الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السفه
خفة تعتري الفاعل فتبعثه على العمل بخلاف موجب العقل، وأراد بالذي ذكر في معنى السفه السفه المصطلح بين الفقهاء لا السفه الحقيقي.
(بخلاف موجب الشرع من وجه) وإنما قال من وجه لأن السفه المفسر بالتبذير وهو الإسراف في التصرف في ماله ليس بعمل مخالف للشرع من كل وجه؛ لأنه تصرف في ملك نفسه والملك عبارة عن المطلق الحاجز، فكان المالك مطلقا تصرفه كيف شاء ولكن فيه صفة التبذير فكان سفيها.
(وإن كان أصله مشروعا) أي وإن كان أصل فعل السفه المصطلح بين الفقهاء وهو التبذير في صرفه ماله إلى من يستحق الصرف إليه وإلى من لا يستحق الصرف إليه مشروعًا؛ لأن ذلك يدل على فرط الجود وهو مشروع،
وهو أيضًا تصرف في ماله نفسه كسف شاء وهو مشروع، والإسراف: مجاوزة الحد، وكلا طرفي الأمور ذميم، وخير الأمور أوساطها.
وقيل بالفارسية: اكر احتياط مبالغت كني در وسوسه افتى، ثم إضافة الأموال إلى المخاطبين في (قوله تعالى:(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ) باعتبار وصله الولاية والقيام والمحافظة للأموال لا الملك، وفي قوله:(فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)) هذه الإضافة للملك، فإن هذه الأموال مملوكة لليتامى لا للأولياء، إلا إضافة الشيء إلى الشيء تجوز بأدنى وصلة وملابسة بينهما، كما يصح أن يقال لمن يقرب من طرف الخشبة: خذ طرفك وإن لم يكن الطرف ملكا له باعتبار وصلة القرب منه، ومنه قوله تعالى:(لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) والبيوت للأزواج لكنها كانت في أيدي النساء بالسكني فأضيفت إليهن.
(الخبرة): الامتحان. (حدث ضرب من الرشد) لاستيفاء مدة التجربة وهي مدة خمس وعشرين سنة، فإن هذه المدة مدة استيفاء التجربة وانتهاء آثار الصبا، فإن هذه مدة تصلح لأن يكون الإنسان فيها جدًا فحينئذ يصير فرعه واليًا، فمحال أن يكون هو موصوفًا بأوصاف الصبا ويكون هو محجورًا عليه بعده مع وجود عقله.
(إما عقوبة) زجرًا له عن فعله الحرام ومنعًا له عن ذلك، (وإما حكم لا يعقل معناه)؛ لأن منع المال عن مالكه لا يعقل؛ لأن الملك عبارة عن المطلق الحاجر على ما مر فعكس الأمر في حقه وهو أن يحجز المالك عن التصرف في ملكه ويطلق غيره بالتصرف فيه من غير رضا مالكه حكم لا يعقل معناه.
(فيتعلق بعين النص)؛ لأن الحكم الذي هو للعقوبة أو الحكم الذي هو غير معقول المعنى لا يمكن تعديته.
وقوله: (فإذا دخله شبهة) يتعلق بقوله: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ) أي دخله شبهة في بقاء السفه.
وقوله: (أو صار الشرط في حكم الوجود) يتعلق بقوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا) أي صار إيناس الرشد المنكر في حكم الوجود
(وجب جزاؤه) وهو الدفع؛ لأن ذلك جزاء الشرط وهو قوله تعالى: (فَادْفَعُوا).
(واختلفوا في وجوب النظر للسفيه فقال أبو حنيفة- رضي الله عنه) لا يجوز الحجر عليه عن التصرفات بسبب السفه، وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي- رحمهم الله يجوز الحجر عليه بهذا السبب عن التصرفات المحتملة للفسخ.
إلا أن أبا يوسف ومحمدًا- رحمهما الله- قالا: إن الحجر عليه على سبيل النظر له، وقال الشافعي: على سبيل الزجر والعقوبة عليه، ويتبين هذا الخلاف بينهم فيما إذا كان مفسدًا في دينه مصلحًا في ماله كالفاسق، فعند
الشافعي يحجر عليه بهذا النوع من الفساد بطريقة العقوبة والزجر، ولهذا يجعل الفاسق أهلًا للولاية وعندهما لا يحجر عليه. كذا في " المبسوط".
(بل كان مؤكدًا) أي بل كان الخطاب مؤكدًا ولازمًا بسبب التقصير في حقوق الله تعالى، مجانة وسفهًا لا أن يكون الخطاب ساقطًا عنه؛ لأن الترك موجب العقل، والشرع بعد وجود العقل زيادة تأكيد في لزوم الخطاب لا سقوط الخطاب.
ألا ترى إلى قوله عليه السلام: "ويل للجاهل مرة وللعالم سبعين مرة"(وقد يحبس عقوبة) أي في حقوق العباد كما إذا مطل ديون أرباب الديون.
(النظر واجب حقًا للمسلمين) أي الحجر للسفيه عن التصرفات واجب حقًا للنظر والمرحمة لأجل المسلمين؛ لأنه ربما يكون للمسلمين على السفيه ديون فلو لم يحجر عن التصرفات يتلف ماله ويضر بالمسلمين الذين هم أرباب
الديون.
(وحقًا له دينه) أي النظر واجب للسفيه لأجل دينه الإسلام؛ لأنه لو لم يحجر عسى أن يتلف ماله لنفسه شيئًا ينفقه على نفسه، ثم الحجر عندهما عن التصرفات إنما هو عن التصرفات التي هي قابلة للفسخ كالبيع والإجارة.
وأما عن التصرفات التي لا تقبل الفسخ كالطلاق والعتاق فلا يتحجر عنها بالاتفاق؛ لأن السفيه في معنى الهازل فلذلك يؤثر الحجر عليه فيما يؤثر فيه الهزل وما لا فلا. وقوله: (لا لسفهه) جواب عما قال أبو حنيفة- رضي الله عنه بقوله: " لما كان السفه مكابرة وتركا إلى قوله: لم يحجز أن يكون سببًا للنظر".
(وقاساه بمنع المال) أي وقاس أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله- حجر السفيه عن التصرفات على منع ماله عنه إذا بلغ سفيهًا.
(أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن في الدنيا)، فإن العفو عمن
وجب عليه القصاص حسن، قال الله تعالى:(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) وقال تعالى: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) ولم يخرجه بكبيرته عن استهال المرحمة في الدنيا، وهذا لأنه وإن كان مرتكبًا للكبيرة فكيمياء الإيمان معه، وخاصية الكيمياء هي ا، تجعل الصفر ذهبًا، فكذلك الإيمان يجعل غيره طاعة، وإليه وقعت الإشارة في قوله تعالى (فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ).
(وأما في الآخرة) فإن الكبيرة سوى الكفر جائز المغفرة، فكان العفو عن صاحب الكبيرة في الآخرة حسنا أيضًا.
وقوله (النظر من هذا الوجه جائز لا واجب) جواب عن قولهما.
يعني أن ما ذكرتم لا يدل على أن النظر واجب، بل يدل على أنه جائز حسن كما في حق صاحب الكبيرة فلم قلتم أنه واجب؟ ثم قوله:(وإنما يحسن إذا لم يتضمن ضررًا فوقه) جواب لما يرد شبهة على ذلك الجواب الذي أجاب به.
أبو حنيفة- رضي الله عنه عن قولهما بقوله: "النظر من هذا الوجه جائز لا واجب" بأن يقال: لما دل هذا على الجواز فلم لم تقل أنت في هذا بجواز الحجر على السفيه؟
فقال أبو حنيفة- رحمه الله في جوابه: وإنما يجوز ويحسن إذا لم يتضمن ضرر الحجر ضررًا يفوق ذلك الضرر على الضرر الذي يلزم عند ترك الحجر وهاهنا كذلك، فإن الحجر يلزم أن يكون كلام الرجل المنطيق ملحقًا في اللغو بالنعيق.
وذات الإنسان الصائم القائم مشبهًا بالبهائم في سلب ولايته وبطلان تصرفاته وولاية غيره عليه، وتحمل الضرر الأدنى يجوز أن يكون حسنًا بمقابلة حصول نفع يماثل ذلك الضرر، فصار كأنه لم يتضرر لمعادلة الضرر بالنفع كما في التجارات التي لا ربح فيها ولا خسران لما أن ضرر زوال العين ينجبر بحصول نفع ثمن يعادله في القيمة فصار كأنه لم يتضرر بزوال العين.
وأما إذا زال العين عنه بمقابلة حصول نفع لا يماثل عشر قيمته فلا يرضى به عاقل، وروى في قصة معاوية- رضي الله عنه أنه دخل عليه أعرابي يومًا
فقال لمعاوية: أمك كانت عظيمة الكفل، فحلم معاوية عنه، فقال: لأجل ذلك كان يحبها أبي، فخرج الأعرابي من عنده فرأى ابنه يزيد
فقال: كانت جدتك عظيمة الكفل فضربه يزيد بالصيف وقتله، فسمع معاوية ذلك فقال: قتله حلمي فلو أن معاوية أدبه على ذلك لما فعل به يزيد ما فعله، أوردوا هذه القصة في هذا المقام لبيان تحمل ضرر التأديب الذي هو الأدنى من الأعرابي كان حسنا بمقابلة حصول نفع الحياة الذي يفوق على ذلك الضرر، وأما عند غلبة الضرر على النفع فلا.
(واللسان والأهلية نعمة أصلية) لما أن الإنسان إنما باين سائر الحيوان بالبيان، قال الله تعالى:[الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ] من الله تعالى على الإنسان بعد خلقه وإيجاده بتعليم البيان.
فعلم بهذا أن نعمة بعد الوجود لم تكن تساوي نعمة البيان في حق الإنسان، ففي حجر السفينة عن التصرفات على وجه لا اعتبار لكلامه أصلا كان فيه تفويت لأعلى النعم كلها فلا يكون ذلك من النظر له بل هو أقوى الإضرار به، فكان تدبير النظر له بهذا الطريق عائدًا على موضوعه بالنقض.
(فيبطل القياس)؛ لأن من شرط صحة القياس أن يكون الفرع نظيرا للأصل (لإبطال أعلى النعمتين) وهو نعمة اللسان (باعتبار أدناهما) وهو نعمة اليد فهو لا يصح.
كما إذا أكره على شرب الخمر بالقتل يلزم عليه شرب الخمر لأن في شرب الخمر إزالة جزئه وهو العقل وفي الامتناع عنه إزالة كله بالقتل وهو النفس فلا يباح اختيار إزالة النفس باعتبار إبقاء جزئها.
(وقال: بهذه الأمور صارت حقا للعبد رفقا به) أي صحة العبارة واليد واللسان تثبت رفقا يصاحبها، (فإذا أدى إلى الضرر وجب الرد) لئلا يصير الرفق عائدا على موضوعه بالنقض؛ لأن هذه النعم تثبت لنفع صاحبها فإّذا صار اعتبارها ضررا لا يبقى الانتفاع بهذه النعم، فالعقل نعمة عظيمة فإذا لم يتأمل صاحب العقل بعقله في آيات الله تعالى حتى استحق به العقاب صار وجود العقل ضررا له.
ألا ترى أن المجنون لا يعاقب باعتبار عدم العقل والعاقل يعاقب باعتبار
وجود العقل عند ترك التأمل، فكذلك نفع البصر والسمع، فإن البصير والسميع لما لم بهما كان وجودهما أضر من عدمهما، فلذلك كان الكفار أضل من الأنعام، قال الله تعالى:[أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ]
(وهذا قياس ما روى عن أبي يوسف- رحمه الله أي حجر السفينة عن التصرف في ملكه لدفع المسلمين نظير ما روى عن أبي يوسف في أن صاحب الملك يمنع عن التصرف في ملكه لتأذي جاره.
وذكر في "التتمة" وعن أبي يوسف- رحمه الله من اتخذ داره حماما فتأذى الجيران من دخانه فلعم منعه إلا أن يكون دخان الحمام مثل دخان الجيران.
(وإنما يجب أن ينظر إلى ما فيه نظر له أبدًا فلا يلحق بالصبي) إلى أخره. يعني لما كان حجر السفيه عندهما لأجل النظر له لدينه أو للمسلمين يجب علينا أن ننظر في أي موضع من المواضع المجمع عليها من مسائل الصبي
والمريض والمكره يتحقق النظر له عند إلحاقه به يلحق به، فلا يقتصر بالإلحاق بالصبي لا غير ولا بالمريض لا غير ولا بالمكره لا غير بل في أي موضع يتيسر النظر له فيلحق هو ربه.
وذكر بيان إلحاق المحجور علي بسبب السفه بهذه المواضع من المسائل في حجر"المبسوط".
أما إلحاقه بالمريض فهو أن السفيه البالغ المحجور عليه إذا تزوج امرأة جاز نكاحه وينظر إلى ما تزوجها عليه وإلى مهر مثلها فيلزمه أقلهما ويبطل الفضل عن مهر مثلها أو ما سمي، وهو في ذلك كالمريض المديون فإن التزوج من حوائجه، وكذلك لو جاءت جاريته بولد فادعاه ثبت نسبه منه وكان الولد حرا لا سبيل عليه والجارية أم ولد له، فإن مات كانت حرة لا سبيل عليها لأحد؛ لأن توفير النظر في إلحاقه بالرشيد في حكم الاستيلاء فإنه محتاج إلى ذلك لإبقاء نسله وصيانة مائه. ويلحق في هذا الحكم أيضا بالمريض المديون إذا ادعى نسب ولد جاريته.
وأما إلحاقه بالمكره فهو أن المحجور عليه بسبب السفه إذا اشترى ابنه وهو معروف وقبضه كان شراؤه فاسدا ويعتق الغلام حين قبضه، ويجعل في هذا الحكم بمنزلة شراء المكره فيثبت له الملك بالقبض ويعتق عليه؛ ويجعل في هذا الحكم بمنزلة شراء المكره فيثبت له الملك بالقبض ويعتق عليه؛ لأنه الملك ابنه ثم يسعى في قيمته للبائع.
وأما إلحاقه بالصبي ففي هذه الصورة أنه ليس للبائع في مال المشتري شيء من ذلك؛ لأنه وإن ملكه بالقبض فالتزام الثمن أو القيمة بالعقد منه غير صحيح لما في ذلك من الضرر عليه، وهو في هذا الحكم ملحق بالصبي، وإذا لم يجب على المحجور شيء لا يسلم له أيضا شيء من سعايته فتكون السعاية الواجبة على العبد للبائع، وهذا الذي ذكرته هو ما أحال به على "المبسوط" في قوله (على ما هو مذكور في "المبسوط").
وقوله: (عندهما) ظرف لقوله: "أنواع" أي تنويع الحجر على هذه الأنواع الثلاثة إنما هو عندهما لا عند أبي حنيفة- رحمه الله فإن عنده لا حجر أصلا على الحر العاقل البالغ فلا يتأتي التنويع.
وذكر في حجر "المبسوط" قال أبو حنيفة- رضي الله عنه الحجر على الحر باطل. ومراد إذا بلغ عاقلا، وحكي عنه أنه كان يقول: لا يجوز الحجر إلا على ثلاثة: على المفتي الماجن، وعلى المتطبب الجاهل، وعلى المكاري المفلس لما فيع من الضرر إذا لم يحجر عليهم.
فالمفتي الماجن يفسد على الناس دينهم، والمتطبب الجاهل يفسد أبدانهم، والمكاري المفلس يتلف أموالهم فيمنعون من ذلك دفعا للضرر.
ثم الاختلاف بين العلماء وراء هذا في فصلين؛ أحدهما: الحجر على السفيه المبذر والأخر الحجر على المديون بسبب الدين- وذكر تفسير الحجر
على السفيه بأحكامه إلى أن قال- ثم بلغ سفيها عند محمد- رحمه الله يكون محجورا عليه بدون حجر القاضي.
وقال أبو يوسف- رحمه الله لا يصير محجورا عليه ما لم يحجر عليه القاضي، وكذلك لو بلغ رشيدًا ثم صار سفيها فمحمد- رحمه الله يقول: قد قامت بدلالة لنا على أن السفه في ثبوت الحجر به نظير الجنون والعته والحجر يثبت بنفسهما هناك من غير حاجة إلى قضاء القاضي فكذلك السفه، وأبو يوسف- رحمه الله يقول الحجر على السفيه لمعنى النظر له، وهو متردد بين النظر والضرر، ففي إبقاء الملك له نظر وفي إهدار قوله ضرر وبمثل هذا لا يترجح أحد الجانبين منه إلا بقضاء القاضي.
ولأن الحجر بهذا السبب مختلف فيه بين العلماء فلا يثبت إلا بقضاء القاضي كالحجر بسبب الدين، ثم قال: والكلام في الحجر بسبب الدين في موضعين: أحدهما- أن من ركبته الديون إذا خيف أن يلجئ ماله بطريق الإقرار فطلب الغرماء من القاضي أن يحجر عليه عند أبي حنيفة- رضي الله عنه لا يحجر عليه القاضي وعندهما يحجر عليه، وبعد الحجر لا ينفذ تصرفه في المال الذي كان في يده عند الحجر وينفذ تصرفاته فيما يكتسب من المال بعده وفي هذا الحجر نظر للمسلمين.
فإذا جاز عندهما الحجر عليه بطريق النظر له فكذلك يحجر عليه لأجل النظر للمسلمين، وعند أبي حنيفة- رضي الله عنه كما لا يحجر على المديون
نظرًا له فكذلك لا يحجر عليه نظرا للغرماء لما في الحيلولة بينه وبين التصرف في ماله من الضرر عليه.
وإنما يجوز النظر لغرمائه بطريق لا يكون فيه إلحاق الضرر إلا بقدر ما ورد الشر عبه وهو الحبس في الدين لأجل ظلمه الذي تحقق بالامتناع من قضاء الدين مع تمكنه منه، وخوف التلجئة ظلم موهوم منه فلا يجعل كالمتحقق، ثم الضرر في إهدار قوله فوق الضرر في حبسه ولا يستدل بثبوت الأدنى على ثبوت الأعلى.
ثم هذا الحجر عندهما لا يثبت إلا بقضاء القاضي، ومحمد- رحمه الله يفرق بين هذا وبين الأول فيقول: الحجر هنا لأجل النظر للغرماء فيتوقف على طلبهم، وذلك لا يتم إلا بقضاء القاضي والحجر على السفيه لأجل النظر له- وكونه سفيها لا يتوقف على طلب أحد فيثبت حكمه بدون القضاء لذلك-.
والفصل الثاني- أنه لا يباع على المديون ماله في قول أبي حنيفة- رضي الله عنه العروض والعقار في ذلك سواء، وقال أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله- يبيع عليه ماله فيقضي دينه إلى أخره.
(حجر بسبب السفه مطلقا) أي سواء سفه بعد أن بلغ رشيدًا أو بلغ سفيهاً.
(لكنه بمنزلة العضل) من الأولياء معناه أن للولي أن يمنع الحرة العاقلة البالغة من التزوج ليحصل التزوج برأي الولي، ولئلا تقع المرأة تحت غير كفء، ولئلا تنسب إلى الوقاحة بمباشرة النكاح بنفسها بدون رأي الولي، فلهذا ملك الأولياء عضلهن ندبًا لا حتمًا عند أبي حنيفة- رضي الله عنه، وعند محمد- رحمه الله حتما، وكذلك عند أبي يوسف- رحمه الله في رواية عنه حتى يتوقف نكاحها بدون الولي إلى إجازة الولي.
ووجه الاتصال بمسألة السفيه أن شرعية العضل إنما كانت نظرًا للأولياء وللمرأة لا أنها تصير موليًا عليها في الحقيقة، فكذلك الحجر ثبت في حق السفيه نظرًا له؛ لا أن السفه يوجب النظر في الحقيقة، وقيل لقوله:"بمنزلة العضل" معنى أخر وهو أن المديون في امتناعه عن أداء الديون بمنزلة عضل
الولي وهو امتناع الولي عن تزويج وليته عند مخاطبة الكفء الخاطب، فإن القاضي يقوم مقامه ويزوج وليته وينحجر الولي عن العضل، وهذا قول قيل فيه، لكن لفظ الكتاب لا يساعده؛ لأنه لو كان معناه هذا لقيل لكنه بمنزلة عضل الأولياء، ولكنه لما قال: بمنزلة العضل من الأولياء، علم أن المعنى هو الأول، ولأن في تعليل "الأسرار" إشارة إلى المعنى الأول.
وحاصل ذلك أن من امتنع عن إيفاء حق مستحق عليه وهو مما لا تجري فيه النيابة ناب القاضي في منابه. كالذمي إذا أسلم عبده فأبى أن يبيعه باعه القاضي عليه لهذا، والعنين بعد مضي المدة إذا أبي أن بفارقها ناب القاضي منابه في التفريق بينهما.
["السفر"]
(لكنه من أسباب التخفيف بنفسه مطلقا) أي سواء كان فيه المشقة أو لم تكن، حتى إن السلطان إذا تنزه من بستان إلى بستان في سفره فإنه يترخص برخص المسافرين باعتبار وجود نفس السفر من غير توقف إلى وجود نفس المشقة، أي من غير توقف إلى وجود المشقة القوية إذ هو عبارة عن الخروج المديد فكان فيه تحرك ممتد، ونفس التحرك أشق على النفس من السكون في مكانه واحد خصوصًا ما إذا كان ممتدًا، فلذلك قال في الكتاب (لأنه من أسباب المشقة لا محالة).
وقوله: (لأنه متنوع على ما قلنا) أي في باب تقسيم المأمور به بقوله: "وأما المريض فالصحيح عندنا فيه أن يقع صومه بكل حال عن الفرض" إلى أخره.
(ولنا على ما قلنا دليلا ظاهران ودليلان خفيان) وإنما سمي الأولين من الدليل ظاهرين؛ لأن أحدهما (حديثة عائشة- رضي الله عنها) وهو نص ظاهر.
والثاني قياس على النوافل بدليل ظاهر.
وسمى الآخرين من الدليل خفين لدقتهما في نفسهما لا يدركان إلا بزيادة التأمل، وهذا لأن ما ثبت بطريقة الرخصة لا يبطل الحكم المشروع بطريقة العزيمة كما في صوم المسافر على ما ذكره الشافعي وهو الظاهر، ثم مع ذلك كان القول ببطلان حكم العزيمة قولا مخالفا للدليل الظاهر فكان خفيا، وكذلك القول بنفس المشيئة المطلقة والاختيار الكامل للعباد مع أن الله تعالى خلقهم مختارين وشائين، إذ بدون الاختيار يلزم الجبر والجبر باطل كان قولًا مخالفًا للدليل الظاهر فكان خفيًا.
(وحق الصلاة علينا حق لا يتحمل التمليك) فكان إسقاطًا محضًا فكان من قبيل الطلاق والعتاق والعفو عن القصاص لا من قبيل الإبراء وتمليك
الأمر باليد ولله تعالى الاختيار المطلق، قال الله تعالى:[وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ]، مدح ذاته بالمشيئة المطلقة فلا يكون ذلك لغيره ثابتًا لو ثبت له الاختيار بين القصر والإكمال لكان ذلك اختيارا في وضع الشرع، ولا يرد علة هذا كون العبد مختارا في الأقل والأكثر من التطوعات كما في صلاة الضحى فإنه مخير بين أن يصليها ركعتين وبين أن يصليها أربعا أو أكثر، ولم يقل فيه أحد بأنه لا يجوز؛ لأن ذلك يؤدي إلى الاختيار في وضع الشرع.
قلنا: إن ذلك في التطوعات وما نحن بصدده في الفرائض، فإن الاختيار في أصل التطوعات ثابت، فإن كل إنسان مختار في أن يفعلها وأن لا يفعلها، فأولى أن يثبت الاختيار في قدرها ولا يرد أيضا على هذا قول تعالى:[اعْمَلُوا مَا شيءتُمْ] لأن تلك المشيئة ليست على حقيقتها التي توجب الإطلاق.
وكذلك الأمر بالعمل بها ليس على حقيقته؛ لأن المشيئة الصادرة من الشارع إذا كانت على حقيقتها كانت عبارة عن الإذن والإباحة بفعل ما يشاء وكذلك الأمر إذا كان على حقيقته كان أول درجاته الإباحة، وليس في فعل
الكفر والمعاصي الإباحة، بل هو أمر تهديد وتوبيخ فكان ذلك من قبيل قوله تعالى:[فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ] وقد ذكرناه.
(وكذلك المكاتب في جناياته) فإن المكاتب إذا جني موجبة للمال كانت جنايته عليه يجب الأقل من قيمته ومن الأرش، هكذا ذكر في "فتاوى قاضي خان".
(ولا رفق في اختيار الكثير على القليل) بل الرفق متعين في اختيار القليل، (والجنس واحد) أي من حيث المال.
(فما الثواب إلا في حسن الطاعة لا في الطول والقصر) قال النبي عليه السلام: "ركعتان من متق خير من ألف ركعة من مخلط" فرب درهم يكون له ثواب عشرة ورب درهم يكون له ثواب سبعمائة ويكون ضعفه أيضًا.
فعلم أن الثواب في حسن الطاعة لا يصلح بناؤه على حكم الآخرة وهو الثواب.
(وإنما ثبت هذا الحكم) أي حكم الرخصة (إذا اتصل بسبب الوجوب)
وهو وقت الأداء (وإذا لم يتصل به فلا) أي وإذا لم يتصل السفر بوجوب الأداء فلا يثبت هذا الحكم وهو سقوط الركعتين في قضائه.
(ولما كان السفر من الأمور المختارة) احترز بهذا القيد عن المرض فإنه ليس من الأمور المختارة، فلذلك تفاوتا في الحكم، (ولم يكن موجبا ضرورة لازمة) يعني أن السفر موجب لكن يتعلق باختياره فلم يكن موجبا على وجه لا يمكن دفعه؛ لأن في وسعه الامتناع عن السفر فيكون في وسعه الامتناع عن حكمه بواسطة الامتناع عن سببه فلم يكن حكمه من الأمور اللازمة بهذا الطريق، وظهر أثر هذا الفرق في الأحكام المذكورة التي بنيت عليهما أي على السفر والمرض.
(بخلاف المريض إذا تكلف) إلى قوله (لأنه سبب ضروري) يعني أن المرض سبب ضروري على وجه لا يمكن دفعه لكونه سماويا فكان ضرورة لازمة وأثره يظهر فيما ذكر من الفروع.
(وهذا موضوع لها) أي السفر موضوع للمشقة لكن العبد فيه مختار.
(وأحكام السفر تثبت بنفس الخروج بالسنة المشهورة) وهي ما ذكر في ((المصابيح)) قال أنس رضي الله عنه ((إن النبي -صل الله عليه وسلم- صلى الظهر بالمدينة أربعا، وصلى العصر بذي الحليفه ركعتين)) والقياس أن لا يثبت إلا بعد تمام السفر؛ لأن العلة إنما تتم حينئذ، وحكم العلة لا يثبت قبلها، لكن ترك القياس لما روينا.
ولتحقيق الرخصة في كل فرد من أفراد المسافرين؛ لأنه لو توقف حكم علة السفر إلى تمام العلة وهو سير ثلاثة أيام لتخلفت الرخصة في حق بعض
المسافرين وهو ما إذا قصد المسافر إلى مسيرة ثلاثة أيام فلا يترخص هو حينئذ لا قبل ثلاثة أيام ولا بعدها وهو مسافر من حيث خرج بالحديث؛ لأن الشارع أثبت رخصة السفر لجنس المسافرين بقوله: ((يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها)).
(ألا ترى أنه إذا نوى رفضه) أي رفض السفر (صار مقيما) يعني فيما إذا لم تتم ثلاثة أيام (وإن كان في غير موضع الإقامة) بأن كان في المفازة (لأن هذا ابتداء إيجاب) أي إيجاب إقامة.
((فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ)) قيل: أريد بالباغي الخارج على الإمام، وبالعادي الذي يقطع الطريق على المسلمين، وبهذا التأويل تمسك الشافعي، ويحتمل أن يكون المراد من الباغي الذي يطلب ادخار الميتة بعد ما وجدها
وبالعادي أن يأكل الشبع، وهذا التأويل بهذا الموضع أليق على ما يجيء بعيد هذا.
فصار النهي عن هذه الجملة نهيا لمعنى في غير المنهي عنه، أي النهي عن سفر في إباق عن المولى والنهي عن سفر فيه قطع لطريق المسلمين، والنهي عن سفر فيه خروج على الإمام من الباغي نهي عن السفر لمعنى في الإباق ولمعنى في قطع الطريق ولمعنى في الخروج على الإمام لا لمعنى في عين السفر.
(وبذلك لا يمتنع تحقق الفعل) وهو السفر مشروعا.
(لأن صفة الحل في السفر دون صفة القربة في المشروع) يعني أن المشروع مقصود، والسبب وسيلة، والقربة أقوى في المشروعية من نفس الحل لزيادة وصف محمود فيها وهو القربة في المشروع، ثم زوال صفة القربة عن المشروع لا يمنعه من تحققه مشروعا كالإحرام الفاسد والصلاة في الأرض المغصوبة، فلأن لا يمنع زوال صفة الحل عن السبب من تحققه سببا أولى، فكان سفر المعصية سببا لثبوت الرخصة.
وهذا لأن المشروع يبقى مشروعا وإن كان منهيا لمعنى في غيره، فكذلك السبب يصلح أن يكون سببا إذا كان النهي لمعنى في غيره كالصلاة في الأرض المغصوبة فكذلك هاهنا سفر الآبق والباغي غير منهي لمعنى في نفسه من حيث
إنه خروج مديد بل هو مباح في نفسه وإنما صار منهيا لمعنى في غيره مجاور له وهو التمرد على المولى والخروج على الإمام والإضرار بالمسلمين بقطع الطريق، وذلك معنى منفصل عن السفر فلا يخرج هذا السفر عن كونه سببا لثبوت الرخصة.
ألا ترى أن العبد المتمرد على المولى في البلد يتمكن من المسح على الخف مسح الإقامة فيجب أن يكون متمكنا في السفر وإن كان متمردا على مولاه من مسح السفر.
وأما قوله تعالى: ((فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ)) قيل أريد به ما تمسك به الشافعي رحمه الله وهو أنه أريد بالباغي الخارج على الإمام، وبالعادي الذي يقطع الطريق على المسلمين.
وقيل أيضا: أريد بالباغي الذي يطلب ادخار الميتة بعدما وجدها، وبالعادي أن يأكل إلى الشبع ولا يكتفي بما يسد به جوعه، وهذا التأويل أليق بهذا الموضع؛ لأن الآية وردت في أكل الميتة وغيرها والعدوان في الأكل ما قلنا، فكان هو أدل ما هو على المراد من الآية، ولأن صيغة قوله:((ولا عاد)) تنبئ عن التعدي في عين ذلك الفعل، وهو ما قاله في الكتاب (بأن يتغذى المضطر على غيره).
وأما السفر على وجه الإباق عن المولى ليس بتعد في عين ذلك الفعل فإن التمرد ينفصل عن السفر وجودا وعدما على ما ذكر في الكتاب؛ حيث يوجد السفر ولا تمرد فيه، بل فيه طاعة وقربة لخروجه إلى الغزو، ويوجد التمرد بلا وجود السفر وهو أن يتمرد العبد على مولاه في البلد.
فعلم بهذا أن النهي عن سفر الإباق ليس بنهي في عين السفر بل لغيره وهو الإباق، فلا ينافي مشروعية السفر كالبيع وقت النداء والصلاة في الأرض المغصوبة، ولما كان نفس السفر مشروعا يترخص العبد الآبق وقاطع الطريق في سفرهما برخص المسافرين كما يترخص من يسافر للتجارة، وأحكام السفر أكثر من أن تحصى وهي معروفة.