن مطالبة الطبيب المريض بشرب الدواء المر إذا كان يرجو له الشفاء يكون نظرًا له من الطبيب لا إضرارًا به، فإذا أيس من شفائه وترك مطالبته بشرب الدواء لا يكون ذلك تخفيفًا عليه بل إخبارًا له بما هو أشد عليه من ضرر شرب الدواء المر وهو ما يذوق من كأس الحمام، فكذلك هاهنا قولنا: إن الكفار لا يخاطبون بأداء الشر ائع لا يتضمن معنى التخفيف عليهم بل يكون فيه بيان عظم الوزر والعقوبة. كذا قاله الإمام شمس الأئمة رحمه الله.

(«وجنة الكافر») من حيث إنه لا خطاب في الجنة بل فيها ما تشتهي الأنفس.

(فأما في حكم لا يحتمل التبدل) مثل تدينهم بعبادة الصنم عصمنا الله

ص: 2316

تعالى عن ذلك لا يعطي له حكم الصحة ولا يكون ذلك دافعًا لدليل الشرع.

(ويبتنى على هذا) أي على أن ديانتهم صارت دافعة.

(وما أشبه ذلك) مثل جواز جعل الخمر أجرة في الإجارات ومهرًا في النكاح ودفعهم إياها في الضمانات.

(قضى بها عنده) أي قضي بهذه الأحكام عند أبي حنيفة رضي الله عنه.

(لا تصلح حجة متعدية) أي ملزمة؛ (لأن ديانتها لا تصلح حجة على الأخرى) فلما لم تكن ديانتها حجة في حق من هو على ديانتها فلأن لا تكون حجة على من اعتقد خلاف دينها بالطريق الأولى.

(وجب أن لا تجعل حجة متعدية) يعني وجب أن لا تجعل ديانتهم حجة ملزمة على المسلمين في هذه الأحكام الثلاثة وينبغي أن لا يجب الحد

ص: 2317

على القاذف ولا تستحق القضاء بالنفقة ولا يجب الضمان على متلف خمرهم.

(قلنا عنه: هذا تناقض؛ لأنا نجعل الديانة معتبرة) إلى آخره بيان التناقض أنك ساعتدتنا على أن ديانتهم معتبرة في حق الدفع، وما قلت من النقض يؤدي إلى التناقض؛ لأنه يؤدي إلى أن لا تكون ديانتهم معتبرة أصلًا فحينئذ يكون ذلك قولًا باعتبار الديانة وعدم اعتبار الديانة، وهذا هو التناقض.

فقوله: «هذا تناقض لأنا نجعل الديانة معتبرة» إلى آخره. جواب تام؛ لأن السائل يحترز عن التناقض وعند ظهور ما يوجب تناقضًا في سؤاله يمتنع عن مثل ذلك السؤال، والمقصود من الجواب هو أن يظهر من المجيب الجواب ما ينقطع به سؤال السائل؛ لأن الجواب مأخوذ من جاب الفلاة أي قطعها؛ وذكر في غصب «المبسوط» ، ثم وجوب الضمان بالإتلاف لا يكون المحل مالًا متقومًا ولكن شرط سقوط الضمان بالإتلاف انعدام المالية وانعدام التقوم في

ص: 2318

المحل، وهذا الشرط لم يثبت في حقهم مع أنا ضمنا بعدق الذمة حفظها وحمايتها لم÷، والعصمة تتم بهذا الحفظ، ووجوب الضمان بالإتلاف يبتنى على ذلك، فكان هذا من ضرورة ما ضمناه بعقد الذمة.

ألا ترى أن في الذي لم يضمن بعقد الذمة بقي على ما هو مقتضي الشرع كما في عقود الربا، حيث يتعرض لهم في إبطال عقود الربا بينهم؛ لأنا لم نضمن ترك التعرض لهم في ذلك مع قول الرسول عليه السلام:«ألا من أربى فليس بننا وبينه عهد» ، وهذا لآن ذلك فسق منه في الاعتقاد ولا ديانة، وقد ثبت بالنص حرمة الربا في اعتقادهم، قال الله تعالى:(وأَخْذِهِمُ الرِّبَا وقَدْ نُهُوا عَنْهُ)[النساء:161] ولم نعمل فيه بما يدعون من اعتقادهم بحل الربا.

(لأنا نأخذ نصف العشر من خمور أهل الذمة والعشر من خمور أهل الحرب) كما نأخذ من سائر أموالهم كالحنطة والشعير، فجعلنا خمورهم من الأموال المتقومة بناء على اعتقادهم أنها من الأموال المتقومة وجريان عقد الذمة بهم على ذلك.

(وهذه غير متعدية) أي وهذه الديانة التي يدينون بها بأنها من الأموال

ص: 2319

المتقومة نأخذ العشر باعتبارها لا باعتبار أن حجتهم متعدية أي ملزمة علينا بالإجماع، فكذا فيما وراء هذا مما قلنا من المسائل، بل أجريناها على موجب اعتقادهم.

(بل هي حجة عليهم) يعني أن ديانتهم تصير حجة عليهم ونأخذ العشر باعتبار ديانتهم أنها من الأموال المتقومة؛ لأن العشر إنما يؤخذ من الأموال المتقومة إلا أنه لا يؤخذ أي العشر من الخنزير.

هذا جواب لإشكال وهو أن يقال: لو كان أخذ العشر باعتبار ديانتهم وديانتهم موجودة في حق الخنزير أيضًا فلم لا يؤخذ العشر منه؟

(وحقيقة الجواب: أنا لا نجعل الديانة متعدية) يعني ما قلنا إنه تناقض كان ذلك لدفع سؤالهم.

فأما ما هو حقيقة الجواب فهو إنا لا نعتبر ديانتهم متعدية في جميع ما ذكرنا من المسائل، بل كل ذلك بناء على أمر آخر وهو أنا نعتبر ديانتهم في حق الدفع.

(لم يثبت بالديانة إلا دفع الإلزام بالدليل) أي دفع إلزامان إياهم بالدليل الثابت لنا من الكتاب والسنة، أي أنههم يدفعون بديانتهم بأن الخمر متقومة ما

ص: 2320

نلزمهم بالدليل عدم بقاء تقومها، يعني أن الخرم في الأصل كانت متقومة ثم النص ابطل تقومها فكانت ديانتهم دافعة لذلك الإلزام لا مثبته للتقوم للخمر، لأن الضمان لا يجب بتقوم المتلف لكن بإتلاف المتلف، وحقيقته أنه لا شك أن الضمان مضاف على سببه وسببه الإتلاف لا تقوم المحل بل هو شرطه، ولهذا يقال: ضمان الإتلاف وضمان الجناية لا ضمان التقوم، وهذا لأن الإتلاف فعل قائم بالمتلف والتقوم راجع على المحل والمحال شروط فلا يجوز أن يكون وصف المحل الذي هو شرط داخلًا في حكم السبب الذي هو الإتلاف مع صلاحية الإتلاف للسببية.

وقد وجد السبب وهو الإتلاف من المسلم فكان الضمان مضافًا إلى الإتلاف لذلك، ولكن المسلم ادعى عدم الشرط وهو التقوم بدليله، والكافر يدفع هذه الدعوى الصادرة من المسلم بديانته ف بقيت متقومة على زعمه فوجب الضمان لجريان عقد الذمة على اعتبار دفعه بديانته.

ولو لم يكن الضمان مضافًا إلى الإتلاف بل إلى التقوم كانت الديانة متعدية حينئذ، لأن التقوم ساقط عند المسلمين والسب غير موجود في حق المسلمين وهو التقوم، ومع ذلك وجب الضمان كان ذلك حينئذ ثابتًا بِإلزام الكافر على المسلم، لأن تقومه بناء على اعتقاده فصار حجة على المسلم وذلك منتف.

ص: 2321

(وإنما العلة هي القذف) فلا يكون الحد مضافًا إلى الإحصان ليكون ثبوته باعتقادهم بل هو مضاف إلى القذف وأنه وجد من المسلم.

(وأما النفقة فإنما شرعت بطريقة الدفع)، يعنى أينما شرعت كان لدفع الهلاك عن المنفق عليه، ودفع الهلاك لا يعد إلزامًا فلا يكون وجوب النفقة في نكاح المحارم باعتبار أن ديانتهما كانت متعدية، بل باعتبار دفع الهلاك فإنها لما كانت محبوسة له تجب نفقتها عليه دفعًا لهلاكها.

(كما يحل دفعه إذا قصد قتله) أي إذا قصد الأب قتل ابنه يحل ل لأبن أن يدفع أباه عن نفسه وأن كان لا يحصل ذلك الدفع إلا بالقتل دفعًا للهلاك عن نفسه.

فعلم أن وجوب النفقة لدفع الهلاك لا باعتبار أن ديانة الكفار متعدية. (ولا يحبسن بدينه جزاء كما لا يقتل قصاصًا)، أي لا يحبس الأب بدين الابن إذا مطلب بطريق جزاء ظلمه على الابن، لأنه لو حبس فيه كان هو جزاء الظلم ابتداء لا دفعًا لضرر الهلاك عن الابن كما لا يقتل لذلك قصاصًا للابن، لأنه لو اقتص للابن كان هو مجازاة على الأب للابن ولا يجازي والد لولده.

ص: 2322

ولكن يستحق الوالد الحبس والقتل بطريق دفع الهلاك عن الابن كما حبس بسبب نفقة الآبن وقتل أيضًا بسبب دفع الهلاك عن الابن على ما ذكر.

فعلم أن وجوب نفقة المرأة المحبوسة على زوجها الذي هو محرم لها كان لدفع الهلاك عنها لا لأن يكون ديانتهما بوجوب النفقة على زوجها المحرم ملزمة على القاضي بإيجاب النفقة على زوجها المحرم.

(بخلاف الميراث) وهو ما ذكر من المسألة المجمع عليها، وهي قوله:"ألا ترى أن لمجوسي ِإذا تزوج ابنته" إلى آخره فإنه لو وجب الإرث ب النكاح كانت ديانة المنكوحة ملزمة على الأخرى زيادة الميراث.

فإن قيل: بأن أختها تدين بهذا أيضًا فكانت زيادة الميراث بناء على ديانتهما.

قلنا: لما ترافعتا إلى القاضي وخاصمتا في زيادة الميراث دل ذلك على أن أختها التي هي غير منكوحة لم تلتزم ذلك، ولأن نكاح المحارم ثبت في شريعة آدم ع ليه السلام ولم يثبت كونه سببًا للميراث في دينه فلا يثبت ذلك باعتقادهم وديانتهم، لنه لا عبرة لديانتهم في جواز حكم أو فساده إذا لم تقترن ديانتهم بشريعة ثابتة من الشرائع قطعًا.

(وإذا لم يفسخ بمرافعة أحدهما) فيما ذكر من المسائل (فقد جعلنا

ص: 2323

الديانة دافعة)، لأنها تدفع مرافعة الآخر.

(هذا جواب قد قيلِ) أي قد قيل في الفرق بين وجوب النفقة بهذا النكاح وبين عدم وجوب الإرث بهذا النكاح.

(ولم تصح منازعته من بعد) أي لم تصح منازعة الزوج في عدم وجوب نفقه امرأته التي هي أخته بعد اعتقاده بصحة نكاح أخته، لأنه يكون مناقضًا ولا يسمع قول المناقض.

فِإن قلت: ما الفرق الظاهر بين الجوابين؟

قالت: في الجواب الأول كان الفرق بين وجوب النفقة بذلك النكاح على الزوج وعدم ثبوت الميراث بذلك النكاح يدور على ضرورة ديانتهم دافعة للهلاك وعلى صيرورة ديانتهم دافعة موجبة، لأن المرِأة لما كانت محبوسة للزوج كان وجوب النفقة على الزوج باعتبار دفع الهلاك عن المرأة لا أن يكون ديانة الزوجين بصحة النكاح ملزمة على القاضي بالحكم بإيجاب النفقة على الزوج بهذا النكاح ودفع ال هلاك لا يرد في الميراث.

ثم لو حكم القاضي بزيادة إرث البنت المنكوحة على الأخرى كانت ديانة الكافرة التي هي منكوحة أبيها ملزمة على القاضي بأن يحكم بصحة نكاحها، وليست ديانة الكافر بملزمة على المسلم شيئًا، وفي الجواب الثاني كان دور الفرق بين وجوب النفقة بذلك النكاح وعدم ثبوت الميراث به على المناقضة وعدم المناقضة، وذلك أن المحرمين لما تناكحا قد التزم الزوج النفقة على

ص: 2324

نفسه باعتبار أن في ديانته أن النكاح بينهما صحيح، ثم لو أراد أن لا ينفق عليها بسبب أن النكاح بينهما غير صحيح مع بقائه على كفره كان مناقضًا في ديانته فلا تسقط النفقة عنه إلا بإسقاط صاحب الحق، فلذلك لم تصح منازعته للتناقض بخلاف منازعة البنت الأخرى في حق الميراث، فإنها لما نازعت أختها في استحقاق زيادة الإرث بالزوجية حيث تصح تلك المنازعة منها، لأنها ما أقدمت على النكاح فتكون منازعتها دليلًا عن عدم التزام هذه الديانة، وهو معنى قوله:(بخلاف منازعة من ليس في نكاحهما، لأنها لم تلتزم هذه الديانة).

أقصى ما في الباب أن عندها أيضًا أن نكاح المحارم صحيح في ديانتها لكن ديانة الكفرة إنما تعتبر إذا كانت مبنية على شرع سماوي في الجملة، وقد ذكرنا أن نكاح المحارم كان في شريعة آدم عليه السلام، لكن لم يثبت الإرث في ذلك النكاح لم يعتبر.

وقوله: (فأما القاضي) إلى آخره جواب سؤال، وهو أن ديانة البنت المنكوحة لم تلزم على البنت الأخرى التي ليست هي في نكاح أبيها، لأنها ليست بداخلة في نكاحهما فلا تكون ملتزمة ديانتهما بأن نكاح المحارم يوجب الإرث، فودر على هذا الجواب لزوم القضاء على القاضي بوجوب النفقة على زوجها الذي هو أبوها فكانت ديانتهما ملزمة على القاضي بوجوب النفقة

ص: 2325

على زوجها مع أن القاضي أيضًا ليس في نكاحهما.

فقال في جوابه: ليس لزوم القضاء على القاضي بوجوب النفقة باعتبار أن ديانتهما صارت ملزمة على القاضي بل باعتبار تقلد القضاء على العموم بأن يقضي في قضايا المسلمين والكافرين لا باعتبار أن ديانتهم ألزمت القاضي القضاء بوجوب النفقة في نكاح المحارم على الزوج.

وذكر في "المبسوط" في تعليل أبي حنيفة- رضي الله عنه ولو تزوج- أي الذمي- مجوسية صح النكاح بالاتفاق، والمجوسية محرمة النكاح بخطاب الشرع كذوات المحارم، وإنما حكمنا بجوازه، لأن الخطاب في حقهم كأنه غير نازل فإنهم يكذبون المبلغ ويزعمون أنه لم يكن رسولًا، وقد انقطعت ولاية الإلزام بالسيف وبالمحاجة لمكان عقد الذمة فصار حكم الخطاب قاصرًا عنهم، وشيوع الخطاب إنما يعتبر في حق من يعتقد كون المبلغ ر سولًا، فإذا ثبت حكم صحة النكاح كالنفقة وبقاء الإحصان.

فأما الميراث ف ليس من ضرورة صحة النكاح فقد يمتنع التوارث بأسباب كالرق واختلاف الدين.

ص: 2326

(وأما أبو يوسف ومحمد رحمهما الله- فكذلك قالا أيضًا) يعني قالا كما قال أبو حنيفة- رضي الله عنه بأن ديانتهم تصلح دافعة لا ملزمة، لكنهما خالفًا في بعض الأحكام بناء على اختلاف التخريج لا في اختلاف أن ديانتهم تصلح دافعة لا ملزمة، ثم ذكر وجه تخريجهما بقوله:(إلا أنهما قالا: إن تقوم الخمر) إلى آخره.

(فإذا قصر الدليل بالديانة) أي قصر دليلنا على التحريم عن إلزامهم بسبب اعتقادهم على حل الخمر والخنزير ِ (بقي على الأمر الأول)، وهو الحل الأصلي، فلذلك لم يجب الحد عليهم إذا شربوا الخمر وصحت بياعاتهم وأشريتهم فيها.

(فأما نكاح المحارم فلم يكن أصليًا) بل كان أمرًا ضروريًا والثابت بالضرورة يتقدم بقدر الضرورة.

(وإذا كان كذلك) أي وإذا كان نكاح المحارم لم يكن أصليًا لم يجوز استبقاءه. أي استبقاء حل نكاح المحارم (بقصر الدليل) أي قصر دليلنا على

ص: 2327

تحريم نكاح المحارم لمعارضة ديانتهم بحله لم يبق حرامًا على الإطلاق على زعمهم، فلذلك لم يحد قاذفه، لأنه صادق في مقالته من وجه، ولئن سلمنا أن النكاح صحيح بينهما إلا أن دليل البطلان، وهو قوله تعالى:(حرمت عليكم أمهاتكم) الآية كان شبهة في درء الحد عن قاذفه.

(والقضاء بالنفقة على الطريق الأول باطل) يعني لو طلبت المرأة التي هي أخته من زوجها الذي هو أخوها بسبب النكاح عند قاضي المسلمين لا يقضي القاضي بالنفقة بالنكاح، لأن النكاح باطل لما بينا أن حل نكاح المحارم كان أمرًا ضروريًا فيما كان حلالًا ولم يبق ذلك حلالًا أصلًا بعد انتساخه فلم تجب النفقة بسبب النكاح الباطل كما لا تجب النفقة بسبب النكاح الفاسد في حق المسلمين.

(وأما على هذا الطريق) وهو قوله: "ولأن حد القذف من جنس ما يدرء بالشبهات" فإن هذا الدليل يقتضي أن تكون لها النفقة، حيث سلم لصحة النكاح بينهما. بدليل قوله:"فلابد من أن يصير قيام دليل التحريم شبهة" فأسقطا الحد لمكان الشبهة والنفقة مما لا يسقط بالشبهات غير أنها لا تجب،

ص: 2328

لأنها من قبيل الصلات المبتدأة كالميراث.

ألا ترى أن أبا حنيفة رضي الله عنه جعل لنكاحهم حكم الصحة في حقهم، ومع ذلك لم يجب الميراث بسبب هذا النكاح بالاتفاق لكونه من الصلات المبتدأه، فكذلك النفقة عند أبي يوسف ومحمد- رحمهما الله- لا تجب لهذا المعنى.

ودليل كونها صلة مبتدأه ما ذكر في الكتاب بقوله: (حتى أنه لم يشترط لها حاجة المستحق) يعني أن نفقة المرأة تجب على زوجها وإن كانت غنية ولم يكن وجوب النفقة على الزوج على ما ذكر أبو حنيفة- رضي الله عنه لأنها وجبت بطريق الدفع، لأن كل ما ثبت بطريق الدفع إنما تجب عند الحاجة ولا تجب عند عدم الحاجة.

ألا ترى أن الأب إذا اشهر على ابنه السيف وقصد على قتله ولم يتمكن الابن من دفعه إلا بقته يحل له قتله لحاجته إلى الدفع، وفي الجهاد إذا أدرك المسلم أباه الحربي لا يحل له قتله بل يمسكه حتى يقتله غيره لاستغنائه عن قتله بنفسه، فلو كان وجوب النفقة على الزوج بسبب دفع الهلاك عن المرأة لما وجبت للمرأة الغنية لاستغنائها بمالها عن وقوع الهلاك.

ويحتمل أن يكون المراد من قوله: (أما على الطريق الأول) ما قال في تعليل قول أبي حنيفة- رضي الله عنه وهو من قال: (وحقيقة الجواب - إلى أن

ص: 2329

قال- وأما النفقة إنما شرعت بطريق الدفع) وقالا: لم تجب النفقة بطريق الدفع بل وجوبها صلة مبتداه على ما قلنا، فلا تجب الصلة المبتدأه ب هذا النكاح كالميراث، لأن هذا النكاح محكوم عليه بالبطلان.

وأما الطريق الثاني فهو قوله: (والجواب الصحيح عندي فإنها لما تناكحا فقد دانا بصحته فأخذ الزوج بديانته) أيضًا لكن لا تجب النفقة عندما، لأنها من الصلات المبتدأه كالميراث، والأوجه هو ما ذكرنا من الاحتمال الأول المساعدة لفظ الكتاب إياه، ولأن في الاحتمال الثاني صيرورة الطريقين واحد في المآل.

(والجواب لأبي حنيفة- رضي الله عنه) أي عما قالا: بأن النفقة صلة مبتدأه بدليل وجوبها عند غنى المرأة لا بطريق الدفع حيث قال: إن الحاجة الدائمة بدوام الحبس لا يردها المال المقدر) يعنى أنها وإن كانت غنية تحتاج للنفقة لدوام حبسها لحقه ومالها وإن كان كثيرًا مقدرًا فلا يرد حاجتها الدائمة، لأن المال المقدر لا يبقى مع دوام الحبس، فكان وجوب النفقة بطريق الدفع بهذا الطريق، وما كان وجوب النفقة لأحد بسبب أنه محبوس لحق الغير لا يعتبر فيه الغني كالقاضي والعامل فإنه تجب النفقة لهما وِإن كانا غنيين باعتبار الحاجة الدائمة بدوام الحبس.

ص: 2330

(فأما سائر الأحكام فلا تثبت) وهي ما بيناها من الحد لقاذفه وضمان متلفه ووجوب النفقة على الزوج لأنا لو قلنا بثبوتها تكون ديانتهم ملزمة.

(والجواب عنه) أي عما قال الشافعي بأن سائر الأحكام لا تثبت، لأنه لو ثبت يلزم تعدى ديانتهم إلينا ملزمة.

(فيكون في تحقيق العصمة بديانتهم حفظ عن التعرض) يعني لا يصير الأموال والنفوس محفوظة عن أيدي المسلمين في حق أحكام الدنيا إلا بعد أن يجب الضمان بإتلافهم فوجب الضمان لضرورة تحقيق العصمة. كذا في "منتخب التقويم".

(وقد بينا ما يبطل به مذهبه) حيث قلنا: إن الضمان لا يجب بتقوم المتلف لكن بإتلاف المتلف، والمتلف مسلم فكان الضمان عليه بسبب إتلافه عند وجود الشرط وهو تقوم المحل المتلف، وكذلك حد القذف يجب بالقذف لا بالإحصان فلا تكون ديانتهم متعدية.

(ولا يلزم عليه استحلالهم الربا) أي لا يلزم على ما قلنا إن ديانتهم معتبرة في حق الدفع استحلالهم الربا، فإن بيع الربا حرام عليهم أيضًا وإن

ص: 2331

كانوا يدينون بأنه حلال حيث قال "لم تعتبر ديانتهم فيه"(لأنهم نهوا عنه) أي نهو عن أن يخونوا فيما ائتمنوا في كتبهم حيث ارتكبوا كان ذلك الاستحلال والديانة منهم فسقًا لا اعتقادًا فكذلك الربا، لأنهم نهو عنه أيضًا، قال الله تعالى:(فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه).

(فجعل صاحب الهوى) وهو الذي يتبع هوى نفسه أي ما أحبته نفسه ولا يتبع الدليل مثل القدرية والجبرية وغيرهما، فالقدرية وهي المعتزلة ينكرون صفات الله تعالى ويقولون: لا علم لله تعالى ولا قدرة له، وكذا في سائر

ص: 2332

الصفات، وهذا الجهل منهم لا يجعل عذرًا لمخالفتهم بهذا الجهل للدليل الواضح الذي لا شبهة فيه وهو استحالة اتصاف الذات بكونه عالمًا بدون العلم، وقادرًا بدون القدرة، وسمعيًا بدون السمعِ، فإنهم يعترفون بكون الله تعالى عالمًا وقادرًا وسمعيًا، وينكرون العلم والقدرة والسمع لله تعالى، وكذا في سائر الصفات، إذ الأسامي المشتقة من المعاني يستحيل ثبوتها بدون تلك المعاني، لأنها إثباتها بدون تلك المعاني لا يكون إلا لقبًا أو هزؤًا كصبي سمي حين ولد عالمًا وأميرًا، والله تعالى يتعالى عن أن تكون الصفات الثابتة في القران ب قوله تعالى:(عالم الغيب والشهادة) وقوله: (وهو على كل شيء قدير) وقوله: (وهو السمعي البصير) بطريق اللقب علو كبيرًا.

وكذلك لا يعذر في (جهله بِأحكام الآخرة) فيما اعتقد أن ص احب الكبيرة يخلد في النار، واعتقاده باستحالة رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة من ورود النص على خلاف اعتقاده، وكذلك اعتقاده في وجوب

ص: 2333

الأصلح للعباد على الله تعالى، واعتقاد أن العباد خالقوا لأفعالهم الاختيارية جعل باطل بلا شبهة لمخالفته الدليل الظاهر من السمعي والعقلي.

(فكان باطلًا كالأول) أي وجهل صاحب الهوى وجهل الباغي كل واحد منهما كان باطلًا كالأول وهو جهل الكافر الذي ينكر وجود الصانع ووحدانيته، فهما يتساويان في أن الجهل فيهما جميعًا لا يصلح عذرًا.

(إلا أنه متأول بالقرِآن) في اعتقاده أي إلا أن صاحب الهوى والباغي كل منهما متأول بالقرآن في اعتقاده ولم يحكم لذلك ب كفره، وإن كان ذلك التأويل الذي صدر منه ليس بتأويل للقرآن في الحقيقة، فإن صاحب الهوى وهو المعتزلى مثلًا في نفى الصفة يتأول بقوله تعالىِ:(وإلهكم إله واحدِ) ولو قلنا بالصفة والصفة غير الموصوف لا يبقى به التوحيد.

(والباغي) ي تأول قوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده

ص: 2334

يدخله نارًا خالدًا فيها) وغمام العدل لم يبق واجب الطاعة لكفره بوجود المعصية منه، فبسبب هذا التأويل ي ظهر عليه البغي، وهذا فيما إذا لم يكن غاليًا في اعتقاده فكان من المسلمين، وهو معنى قوله:(ولكنه لما كان من المسلمين).

وأما إذا غلا في هواه حتى كفر كما غلا بعض الروافض في محبة علي- رضي الله عنه وهو من اعتقادهم ذلك بريء حتى نسبوا جبريل عليه السلام وهو أمين الوحي إلى الغلط، وهو معنى قوله:(أو ممن ينتحل الإسلام) أي يتخذ الإسلام نحلة أي دينًا وهو ليس بمسلم.

(وكذلك سائر الأحكام تلزمه) أي يلزم الباغي حكم ضمان ما أتلف من المال والنفس، وكذلك يلزمه غير ذلك الحكم من الصلاة والزكاة وغيرهما من الأحكام التي تلزم المسلم ب خلاف ما إذا صارت له منعة بحيث لا يؤخذ حينئذ بضمان ما أتلف لتقوى تأويله الفاسد بالمنعة الظاهرة فكان ملحقًا

ص: 2335

بأهل الحرب في حق عدم وجوب الضمان لانقطاع ولاية إلزام أهل العدل.

(والتدفيف على جريحهم) يقال: دففت على الجريح تدفيفًا إذا أسرعت قتله. قال أبو عبيد: يروي بالدال والذال معًا. كذا في الصحاح.

ص: 2336

(لأن الإسلام جامع) أي جامع لنا وللباغي في دين واحد في الأصل فكان الدين الأحد جامعًا بين المورث والوارث ف لم يثبت اختلاف الدين الذي هو مانع من الإرث.

(والقتل حق) فكان كالقتل بحق القصاص فلم ي وجد القتل الذي هو مانع عن الإرث.

(في حكم الجهاد بناءً على ديانتهم)، لأنهم قالوا: نحن على الحق وأنتم على الباطل، فلزمنا مجاهدتكم وليس لنا ولاية الإلزام لقوتهم وشوكتهم فاعتبرت ديانتهم لذلك، (لأن أصل الدار واحدة، وهي بحكم الديانة مختلفة فتثبت العصمة من كل وجه، فلم يجب الضمان بالشك فلم يجب الملك بالشبهة ولم يجب الملك بالشبهة) بيان هذا أن كل واحدة

ص: 2337

من الطائفتين اعتقد على أن الأخرى على ال باطل وقد غلبت على دار الإسلام وجعلتها دار الحرب ف لزمنا محارتها فلم يجب الضمان بالشك ولا يجب الملك أيضًا بالشك، وهذا لنه لو كانت الدار مختلفة من كل وجه لثبت الملك بالاستيلاء ولم يجب الضمان، ولو كانت متحدة من كل وجه لم يثبت الملك ووجب الضمان، فإذا كانت مختلفة من وجه متحدة من وجه ل م يثبت كل واحد من حكم الاختلاف والاتحاد على الإطلاق بالشك فلذلك ل م يجب الضمان نظرًا إلى الاختلاف، ولم يثبت الملك نظرًا إلى الاتحاد.

فإن قلت: لم لم يعكس حكمًا الاختلاف والاتحاد ولم يقل يثبت الملك نظرًا إلى الاختلاف ويجب الضمان نظرًا إلى الاتحاد؟

قلت: فيه ترك العمل بجانب الاتحاد من كل وجه، وذلك لأنه لما كان موجبًا للملك بالنظر على الاختلاف وهو الأقوى كان موجبًا نفي الضمان بالطريق الأولي وهو الأضعف، فكان فيه ترك العمل بجانب الاتحاد، لأن استياءهم لما كان مثبتًا أقوى الأمرين بأي شبه كان كان مثبتًا لأضعفهما بالطريقة الأولي.

وقوله: (وكذلك جهل من خالف في اجتهاده الكتاب والسنة- إلى

ص: 2338

قوله- لأنا أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فإن قلت: ما وجه المطابقة بين الدليل والمدلول والظاهر عدم المطابقة؟

قلت: وجهها أن يقال ليس هذا الجهل عذرًا، لأنا أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومخالفة الكتاب والسنة منكر، فلزمنا النهي عنه فلا يكون الارتكاب منهم على تلك المخالفة عذرًا في الدنيا ولا ف ي الآخرة، كان هذا التعليل ل بيان أن ما ذكرنا من قولنا: إن جهلهم ذلك ليس بعذر، لأنه جهل باطل قول لا على طريق التشنيع بل على طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(وعلي هذا يبتنى ما ينفذ فيه قضاء القاضي وما لا ينفذ) أي ما كان فيه مخالفة الكتاب والسنة المشهورة لا ينفذ فيه قضاء القاضي، وما لا يكون كذلك ينفذ ف يه قضاء القاضي.

(في موضع الاجتهاد الصحيح). يعني في موضع يسوغ فيه الاجتهاد

ص: 2339

(لكن في موضع الشبهة) كوطء الابن جارية أبيه أو أمه.

(فالعصر فاسدة) يعني عندنا.

أما عند الشافعي فجائزة، (لأن هذا جهل على خلاف الإجماع) أي ظنه بأن ظهره بدون الوضوء جائز وقع على خلاف الإجماع، لأن أحدًا لم يقل بجواز الصلاة بدون الوضوء ولا بخلفه، (وإن قضي الظهر) إلى آخره، فالمقصود هذه المسألة.

وأما الأولي فإنما ذكرها لترتيب هذه المسِالة عليها، وقوله:(وعنده) أي وعند المصلي.

(لأنه جهل في موضع الاجتهاد) أي بالدليل الذي ذكره الشافعي في عدم اشتراط الترتيب، وبالقياس على ما إذا كان الوقت ضيقًا أو الفوائت

ص: 2340

كثيرة وعلى الصيام.

(لأن جهله حصل في موضع الاجتهاد)، لأن القصاص لا يسقط عند البعض ب عفو أحدهما.

(وعلى ذلك التقدير لم تلزمه الكفارة) أي على تقدير ظنه أن الحجامة أفطرته اعتمادًا على ظاهرة ال حديث، أو على قول المفتى الذي أفتاه بقول الأوزاعي يعين أكل عمدًا بعد الاحتجام على ظن أو صمه فسد بالاحتجام، أو على ظن أن أكل العمد ب عد الحجامة لا يوجب الكفارة يكون

ص: 2341

جهله هذا عذرًا فلا تجب الكفارة لم قلنا، أي لأنه جهل في موضع الاجتهاد في حكم يسقط بالشبهة، لأن كفارة الفطر مما تسقط بالشبهة.

(فيصير الجهل في موضع الاشتباه شبهة في الحد) وإنما قيل إنه في موضع الاشتباه فإن الأب إذا وطء جارية ابنه لا يلزمه الحد ف يشتبه على الولد أن القرابة واحدة وهي قرابة الولاد فيظن الولد بسبب هذا الاشتباه أن الانتفاع بما الأب يحل له كما للأب في ماله.

(وكذلك في جارية) امرأته لما أن المنافع بينهما متصلة فيظن حل

ص: 2342

جاريتها تبعًا لسيدتها كما في سائر الأموال (دون النسب والعدة) أي يؤثر جهله ف ي سقوط الحد أما لا يؤثر في ثبوت النسب والعدة.

(بخلاف ما إذا زني)، لأن الزنا حرام في الأديان كلها فجهله لا يجعل عذرًا (على هذا الأصل الذي ذكرنا) وهو أن الجهل في موضع الاشتباه كان شبهة في درء الحد، وإذا لم يكن في موضع الاشتباه والاجتهاد لا يجعل عذرًا.

(لأنه غير مقصر) أي في طلب الدليل فكان جهله عذرًا، لأنا لو ق لنا بأن جهله لا يجعل عذرًا كان ذلك تكليفًا بالإتيان بشيء قبل السماع وهو تكاليف بما ليس له ف ي وسعه، لأن الإنسان لا يمكنه الإتيان بالأمور به إلا بعد علمه بالأمر بذلك الشيء، وغلى هذا أشار محمد- رحمه الله في مسافر إذا كان في رحله ما وهو لا يعلم به فيتيمم.

قال: يجوز تيممه لأن النسيان يعدم القدرة وكان الأمر بالوضوء مع

ص: 2343

ذلك تكليفًا بما ليس في الوسع ثم البلوغ بطريقين: بطريقة السماع صريحًا، وبطريقة الاستفاضة والشهرة.

أما السماع: فلا شبهة فيه.

وأما الاستفاضة: فإنها تقوم مقام السماع والبلوغ.

ألا ترى أن النبي عليه السلام سمي نفسه مبلغًا إلى جميع الناس، ومعلوم أنه ما بلغ إلى جميع الناس بنفسه بل حصل التبليغ منه تارة بالكتاب وتارة بالرسول وتارة بالتبليغ ثم قال:"ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، ثم قال: اللهم فاشهد"، والمعنى فيه أن الخطاب بعد الشهر صار ميسر الإصابة، فعدم الوصول بعد ذلك كان بتقصير من جهته فلا يكون عذرًا.

ص: 2344

(وكذلك جهل الوكيل بالوكالة) يعني أن الوكيل لا يصير وكيلًا بدون علمه، لأن في صيرورته وكيلًا ضرب إيجاب وإلزام عليه حيث يلزمه الجري على موجب الوكالة إذا قبل الوكالة في بعض المواضع.

ألا ترى أنه لو كان وكيلًا بشراء شيء بعينه لا يتمكن من شرائه لنفسه، وكذلك لا يجوز تصرفه فيه مع من لا تقبل شهادته له، فلما كان في صيرورته وكيلًا نوع إيجاب عليه لا تثبت الوكالة بدون علمه، وهذا لأن حكم الشرع لا يثبت بدون العلم مع كمال ولاية صاحب الشرع، فلأن لا يثبت الحكم من جهة العباد بدون العلم أولي.

وكذلك المأذون حيث يلزمه الجري على موجب الإذن وتتعلق الديون برقبته وكسبه في الحال ويطالب به قبل العتق، بخلاق ما إذا لم يكن مأذونًا حيث لا يطالب بالدين الذي ف ي ذمته في الحال، فلما كان جهل الوكيل ب الوكالة وجهل المأذون بالإذن عذرًا كان تصرفهما قبل بلوغ الخبر إليهما لم ينفذ على الموكل والمولى حتى لو اشترى الوكيل قبل العلم بوكالة يقع العقد للوكيل، لن الشراء لا يتوقف. وأما لو باع متاعًا للموكل قبل العلم بالوكالة كان موقوفًا، لأن تصرف الفضولي في البيع موقوف.

ثم ذكر المصنف- رحمه الله الوكالة والإذن في باب أقسام السنة من قبيل

ص: 2345

ما لا إلزام فيه أصلًا، وذكرهما هنا من قبيل ما فيه نوع إلزام بحسب اقتضاء الدليل كل واحد منهما، وقد ذكرنا في "الوافي" وجه اقتضاء الدليل.

وقيل معنى قوله: (لأن فيه ضرب إيجاب وإلزام) يعني إذا تصرفا بحكم الوكالة والإذن يلزمها حقوق العقد فكان فيها إلزام من هذا الوجه.

(وإن كان فضوليًا) و (إن) هذه للوصل.

وأما إذا كان المخبر رسول الموكل والمولى فلا شك أنه لا تشترط العدالة في الرسول، لأن كلام الرسول ككلام المرسل، وفي المرسل لا يشترط العدد أو العدالة فكذا فيمن قام مقامه (بل هو مخير) أي بل كل واحد من الوكيل والمأذون مخير إن شاء قبل الوكالة والإذن وإن شاء لم يقبل هذا في الوكيل ظاهرة، لأنه لا ولاية لأحد عليه فلا يجب عليه قبول الوكالة فلذلك كان هو على خيرة الرد.

ص: 2346

وأما العبد فكان ينبغي أن لا يكون على خيرة الرد، لكن هو على خيرة الرد أيضًا كالوكيل، لأن مولاه ما أمره بالتجارة بل أذن له في التجارة والإذن لرفع المانع عن التصرف لا لإيجاب التصرف عليه، فلذلك كان هو أيضًا على خيرة الرد حتى لو أمره بذلك يجب عليه الائتمار من غير تردد.

(لأن الدليل خفي)، لأن الحجر والبيع وجناية العبد لا يكون مشهورًا غالبًا، (وفيه إلزام) من حيث إنه يلزم على الوكيل الامتناع من التصرف في مال الموكل، وعلى المأذون الامتناع من التصرف في مال المولى على وجه لو تصرف الوكيل يقع تصرفه على نف سه، وكذلك في الشفيع إلزام الطلب على الشفيع في حال العلم وإبطال شفعته إن لم يطلب وفي مولى العبد الجاني إلزام الفداء بالتصرف في العبد الجاني فكان في هذه المسائل إلزام من هذا الوجه فلا يلزمهم ب دون علمهم.

(وكذلك قوله في تبليغ الشرائع إلى الحربي) الذي اسلم في دار الحرب أي وكذلك قولي أبي حنيفة- رضي الله عنه في هذا يعني أنه يشترط

ص: 2347

العدالة أو العدد في مبلغ الشرائع إلى الحربي الذي اسلم في دار الحرب.

وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله: الأصح عندي أنه لا يشترط العدالة أو العدد في هذا الفصل خاصة. أراد به مبلغ الشرائع. إلى دار الحرب، لأن كل مسلم يلزمه تبليغ الشريعة إلى من لم يعلم أحكام الشرائع. قال النبي عليه السلام:"ألا فليبلغ الشاهد الغائب" فكان المبلغ بالتبليغ مسقطًا ما وجب عليه فلا يشترط فيه العدد أو العدالة بل يشترط ف يه ما يصير به أهلًا للتبليغ من العقل والإيمان.

(لأن لدليل خفي في حقها) أي دليل تثبيت ثبوت الخيار وهو العتق ودليل ولاية خيار التق لها لأن العتق غير مشهور وهي أيضًا لا تتفرغ من خدمة المولي للتعلم الشرائع، وتعلم ولاية ثبوت خيار العتق لها.

(فلم يعلم بالخيار لم تعذر)، لأنها قادرة على التعلم لعدم اشتغالها بخدمة أحد فكان الجهل بتقصير منها.

ص: 2348

(وجعل سكوتها رضا) أي سكوتها بعد البلوغ، (ولأنها تريد بذلك إلزام الفسخ ابتداء لا الدفع عن نفسها)، والجهل لا يصلح عذرًا في الإلزام البتة بخلاف الجهل في موضوع الدفع فإنه قد يصلح للدفع.

والدليل على أنها لا تريد الدفع عن نفسها أن النكاح ثابت ولا يزداد شيء ببلوغها بخلاف الأمة، لأنها تدفع زيادة القيد التي تثبت عليها بعد العتق وهي الطلقة الثالثة.

(ولهذا التفرق الخياران في شرط القضاءِ) يعني شرط القضاء في خيار البلوغ لا في خيار العتق حتى لو قالت الحرة: رددت لا ينفسخ النكاح بدون القضاء بخلاف خيار العتق فإن النكاح ينفسخ بمجرد اختيار المعتقة نفسها.

(إن ذلك لا يصح إلا بمحضر منه) أي إلا بعلم منه.

ص: 2349

وأما من له الخيار ِإذا أجاز بغير علم صاحبه جاز بالإجماع، وكذلك عند أبي يوسف في الفسخ بدون علم ص احبه صح خلافًا لهما، (لأن الخيار وضع لاستثناء حكم العقد)، لأن الشرط دخل على حكم العقد وهو لزوم الملك في البياعات لما ذكر، والمعلق بالشرط عدم قبله فصار كالاستثناء من حيث المنع، إلا أن الاستثناء يمنع انعقاد السبب في حق المستثني وشرط الخيار يمنع الحكم، لأن شرط الخيار لما ثبت بخلاف القياس ظهر أثره في حق الحكم تعليلًا لعمله مهما أمكن، فإذا امتنع الحكم بقي الخيار وفاتت صفة اللزوم عن البيع وخيار الفسخ بناء على فوات صفة اللزوم وكما في الوكالة، لا أن أشرط الخيار وضع للفسخ لا محالة، لأن حكم التخيير الاختيار كما أن حكم الكسر الانكسار، وبثبوت الاختيار له صار العقد غير لازم، وقوله:"لأن الخيار" أي التخيير.

وقوله: (لعدم الاختيار) أي لعدم اختياره أحد الحكمين وهما الفسخ والإجازة، ولعدم الاختيار أثر في عدم لزوم العقد كما في بيع المكره والهازل، فإن السبب فيهما قد انعقد ولكن غير لازم، ولما لم يوضع شرط الخيار للفسخ لا محالة لم يكن الفسخ حكمًا للخيار، لأن حكم الشيء يثبت بذلك الشيء لا محالة فحينئذ يصير من له الخيار بالفسخ متصرفًا على صاحبه بالإلزام، لأن صاحبه ربما يجري على موجب العقد على ما هو ثابت عنده من

ص: 2350

غير خيار فهو بالفسخ يلزمه خلاف موجب العقد فيشترط علم صاحبة قبل مضي مدة الخيار دفعًا للضرر عنه.

قوله: (لا أن الخيار للفسخ لا محالة) جواب عن قوله أبي يوسف رحمه الله فإنه يقول: إن صاحب الخيار مسلط على الفسخ من قبل صاحبه فلا يتوقف على علمه، وهما يقولان: إن الخيار لم يوضع للفسخ.

ألا ترى أن من اشترى شيئًا قبل الرؤية كان له حق الفسخ بخيار الرؤية بناء على فوات صفة اللزوم عن العقد لا أن الخيار وضع للفسخ، إذا لو كان موضوعًا للفسخ لوجد الفسخ لا محالة، لأنه حكمه بل ربما لا يفسخ ويجيز.

(صح في الثلاث) أي في ثلاث أيام (وبعد الثلاث) لا يصح أي سواء كان عدلًا أو غير عدل، (فإن وجد أحدهما) أي العد أو العدالة.

ص: 2351