المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب العقل أي يتصل بالجملة التي ذكرناها من أول الكتاب إلى - الكافي شرح أصول البزدوي - جـ ٥

[الحسام السغناقي]

الفصل: ‌ ‌باب العقل أي يتصل بالجملة التي ذكرناها من أول الكتاب إلى

‌باب العقل

أي يتصل بالجملة التي ذكرناها من أول الكتاب إلى هذا (باب العقل)، فوجه الاتصال هو أن إثبات مساواة حكم العام بحكم خاص بدليل الاجتهاد وهو محتاج إلى العقل، وكذلك لإثبات قطيعة أحكام الظاهر والنص والمفسر والمحكم مع تفاوت في القوة والضعف فيما بينها، ولباب القياس في التفرقة بين العلل الطردية والمؤثرة ووجوه القياس والاستحسان، ولمعرفة السبب والعلة والشرط والعلامة وأحكامها لم يكن بد من العقل، فكان بابه متصلًا بهذا لهذه المناسبة، فكان قوله:"بهذه الجملة" إشارة إلى ما ذكر في أول باب معرفة أقسام الأسباب والعلل بقوله: "جملة ما يثبت بالحجج التي سبق ذكرها" إلى آخره.

ص: 2123

وقال الإمام اللامشي رحمه الله بعد ما ذكر الأقوال المختلفة في حد العقل: والصحيح أنه جوهر يدرك به الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة.

(فوق العلل الشرعية)؛ لأن العلل الشرعية أمارات في الحقيقة لا موجبات بذواتها، فيصح تخلف أحكامها لمعنى بعد وجود العلة بتمامها كبقاء صوم الناسي لأكله، وعدم ثبوت حكم البيع في البيع بشرط الخيار بخلاف العلة العقلية، فإن وجود الكسر ولا تخلف الانقطاع بعد وجود القطع.

(ولا عذر في الوقف عن الطلب) أي طلب الحق.

ص: 2124

(أنه من أهل النار) لوجود ما هو الموجب للإيمان وهو العقل.

(حتى أبطلوا إيمان الصبي) لعدم ورود الشرع، ولا عبرة لعقله لعدم تكليف الشرع عليه، فصار إيمانه كإيمان صبي غير عاقل، (وهذا الفصل أعني أن يجعل شركه معذورًا) بسبب أن عقل الصبي العاقل غير معتبر، فكان شركه كلا شرك.

(تجاوز عن الحد) أي عن حد طرف عدم اعتبار العقل، (كما تجاوزت المعتزلة عن الحد في الطرف الآخر) وهو طرف اعتبار العقل على وجه كان

ص: 2125

الصبي مكلفًا بالإيمان قبل البلوغ، وكلا طرفي المر ذميم، وخير الأمور أوساطها، ودين الله تعالى بين الغلو والتقصير.

(وهو من أعز النعم)؛ لأن الإنسان به يمتاز من سائر الحيوان وبه يتمكن من معرفة الصانع ومن الوقوف على الأحكام التي لم يرد الشرع بها بالتنصيص، وبه يتوصل إلى السعادة الأبدية والنعم السرمدية.

(يضيء به الطريق) الباء في به للسببية لا للتعددية- (الذي مبدؤه من حيث ينقطع إليه اثر الحواس)، يعني أن العاقل إذا نظر إلى محسوس أدرك بحسه ما هو محسوس، فإذا انقطع أثر حسه عن درك ما غاب عن الحس يبتدئ طريق درك الغائب الذي هو محسوس، وهذا إنما يتأتى فيما له صورة محسوسة.

وأما في موجود لا يحس أصلًا إنما يبتدئ طريق العلم من حيث يوجد كالعلم مثلًا أنه لا يحس ويحتاج فيه إلى أن العلم معنى راجع إلى ذات العالم أو راجع إلى غير ذاته؟ وكذلك في غيره.

ص: 2126

(ثم هو عاجز بنفسه)؛ لأنه آلة العمل وآلة العمل بدون العالم غير مفيدة.

(وما بالعقل كفاية بحال) أي بدون إعانة الله تعالى والتأمل والتجنب عن الهوى والبدع، فكان العقل معتبرًا؛ لأنه لا يتمكن الإنسان من الوصول إلى معرفة الصانع إلا به، وهو سبب الأهلية، ولم يكن موجبًا للأحكام بذاته.

(ولذلك قلنا) أي ولأجل أن العقل غير موجب بذاته، بل بإيجاب الله تعالى وما به كفاية بحال، قلنا:(إن الصبي لا يكلف بالإيمان)؛ لأن الله تعالى لم يكلف الصبي شيئًا من العبادة.

قال النبي عليه السلام: "رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم"، والإيمان رأس العبادات فلم يكن مكلفًا به إلا أنه إذا آمن بالله تعالى وهو عاقل يقع عن الفرض مع أنه غير مخاطب به كصوم المسافر وجمعته، لما أن الإيمان بعد

ص: 2127

الوجود بحقيقته لم يقع نفلًا في حق شخص ما البتة، بل يقع فرضًا يقال: صبي مراهق أي مدان للحلم، من رهقه: دنا منه، ومنه:"إذا صلى أحدكم إلى سترة فليرهقها"(حتى إذا عقلت المراهقة ولم تصف) أي دينًا من الأديان لا الإسلام، ولا الكفر أي ولم تقر به، (لم تجعل مرتدة ولم تبن من زوجها).

فإن قلت: التوقف فيما يجب الإيمان به كفر، وترك وصف الإسلام أي وترك الإقرار به وإباء الإسلام عند العرض عليه كفر وارتداد من المبالغة، فلم لم يجعل من العاقلة ارتدادًا مع أن ارتداد العاقلة صحيح لما ذكر بعد هذا بقوله:"ولو عقلت وهي مراهقة فوصفت الكفر كانت مرتدة وبانت من زوجها".

قلت: إنما لم يجعل الإقرار بالإسلام من المراهقة العاقلة ارتدادًا لبقاء تبعية

ص: 2128

أبويها المسلمين بسبب بقاء وصف الصبي، ثم لما بلغت خرجت لاستبدادها بنفس البلوغ، فحينئذ كان ترك الإقرار بالإسلام، ارتدادًا مها، لكونها مخاطبة بالإيمان وعدم بقاء التبعية.

بخلاف ما قبل البلوغ فإنها لما لم تكن مخاطبة بنفسها بطريق الاستبداد بقيت تبعية أبويها، فجعلت مسلمة بإسلام أبويها بخلاف ما إذا صرحت بالإقرار بالإسلام أو بالكفر وهي مراهقة عاقلة حيث تخرج عن تبعية أبويها بالتصريح بالإقرار بالإسلام عن عقل، أو بالتصريح بالردة عن عقل لضرورة الحكم بصحة إيمان الصبي العاقل وصحة ارتداده، وحصل من هذا أنه وقع الفرق بين التصريح بالردة وبين ترك الإقرار بالإسلام في حق المراهقة العاقلة حيث جعل الأول كفرًا ولم يجعل الثاني كفرًا، لإمكان بقاء تبعية أبويها المسلمين لبقاء معنى الصبي فيما لم تصرح بالإفراد بالكفر لعدم الخطاب. بخلاف البالغة حيث يجعل كلاهما كفرًا لوجود الخطاب في حقها.

وقال الإمام شمس الأئمة رحمه الله في "الجامع الكبير": إذا أراد الزوج أن يستوصفها لا ينبغي له أن يقول لها: صفي الإسلام، فإنها تعجز عن ذلك وإن كانت تحسنه حياء من زوجها، ولكن يصف بين يديها ويقول: هذا اعتقادي وظني بك أن تعتقدي هذا، فإن قالت: نعم، كفى ذلك، فكانت مسلمة حلالًا له، وإن قالت: لا أعرف شيئًا مما تقول، فلا نكاح بينهما جينئذ، ولم يبين في الكتاب قدر ما يحتاج أن يصف بين يديها أو يستوصفها.

ص: 2129

قالوا: والأصل فيه حديث سؤال جبريل عليه السلام، وجواب رسول الله عليه السلام، وذلك حديث معروف.

وقوله: (ولو عقلت وهي مراهقة فوصفت الكفر كانت مرتدة وبانت من زوجها) أي على قول أبي حنيفة ومحمد رحمه الله.

وأما على قول أبي يوسف رحمه الله لا تكون مرتدة ولا تبين من زوجها؛ لأن ارتداد الصبي لا يصح عنده، وذكر ذلك في "الجامع الكبير" أي في الباب السادس من نكاح "جامع الكبير".

(وكذلك يقول في الذي لم تبلغه الدعوة أنه غير مكلف بمجرد العقل) أي البالغ الذي لم تبلغه الدعوة إنما لم يكلف بمجرد العقل إذا لم يصادف مدة يتمكن فيها من التأمل والاستدلال ومعرفة الخالق، بأن بلغ على شاهق الجبل أو في دار الحرب فمات من ساعته من غير أن يصف إيمانًا ولا كفرًا كان

ص: 2130

معذورًا، وهو كالصبي العاقل إذا لم يقر بالإسلام ولا بالكفر.

(وأما إذا أعين بالتجربة وأمهل لدرك العواقب) يعني بعد البلوغ فهو مكلف بالإيمان لم يعذر في الجهل بالصانع لما أنه رأى أبنية كثيرة من السماء والأرض والجبال والأشجار والنبات. وألهم أن البناء لا يوجد بدون الباتي، فوجب عليه الاستدلال بها، إذ البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير، فهذا الهيكل العلوي والمركز السفلي أما يدلان على صانع خبير!!!

لأنه (قد استوفى مدة التجربة والامتحان)؛ لأنه صار بحال يصلح جدًا على ما ذكرناه في "الوافي" فلم يبق من أثر صباه شيء، فلابد أن يزداد فيه

ص: 2131

نوع رشد وهو الشرط لدفع المال إليه، قال الله تعالى:(فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ). ذكره منكرًا.

(وليس على الحد في هذا الباب دليل قاطع) أي في حد مدة التجربة دليل قاطع حتى يخرج المكلف بها من أن يكون معذورًا؛ إذ ذلك يختلف باختلاف العاقل، فرب عاقل يهتدي إلى التجربة في زمان قليل، ورب عاقل لا يهتدي بل يحتاج إلى زمان كثير، فلذلك لم يكن في تقدير المدة فائدة.

(سوى أمور ظاهرة نسلمها له) أي سوى الأمور الظاهرة التي يحكم العقل بثبوتها كحسن شكر المنعم وحسن العدل والصدق والإحسان وقبح كفران المنعم والظلم والكذب أي في هذه الأشياء نسلم لمن جعل العقل حجة موجبة على وجه يمتنع ورود الشرع بخلافه بأن العقل يوجب أن يكون هذه الأشياء على هذه الصفات، لكن لا يكون إيجاب العقل بحكمه في هذه

ص: 2132

الأشياء بهذه الصفات حجة لمن جعل العقل حجة موجبة فيما ادعاه من الحكم، بأن العقل حجة موجبة في جميع الأشياء؛ لأن العقل كما يوجب أن يكون هذه الأشياء على هذه الصفات، كذلك الشرع يوجب ذلك أيضًا، قال تعالى:(وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ).

وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، ويدخل تحت ذكر الفحشاء والمنكر كل ما يستقبحه العقل والشرع.

وكذلك من كان في مغارة فتصدى له طريقان للوصول إلى المقصد، أحدهما يخاف فيه المهالك والآخر لا يخاف فيه المهالك، فالعقل يحكم بالسلوك في هذا الطريق الذي لا يخاف فيه المهالك وكذلك الشرع. قال الله تعالى:(وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

فعلم بهذا أنه لا دليل له على أن العقل موجب بذاته حسن ما هو حسن وقبح ما قبيح، بل الموجب هو الله تعالى في الحقيقة.

ألا ترى أن الله تعالى لم يخل زمانًا من الشرع، قال الله تعالى:(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)؛ وهذا لأن من المشروعات ما لا يدركه العقل أصلًا

ص: 2133

مثل المقدرات من أعداد الركعات ومقادير الزكوات والحدود وغير ذلك.

علم بهذا كله لا العقل لا يصلح أن يكون موجبًا بنفسه، لا لأصل شيء ولا لصفته.

(إذا قتلوا ضمنوا) أي يصيرون مضمونين، (فجعل كفرهم عفوًا)، حيث جعلهم كالمسلمين في الضمان. (ومن كان فيهم من جملة من يعذر) أي في الكفار الذين لم تبلغهم دعوة الإسلام من كان معذورًا في ترك الإيمان بأن بلغ في الحال ولم يجد مدة الإمهال والتجربة أو كان صبيًا، فإن كلا منهم لم يستوجب عصمة النفس والمال عندنا ما لم يحرز نفسه وماله بدار الإسلام وعنده استوجب ذلك بدون الإحراز بدار الإسلام.

وقوله: (وذلك) إشارة إلى قوله: فلا دليل له أيضًا، (فإنما يلغيه بطريق دلالة الاجتهاد) لأنه إذا لم يجد في الشرع دليلا على مذهبه فلا بد له من أن

ص: 2134

يستدل عليه من دليل العقل، نحو أن يقول مثلًا: نفس العقل غير معتبرة في أن يكون العبد مكلفًا بالإيمان والشرائع كالصبي العاقل، فإن له أصل العقد ومع ذلك لم يخاطب بشيء، لأن الشرع لم يرد به.

(فيتناقض مذهبه)؛ لأنه نفى اعتبار العقل بالعقل فكان نافيًا ما أثبته مثبتًا ما نفاه، (وأن العقل لا ينفك عن الهوى) يعني أن العقل معتبر، لأن من ألغاه متناقض ولكن مع كونه معتبرًا ليس هو بحجة بذاته وليس بمستغن بنفسه.

(وإنما يستوجب نسبة الأحكام إلى العلل) إلى آخره، جواب سؤال مقدر وهو أن يقال: لو لم يكن العقل حجة موجبة بنفسه للأحكام لما أضيفت الأحكام الشرعية الثابتة بالاجتهاد والقياس إلى العقل حيث يقال: هذا الحكم ثابت بالقياس والقياس إنما يكون بالعقل، وكذلك في العلل العقلية كثبوت الانكسار بالكسر والانقطاع بالقطع، كما تضاف الأحكام الثابتة بالعلل الثابتة بالنصوص إلى عللها.

قلنا: إن إيجاب الله تعالى غيب عنا، فأقام الأسباب الظاهرة مقام إيجابه الغيبي تيسيرًا على العباد لا أن تكون الأسباب والعلل موجبة بنفسها، فكانت إضافة إلى الأسباب والعلل الظاهرة باعتبار جعل الله تعالى إياها عللًا لا أن تكون هي نفسها عللًا والعقل آله لمعرفة تلك العلل لا موجب للأحكام.

(وأن يجعل العقل علة بنفسه) هذا كلام ابتدائي خرج جوابًا لقول المعتزلة بأن العقل علة بنفسه موجبة لما استحسنه .... إلى آخره.

ص: 2135

(وهو باطن) أي والحال أنه شيء، وإنما قلنا أنه شيء باطن لأنه لا بد أنتجعل قضايا العقل متحدة حتى يرتب عليها حكم واحد كما في سائر الأسباب الظاهرة في حق العباد من دلوك الشمس وملك النصاب وشهود الشهر في وجوب الصلاة والزكاة والصوم.

فحينئذ يجب أن تجعل عقول العقلاء علة موجبة في حق كل مكلف من المكلفين وفي حقه عقل غيره أمر باطن فلا يصح إثبات حكم يجب عليه بسبب عقل غيره الذي هو باطن في حقه؛ لأن سنة الله تعالى أنه أينما أوجب الأحكام إنما أوجب بعلة ظاهرة في حق المكلفين كالآيات الدالة على حدوث العالم في وجوب الإيمان، ودلوك الشمس وملك النصاب في حق وجوب الصلاة والزكاة مع أن العقول متفاوتة في نفسها فكيف تثبت حكما واحدا.

وقوله: (إذا ثبت أن العقل من صفات الأهلية) إشارة إلى قوله: "والقول الصحيح في الباب هو قولنا إن العقل معتبر لإثبات الأهلية". والله أعلم.

ص: 2136

باب الأهلية وما يتصل بها

فالأهلية عبارة عن الصلاحية لوجوب الحكم له وعليه بخلاف البهائم وسائر الحيوانات، فتنقسم فروعها وهي: الأهلية لوجوب الإيمان والشرائع من الصلاة والزكاة وغيرهما من حقوق الله تعالى وكذلك من حقوق العباد، فمنها ماهو غرم وعوض، ومنها ماهو مؤونة، ومنها ماهو صلة لها شبه بالأجزية إلى آخر ماذكر.

والصبي أهل لبعضها وليس بأهل لبعضها وأهل لبعضها بواطة الولي.

(وهو الصلاح للحكم) أي وهو كون الذات صالحا لإيجاب الحكم له

ص: 2137

وعليه.

وقوله: (لحكم الوجوب) من قبيل إضافة العام إلى الخاص، فإن الحكم قد يكون حكم الوقوع كما في وقوع الطلاق وقد يكون حكم السقوط كما في سقوط القصاص عند العفو عنه، وكذلك حكم الندب والإباحة والكراهة عند وجود دليلها فكان الوجوب بعضا منها.

والمراد من حكم الوجوب صحة توجه المطالبة به.

فإن قلت: قوله "فمن كان أهلا لحكم الوجوب بوجه كان هو أهلا للوجوب "مما لا يكاد يصح إذ المراد من قوله: " للوجوب" حكم الوجوب فحينئذ كان هذا بمنزلة قول من يقول: من كان أهلا لحكم البيع بوجه كان أهلا لحكم البيع.

وقول من يقول: من كان أهلا لحكم الطلاق بوجه كان أهلا لحكم الطلاق ونحوهما، وهذا مما يأباه استقامة الكلام؛ لأن الوجوب الثاني لا يفيد غير الوجوب الأول، فكان الشرط والجزاء شيئا واحدا وهذا لا يصح.

قلت: لا بل هو مستقيم عاية الإستقامة؛ لأن الوجوب الأول مقيد بوجه من الوجوه.

والثاني: مطل فكان تقديره من كان أهلا لحكم الوجوب بوجه من

ص: 2138

الوجوه أي على صلاحية احتمال الوجوب بوجه نادر.

(كان هو أهلا) لحكم (الوجوب) مطلقا أي في الوجوه كلها أي في حق الأداء والقضاء. كما إذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي في آخر وقت الصلاة على وجه يتمكن فيه من الشروع في الصلاة لا غير تجب عليه تلك الصلاة لاحتمال امتداد ذلك الوقت على وجه يسع فيه تلك الصلاة أداء، فيجب عليه قضاء تلك الصلاة، وإن لم يمتد ذلك الوقت؛ لأنه لما كان أهلا لحكم وجوب الصلاة بوجه من الوجوه قلنا بأهليته له مطلقا، يعني في حق الأداء والقضاء، حتى أنه إذا لم يدرك ذلك المقدار من الوقت لا تجب عليه تلك الصلاة التي لم يدرك وقتها أصلا؛ لأنه لم يكن أهلا لحكم وجوب تلك الصلاة بوجه من الوجوه، فلا تجب عليه تلك الصلاة وهو معنى قوله:(من لا فلا).

فإن قلت: يلزم على ذلك الكلي وهو قوله: " فمن كان أهلا لحكم الوجوب بوجه كان أهلا للوجوب مطلقا" الجنين فإنه أهل للوجوب له حتى صار أهلا للإرث والوصية وليس بأهل للوجوب عليه حتى لم يصر أهلا للضمان.

وكذلك الصبي في حقول الله تعالى الخالصة حيث لم يصر هو أهلا لوجوب الصلاة والزكاة وغيرهما على ماهو اختيار المصنف رحمه الله مع كونه أهلا للوجوب له، وعليه في حقوق العباد.

قلت: المراد من ذلك الكلي هو أن يكون أهلا لحكم الوجوب بوجه كان أهلا للوجوب مطلقا أي في حق ذلك الحكم الذي كان أهلا لحكم الوجوب

ص: 2139

بوجه كان أهلاً لحكم الوجوب مطلقا لا في حق حكم أخر، ولأن الجنين لا يرد على ذلك الكلي نقضا؛ لأنه قال:"فمن كان أهلا" وهو لا يتناول الجنين؛ لأن الجنين بمنزلة جزء الأم كيدها ورجلها، وكلمة من للعقلاء.

وأما الإرث والوصية فليسا بثابتين له في الحال بل على تقدير أن يولد حيا فكان ذلك عملا بالتوقف للاحتياط لا لكونه أهلا لهما في الحال.

وأما الصبي فجوابه مذكور في الكتاب وهو قوله: وكذلك القول في حقوق الله تعالى على الإجمال، فإنه متى بطل القول بحكمه بطل القول بوجوبه وإن صح سببه ومحله إلى آخره.

(يصلح للزوم العهدة) أي للزوم الضمان.

(فبناء على قيام الذمة)، والذمة: عبارة عن الصلاحية للإيجاب والإستيجاب، أي يجب عليه الواجب ويجب له على غيره.

ص: 2140

(وله ذمة صالحة للوجوب) أي للوجوب له وعليه.

أما له فإن نفقته وأجره رضاعة على أبيه، ومن اشترى ماله من وليه يجب ثمنه له على المشتري.

وأما عليه: فإن ولي الصبي إذا اشترى للصبي شيئا كما ولد لزمه الثمن، وكذلك إذا انقلب على مال إنسان كالقارورة مثلا فأتلفها يضمن.

قال الله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم) وعامة المفسرين على إخراج ذرية آدم من ظهره، وأخذ الميثاق عليهم من عصره.

قال أبو العالية رحمه الله جميعهم جميعا يومئذ فجعلهم أرواحا ثم صورهم ثم استنطقهم وأخذ عليهم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم (أَلَسْتُ

ص: 2141

برَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) قال فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم آباكم آدم أن تقولو يوم القيامة مالم تعلموا. اعلمو أنه لا إله غيري فلا تشركو بي شيئا: قالوا: نشهد أنك إلهنا لا إله غيرك فأقروا يومئذ بالطاعة.

قال ابن عباس وأبي بن كعب رضي الله عنهم: فجعلهم سامعين ناطقين عقلاء مختارين، فإنه أشهدهم، ولا يصح الإشهاد إلا على الموصوفين بهذه الصفات، ولأنه خاطبهم فدل على سماعهم، وأجابوا فدل على كلامهم، وقالوا شهدنا، فدل على علمهم وعقلهم، وقال:(أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) اي كراهة أن تقولوا يوم القيامة: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) فدل على اختيارهم، وليس بمستعبد وضع هذه الأشياء في الذر الصغار من قدرة الله

ص: 2142

تعالى اعتبارًا بنمل سليمان وهدهده وكلام عيسى عليه السلام في المهد وشهادة الرضيع ليوسف عليه السلام.

فإن قالوا: ما وجه إلزام الحجة بقوله (أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) ونحن لانذكر هذا الميثاق وإن تفكرنا.

قلنا الله تعالى أنسانا ذلك ابتلاء؛ لأن الدنيا دار غيب، وعلينا الإيمان بالغيب، ولو تذكرنا ذلك زال الإبتلاء، وليس ما ينسى تزول به الحجة ويثبت به العذر. قال الله تعالى في أعمالنا:(أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ)

وأخبر أنه سينبؤنا وقال: (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ).

ص: 2143

ولأن الله تعالى جدد هذا العهد وذكرنا هذا المنسي بإرسال الرسل وإنزال الكتب بعده فلم يثبت العذر، إلى هذا أشار في "التيسير".

وذكر في "الكشاف" ومعنى آخذ ذرياتهم من ظهورهم: إخراجهم من أصلابهم نسلا وإشهادهم على أنفسهم، وقوله:(أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) من باب التمثيل والتخييل، ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى أنت ربنا.

(وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) أي عمله من الخير والشر هو من قولك: طار له سهم إذا خرج؛ يعني ألزمناه ما طار له من عمله في

ص: 2144

ذمته والمراد من العنق الذمة، والمعنى أن عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل لايفك عنه، وهذا وصف ثابت لكل إنسان، وابن اليوم إنسان فيدخل تحت حكم النص.

وقوله: (لها ذمة وعهد) كلاهما واحد، لأن الذمة في اللغة: العهد، قال الله تعالى:(لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًا وَلَا ذِمَّةً) أي لا يحفظون قرابة ولا عهدا، ومنه يقال لأهل الذمة: العاهدون.

(وقبل الإنفصال هو جزء من وجه) حتى إنه ينتقل بانتقال الأم ويقر بقرارها، وكذلك يعتق بعتقها ويدخل في بيعها كسائر أجزائها؛ ولكن لما كانت نفسا ذات حياة على عرضية الإنفصال اعتبر منفصلا في بعض الأحكام.

(حتى صلح ليجب له الحق) حيث يصح اعتاقه مقصودا، والوصية له جائزة، ويرث هو من أقاربه، وتجب الغرة في حقه، (ولم يجب عليه) حتى إن مال الغير لو تلف بثقل أمه لا يجب عليه شيء من ضمانه، ويصان هو عند

ص: 2145

جناية أمه عن أن يقع الضرر عليه فكان هذا أثر أن لا تكون ذمته مطلقة.

(كان أهلًا بذمته للوجوب) أي للوجوب له وعليه (غير أن الوجوب) جواب سؤال مقدر بأن يقال: لما كان أهلًا للوجوب مطلقًا كان ينبغي أن يجب عليه الإيمان والصلاة والزكاة وغيرها.

فأجاب عنه بهذا وقال: وهو وإن كان أهلًا للوجوب في حقوق الله تعالى إلا أن حقوق الله تعالى لا تجب عليه لعدم حكم الوجوب لأن حكم الوجوب في الدنيا تحقيق معنى الابتلاء وذلك إنما يظهر بالأداء وبتركه إذ بهما يظهر المطيع والعاصي فيتحقق الابتلاء المذكور في قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) وذلك إنما يكون عند تمام العقل الكامل وهو عند البلوغ فلا يكون الصبي أهلًا لحكم وجوب حقوق الله تعالى لذلك.

(فيجوز أن تبطل لعدم حكمه) وهو الأداء (وغرضه) وهو الابتلاء (كما ينعدم الوجوب لعدم محله) كبيع الحر وإنما قلنا: إن الوجوب يبطل لعدم حكم الوجوب لأن الوجوب بدون حكمه غير مفيد كما إذا إشترى مال نفسه من غيره أو من نفسه لا يصح لعدم إفادته الحكم.

ص: 2146

(فيصير هذا القسم) وهو الصلاح للحكم (منقسمًا بانقسام الأحكام) فإن الأحكام في أصل القسمة نوعان: حق الله تعالى وحق العباد وكل واحد منهما على أنواع.

(وقد مر التقسيم قبل هذا في أول) أي في أول الفصل الذي قال: ثم جملة ما يثبت بالحجج التي سبق ذكرها سابقًا على باب القياس شيئان وهو باب معرفة أقسام الأسباب والعلل والشروط فإنه ذكر فيه جميع تقسيم الأحكام من حقوق الله تعالى وحقوق العباد فلما سد باب وجوب جميع حقوق الله تعالى على الصبي بطريق الإشارة بقوله: "غير أن الوجوب غير مقصود بنفسه فيجوز أن يبطل لعدم حكمه" شرع في بيان ترتيب حقوق العباد فقال:

(فأما في حقوق العباد) إلى آخره. (فما كان منها غرمًا) كوجوب ضمان المتلف (وعوضًا) كوجوب ثمن المشتري لأن المال مقصود لا الأداء

ص: 2147

الذي هو الفعل فإن المراد به رفع الخسران وما يكون خيرًا له أو حصول الربح وذلك بالمال يكون وأداء وليه كأدائه في حصول هذا المقصود.

(فلما شبه بالأعواض) لأن وجوب نفقة الزوجات باعتبار إحتسابها للزوج وقد حصل الحبس له فيجب عليه ما يقابله كثمن المشتري لكنها ليست بعوض حقيقي لأن العوض الحقيقي إنما يكون في الأموال.

(وأما الأخرى) أي نفقة القرابات (فمؤونة اليسار) لأن نفقة القريب إنما تجب إذا كان من عليه النفقة غنيًا والمقصود إزالة حاجة المنفق عليه لوصول كفايته إليه وذلك بالمال يكون لكن النصاب الذي يجب بسببه نفقة القرابات لا يشترط فيه النمو بخلاف نصاب الزكاة ثم أداء الولي فيه كأدائه فعرفنا أن الوجوب فيه غير خال عن حكمه فيثبت الوجوب في حق الصبي لذلك.

(مقابلًا بالكف عن الأخذ على يد الظالم) والصبي لا يتمكن من أخذ يد الظالم بالكف عن التعدي فلذلك لا يتحمل الصبي الدية.

ص: 2148

(لم يجب عليه على ما مر) وهو قوله: وكل صلة لها شبة بالأخروية لم يكن الصبي من أهله لأنه (لايصلح لحكمه) وهو الجزاء لأن الجزاء مرتب على كامل العقل لتحقيق الابتلاء في حقه وذلك إنما يكون بالبلوغ.

(وكذلك القول في حقوق الله تعالى على الإجمال) أي على الجملة.

يعني: سر جمله سخن در حقوق خداي تعالى بر صبي انست كه اعتبار حكم راست در هر كدام صورتيكه صحت حكم است در حق صبي سبب وجوب وي نيز ثابت است ودر هر كدام صورت كه صحت حكم در حق وي نيست سبب وجوب وي نيز در حق وي ثابت ني.

ثم الذي يصح القول بحكمه في حق الصبي صدقة الفطر أي على قول أبي حنيفة وأبي يوسف خلافًا لمحمد رحمهم الله لأن فيها معنى المؤونة فيثبت الوجوب في حقه بحكمه وهو الأداء من ماله بواسطة الولي كذلك

ص: 2149

العشر والخراج فإن وجوبهما عليه لصحة حكم الوجوب عليه وهو الأداء بالولي الذي قام مقامه في أداء المؤونات فإن معنى القربة في ذلك غير مقصود بل المال هو المقصود فيه وأداء الولي في ذلك كأدائه والذي بطل القول بحكمه وجوب الإيمان بالله تعالى في حق الصبي الذي لا يعقل لانعدام الأهلية لحكم الوجوب وهو الأداء وجوبًا عن عقل وإختيار فلا يكون القول بالوجوب هاهنا إلا نظير القول بالوجوب باعتبار السبب بدون المحل كمان في حق البهائم وذلك لا يجوز القول به.

وكذلك العبادات المحضة كلها البدني والمالي في ذلك سواء لأن حكم الوجوب وهو معنى الابتلاء لا يثبت في حقه بحال فلا يثبت الوجوب.

وقوله: (إن صح سببه) كما في ملك النصاب (ومحله) وهو ذات الصبي (لأن الوجوب كما ينعدم مرة لعدم سببه) كما إذا لم يملك النصاب ومرة (لعدم محله) كعدم وجوب الإيمان والصلاة والصوم على البهائم وإن وجدت أسبابها من حدوث العالم ودلوك الشمس وشهود الشهر (فينعدم أيضًا لعدم حكمه) أي فينعدم الوجوب أيضًا لعدم حكم ذلك الوجوب في حق الصبي وهو معنى الابتلاء (وقد مر تقسيم هذه الجملة)

ص: 2150

أي في باب معرفة أقسام الأسباب.

(لأنها نيابة جبر لا اختيار) أي لأن النيابة الثابتة في حق الصبي نيابة جبر وهي نيابة وليه عنه لأن الصبي لم يجعله وليًا بإختياره بلا جعله الله تعالى وليًا عنه بدون إختيار الصبي فيما صح حكمه إذا عجز الصبي عن الإتيان به كما في العشر والخراج على ما ذكرنا.

ولو جعلنا كذلك في حق الزكاة لصار المال هو المقصود والمال ليس بمقصود في العبادات المحضة بل أداء من وجب عليه الزكاة هو المقصود إما بنفسه أو بنائبه بإختياره وفي قوله "لأنها نيابة جبر لا اختيار"إشارة إلى أن العبادات الخالصة المتعلقة بالمال تتأدى بالنائب إذا كانت النيابة عن اختيار وذلك إنما يكون في حق البالغ لا في حق الصبي لوجود الفعل عن اختيار منه معنى.

ص: 2151

(وما يشوبه معنى المؤونة مثل صدقة الفطر) لأن صدقة الفطر عبادة فيها معنى المؤونة.

وقوله: (لم يلزمه عند محمد لما قلنا) إشارة إلى قوله: "لأن الأداء هو المقصود في حقوق الله تعالى"، (ولزمه ما كان مؤونة في الأصل وهو العشر والخراج) لأن العشر مؤونة فيهما معنى العبادة والخراج مؤونة فيهما أصلًا لأن سببهما الأرض النامية وهي تبقى بحماية الإمام والعشر والخراج يأخذهما الإمام ويصرفهما والمؤونة ما كان سببًا لبقاء الشيء فكان دفع العشر والخراج نصرة للإمام معنى فلذلك كان فيهما معنى المؤونة.

ص: 2152

وقوله: (لما ذكرنا) إشارة إلى ما ذكر في باب معرفة أقسام الأسباب والعلل بقوله: والمؤونة التي فيها معنى القربة هي العشر إلى آخره.

(وما كان عقوبة لم يجب أصلًا) سواء كان وجوب العقوبة خالصًا لله تعالى أو مختلطا بحقوق العباد لأن الصبي ليس بأهل للجزاء بالعقاب لأن ذلك يبتنى على الابتلاء، والابتلاء بالبلوغ.

وقوله: (ولهذا كان الكافر أهلًا لأحكام لا يراد بها وجه الله تعالى) وهذا إيضاح بقوله: "وما كان عقوبة لم يجب أصلًا لعدم حكمه"يعني أن وجوب الشيء على الإنسان دائر مع صحة حكمه فأينما صح حكم وجوب شيء ما صح القول بوجوب ذلك الشيء عليه وما لا فلا وعلى ما ذكر قبل هذا أيضا بقوله: إن الوجوب لازم متى صح القول بحكمه ومتى بطل القول بحكمه بطل القول بوجوبه ثم الأحكام التي لا يراد بها وجه الله تعالى أحكام المعاملات مثل: البياعات والأشربة والأنكحة والإجارات وغيرها فكان أهلًا للوجوب له وعليه فإنه يطلب مديونه بدين له عليه ويطالب هو أيضًا بدين عليه للغير وكذلك في عكسه.

ص: 2153

(ولما لم يكن أهلًا لثواب اآخرة لم يكن أهلًا لوجوب شيء من الشرائع) فكان هذا تقريرًا لما ذكر قبل هذا أن الوجوب لازم متى صح القول بحكمه ومتى بطل القول بحكمه بطل القول بوجوبه وإن صح سببه.

لما أن الأسباب إنما تقع معتبرة إذا أوجبت أحكامها فلما لم يكن الكافر أهلًا لحكم أداء العبادات لم يصح القول بوجوب أداء العبادات عليه.

ص: 2154

فإن قيل: أليس أن العبد من أهل مباشرة التصرف الموجب لملك المال وإن لم يكن أهلًا لملك المال فكذلك يجوز أن يكون الكافر مخاطبًا بأداء العبادات وإن لم يكن أهلًا لما هو المقصود بالأداء.

قلنا: صحة ذلك التصرف من المملوك على أن يخلفه المولى في حكمه أو على أن يتقرر الحكم له إذا أعتق كالمكاتب.

فأما هنا فلا يثبت الأداء في حقه على أن يخلفه غيره فيما هو المبتغى بالأداء أو على أن يتقرر له ذلك بعد إيمانه كذا ذكره الإمام شمس الأئمة رحمه الله في أصول "الفقه".

وقوله: ولما يكن أهلًا لثواب الآخرة -إلى أن قال-: (ولزمه الإيمان بالله تعالى لما كان أهلًا لأدائه ووجوب حكمه) افترق الحكم في حق الكافر بين وجوب الإيمان وبين وجوب الشرائع حيث لم تجب الشرائع وهي الصلاة والزكاة وغيرهما عليه ووجب الإيمان عليه لإختلاف حكميهما على ما ذكر في الكتاب وهذا لأنا لو قلنا بوجوب الإيمان على الكافر لا يلزم الفساد الذي لزم فيما قلنا بوجوب العبادات لأنه يكون مؤمنًا عند وجود الإيمان منه والمؤمن أهل لثواب الآخرة بخلاف أداء الشرائع فإنه لا يخاطب به لما ذكر في الكتاب من لزوم القول حينئذ بوجوب الإيمان بطريق الاقتضاء وهو رأس

ص: 2155

العبادات فلا يصح أن يثبت في ضمن الطاعات من العبادات ولأن فيه فسادًا آخر وهو أن حكم أداء العبادات ثواب الآخرة والكافر مع كفره ليس بأهل لثواب الآخرة فلا يصح القول بوجوب سبب هذا الحكم كما ذكر قبل هذا: أن ما لا يصح القول في حق إنسان بثبوت حكم ما لا يصح القول بوجوب سبب مثل هذا الحكم في حقه فكان وجوب الإيمان على الكافر وعدم وجوب شيء من الشرائع عليه نظير تعليق طلاق المرأة بنكاحها.

ونظير تعليق طلاق الأجنبية بدخول الدار مثلًا حيث يصح الأول لكون المرأة محلًا للطلاق عند النكاح لا محالة كما أن الكافر كان أهلًا لحكم الإيمان وهو دخول الجنة عند الإيمان ولا يصح الثاني لعدم محلية المرأة للطلاق عند دخول الدار ظاهرًا لأن الظاهر من المعدوم استمراره على العدم والمرأة لا تصلح محلًا للطلاق قبل النكاح.

(ولم يجعل مخاطبًا بالشرائع بشرط تقديم الإيمان) هذا جواب إشكال وهو أن يقال: لما لم تكن العبادات معتبرة بدون الإيمان لم لم يجعل أداء الإيمان ثابتًا تقديرًا في حق الكافر ليصح التكليف بالشرائع والعبادات بناء على ثبوت الإيمان اقتضاء كما في سائر الأحكام الثابتة بالاقتضاء (لأنه) أي لأن الإيمان (رأس أسباب أهلية أحكام نعيم الآخرة) فلا يكن الأصل تبعًا لفرعه الذي هو تبعه ولذلك لم يكن الأصل لشيء أن يثبت بطريق الاقتضاء لذلك الشيء؛ لأن في ثبوت الشيء بطريق الاقتضاء معنى التبعية؛ لأن المقتضى

ص: 2156

الذي هو غير مذكور شرط صحة المقتضى المذكور والشرط تبع للمشروط.

فلذلك لا يصح ثبوت الإيمان بطريق الاقتضاء للعبادات فكان هذا نظير ما إذا قال المولى لعبده: تزوج أربعًا أو قال لعبده الذي حنث في يمينه: كفر يمينك بإعتاق هذا العبد لا يعتق العبد مع أن تزوج الأربع من النساء وإعتاق العبد من نفسه لا يصح بدون الحرية لما أن الحرية أصل للتزويج بالأربع من النساء والتزويج بها تبع لها فلا يصلح أن تكون هي تبعًا للتزويج وكذلك في إعتاق العبد من نفسه.

فإن قلت: لا نسلم أنا لو قلنا بوجوب العبادات على الكافر أن يلزم من ضرورته وجوب تقديم ثابتًا في حقه بطريق الاقتضاء لأن الإيمان قد وجب على الكافر قبل توجه الخطاب عليه بالعبادات بسببه وهو الآيات الدالة على حدوث العالم.

والدليل على أن الكفار مخاطبون بالإيمان قبل الخطاب بالشرائع قوله تعالى: (وكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا) على ما ذكرنا في شرح الخطبة ولما كان كذلك وجب أن يخاطب الكفار بالشرائع لثبوت وجوب الإيمان قبله بسببه وعدم ثبوته بطريق الاقتضاء.

قلت: سلمنا أن الكفار مخاطبون قبل ورود الشرائع بالإيمان أي بالإيمان

ص: 2157

الذي دل عليه حدوث العالم وهو وجود الله تعالى وتوحده لا الإيمان بأن الله تعالى فرض الصلاة والزكاة والصوم وغيرها وإنما الإيمان بهذه الأشياء بعد ورود الشرائع.

فصح قولنا: إنهم لو كانوا مخاطبين بالشرائع يلزم أن يكون الإيمان بالله تعالى فرض الصلاة والزكاة والصوم وغيرها وأنا قبلتها كلها ولا يصح ذلك لأن الإيمان بقبول هذه الأشياء أصل فلا يصلح أن يكون ثابتًا قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ)

وقال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) ووجوب الشرائع إنما يكون بإرسال الرسل وبالنظر إلى احتجاجهم هذا يلزم أن يكون الكفار كأنهم ليسوا بمخاطبين بالإيمان قبل إرسال الرسل.

(وقد قال بعض مشايخنا) ومنهم القاضي أبو زيد رحمه الله حيث قال في "التقويم": إن وجوب الحقوق الشرعية كلها بأسباب جعلها الشرع أسبابًا للوجوب دون الأمر والخطاب كالزكاة بملك النصاب والحج بالبيت والصلوات

ص: 2158

بأوقاتها والصوم بشهر رمضان والإيمان بالآيات الدالة على الله تعالى والنكاح بالمهر -إلى أن قال- وهذه الأسباب قائمة في حق الصبي والبالغ على السواء فلا ينبغي أن يقع الفرق بينهما في حصه الوجوب فعلمنا أن سقوط ما سقط عن الصبي كان بعذر يسقط بمثله بعد البلوغ تيسيرًا علينا لا لأنه ليس بأهل له.

وهذا كما قيل: إن النائم يلزمه حقوق الله تعالى ولا يلزمه أداؤها حتى يستيقظ لأنه لا يقدر ولا يعلم به فكم من بالغ يلزمه حقوق الله تعالى ثم لا يقدر على الأداء فيسقط عنه كابن السبيل تلزمه زكاة أمواله ثم لو مات قبل الوصول إلى ماله تسقط عنه وذكر أيضًا هذا السؤال والجواب بقوله: فإن قيل: قال النبي عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم".

قلنا: رفع القلم لا يدل على رفع الوجوب في الذمة إنما يدل على سقوط أداء الواجب لأن القلم للحساب والحساب على ترك ما عليه من الأداء لا على الوجوب فإن الواجب متى تأجل لا يؤاخذ العبه به والوجوب قائم ألا ترى قرنه بالنائم والنائم تلزمه الصلاه في ذمته ولا يلزمه الأداء حتى يستيقظ فكذلك الصبي لأنهم جميعًا دخلوا تحت رفع واحد.

وأما الإمام المحقق شمس الأئمة رحمه الله فقد وافق فخر الإسلام رحمه الله فيما اختاره من القول فجعل الأقول هنا على ثلاثة:

ص: 2159

قوم يثبتون وجوب حقوق الله تعالى من الصلاة والزكاة وغيرهما من حين يولد باعتبار مجرد الذمة إذا وجد الأسباب ثم يسقطون فكان فيه مجاوزة الحد بالغلو في الإيجاب.

وقوم لا يعتبرون الأسباب أصلًا فكان فيه مجاوزة الحد بالغلو في التقصير.

والقول الصحيح فيه أن نقول بعد وجود السبب والمحل لا يثبت الوجوب إلا بوجود الصلاحية لما هو حكم الوجوب وليس لابن اليوم صلاحية حكم الوجوب وهو الأداء عن اختيار فلا يثبت مثل هذا الوجوب في حقه وإن تحقق السبب وهو في العبادات المحضة والعقوبات.

وأما حقوق العباد فمنها ما تثبت كما في الأعواض والمؤن ومنها ما لا تثبت كالصلة التي لها شبهة الجزاء على ترك حفظ يد الظالم إلى آخره.

(وقد كنا عليه مدة) أي على ما قاله بعض مشايخنا بوجوب كل الأحكام والعبادات على الصبي (لكنا تركناه بهذا القول الذي اخترناه) وهو أن الوجوب لازم متى صح القول بحكمه ومتى بطل القول بحكمه بطل القول بوجوبه وإن صح سببه ومحله على ما ذكر قبل هذا ولا نقول بأن الوجوب في حق كل الأحكام ثابت على الصبي، ثم سقوط الحكم لدفع

ص: 2160

الحرج بعذر الصبا بل لا يثبت الوجوب أصلًا فيما لا يتصور منه حكم ذلك الوجوب حتى إن دلوك الشمس وشهود الشهر لا يثبت بهما وجوب الصلاة والصوم أصلًا من الإبتداء على الصبي لا أن يثبت الوجوب أو لا لوجود الذمة والسبب ثم السقوط بعد ذلك بعذر الصبا لأنه لو كان مؤديًا للواجب كصوم الشهر في حق المريض والمسافر والجمعة في حق المسافر فإنه إذا أدى كان مؤديًا للواجب وبالإتفاق لا يكون الصبي مؤديًا للواجب وإن تصور منه ما هو ركن هذه العبادات فعرفنا أن الوجوب غير ثابت أصلًا.

(وهذا أسلم الطريقتين) أي ما قلنا أسلم مما قاله بعض مشايخنا.

(صورة) لأن القول بالوجوب ثم السقوط من غير غرض يحصل به تصور بصورة العبث ولأن وجوب الأداء لم يكن بالإتفاق مع قيام الذمة فيجب أن لا يكون عليه صورة نفس الوجوب.

(ومعنى) لأن المعنى يقتضي أن يكون المقصود من الوجوب الأداء والأداء غير ممكن من ابن يوم فلا فائدة في إثبات الوجوب علية لما ذكرنا أن القول بنفس الوجوب مع عدم حكمه أصلًا لعدم صلاحية المحل لذلك الحكم غير مشروع إذ القول بذلك يؤدي إلى القول بصحة الوجوب على البهائم.

(وتقليدًا) لأنه لم يقل أحد من السلف بوجوب الأحكام وعدم وجوب

ص: 2161

الأداء أصلًا في حق أحد ولأن في السلف وهم الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- من قال: إنه لا يجب على الصبي شيء من الأحكام.

(وحجة) أي استدلالًا بالمتفق عليه وهو أنه لو كان الوجوب ثابتًا على الصبي ثم يسقط لدفع الحرج عنه كان ينبغي أن يقال: إذا إتفق الأداء منه كان مؤديًا للواجب كصوم رمضان في حق المسافر وبالإتفاق أنه لا يكون مؤديًا للواجب عرفنا أن الوجوب غير ثابت عليه أصلًا لما ذكرنا أو لأنه مرفوع القلم بالحديث قال النبي عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم" ففي حق مرفوع القلم كيف يصح القول بوجوب الحكم عليه ولا يلزم علينا ابن السبيل فإن له صلاحية نفس الوجوب لكونه عاقلًا بالغًا لكن لم يخاطب بالأداء تيسيرًا عليه وذلك لا يمنع ثبوت نفس الوجوب كالمريض والمسافر في حق صوم رمضان فإنهما لم يخاطبا به مع ثبوت نفس الوجوب كابن السبيل.

وأما ابن اليوم فليس له صلاحية أداء الصلاة أصلًا فلم يثبت نفس الوجوب في حقه أيضًا وعن هذا جاء الفرق الواضح بينهما وهو أنه لو استقرض ابن السبيل من غيره مقدار الواجب من الزكاة وأدى يقع عن الفرض كما لو صام المسافر.

وأما الصبي العاقل لو أدى فرض الظهر في وقته يقع نفلًا حتى إنه لو أداه في أول الوقت ثم بلغ في آخره تجب عليه إعادته.

ص: 2162

وقوله: "قلنا رفع القلم لا يدل على رفع الوجوب في الذمة".

قلنا: بل يدل على رفع الوجوب في الذمة في مثل هذه الصورة التي نحن بصددها وهو أن يثبت نفس وجوب الصلاة على ابن اليوم لأن نفس الوجوب إذا لم يوجب حكمها تبطل من حيث توجد لأن المراد من شرعية الوجوب شغل الذمة إلى أن يؤدي ذلك إلى وجوب الأداء إما في الحال أو في ثاني الحال وأحد منهما ليس بثابت في حق الصبي بالإجماع فلا تكون فائدة حينئذ في ثبوت نفس الوجوب بخلاف النائم والمغمى عليه فلذلك قلنا برفع القلم من الأصل وإلا يتصور بصورة العبث على ما ذكر في الكتاب لأنه لا فائدة في ثبوت نفس الوجوب من غير معنى.

(ولذلك قلنا في الصبي) إلى آخره أي ولأجل ما قلنا: إن الوجوب غير ثابت في حق الصبي أصلًا قلنا: إنه لا يقضي ما مضى لأن الوجوب لو كان ثابتًا في حقه ثم سقط وجوب الأداء بالعذر لوجب عليه أن يقضي ما مضى كالمجنون إذا لم يستغرق جنونه حياته وكالمريض والمسافر إذا أفطرا.

(وكذلك نقول في الحائض) يرجع إلى ما ذكر في أول الباب وهو أن من كان أهلًا لحكم الوجوب بوجه كان هو أهلًا للوجوب مطلقًا ومن لا فلا؛

ص: 2163

لأن المعني من شرعية وجوب الحكم أداء الحكم لا ذات الوجوب فلذلك قلنا بوجوب الصوم على المرأة إما أداء أو قضاء لأن قضاءه لم يتضمن الحرج واحتمال الأداء في حق الحائض ثابت لأن القياس يقتضي أن لا تشترط الطهارة عن الحيض للصوم كما لا تشترط الطهارة له عن الجنابة والحدث وهو معنى قوله (أن الصوم يلزم الحائض لإحتمال الأداء) بخلاف الصلاة فإن في قضائها حرجًا بينًا وإشتراط الطهارة لها عن الحيض موافق للقياس لإشتراط الطهارة لها على الجنابة والحدث فلم يجب عليها قضاء الصلاة.

أو نقول: إن معنى قوله: "أن الصوم يلزم الحائض لإحتمال الأداء"أي لإحتمال الأداء في ثاني الحال من غير حرج إذ ليس من شرط إحتمال وجود الأصل وجوده في الحال في حق صحة الخلافة بل إحتمال وجوده في ثاني الحال يكفي لأن يكون الخلف خلفًا عنه إذا لم يتضمن وجوب أدائه الحرج.

ألا ترى أن المجنون والمغمى عليه إذا لم يزد الجنون والإغماء على يوم وليلة يجب قضاء الصلوات عليهما مع أن أداء الصلاة حال الجنون والإغماء منهما غير متصور ومع ذلك صح القضاء خلفًا عن الأداء في حقهما لإحتمال الأداء في ثاني الحال من غير حرج فكذلك هاهنا الصوم في حق الحائض لما لم يتضمن الحرج وجب قضاؤه بخلاف الصلاة.

ص: 2164

(لعدم حكمه) أي حكم الوجوب وهو الأداء (هذا في الصلوات والصيام معًا) يعني إذا إمتد بطل القول بالوجوب أصلًا لعدم حكمه.

(لزمه أصلًا) أي أصل وجوب الصوم.

(قلنا بوجوب أصل الإيمان دون أدائه) أي دون وجوب أدائه (حتى صح الأداء) أي عن الفرض.

في هذه المسألة اختلفت عبارات المشايخ فمن اختيار أستاذ العلماء شمس الأئمة الحلواني رحمه الله عليه- أن الإيمان على الصبي العاقل الذي يصح منه الأداء واجب لوجود الصلاحية لحكمه وهو الأداء والمؤدى منه يكون فرضًا.

ألا ترى أنه لو آمن في هذه الحالة لم يلزمة تجديد الإقرار بعد بلوغه فعرفنا أن أداء الفرض قد تحقق منه في حالة الصغر فمن هذا الطريق يثبت حكم الوجوب في حقه.

والدليل عليه أنه لو أسلمت امرأته أبى هو الإسلام بعد ما عرض عليه القاضي، فإنه يفرق بينهما، ولو لم يثبت حكم الوجوب في حقه لم يفرق

ص: 2165

بينهما إذا امتنع منه.

وقال الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله بعد ما قال هذا: والأصح عندي أن الوجوب غير ثابت في حقه إن عقل ما لم يعتدل حاله بالبلوغ فإن الأداء منه يصحح باعتبار عقله وصحة الأداء تستدعي كون الحكم مشروعًا لا تستدعي كونه واجب الأداء -كالنفل- فعرفنا بهذا أن حكم الوجوب وهو وجوب الأداء معدوم في حقه.

وقد بينا أن الوجوب لا يثبت باعتبار السبب والمحل بدون حكم الوجوب إلا أنه أدى يكون المؤدي فرضًا لأن حكم الوجوب يصير موجودًا بمقتضى الأداء كان المؤدي فرضًا بمنزلة العبد فإن وجوب الجمعة في حقه غير قابت حتى إنه كان المؤدي فرضًا لأن ما هو حكم الوجوب صار موجودًا بمقتضى الأداء وإنما لم يكن الوجوب ثابتًا لانعدام حكمه.

وهذا الذي ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله يقتضي أن لا يثبت في حق الصبي العاقل نفس وجوب الإيمان ولا وجوب أدائه.

والذي ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقتضي أن يثبت نفس

ص: 2166

وجوب الإيمان ووجوب أدائه في حقه.

وتوسط المصنف فخر الإسلام رحمه الله حيث ثال بنفس وجوب الإيمان عليه لا بوجوب أدائه وخير الأمور أوسطها.

وقوله: (وإذا لم يخل الوجوب عن حكمه) وهو صحة الأداء ونيابته عن الفرض.

(والإغماء لما لم يناف حكم وجوب الصوم لم يناف وجوبه) فحكم وجوب الصوم هو الأداء في الحال أو في الثاني بلا حرج وهو موجود في حق الصوم لا في الصلاة فإنه إذا نوى الصلاة ثم جن أو أغمى عليه ولم يوجد منه ما يفسد الصوم صح صومه.

علم بهذا أن الإغماء غير مناف للصوم وكذلك إن لم يتمكن من الأداء في الحال يتمكن منه في الثاني بلا حرج لأن الإغماء لا يستغرق الشهر عادة فلا يحرج في قضائه بخلاف الصلوات لأن الإغماء مناف لها في الحال؛ لأن

ص: 2167

الإغماء ناقض للطهارة فلا تتحقق من المغمى عليه الصلاة وفي الثاني يلزم الحرج لتضاعف صلوات كل يوم.

(والنوم لما لم يكن منافيًا لحكم الوجوب إذا انتبه) وهو القضاء بلا حرج لأنه لم يمتد أكثر من يوم وليلة عادة لم يكن منافيًا للوجوب أيضًا والله أعلم.

ص: 2168