المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ فصل الإكراه - الكافي شرح أصول البزدوي - جـ ٥

[الحسام السغناقي]

الفصل: ‌ فصل الإكراه

وأما الفصل الآخر فهو:‌

‌ فصل الإكراه

(ألا ترى أنه يتردد بين فرض وحظر) إلى آخره، فالفرض: فيما إذا أكره بأكل الميتة وشرب الخمر بالقتل فإنه يفترض عليه الإقدام على الأكل والشرب حتى لو صبر فقتل كان آثما كما في ترك الفرض باختياره.

والحظر: فيما إذا أكره على قتل الغير أو على الزنا بالقتل فالإقدام على القتل والزنا محظور فيأثم بفعلهما، والإباحة: فيما إذا أكره على الإفطار في صوم رمضان بالقتل فإنه يباح له الفطر؛ لأن الإفطار في نهار رمضان يباح

ص: 2429

فى الجملة بعذر، وهذا أقوى الأعذار؛ إذ فيه هلاك النفس على تقدير ترك الإفطار.

والرخصة: فيما إذا أكره على إجراء كلمة الكفر على اللسان إذ هو يستحيل اتصافه بالإباحة لكن يرخص له الإقدام على ذلك عند طمأنينة القلب بالإيمان، (فيأثم مرة) كما إذا صبر عن أكل الميتة وشرب الخمر حتى قتل يكون آثما. (ويؤجر أخرى) كما إذا صبر عن إجراء كلمة الكفر على اللسان فقتل كان مأجورا.

(لأنه لو سقط) أي الاختيار (لبطل) أي (الإكراه)؛ لأن الإكراه إنما يتحقق في حق فعل هو في إمكان المكره تحصيله فكان فيه مختارا، وأما في حق فعل ليس هو في إمكانه تحصيله فلا يتحقق الإكراه لانعدام الاختيار كما إذا أكره القصير بأن يكون طويلا أو على العكس يبطل حكم الإكراه لسقوط الاختيار.

(ألا ترى أنه حمل على الاختيار) أي أجبر المكره على أن يختار ما هو الأهون من الأمرين المكروهين وكل منهما في وسعه ولكن هو شيء شاق عليه.

(وقد وافق الحامل فكيف لا يكون مختارا؟) فإن الموافقة لأمر الأمراء

ص: 2430

دليل الاختيار حيث علم المكروهين عليه فاختار أهونهما عليه، ولو لم يكن مختارا لما قيل إنه وافق أمر الأمراء.

ألا ترى أنه لو قال للماء الجاري: أجر فجرى لا يقال: بأن الماء وافق أمره؛ لأنه لا معرفة للماء بأمر الآمر ولا خبرة له بالشر ولا بأهونه.

(إلا بدليل غيره على مثال فعل الطائع) أراد به أن لفعل الطائع موجبا أصليا، وإذا قارنه دليل مغير عن موجبه الأصلي غيره عنه فكذلك في حق المكره لأقواله وأفعاله موجب أصلي، فإذا قارنها ما يغيرها عن موجبها الأصلي غيرها عنه، فإن موجب إجراء كلمة الكفر على اللسان الكفر ولما أجرى المكره تلك الكلمة الشنعاء على لسانه بالإكراه لم يثبت موجبها الذي هو الكفر لقران دليل غيرها عن موجبها الأصلي بها وهو الإكراه.

كما يغير الدليل المغير إذا قارن قول الطائع في مسألة الشرط والاستثناء في قوله لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، وإقراره بغيره بقوله: لك علي ألف درهم إلا مائة.

وكذلك في الأفعال؛ فإن موجب شرب الخمر وموجب الزنا الحد فإذا فعلهما بالإكراه بالقتل لم يثبت موجبها الذي هو الحد لقرن الدليل الذي غيره عن موجبه كما يثبت ذلك التغير في حق فعل الطائع عند قران الدليل المغير بفعله، وهو ما إذا شرب الخمر أو زنا -والعياذ بالله- في دار الحرب لا يجب الحد لقران المغير ذلك الفعل عن موجبه وهو وجود فعل طائع فيهما في دار الحرب.

(وإنما أثر الكره إذا تكامل في تبديل النسبة) المراد من تكامل الإكراه

ص: 2431

هو أن يكون ملجئاً بأن يكرهه على أمر لو لم يفعله يقتله أو يقطع عضوه أو نحو ذلك، والمراد من تبديل النسبة أن يكون فعل المكره المحمول حسا أن يكون فعل المكره الحامل حكما حتى يجب القصاص في القتل على المكره الحامل لا على المكره المحمول، وهذا الذي ذكره من تبديل النسبة إنما يتحقق في الفعل الذي يحتمل تبديل النسبة كما في الإتلاف على ما يجيء بيانه.

(وأثره إذا قصر في تفويت الرضا) أي لا في تبديل النسبة، والمراد من الإكراه القاصر هو أن يكون الإكراه بالحبس أو القيد، وتفويت الرضى وإن كان عاما في الإكراه الكامل والقاصر، لكن لما لم يكن للقاصر أثر غيره صار كأنه هو المخصوص به.

(فأما في الإهدار فلا) أي ليس للإكراه أثر في إهدار القول والفعل، وقوله:(خلافا للشافعي) راجع إلى نفي الإهدار عندنا وإلى إثبات الفرق بين الإكراه الكامل والقاصر، فإن إهدار القول والفعل بالإكراه الباطل ثابت عند الشافعي على السواء من غير فرق بينهما حتى لا يقع طلاق المكره ولا إعتاقه، ولا يفسد صومه بالأكل بالإكراه لبطلان قول المكره وفعله، وكذلك عنده لا فرق بين الإكراه الكامل والقاصر بل القاصر مثل الكامل.

ص: 2432

(فيبطل عند عدمه) أي فيبطل القول عند عدم القصد والاختيار، فصار كأن القول لم يكن فلا يقع بمثل هذا القول الطلاق والعتاق، وإنما قلنا إن القول يبطل عند عدم القصد والاختيار لقوله تعالى:((إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)) أخبر الله تعالى بأنهم كاذبون مع أنهم شهدوا برسالة محمد عليه الصلاة والسلام لما خالف لسانهم ضميرهم فبطل صحة القول بعدم القصد والاختيار.

ألا ترى أن قول الصبي الذي هو غير عاقل لا يصح لعدم قصده، وكذلك قول النائم باطل لعدم قصده.

(وتحقيق العصمة في دفع الضرر عنه عند عدم الرضا) يعني أن ماله معصوم لأنه ليس بكافر حربي بل هو مسلم أو ذمي لأن كلامنا فيه، فتحقيق عصمته في أن لا يفوت عن ملكه إلا برضاه دفعا للضرر عنه فتحققت العصمة فوجب أن يبقى على ملكه عند عدم الرضى.

ص: 2433

(وتمامه بأن يجعل عذرا يبيح الفعل) أي شرعا كما إذا أكره على إتلاف مال الغير وعلى شرب الخمر فإن أمكن أن ينسب إلى المكره نسب إليه كما في إتلاف مال الغير، فيجعل كأن المكره هو الذي أتلفه بنفسه حتى وجب الضمان عليه بالاتفاق؛ لأنه يمكن أن ينسب إليه الإتلاف ويجعل المكره آلة له بأن يأخذ المكره رجل المكره فيلقيه على مال إنسان فيتلفه، ففي الإكراه على إتلاف مال الغير يجعل كأنه فعل كذلك فيجب الضمان على المكره لذلك.

(وإلا فيبطل حكمه) أي وإن لم يمكن أن ينسب ذلك الفعل الذي حصل من المكره إلى المكره بطل حكم ذلك الفعل أي يجعل كأنه لم يوجد ذلك الفعل لا من المكره ولا من المكره كما في شرب الخمر بالإكراه، حيث لا يجب حد الشرب لا على المكره ولا على المكره، وكذلك لو أكره الصائم الصائم في نهار رمضان على الأكل والشرب فأكل المكره أو شرب لا يفسد صوم المكره الآكل ولا صوم المكره الآمر؛ لأن فعل الأكل والشرب من الأفعال التي لا يمكن أن ينسب إلى المكره الآمر؛ لأن الإنسان لا يمكن له أن يأكل أو يشرب بفم غيره، فلذلك جعل كأن الأكل والشرب لم يوجدا أصلا فلا يجب حد الشرب

ص: 2434

والأكل على أحد، ولا يفسد صوم أحد على أصله، (وقال في الإكراه على الزنا: إنه يجب الحد على الفاعل) لأن هذا من قبيل الإكراه غير التام؛ لأن الزنا لا يباح بالإكراه بالاتفاق، فلما لم يتم الإكراه على أصله صار كأن الإكراه لم يوجد، ووجد الزنا من الزاني من غير إكراه فيجب الحد عليه لذلك.

(وكذلك قال في المكره على القتل: إنه يقتل) أي إذا قتل لما قلنا إشارة إلى قوله: ((لأنه لم يحل له الفعل)).

(وأما المكره فإنما يقتل بالتسبيب) جواب لإشكال وهو أن يقال: لما بقى القتل مضافا إلى المكره حتى وجب القصاص عليه ولم يوجد القتل من الآمر حقيقة فلم وجب القصاص عليه أيضا؟

ص: 2435

فقال: إنما يقتل الآمر لوجود تسبيب القتل منه والمسبب عنده بمنزلة المباشر في استحقاق القصاص عليه كشهود القصاص إذا رجعوا.

(وقال في الإكراه على الإسلام: إن المكره إذا كان ذميا) وذكر في ((المبسوط)) (أو مستأمنا)، وقوله:(لأن إكراه الذمي باطل) قال العبد الضعيف عبد الله -غفر الله له- فيعلم بهذا أن عدم تمام الإكراه غير منحصر على عدم إباحة الفعل على المكره بل عليه، وعلى عدم إباحة فعل الإكراه على المكره الآمر، وهذا لأن الذمي لو أسلم عند الإكراه عليه كان الإسلام مباحا له بل يقع فرضا، وما ذكره قبل هذا بقوله:((وتمامه بأن يجعل عذرا يبيح الفعل)) معناه يبيح الفعل على المكره المأمور أو يبيح فعل الإكراه على المكره الآمر بالإكراه.

(وكذلك المولي) هو اسم فاعل من الإيلاء.

(وذلك بعد المدة عنده) لأن الطلاق لا يقع عند الشافعي رحمه الله-

ص: 2436

بعد انقضاء مدة الإيلاء، بل يتوقف إلى التفريق فإذا لم يفرق فالقاضي يجبره ويكون الإجبار حقا، فلذلك وقع الطلاق لكون التفريق مستحقا على المولى بعد انقضاء المدة فكان الإكراه حقا عليه كإكراه المديون على بيع ماله عند المماطلة، فأن بيع صحيح وإن كان بإكراه لكون الإكراه على البيع حقا.

(فكان دون الهزل وشرط الخيار والخطأ) أي للإكراه دون هذه الأشياء في إفادة الحكم فكانت هذه الأشياء أقوى في إثبات الحكم من الإكراه؛ لأن الرضى بالسبب موجود في الهزل وشرط الخيار والبلوغ قائم مقام الحفظ مع اعتدال العقل في الخطأ، فكان الرضا والاختيار موجودا، والإكراه فيما يتعلق بالرضى دون هذه الأشياء، فلذلك كان أبعد في إفادة الحكم من الهزل وأختيه، وفيما يتعلق بالاختيار دون الرضا كالطلاق فوق الهزل لوجود الاختيار والحكم جميعا، وإن كان فاسدا، وفي الهزل وشرط الخيار الاختيار للحكم معدوم.

(فإذا عارضه اختيار صحيح) وهو اختيار المكره.

ص: 2437

(وفيما لا يحتمله لا يستقيم نسبته إلى المكره) وهو الأقوال كلها، ومن الأفعال الأكل والوطء.

(لأنه صالح) أي لأن الاختيار الفاسد صالح لنسبة الحكم إليه.

(ألا ترى أن هذا القدر صالح للخطاب) حتى قيل: إن المكره متردد بين فرض وحظر وإباحة ورخصة إلى آخر ما ذكرنا قبل هذا.

(منقسمة إلى هذين القسمين) أي فيما يصلح آلة للمكره وفيما لا يصلح آلة له: أحدهما: مثل (الأقوال) أي في أن لا يصلح آلة للمكره كالأكل والوطء.

والثاني: ما يصلح أن يكون الفاعل فيه آلة لغيره كما في إتلاف مال الغير.

(ما يحتمل الفسخ ويتوقف على الرضى) كالبيع والهبة، (وما لا

ص: 2438

يحتمل الفسخ) كالطلاق والعتاق.

(كامل يفسد الاختيار ويوجب الإلجاء) كالإكراه بالقتل أو بقطع العضو.

(وقاصر يعدم الرضا) كالإكراه بالحبس والقيد.

(حرمة لا تنكشف) أي لا يزول عنها الحرمة أصلا كالزنا والقتل بغير حق.

(وحرمة) تحتمل السقوط أصلا كشرب الخمر بالإكراه، (وحرمة لا تحتمل السقوط لكنها تحتمل الرخصة) كإجراء كلمة الكفر على اللسان.

(وحرمة تحتمل السقوط لكنها لم تسقط بعذر الكره واحتملت الرخصة أيضا) كتناول مال الغير بالإكراه، فإن تلك الحرمة تحتمل السقوط بإباحة صاحب المال لكن لم تسقط حرمته بعذر الكره بل يرخص له الأكل عند المخمصة على معنى عدم المؤاخذة لا أنه يحل أكله بل بشرط الضمان يرخص له الأكل.

ص: 2439

(إن الإكراه لا يوجب تبديل الحكم بحال) يعني أن حكم السبب الموضوع له لا يبتدل بالإكراه بل يبقى حكمه كما في حق الطائع؛ لأن السبب إنما أوجب الحكم لكونه صادرا عن ذي عقل وتمييز وأهل خطاب وبلوغ، وبالإكراه لا تنعدم هذه المعاني لما ذكرنا من انقسام أفعال المكره إلى الفرض والحظر والإباحة والرخصة كأفعال الطائع.

ولا يوجب أيضا بتبديل (محل الجناية)؛ لأن في تبديل محل الجناية تبديل محل الحكم، وهو لا يصح على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.

(ولا وجه لنقل الحكم بدون نقل الفعل)؛ إذ في نقل الحكم بدون نقل الفعل انفكاك الأثر عن المؤثر وذلك لا يصح؛ لأن فيه قولا بوجود الضرب في محل ووجود الألم في محل آخر وهو محال.

(ولا وجه لنقل الفعل ذاته) أي لا وجه لنقل ذات الفعل؛ لأن الفعل عرض فلا يوصف بالانتقال من محل إلى محل؛ لأنه إذا وجد في محل اضمحل وتلاشى بعد الوجود؛ فلم يتصور نقله لا حال الوجود ولا بعد

ص: 2440

الوجود فوجب القول بنقل الفعل بأن يجعل المكره آلة للمكره. (بهذا الطريق) وهو إشارة إلى قوله: ((وهو أن يجعل المكره آلة للمكره)) وطريق جعله آلة هو ما ذكر قبل هذا بقوله: ((فيجعل الاختيار الفاسد معدوما في مقابلته)) أي في مقابلة الاختيار الصحيح، فلما كان اختيار المكره معدوما كان هو والسيف سواء في أن كل واحد منهما عديم الاختيار، والسيف آلة للضارب فكذا المكره المأمور آلة للمكره الآمر.

(ففي الأقوال كلها لا يصلح أن يتكلم الرجل بلسان غيره) ولا يلزم على هذا قول الرسول، فإن قوله منتقل إلى المرسل مع أن القول لا يمكن نقله من القائل إلى غيره؛ لأنا نقول: إن انتقاله إلى المرسل شرعي لا حسي لوجود الرضى والطواعية من الرسول في انتقال كلامه إلى المرسل؛ لأنه يبذل منفعة نفسه إلى المرسل توسعة للأمر على الناس وفي الإكراه لم يوجد الرضا والطواعية في انتقال كلامه إلى المكره، ولو انتقل إنما ينتقل حسا وذلك غير ممكن في القول.

(لأن ذلك لا يبطل بالهزل وهو ينافي الاختيار أصلا) أي الطلاق

ص: 2441

والعتاق والنكاح لا يبطل بالهزل مع أن الهزل ينافي الاختيار أصلا، والإكراه لا يبطل الاختيار بل يفسده فلأن لا يبطل صحة الطلاق به أولى.

(فلم يتوقف الطلاق عليه) أي على لزوم المال، بل وقع ولكن يتوقف على قبول المال فإنه ذكر في ((الجامع الصغير)) لقاضي خان رحمه الله إذا قال الرجل لامرأته الصغيرة: أنت طالق على ألف يتوقف على قبولها وإن كان لا يلزمها المال عند قبولها، وكذا ذكر في ((الهداية)) وقال: وإن شرط الألف عليها أي وإن شرط الزوج الألف على امرأته الصغيرة توقف على قبولها إن كانت من أهل القبول، يعني بأن كانت تعقل العقد وتعبر عن نفسها، فإن قبلت وقع الطلاق لوجود الشرط ولا يجب المال؛ لأنها ليست من أهل الغرامة.

(بخلاف الهزل في الخلع عند أبي حنيفة رضي الله عنه) حيث يتوقف الطلاق هناك حتى تشاء المرأة وجوب المال على نفسها، وهاهنا يقع الطلاق ولا يجب المال، وأما الفرق لهما حيث يقولان بوجوب المال في صورة الهزل في الخلع ولم يجب هاهنا فيما إذا أكرهت على قبول المال في الخلع.

وذكر في ((المبسوط)) وللكل حاجة إلى الفرق بين مسألة الإكراه وبين

ص: 2442

مسألة الخيار والهزل.

فأما أبو حنيفة رضي الله عنه يقول فيقول: الإكراه لا يعدم الاختيار في السبب والحكم وإنما ينعدم الرضا بالحكم، فلوجود الاختيار في السبب والحكم تم القبول ووقع الطلاق، ولانعدام الرضى لا يجب المال فصار كأن المال لا يذكر أصلا.

فأما خيار الشرط فلا يعدم الاختيار والرضا بالسبب ويعدم الاختيار والرضى بالحكم فيتوقف الحكم وهو وقوع الطلاق ووجوب المال على وجود الاختيار والرضى به.

وكذلك الهزل لا ينافي الاختيار ولا الرضى بالسبب وإنما ينعدم الاختيار فيه والرضى بالحكم فتوقف الحكم لانعدام الاختيار في حقه وصح التزام المال به موقوفا على أن يلزم عند تمام الرضا.

وهما يقولان: إن الإكراه يعدم الرضى بالحكم ولا يعدم الاختيار في الحكم والسبب جميعا فيثبت الحكم وهو الطلاق ولا يجب المال لانعدام الرضى به فكأنه لم يذكر، وأما الهزل وشرط الخيار لا يعدمان الرضا بالسبب، والحكم لا ينفصل عن السبب.

فالرضى بالسبب فيهما يكون رضا بالحكم فيقع الطلاق ويجب المال؛ لأن المال صار تبعا للطلاق في الحكم، وفي الإكراه انعدم الرضى بالسبب فلا يثبت ما يعتمد ثبوته على الرضى وهو المال، ويثبت من الحكم ما لا يعتمد ثبوته على

ص: 2443

الرضى وهو الطلاق.

وقوله: (ولأنه يعدم الرضا والاختيار جميعا) أي لأن الهزل يعدم الرضا والاختيار جميعا.

(كشرط الخيار) أي على قول أبي حنيفة رضي الله عنه (فإنه) أي فإن شرط الخيار بأن اختلعت المرأة على المال على أنها بالخيار ثلاثة أيام كذلك هاهنا أي في الهزل أي يتوقف الطلاق على وجوب المال عند أبي حنيفة رضي الله عنه كشرط الخيار وهو عندهما.

(وما دخل على السبب يؤثر في المال دون الطلاق) كما في فصل الإكراه؛ (لأنه) أي لأن المال لا يجب إلا بشرط الخيار، (فكان في الإيجاب مثل

ص: 2444

اليمين) أي فكان وجوب المال في إيجاب الخلع مثل ذكر الشرط فين اليمين يعني في اليمين لا يجب الجزاء إلا بعد وجود الشرط فكذلك المال في الخلع لا يجب إلا بوجود شرط ذكر البدل.

(وبعد صحة الإيجاب يتبع الطلاق الذي هو المقصود) أي بعد صحة إيجاب الخلع يتبع وجوب المال لوقوع الطلاق، وبهذا يفرقان بين الهزل في الخلع وبين الإكراه فيه؛ حيث يجب المال في الهزل فيه ولا يجب في الإكراه فيه، يعني لما صح السبب في فصل الهزل وجب المال هناك أيضا تبعا لصحة السبب لأنه راض بمباشرة السبب فكان السبب صحيحا فوجب المال بالتبعية.

بخلاف الإكراه فإنه لما لم يصح السبب فيه لعدم الرضى بالسبب لم يتبعه وجوب المال، وفي بعض النسخ:((فكان في الإيجاب مثل الثمن)) يعني كما أن الثمن لا يجب إلا بشرط الذكر في البيع كذلك لا يجب المال في الخلع إلا بشرط الذكر.

ثم إذا صح الإيجاب في البيع وجب الثمن وإن فسد لا يجب، فكذلك في الخلع إذا صح الإيجاب وجب المال وذلك موجود في الهزل بالخلع لوجود الرضى بالسبب فوجب المال تبعا للطلاق لكون الطلاق مقصودا فلا يتوقف الطلاق على المال بل يقع الطلاق في الحال والمال يتبعه، وفي الإكراه فسد الإيجاب لعدم الرضى بالسبب والحكم جميعا فلا يلزم المال؛ لأن لزوم المال

ص: 2445

يتوقف على الرضى ولم يوجد فكان وجوب المال من أثر صحة الإيجاب.

(ولا تصح الأقارير كلها) أي سواء كان الإقرار بما يحتمل الفسخ أو لا يحتمل.

(والكامل من الإكراه والقاصر في هذا سواء) أي في إبطال الأقارير كلها.

وذكر في باب ما يكره عليه اللصوص من إكراه ((المبسوط)) ولو هددوه بقتل أو إتلاف أو بحبس أو بقيد ليقر لهذا الرجل بألف درهم فأقر له به فالإقرار باطل.

أما إذا هددوه بما يخاف منه التلف فهو ملجأ إلى الإقرار محمول عليه، والإقرار خبر متميل بين الصدق والكذب، فإنما يوجب الحق باعتبار رجحان جانب الصدق وذلك ينعدم بالحبس والقيد لما يلحقه من الهم والحزن به، وانعدام الرضى يمنع ترجيح جانب الصدق في إقراره، ثم قد بينا أن الإكراه نظير الهزل ومن

ص: 2446

هزل بالإقرار لغيره وتصادقا على أنه هزل بذلك لم يلزمه شيء فكذلك إذا أكره عليه.

فإن قيل: لماذا لم يجعل هذا بمنزلة شرط الخيار وشرط الخيار لا يمنع صحة الإقرار؟

قلنا: لا كذلك، بل متى صح شرط الخيار مع الإقرار بالمال لا يجب المال حتى لو قال: كفلت لفلان على فلان بألف درهم على أني بالخيار لا يلزمه المال.

فأما إذا أطلق الإقرار بالمال وهو خبر عن الماضي فلا يصح معه شرط الخيار، والإكراه هاهنا متحقق، وإنما يعتبر بموضع صح فيه اشتراط الخيار وهذا بخلاف ما تقدم من تناول الحرام - يعني لا يحل له التناول بالإكراه القاصر- لأن المؤثر هناك الإلجاء وذلك مما يخاف منه التلف، وهنا المانع من وجوب المال عليه انعدام الرضى بالالتزام.

وقد انعدم الرضا بالإكراه وإن كان بحبس أو قيد، ثم قال: ولو أوعدوه بضرب سوط واحد أو حبس يوم أو قيد يوم على الإقرار بألف فأقر به كان الإقرار جائزا لأنه لا يصير مكرها بهذا القدر من الحبس والقيد، فالجهال

ص: 2447

يتهازلون فيما بينهم فيحبس الرجل صاحبه يوما أو بعض يوم.

ثم قال بعد هذا في باب من الإكراه على الإقرار: وإذا أكره الرجل بوعيد تلف أو غير تلف على أن يقر بعتق ماض أو طلاق أو نكاح وهو يقول: لم أفعله فأقر به مكرها فالإقرار باطل، والعبد عبده كما كان، والمرأة زوجته كما كانت؛ لأن الإقرار خبر محتمل بين الصدق والكذب، والإكراه الظاهر دليل على أنه كاذب فيما يقر به قاصد إلى دفع شر عن نفسه، والمخبر عنه إذا كان كذبا فبالإخبار لا يصير صدقا. ثم قال: والإكراه بالحبس والقتل في هذا سواء؛ لأن الإقرار تصرف من حيث القول ويعتمد تمام الرضا وبسبب الإكراه بالحبس ينعدم ذلك، وكذلك الإقرار بالرجعة أو الفيء في الإيلاء أو العفو عن دم العمد فإنه لا يصح مع الإكراه لما قلنا.

فإن قيل أليس عند أبي حنيفة رضي الله عنه إذا قال لمن هو أكبر سنا منه: هذا ابني يعتق عليه، وهناك يتيقن بكذبه فيما قال فوق ما يتيقن بالكذب عند الإقرار مكرها، فإذا نفذ العتق ثمة ينبغي أن ينفذ هنا بالطريق الأولى.

قلنا: أبو حنيفة رضي الله عنه يجعل ذلك الكلام مجازا عن الإقرار بالعتق. كأنه قال عتق علي من حين ملكته، وباعتبار هذا المجاز لا يظهر رجحان جانب الكذب في إقراره.

فأما عند الإكراه أكثر ما فيه أن يجعل هذا مجازا عن الإقرار بالعتق ولكن

ص: 2448

الإكراه يمنع صحة الإقرار بالنسب.

(فإن كان عليه) أي على المكره المحمول (ما أوجب جرحه وجب به القود في النفس) أي على المكره الحامل. قال شيخي- رحمه الله: صورته أن يكون مع المكره المحمول آله قاتلة كالسيف والخنجر، ثم أن المكره الحامل أخذ المكره المحمول بتلك الآلة وألقاهما على إنسان فتلف لك الإنسان بتلك الآلة يجب القصاص على الملقى بالإجماع، وإنما فرض المسألة في المكره الذي معه آله جارحة ليرتب عليه جواب المسألة بالقصاص على الاتفاق؛ لأن في القتل بالمثقل اختلافًا.

(وليس في ذلك تبديل محل الجناية) وإنما قال هذا لدفع شبهة وهي أن يقال: ففي جعل المكره آله للمكره حتى يجب القصاص على المكره الآمر في العمد والدية على عاقلته في صورة الخطأ والكفارة عليه تبديل محل الجناية لأن الجناية حقيقة وجدت من المكره المأمور فكان في جعل الجناية من الآمر تبديل محل الجناية.

فقال في جوابه: ليس فى ذلك تبديل محل الجناية على الوجه الذي قلنا، وهو أن المكره امأمور فاسد الاختيار والمكره الآمر صحيح الاختيار والفاسد في

ص: 2449

مقابلة الصحيح بمنزلة المعدوم فصار المكره كأنه لا اختيار له أصلًا، فصار آلة للمكره من هذا الوجه، مع أن جعله آله له في الحقيقة متصور على ما ذكره بقوله:"وهوأن ياخذه فيضرببه نفسًا أومالًا فيتلفه" فحينئذ كانت الجناية موجودة من الآمر فيؤخذ بموجب الجناية محل الجناية الذ وجدت منه الجناية ولم يكن فيه تبديل.

(ولذلك قلنا) أي ولأجل أن المكره صار بمنزلة الآلة للمكره، (والكفارة عليه) أي علالمكره الآمر؛ لأن المكره لما جعل آلة خرج هو من البين فلا تجب عليه الدية والكفارة؛ لأنهما لا تجبان على الآلة فكذلك لا تجبان على المكره المأمور لصيرورته آلة للمكره الآمر.

وقوله (لحرمة هذا المحل أيضًا) دليل وجوب الكفارةعلى المكره الآمر مع تضمن دفع شبهة، وهي أن المكره لا يصلح آلة للمكره في حق الإثم والكفارة لرفع الإثم فكان ينبغي أن تجب الكفارة على المكره المأمور؛ لأن فعل المكره في حق القتل حرام بدليل أنه يأثم في ذلك، ومع ذلك وجبت الكفارة

ص: 2450

على المكره الآمر.

فأجاب عنه بهذ: أي نعم كذلك أن الكفارة جزاء الفعل المحرم، ولكن لحرمة المحل والمكره المأمور فيما يرجع إلى المحل يجعل آلة للمكره كما في الدية فتجب على المكره الآمر لذلك.

(وهذه نسبة ثبتت شرعًا) أي نسبة فعل المكره المأمور إلى المكره الآمر ثبتت شرعًا باقتضاء النص، وهو قوله عليه السلام:"رفع عن امتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وإنما قلنا: إن هذا يثبت شرعًا باقتضاء النص؛ لأن الإتلاف وجد من المكره المأمور حسًا وحقيقة، ولما ثبت رفع الفعل من المكره المأمور بعبارة النص لم يكن بجد من تحقيق موجب الفعل على أحد، وليس هاهناأحد ينسب إليه الفعل سوى المكره الآمر بعد انتفاء نسبة الفعل إى المكره المأمورفنسب إلى الآمر، فكانت نسبة إتلاف النفس والمال إلى المكره الآمر باقتضاءالنص بهذا الطريق.

(وهذا كالأمر) أي ثبوت النسبة في الإكراه إلى غير الفاعل حقيقة لثبوت نسبة الفعل في غير الإكراه وهو الآمر إلى غير الفاعل حقيقة.

(فإنه متى صح) أي فإن الأمر متى صح واحترز بقوله: "صح" عن الأمر الذي لم يصح، وهو فيما ذكر بعده بقوله: "وإذا كان في جادة الطريق لا

ص: 2451

يشكل حاله بطل الأمر"، وبهذا يعلم أن المراد من صحة الأمرهوأن يعلم المأموربأن للآمرحق الأمر بذلك الفعل شرعًا كما في الأمر بحفر البئر في فنائه.

وقوله: (قد يخفى على الناس) تفسير لقوله: "إشكال" أي الإشكال قد يتأتى من قبل خفاء ذلك الموضع على المأمور بأنه ملك الآمر أو حق المسلمين ولم يقيد في هذه المسألأة بالإشكال في "المبسوط".

وقال: وإن أمر عبدًا له فحفر بئرًا في فنائه فضمان ما يقع فيها على الآمر، ولو كان في غير فنائه فالضمان في عنق العبد يدفع به أو يفدى.

ثم قال: ولم يفصل هنا بين أن يكون العبد عالمًا بذلك أو غير عالم بخلاف الحر، والفرق أن الضمان هناك لمعنى الغرور ولا غرورو بين العبد وسيده، فإن قرار المان في الفصلين على السيد، فلهذا جعل فعل عبده بأمركفعله بنفسه.

ثم إنما ألحق هذه المسألة بمسألة الإكراه في حق نقل الفعل من الفاعل إلى الآمر إذا صح يعني أن الأمر إذا صح يستقيم نقل الفعل من الفاعل إلى الآمر كما يستقيم نقل فعل المكره إلى المكره الآمر في الإكراه أي تحقق وثبت من كل وجه وهو الإكراه الملجئ؛ يعني أن ما قلنا من نقل فعل المكره إلى المكره الآمر عند صحة الإكراه ليس ببعيد؛ لأن مثل ذلك موجود في الأمر، فإن الأمر إذا صح ينتقل فعل المأمور إلى الآمر فكذا في الإكراه.

ص: 2452

(وكذلك لو استأجر حرًا- إلى قوله- فإن ضمان ما يعطب به على الأمر استحسانًا) يعني لو استأجر حرًا على حفر البئر فيطريق المسلمين في غير فنائه ولكن ذلك الموضع في موضع مشكل بأن ذلك الموضع حق الآمر أم حق المسلمين وكان ذلك الموضع في الحقيقة حق المسلمين.

والدليل على هذا التفسير ما ذكره في باب البئر وما يحدث فيها من ديات "المبسوط" بقوله: فإن كان استأجر عليها- أي على حفر البئر في طريق المسلمين- أجراء فحروها له فذلك على المستأجر ولا شيء على الأجزاء إن لم يعلموا أنها في غير فنائه؛ لأنهم صاروا مغرورين من جهته حين لم يعلمهم أن ذلك الموضع ليس من فنائه وإنما حفروا اعتمادًا على أمره، وعلى أن ذلك من فنائه.

فلدفع ضرر الغرور ينقل فعلهم إلى الآمر فيصير كأن المستاجر حفر بنفسه، وإن كانوا يعلمون أنها في غير فنائه فالضمان عليهم؛ لأنهم جناة في الحفر وأمره إياهم بالحفر غير معتبر شرعًا؛ لأنه غير مالك للحفر بنفسه في هذا الموضع، وإنما يعتبر أمره لإثبات صفة الحل به أو لدفع الغرور عن الحافر وقد انعدما جميعًا في هذا الموضع فسقط اعتبار أمره، فكان الضمان على الذين باشروا الحفر، وإن كان في فنائه فهو على الآمر دون الأجراء إن علموا أو لم

ص: 2453

يعلموا؛ لأن أمره في فنائه معتبر، فإن عند أبي يوسف ومحمد- رحمهما الله- له أن يحفر في فنائه إذا كان لا يضر بالمارة لأحد أن يمنعه، وعند أبي حنيفة- رضي الله عنه يحل ذلك له فيما بينه وبين ربه ما لم يمعنه مانع؛ لأن الفناء اسم لموضع اختص صاحب لملك بالانتفاع به من حيث كسر الحطب وإيقاف الدابة وإلقاء الكناسة فيه فكان أمره معتبرًا في الحل، وانتقل فعل الأجراء إليه بهذا الأمر فيصير كأنه فعل هذا ذلك بنفسه.

وقوله: (وكذلك من قتل عبد غيره بأمر مولاه) أي قتل حر أو عبد عبد غيه بأمر مولى ذلك العبد المقتول؛ لأنه موضع شبهة؛ لأنه يشتبه عليه.

فنقول: يحتمل أن يكن أمر مولى العبد لآخر بقتل عبده كان صحيحًا باعتبار أنه صار حلا الدم عنده والمولى يتصرف في ملك نفسه، والأصل أن يكون تصرف المسلم حلالًا له، (بخلاف ما إذا قتل حرأ بأمر حر آخر فإن الضمان على المباشر)؛ لأن هذا الأمر ظاهر الفساد وجلي عدم صحة أمره على العباد؛ إذ لا ولاية لحر على حر آخر، فو كان مباح الدم كان الأمر بالقتل للولاة والحكام لا لكل أحد من آحاد الأنام، فكان الاشتباه على المباشر بسبب تقصير من جهته لا أن يكون الغرور له من جانب الآمر، فلذلك اقتصر

ص: 2454

الضمان على المباشر.

(والإكراه صحيح بكل حال) أي سواء كان الأمر في موضع الاشتباه بأن أكره الحافر على حفر بئر في فناء داره أو في غير موضع الاشتباه بأن أكره الحافر على حفر بئر في طريق المسلمين، وكذلك إذا أكره رجلًا على قتل عبده أو على قتل حر فإن الإكراه في الفصلين صحيح والضمان على المكره الآمر بذلك الفعل، وإنما كان هكذا لأن الدليل الموجب للنقل في الإكراه خوف التلف وهو لا يتفاوت بين أن يكرهه على قتل عبده أو قتل حر بخلاف الآمر، فإن دليل النقل فيه صحة الأمر، وهي إنما توجد في الأمر بقتل عبده لا في الأمر بقتل حر آخر، فلما لم يصح الأمر لم ينقل الفعل إلى الآمر.

(وأما الإكراه الذي لا يوجب الإلجاء) وهو الإكراه بالحبس والقيد لا بالقتل ولا بإتلاف العضو.

(فذلك مثل الأكل)؛ لأنه لا يصلح آلة للمكره في حق الأكل لما ذكر في الكتاب فكان الأكل منحصرًا على الأكل، فلذلك قلنا بفساد صوم المكره المأمور بالأكل إذا كان صائمًا بأكله لوجود الأكل منه حقيقة، ثم حكم الضمان هو ما ذكر في "تتمة الفتاوى" فقال: لو أكره على أكل طعام نفسه فأكل فإن

ص: 2455

كان جائعًا لا يرجع على المكره بشيء، وإن كان شبعان يرجع عليه بقيمة الطعام؛ لأن منفعة الأكل حصلت للمكره في الفعل الأول وفي الثاني لا.

ثم قال: فإن قيل: هذا العذر يشكل بما لو أكره على أكل طعام الغير فإن الضمان على المكره الآمر لا على المكره، وإن كان جائعًا وقد حصل له منفعة الأكل.

قلنا: إنما لم يجب الضمان على المكره المأمور؛ لأنه أكل طعام المكره الآمر بإذنه؛ لأن الإكراه على الأكل إكراه على القبض؛ لأنه لا يمكنه بدون القبض وكما قبض المكره المأمور الطعم صار قبضه منقولًا إلى المكره الآمر فصار كأن المكره قبضه بنفسه وقال: كل، ولو قبض بنفسه صار غاضبًا ضامنًا ثم آذنًا له بالأكل، وفي طعام نفسه لم يصر آكلًا طعام المكره بإذنه؛ لأن المكره هناك يضمن بعد الأكل والإن وجد قبل الأكل.

إلى أن قال: وإذا لم يوجد سبب الضمان في طعام المكره قبل الأكل صار المكره آكلًا طعام نفسه لا طعام المكره، إلا أن المكره متى كان شبعان لم يحصل منفعة فقد أكرهه على إتلاف ماله، ومن أكره غيره على إتلاف ماله فأتلف ضضمن المكره الآمر فكذا هنا.

وقوله: (والوطء والزنا) أراد بكليهما واحدًا وهو الزنا، ولهذا اقتصر بذكر الزنا عند ذكرالدليل، ثم لما اختصر حكم الزنا على الزاني كان ينبغي أن

ص: 2456

يجب الحد على الزاني كما هو القول القول لأبي حنيفة- رحمه الله وهو قول زفر لما ذكرنا؛ للأن الزنا من الرجل لا يتصور إلا بانتشار الآلة، ولا تنتشر آلته إلا بلذة وذلك دليل الطواعية.

وفرق على هذا القول بين الرجل والمرأة؛ لأن المرأة في الزنا محل الفعل ومع الخوف يتمكن التمكين منها، وفرق على هذا القول بين الإكراه على الزنا وبين الإكراه على القتل.

قال: لا قود على المكره المأمور وعليه الحد في الزنا، ففي كل واحد من الموضعين الحرمة لا تنكشف بالإكراه ولكن القتل فعل يصلح أن يكون المكره فيه آلة للمكره وبسبب الإلجاء يصير الفعل منسوبًا إليه، ولهذا ألزمه القصاص بخلاف الزنا فإن المكره فيه لا يصلح أن يكون آلة للمكره ولهذا لا يجب الحد على المكره.

ووجه قوله الآخر وهو قولهما أن الحد مشروع للزجر ولا حاجة إلى الزجر في حالة الإكراه؛ لأنه كان منزجرًا عنه إلى أن يحقق الإلجاء وخوف التلف على نفسه فإنما كان قصده إلى هذا الفعل دفع الهلاك عن نفسه لا اقتضاء الشهوة فيصير ذلك شبهة في إسقاط الحد عنه، وانتشار الآلة لا يدل على انعدام الخوف، فقد تنتشر الآلة طبعًا بالفحولة التي ركبها الله تعالى في الرجال، وقد يكون ذلك طوعًا.

ص: 2457

ألا ترى أن النائم قد تنتشر آلته طبعًا من غير اختيار له، وإن كان الإكراه على الزنا بحبس ففعل ذلك كان عليه الحد؛ لأن تمكن الشبهة باعتبار الإلجاء وسبب الإكراه بالحبس لا يتحقق الإلجاء فوجوده وعدمه في حكم الحد سواء، ثم في كل موضع وجب الحد على المكره لا يجب المهر لها؛ لأن المهر والحد لا يجتمعان عندنا بسبب فعل واحد خلافًا للشافعي.

وفي كل موضع سقط الحد وجب المهر؛ لأن الوطء في غير الملك لا ينفك عن حد أو مهر، فإذا سقط الحد وجب المهر لإظهار خطر المحل بإنه مصون عن الابتذال محرمًا كاحترام النفوس ويتسوي إن كانت المرأة اذنت له في ذلك أو استكرهها.

أما وجوب المهر عند استكراهها فغير مشكل؛ لأن المهر يجب عوضًا عما أتلف عليها ولم يوجد الرضا منها بسقوط حقها. وأما إذا أذنت له في ذلك فلأنه لا يحل لها شرعًا أن تأذن في ذلك فيكون إذنها لغوًا لكونها محجوره عن ذلك شرعًا بمنزلة إذن الصبي والمجنون في إتلاف ماله.

كذا في "المبسوط"، ثم ذكر في "تتمة الفتاوى" ولا يرجع بما ضمن على المكره؛ لأن منفعة الوطء حصلت للزاني وكان كما لو أكره على أكل طعام نفسه فأكل، إن كان جائعًا لا يرجع على المكره بشيء وإن كان شبعان

ص: 2458

يرجع عليه بقيمه الطعام وقد ذكرناه.

(وكذلك إذا كان نفس الفعل مما يتصور أن يكون الفاعل فيه آلة لغيره صورة إلا أن المحل غير الذي يلاقيه الإتلاف صورة- إلى قوله- وذلك مثل إكراه المحرم على قتل الصيد) يعني أن نفس القتل من قال إنه إتلاف قابل للنقل من الفاعل إلى المكره الآمر.

ومن قال إنه جناية في دين القاتل وإحرامه غير قابل للنقل فإن إنسانًا لو أثم في شيء ففعله لا يمكن أن يقال: إن إثمه منه إلى من أمره بذلك الفعل لقوله تعالى: (عَلَيْهَا ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى)، وهذا لأنا لو قلنا بأن المحرم الآمر بقتل الصيد هو الذي قتله بواسطة المكره المأمور يلزم منه تبديل محل الجناية؛ لأن محل الجناية صورة هو الصيد.

وفي الحقيقة محل الجناية الإحرام، وفي جعل المكره آلة تبديل محل الجناية؛ لأنه حينئذ تكون الجناية واقعة على إحرام المكره الآمر وفي ذلك بطلان الكره؛ لأن إنسانًا لو أكره آخر بأن يجني المكره المأمور في محل معين وهو أوقع جنايته في محل آخر غير المحل الذي أمر به المكره الآمر كان ذلك جناية

ص: 2459

منه بطريق الطوع لا بطريقه الكره، وهذا بخلاف الإكراه على قتل نفس معصومة؛ لأن محل الجناية هو المقتول فلا يكون في تبديل النسبة تبديل محل الجناية.

أما الصيد ففي قتله محل الجناية الإحرام في حق المحرم أو الدين في حق صيد الحرم في حق الحلال؛ لأنه لا حرمة للصيد في نفسه.

ألا ترى أن اصطياده لغير المحرم في غير الحرم حلال وللمحرم أيضًا يحل أكله وكذلك صيد الحرم.

ألا ترى أنه لو خرج من الحرم يحل اصطياده، فلما كان محل الجناية في الحقيقة هو الإحرام أو الدين كان في تبديل النسبة تبديل محل الجناية.

وفي تبديل المحل خلاف المكره، أي مخالفة المكره؛ لأن الإكراه لما وقع في محل، وفعل المكره المأمور في محل آخر لم يبق ما أكره عليه، فكان هو مخالفة للمكره الآمر ضرورة؛ لأنه لم يوجد الإكراه في حق المحل الآخر فيبطل الكره.

وعاد الأمر إلى المحل الأول، وهو إحرام المكره المأمور؛ لأن الفعل قام ببدن المكره الفاعل وهو المأمور حقيقة، والانتقال عنه إنما يكون إلى الآمر إذا

ص: 2460

وافق المكره المكره الآمر، فإذا خالفه يعود الفعل إلى المحل الأول وهو إحرام الفاعل.

وقوله: (ولهذا قلنا) إيضاح لما ذكر قبله وهو قوله: وكذلك إذا كان نفس الفعل مما يتوصر أن يكون الفاعل فيه آلة لغيره، إلا أن المحل غير الذي يلاقيه الإتلاف صورة، يعني أن الفعل إذا كان مشتملًا لمعنى قابل للنقل إلى المكره الآمر ولمعنى غير قابل للنقل إليه فينقل ما هو قابل له، ويقتصر على الفاعل ما هو غير قابل له، كما إذا أكره على قتل نفس معصومة ففي القتل بالإكراه معنيان:

أحدهما- قابل للنقل وهو معنى الإتلاف فلذلك وجب القصاص فيما فيه القصاص، والضمان فيما ليس فيه قصاص، والكفارة على المكره الآمر.

والثاني- غير قابل للنقل وهو جناية القتل على دين نفسه حى يأثم المكره المكره المأمور بالقتل عند قتله؛ حيث لا ينقل قتله إلى الآمر فيحق الإثم بأن لا يأثم المكره القاتل بل يأثم الآمر، وهذا لأن إثم المكره القاتل باعتبار اختياره قبل غيره على قتل نفسه بأن يصبر عن قتل غيره حتى يقتل هو، والاخيتار

ص: 2461

إنما ينشأ عن عزيمة قلبه فكان الإثم بمقابلة عزيمة قلبه عند اتصال الفعل بها وهو في ذلك لا يصلح آلة لغيرة؛ لأن ذلك ليس بأمر حسي حتى يتصور أن يكون الفاعل فيه آلة لغيره كما في الإتلاف.

وكذلك قوله: (ولهذا قلنا في المكره على البيع والتسليم) إيضاح لذلك أيضًا، وهو أن المكره على البيع والتسليم لما لم يصلح آلة للمكره في حق التسليم اقتصر التسليم على المكره المأمور، وإن كان التسليم فعلًا حسيًا كما في الإتلاف؛ لأنا لو جعلنا المكره المأمور آلة للمكره في حق التسليم صار اآمر كأنه قبض من المالك بغير رضاه وسلمه إلى المشتري، فحينئذ يكون هذا غصبًا محضًا لا إكراهًا على البيع وحكم الغضب غير حكم البيع.

وقوله: (لتبدل المحل) إلى محل الإكراه، فإنه إنما أكرهه على البيع على أن يتصرف المالك في مال نفسه بالبيع ولو جعل آلة يكون بيعًا في المغصوب، وفي لفظ البيع أيضًا لا يصلح المكره آلة للمكرة الآمر؛ لأن البيع يحصل بالتكلم والمكره لا يصلح آلة للمكره الآمر في حق التكلم، فكذا فيما يتم به البيع وهو التسليم لا ينقل إلى المكره من حيث إنه إتمام البيع.

(وإذا ثبت أنه أمر حكمي صرنا إليه استقام ذلك) فقوله: "استقام" ذلك جزاء الشرط، وقوله:"صرنا إليه" صفة بعد صفة لقوله: "أمر" أي وإذا

ص: 2462

ثبت أن نقل فعل المكره إلى المكره الآمر أمرحكمي مصير إليه لا حسي استقام ذلك القول بالنقل فيما يعقل نقله بالطريق الذي قال بأن يأخذ المكره الآمر رجل المكره المأمور فيلقيه على النفس أو على المال فيتلفه، ولكن ذلك الإتلاف من المكره الأمر غير محسوس، بل الإتلاف إنما وجد حسًا من المكره المأمور.

فيعلم من هذا أن فعل المكره المأمور لا ينقل إلى المكره فيما لا يعقل نقلله كما في الأقوال كلها، وكما في الأكل والوطء وفي حق الإثم وفي حق الجناية على الدين.

(وأن القسم الأول هو الزنا بالمرأة والقتل والجرح) وإنما قدم هذه الأشياء على سائر الحرمات؛ لأن حرمة هذه الأشياء مصمتة لا تنكشف أصلًا على وج لا يجري فيها الرخصة في حال من الأحوال.

(فسقط الكره) فلما سقط الكره كان بمنزلة من قتل نفسًا معصومة بدون الكره فيأثم.

ص: 2463

وقوله: (حتى إن من قيل له- إلى قوله- ويد غيره ونفسه سواء) يتعلق بما ذكره قبله من التعداد بقوله: "والقتل والجرح"

فيعلم بهذا أن جرح غيره بمنزلة قتل نفسه في حق الحرمة، ومعنى قوله:"أو لتقطعن يدك" حتى يقطعن.

(غَيْرَ بَاغٍ) أي غير طالب للحرام ببعد إبقاء المهجة (ولا عَادٍ) أي ولا مجاوز من حد سد الرمق، وقد ذكرنا قبل هذا بأتم منه.

ص: 2464

(فإذا سقطت الحرمة أصلًا) أي في فصل الخمر وغيرها.

(وهذا إذا تم الإكراه) وهو في فصل الإكراه الكامل.

(فأما إذا قصر لم يحل له التناول) وكذك هذا في إتلاف مال الغير إنما يضمن المكره في الإكراه الكامل؛ لأن المكره إنما يصير كالآلة عند تمام الإلجاء.

وأما إذا أكرهه بحبس أو بقيد ففعله لم يكن على المكره الآمر ضمان ولا قود فبقي الفعل مقصورًا على الفاعل المأمور فيواخذ بحكمه. إلى هذا أشار في "المبسوط".

(وأما الذي لا يسقط) أي لا يسقط حرمته أبدًا، (ويحتمل الرخصة)

ص: 2465

فمعنى احتمال الرخصة هو ان لا يأثم بفعله.

أما لولا يفعل وصبر على عذاب القتل فقتل كان هو أولى من الترخص بفعله.

(رخص بالنص في قصة عمار بن ياسر- رضي الله عنه) وهو ما روى أو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب رسول الله عليه السلام وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه، فلما آتى رسول الله عليه السلام قال عليه السلام:"ما رواءك"؟ قل: شر ما تركوني حتى نلت وذكرت آلهتهم بخير. قال عليه السلام: "فكيف تجد قلبك؟ " قال: أجده مطمئنًا بالإيمان. قال عليه السلام له: "إن عادوا فعد" أي إن عادوا إلى الإكراه بالقتل فعد إلى طمأنينة القلب وتخليص نفسك.

فإن قلت: على هذا ينبغي أن يكون إجراء كلمة الكفر أولى من الصبر

ص: 2466

والحكم على العكس! وذلك لأن النبي عليه السلام أمره بالعود وتخليص النفس، ولا يحصل تخليص النفس إلا بإجراء كلمة الشرك على اللسان فكان هذا منه أمر بإجراء كلمة الشرك على اللسان ومطلق الأمر للأيجاب، ولأن ما أجراه على لسانه ليس بكفر عند طمأنينة القلب بالإيمان فينبغي أن يكون الإجراء أولى من الصبر كما في الإكراه بالقتل على شرب الخمر.

قلت: لا، بل معنى قوله عليه السلام:"إن عادوا فعد إن عادوا فعد" إلى طمأنينة القلب بالإيمان.

هكذا ذكره الإمام المعو عليه شمس الأئمة- رحمه الله في إكراه "المبسوط" فقال فيه: وبعض العلماء يحملون قوله: "إن عادوا فعد" على ظاهره، يعني إن عادوا إلى الإكراه فعد إلى ما كان منك من النيل مني وذكر آلهتهم بخير، وهو غلط فإنه لا يظن برسول اله عليه السلام أنه يأمر أحدًا بالتكلم بكلمة الشرك، ولكن مراده:"فإن عادوا فعد" إلى طمأنينة القلب بالإيمان، وهذا لأن التكلم وإن كان يرخص له فيه فالامتناع منه أفضل.

ألا ترى أن خبيب بن عدي- رضي الله عنه لما امتنع حتى قتل سماه

ص: 2467

رسول الله عليه السلام أفضل الشهداء وقال: "هو رفيقي في الجنة"، وأما قوله: ولأن ما أجراه على لسانه ليس بكفر عند طمأنينة القلب بالإيمان.

قلنا: نعم كذلك، ولكن كما يجب على المؤمن صيانة إيمانه بقلبه كذلك يجب صيانته بلسانه؛ لأن القلب واللسان محلا ركني الإيمان، وهما: التصديق والإقرار بالإيمان وإن كان الإقرار ركنا زائدا؛ لأنه يجب على المؤمن صيانة إيمانه ظاهرا وباطنا ولا تحصل الصيانة هكذا إلا بكاللف عن تبديلهما معا، هذا هو القياس؛ لأن تبديل الاعتقاد من الإيمان إلى الكفر كفر في جميع الأحوال، فكذا يجب أن يكون تبديل اللسان من كلمة الإيمان إلى كلمة الكفر كفرا.

إلا أنه لما جاء النص بإباحة إجراء كلمة الكفر على اللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان وجب أن يحمل ذلك على رخصة الأمر مع قيام المحرم لا على الجواز المطلق، فلما حمل ذلك على الرخصة مع قيام الحرمة كان الصبر عن إجراء كلمة الشرك حتى يقتل أولى من إجرائها وتخليص نفسه، وإلى هذا المعنى أشاء النبي عليه السلام في حديث خبيب رضي الله عنه حيث سماه أفضل الشهداء وقال:"هو رفيقي في الجنة".

ص: 2468

(وفي هتك الظاهر مع قرار القلب ضرب جناية)، وهذا إشارة إلى ما قلت: إن على المؤمن صيانة الظاهر واجب، وهي أن لا تجرى كلمة الشرك على لسانه لئلا يهتك ظاهر إيمانه وإن كان في حال الإكراه، ولو هتك ظاهر إيمانه في حال الإكراه بإجراء كلمة الشرك على لسانه مع قرار قلبه بالإيمان كان هو نوع جناية منه.

(لكنه دون القتل) يعني كشته شدن، أي دون أن يقتل المكره الذي صبر حتى أن يقتل بسبب الامتناع عن إجراء كلمة الشرك على لسانه، أي إجراء كلمة الكفر مع طمأنينة القلب أدون وأحقر من أن يقتل المكره الصابر؛ لأن في إجراء كلمة الكفر مع طمأنينة القلب هتك صورة الإيمان مع بقائه معنى لبقى الركن الأصلي وهو طمأنينة القلب بالإيمان، وفي الكف حتى يقتل هدم للآدمي الذي هو بنيان صورة، ومعنى لكن مع ذلك كان الامتناع عن إجراء

ص: 2469

كلمة الكفر أولى لكون ذلك جهادا في سبيل الله وإظهار صلابة في دينه والذي ذكره من الدليل كان ذلك دليل الترخص في حق إجراء كلمة الكفر.

(فصار هذا القسم قسمين) أي القسم الثاني من تقسيم المحرمات، أي فصار القسم الذي لا تسقط حرمته أصلا ولكن يحتمل الرخصة قسمين.

(والأداء فيه ركن ضم إليه) أي الإقرار باللسان في الإيمان ركن ضم إلى الاعتقاد الذي هو أصل في الإيمان، يعني أن الإقرار باللسان ليس بركن أصلي كالاعتقاد، بل هو من الزوائد فيحتمل السقوط بعارض الإكراه بخلاف الاعتقاد فإنه لا يحتمل السقوط أصلاً.

ص: 2470

(فصار عمدة الشرع) أي فصار الاعتقاد ما يعتمد عليه الشرع، (وصار غيره عرضة للعوارض) أي وصار غير الاعتقاد وهو الإقرار باللسان والصلاة والصوم وسائر العبادات الظاهرة محل تعرض العوارض، أي محل أن يمنعه مانع من المضي على ما عليه أصل تلك العبادات.

وقوله: (وما كان من حقوق العباد -إلى قوله- قسم آخر) مبتدأ وخبر بيان للقسم الثاني الذي ذكره قبل هذا بقوله: (فصار هذا القسم قسمين).

فإن قلت ففي قوله: (فصار هذا القسم قسمين -إلى قوله- لم تحتمل الرخصة بالتبديل) شبهتان هائلتان واردتان على القسم الأول والثاني.

إحداهما -هي ما ذكرنا إن الإشارة في قوله: (فصار هذا القسم) راجعة إلى قوله: (وأما الذي لا يسقط ويحتمل الرخصة) والقسم الأول من هذين القسمين لا يحتمل الرخصة كما ذكر بقوله: (لم يحتمل الرخصة بالتبديل) وهذا الأصل مقرر وهو أن موضع التقسيم يجب أن يكون مشتركا بين ما يرد على ذلك التقسيم من الأنواع كما تقول: الإنسان حيوان ناطق ثم تقسم الإنسان على أنواع ثلاثة بين الرجل والمرأة والصبي فوصفا الإنسان وهما الحيوانية والناطقية موجودتان في كل واحد من هذه الأنواع.

وهاهنا القسم الذي انشعب منه هذان القسمان محتمل للرخصة، والقسم الأول من هذين القسمين غير محتمل للرخصة كما ترى فوجب أن لا يصح

ص: 2471

القسم عليه لانعدام تناول موضع التقسيم له.

والثانية -هي أن وصف هذا القسم الأول من هذين القسمين حرمة تبديل الإيمان إلى الكفر لا تسقط ولا تحتمل الرخصة، فكان هذا القسم في حق هذين الوصفين نظير ما ذكر قبل هذاا بورق بعينه بقوله:(فإن القسم الأول هو الزنا بالمرأة والقتل والجرح لا يحل ذلك بعذر الكره ولا يرخص فيه) فلما كان هذا القسم عين ذلك القسم في الاتصاف بهذين الوصفين ما فائدة إفراد هذا القسم بجعله أحد قسمي القسم الثاني، ولم لم يورد هذا القسم في ذلك القسم الذي ذكر فيه الزنا وغيره حتى ينصب هذا الوصفان على كليهما انصبابة واحدة؟

قلت: أما الجواب عن الشبهة الأولى فهو أنه لما ذكر القسم الثاني الذي هو موضع التقسيم بقوله: وأما الذي لا يسقط ويحتمل الرخصة فمثل إجراء كلمة الكفر على اللسان والقلب مطمئن بالإيمان كان ذلك القسم محتملا شيئين:

أحدهما- غير محتمل لسقوط حرمته ولكن يحتمل الرخصة وهو إجراء كلمة الكفر على اللسان.

والثاني- غير محتمل لسقوط حرمته ولا يحتمل الرخصة وهو ترك اطمئنان القلب بالإيمان، لكن جعل كون إجراء كلمة الكفر على اللسان نظيرا لما ذكر بطريق العبارة والقصد، وجعل ترك اطمئنان القلب نظيرا لما ذكر بطريق الإشارة والضمن؛ حيث لم يعلم هناك ذلك المقصود الحاصل من

ص: 2472

الإشارة، ثم إن جر ما ذكره من حكم إجراء كلمة الكفر على اللسان مع زيادة تقرير فيه إلى أنه ألحق به حكم استهلاك أموال الناس وجواز الترخيص فيه بالإكراه التام.

ثم ذكر هاهنا حكم ضد ذينك الشيئين بطريق النتيجة لما ذكر قبله بقوله: فصار هذا القسم قسمين" إلى آخره أعني بذينك الشيئين إجراء كلمة الكفر على اللسان وترك اطمينان القلب بالإيمان، وأعني بضدهما الإقرار بالإيمان بالله تعالى باللسان واطمينان القلب بالإيمان، والدليل على ما قلته من ذكرهما بطريق النتيجة كما قلته شيئان:

أحدهما- ذكر الفاء في قوله: "فصار هذا القسم". والثاني- إعادة عين ما ذكر فيه من اطمئنان القلب بالإيمان، لكن عبر عنه هاهنا بلفظ العقيدة، ومن ذكر جنس ما يحتمل السقوط كان هو إجراء كلمة الكفر على اللسان.

وحاصله أنه لما ذكر هناك حكم إجراء كلمة الكفر على اللسان عند الإكراه كان ذكر حكم ضده وهو الإقرار بالإيمان بالله تعالى في حق الإيمان نتيجة له، فكان الذي ذكر هناك في حق تحمل الرخصة مقصودا عند الإكراه والذي هنا في حق تعلق الله تعالى بالإيمان مقصودًا وهو شيئان: أحدهما- الاعتقاد الثابت على الإيمان.

والثاني- الإقرار بالله تعالى باللسان، وفي حق ذكر تحمل الرخصة أو عدم تحملها تبعًا، فلذلك ذكر هذا القسم الذي صار قسمين في حق الإيمان وغيره بعد ذلك ذكر فيه تحمل الرخصة مقصودًا.

ص: 2473

وأما الجواب عن الشبهة الثانية فمستخرج من جواب الشبهة الأولى، وهو أنه لما استقام ذكر القسم الثاني وهو قوله " وأما الذي لا يسقط ويحتمل الرخصة" باعتبار المقابلة للقسم الأول لما أن القسم الأول وهو الزنا وغيره لا يحتمل الرخصة.

وهذا القسم الثاني يحتملها كان ذكر هنا القسم الذي يتراءى التكرار بالقسم الأول بطريق النتيجة والتبعية للقسم الثاني، فلم يكن تكراره ملتفتًا إليه؛ لأن تكراره لم يكن بمقابلة القسم الأول، وهذا أيضًا جواب لعدم إيراد هذا القسم تبعًا ونتيجة للقسم الثاني والقسم الثاني مضاد للقسم الأول ومقابل له كان تبع القسم القاني أيضًا مضادًا للقسم الأول من حيث المعنى.

فحينئذ لا يستقيم إيراد هذا القسم هناك. والله أعلم

هذا الذي أدت إليه رويتي وحجري وانتهت إليه نهيتي وفكري من

ص: 2474

الجواب لمثار الشبهتين المثارتين من قبلي والمزبرحتين من عندي، ومن كان عنده جواب أصح متنًا وأوسع صحنًا فليبرزه فهو في سعة في ذاك وخليق بأن يقال المئنة هناك.

وقوله: (أنه يتحمل السقوط بأصله لكن دليل السقوط لما لم يوجد)

وأرى لهذا تناول مال الغير عند المخمصة نظيرًا، فاحتمال السقوط هناك بأصله بأن يأذن صاحب المال بالتناول له، ولكن لما لم يعلم الإذن منه كان التناول منه قبل الإذن حرامًا في أصله فلذلك كان الكف عنه عزيمة صيانة المال المسلم، فإن وجوب صيانة مال كصيانة نفسه.

ألا ترى أن لصاحب المال أن يقاتل لأجل صيانة ماله كمال أن يقاتل لأجل صيانة نفسه، فلو مات فيه مات شهيدًا، لكن دليل السقوط لم للم يوجد وعارضه أمر فوقه وهو تلف النفس بسبب صيانة المال، وإنما جعل تلف النفس فوق تلف المال وإن كان في وجوب الصيانة سواء علة ما ذكرنا؛ لأن المال في أصله خلق لوقاية النفس فكانت مرتبة الموقي أقوى من مرتبة الواقي،

ص: 2475

فكانت حرمة تلف النفس أشد حرمة وأعظم خطرًا من حرمة تلف المال، مع أن استهلاك المال بالتناول مجبور بالضمان بقيمة المال، ففي الإكراه على المكره الآمر، وفي المخمصة على الآكل فصار كأن المال لم يهلك؛ لأن قيمة المال تقوك مقام المال.

فإن قلت: بالنظر إلى هذا الدليل ينبغي أن تكون هذه الرخصة من قبيل رخصة الإسقاط كما أكل الميتة وشرب الخمر حالة الإكراه وحالة المخمصة بل أولى؛ لأن حرمتهما في نفسهما ثابتة؛ لأنه ذكر في إيمانه "التتمة" محالًا علة "المنتقي" رجل حلف لا يأكل الحرام فاضطر إلى ميتة فأكل منها حنث.

وأما هاهنا فلما ضمن قيمة المال وأداها صار كأنه لم يستهلك المال لقيام قيمته مقامه، فحينئذ كان قاتلا نفسه بالامتناع عن التناول بدون استهلاك كمال الغير فيجب أن يأثم لصبره حتى قتل، والحكم على خلاف ذلك، فإنه لو امتنع حتى قتل كان شهيدًا مأجورًا.

قلت: نعم كذلك غير أم جواب هذا وأمثاله مبني على ما ذكر في آخر إكراه "المبسوط" فقال: وكل أمر أحله الله في مثل ما أحل في الضرورة من الميتة وغيرها والفطر في المرضى والسفر فلم يفعل حتى مات أو قتل فهو آثم، وما أمر حرمه الله تعالى ولم يجيء فيه إحلال إلا أن فيه رخصة فأبى أن يأخذ

ص: 2476

بالرخصة حتى قتل فهو في سعة؛ لأن في هذا إعزاز الدين.

ألا ترى أن محرما لو اضطر إلى ميتة وإلى ذبح صيد حل له عندنا أكل الميتة ولم يحل له ذبح الصيد ما دام يجد الميتة؛ لأن الميتة حلال في الضرورة والصيد جاء تحريمه على المحرم جملة أي لم يجيء فيه نص إحلال في صورة من الصور، فيبقى على حرمته، ومن أبقى الحرام حراما حتى يقتل كان إعزازا للدين الحق فكان شهيدا بخلاف الميتة والخمر حيث جاء نص بإحلالهما على مضطر بالاستثناء عن التحريم.

وأما قوله: فلما ضمن قيمة المال وأداها صار كأنه لم يستهلك، فقلنا: لا كذلك فإن لصاحب المال في عين ماله حقا قويا فليس لغيره أن يتعرض لعين ماله بدون رضاه وإن كان هو مضمونا بقيمته فكان ضمان القيمة وأداؤها هنا بمنزلة ضمان القضاء في إفساد الصلاة المفروضة وقضائها وإفساد صوم رمضان وقضائه، فإنه وإن كان قضاؤهما قائما مقام الأداء كان الصبر على المكره بالإفساد حتى يقتل أفضل له من الإفساد.

إلى هذا أشار في آخره إكراه "المبسوط"، وهذا أيضا مبني على ما ذكرنا قبل هذا من الأصل المذكور من "المبسوط" فإنه لما لم يجيء نص بالإحلال بترك الصلاة المفروضة عن وقتها وترك الصوم المفروض عن وقته كان في الصبر على القتل إعزاز لدين الله تعالى.

ص: 2477

وإن كان قضاؤهما مشروعًا، وفي كل موضع جاء النص بتأخير تلك العبادة فلم يؤخر حتى قتل أثمًا، وقال في "المبسوط" وفي صوم رمضان لو قيل له وهو مقيم لإن لم تفطر لنقتلنك فإبى أن يفطر حتى قتل وهو يعلم أن ذلك يسعه كان مأجورًا؛ لأنه متمسك بالعزيمة وفيما لا يفعل يظهر إظهار الصلابة في الدين فإن أفطر وسعة ذلك؛ لأن الفطر رخصة له عند الضرورة إلا أن يكون مريضًا يخاف على نفسه إن لم يأكل ولم يشرب فلم يفعل حتى مات وهو يعلم أن ذلك يسعه فحينئذ يكون أثمًا.

وكذلك لو كان مسافرًا في شهر رمضان فقيل له: لنقتلنك أو لتفطرن فأبى أن يفطر حتى قتل كان أثمًا؛ لأن الله تعالى أباح له الفطر في هذين الوجهين بقوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)

(وذلك مثل تناول محظور الإحرام) أي وتناول مال الغير مثل تناول محظور الإحرام من غير ضرورة بالمحرم.

(فكذلك هاهنا) أي في تناول مال الغير يرخص له ويضمن، ثم قوله:"وذلك مثل تناول محظور الإحرام عن ضرورة بالمحرم" يتناول الإكراه والمخمصة؛ لأن كلا منهما يضطر المضطر إلى الإقدام على قتل الصيد فلذلك

ص: 2478

رخص له القتل وضمن جزاء الصيد.

فإن قلت: يلزمم على هذا أن يكون قتل الصيد للمحرم أغلظ من قتل المسلم المحرم قتله، فإن المكره لو أكره رجلًا على قتل المسلم بالإكراه الكامل فقتله لم يجب على القاتل شيء، وهنا يجب جزاء الصيد على القاتل وإن كان هو في الإكراه الكامل ولا يتمحل في هذا بإن وجوب جزاء الصيد على المكره القاتل باعتبار أنه حق الله تعالى وجناية على إحرامه، فإن ذلك متقوض بعد وجوب الكفارة على المكره القاتل المسلم في قتل الخطأ، بل تجب الكفارة على المكره الآمر لا على القاتل على ما ذكرناه قبل هذا، مع أن وجوب الكفارة لرفع الإثم الثابت في دين القاتل وهي حق الله تعالى أيضًا فلما لم يجب على المكره القاتل شيء مع أنه لا رخصة في القتل أصلًا وإن كان في حال الإكراه الكامل وجب أن لا يجب هنا بالطريق الأولى فإن للمحرم رخصة في قتل الصيد عند الضرورة بخلاف قتل المسلم بغير حق.

قلت: هذا الذي ذكره من ضمان الجزاء في الصيد جواب الاستحسان.

وأما في جواب القياس فلا يجب عليه شيء كما في قتل المسلم؛ لأن القاتل في الإكراه الكامل كالآلة ولا يجب شيء على الآلة فكذا على القاتل، ولأنه لما لم يجب في قتل المسلم شيء مع أنه لا يسعه الإقدام على القتل، وهنا أولى أن لا يجب على القاتل شيء لأنه رخص له القتل هاهنا.

ص: 2479

أما وجه الاستحسان وهو وجه الحكم المذكور في الكتاب على وجه الفرق بين قتل المسلم وبين قتل المحرم الصيد فهوأن قتل الصيد من المحرم جناية على إحرامه وهو في الجناية على إحرام نفسه لا يصلح أن يكون آلة لغيره.

فأما قتل المسلم جناية على المحل وهو يصلح أن يكون آلة للمكره في ذلك حتى أنه في حق الإثم لما كان جناية على دينه وهو لا يصلح أن يكون آلة لغيره في ذلك اقتصر الفعل عليه في حق الإثم.

يوضحه أنه لما لم يجب على الآمر هنا شيء- إذا كان حلالًا- فلو لم نوجب الكفارة على القاتل كان تأثير الإكراه في الإهدار، وقد بينا أنه لا تأثير للإكراه في الإهدار ولا في تبديل محل الجناية وإن كانا محرمين جميعًا فعلى كل واحد منهما كفارة.

أما على المكره فلأنه لو باشر قتل الصيد بيده لزمته الكفارة فكذلك إذا باشر بالإكراه.

وأما المكره فلأنه في الجناية على إحرام نفسه لا يصلح آلة لغيره.

يوضحه أنه لا حاجة هنا إلى نسبة أصل الفعل إلى المكره في إيجاب الكفارة عليه لما أن كفارة الصيد على المحرم بالدلالة والإشارة وإن لم يصر أصل الفعل منسوبًا إليه فكذلك هاهنا، وبه فارق كفارة القتل إذا كان خطأ أو شبه عمد فإنه يكون على المكره الآمر دون المكره بمنزلة ضمان الدية والقصاص؛ لأن تلك الكفارة لا تجب إلا بمباشرة القتل، ومن ضرورة نسبة

ص: 2480

المباشرة إلى المكره أن يبقى فعل في جانب المكره المأمور، وهاهنا وجوب الكفارة لا يعتمد مباشرة القتل فيجوز إيجابه على المكره المأمور بالمباشرة وعلى المكره الآمر بالتسبيب. كذا في "المبسوط" والله أعلم.

ص: 2481

يقول العبد الضعيف حسين بن علي بن حجاج السغناقي حاطه الله عما يهمه، وساسه عما يلمه بتاريخ يوم الخميس الثامن عشر من شهر جمادى الأولى من شهور سنة أربع وسبعمائة قد اسلنطخ ما اصلخد مما سرهفت، في التامور، واخرنمس،

ص: 2482

ما غمغم مما يمور، معبقرًا بما يلوح من المعاني الدقيقة ومزبرحا بما يجود من الكلمات الرقيقة وما انهل هطلان البيان على حقلد الكلام إلا أرى فيه العجاب، وشفى مرض الجهل، وإن كان فيه داء القلاب، وواشكت،

ص: 2483

إلى ما انتدبوني بالاحرنجام، وسارعت إلى تحرير ما ارتبك عليهم بالارتطام، ولينت ما اطرخم من دراهس الكلام، وأوضحت ما ادلهم من عكامس الظلام، وما ادخرت مما قيل فيه من البيان أو يقال، رجاء ان يعفى عني ما عسى فيه عثرة أو يقال، وما قصرت في إيراد ما يزداد به الكتاب إيضاحًا، وما ينقضي به حاج من تأرض فيه لانسلاكه إنجاحًا،

ص: 2484

ودغففت فيه غدق النظائر، في مضايق معضلات لا تدركها البصائر، وكثرت لها شواهد من المبسوط غير مسردق على وجه يفقهها المحذق وغير المحذق، ويضربان هذا المثل من جرا التسهيل والتخضيع، إن أهون السقي التشريع، وكتابي هذا يعرف قدره من أكرمه الله بالمدارسة، فإنه يشاح على غيره للمنافسة، لما أن هذا جامع للفوائد المزدحمة، والنظائر المرتكمة وما جووز مضيق إلا وقد أعلم بالتوسيع، وما أنهي إلى مغمم إلا وقد رسم

ص: 2485

بالتقشيع، ولما كان أمره بكفاية كل مهم من الكتاب، وتقسيع كل مغم من الخطاب، سميته ب"الكافي" وجعلتها علمين في تفسيح المشكلات وتكشيف المعضلات، وقد وفقني الله تعالى لإتمامهما برحمته في هذا الوقت الموصوف بالادلهمام والدهر المنعوت بنوه بالاطرخمام، وأرجو أن يوفقني بفضله على عمل يسرني يوم التناد، وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.

تمت كتابة هذا الشرح الموضح والأصل المربح المنجح في غرة شهر الله المبارك رمضان الميسر لعباده المدينين بالرحمة والغفران، حجة إحدى عشرة وسبعمائة بالمدينة المتبركة المأنوسة دمشق المحروسة، نقلًا عن خط مصنفه الشيخ الإمام الهمام والقزم السميدع القمقام حسام الملة والدين، شارح

ص: 2486

مشكلات الفقه ومعضلات القوانين، المخصوص بجزائل نعم الله تعالى الدائم الباقي، حسين بن علي بن حجاج بن علي السغناقي جازاه الله عن المسلمين المستفيدين بفوائده خيرًا، وكافاه سعادات الدنيا والآخرة أحسن مكافأة وأجرًا.

ص: 2487