المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

روى الكلبي في حديث طويل عن أبي جعفر رضي الله - الكشكول - جـ ١

[البهاء العاملي]

الفصل: روى الكلبي في حديث طويل عن أبي جعفر رضي الله

روى الكلبي في حديث طويل عن أبي جعفر رضي الله عنه قال السائل: يا ابن رسول الله كيف يعرف أن ليلة القدر تكون في كل سنة؟ قال إذا أترى شهر رمضان فأقرأ سورة الدخان في كل ليلة مأة مرة فإذا أتت ليلة ثلاث وعشرين، فإنك ناظر إلى تصديق الذي سألت عنه.

لمؤيد الدين الطغرائي

فصبراً أمين الملك إن عن حادث

فعاقبة الصبر الجميل جميل

ولا تيئسن من صنع ربك إنني

ضمين بأن الله سوف يزيل ألم تر أن الليل بعد ظلامه

علينا لأسفار الصباح دليل

وإن الهلال النضو يقمر بعدما

بدا؟ وهو شخت الجانبين ضئيل

ولا تحسبن السيف يقصر كلما

تعاوده بعد المضاء كلول

ولا تحسبن الدوح يقلع كلما

تمر به نفح الصبا فيميل

فقد يعطف الدهر الأبي عنانه

فيشفى عليل أو يبل غليل

ويرتاش مقصوص الجناحين بعدما

تساقط ريش واستطار نسيل

ويستأنف الغصن السليب نضارة

فيورق ما لم يعتوره ذبول

وللنجم من بعد الرجوع استقامة

وللحظ من بعد الذهاب قفول

بسم الله الرحمن الرحيم

‌بحوث علمية

الحمد لله الذي أطلع أنوار القرآن، فأنار أعيان الأكوان، وأظهر ببدايع البيان قواطع البرهان، فأضاء صحائف الزمان وصفائح المكان، والصلاة على الرسول المنزل عليه، والنبي الموحى إليه، الذي نزلت لتصديق قوله، وتبين فضله، " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله " محمد المؤيد ببينات وحجج " قرآناً عررياً غير ذي عوج " وعلى آله العظام، وصحبه الكرام، ما اشتمل الكتاب على الخطاب، ورتبت الأحكام في الأبواب

ص: 339

بينما الخاطر يقتطف من أزهار أشجار الحقايق رياها ويرتشف من نقاوة سلافة كؤوس الدقائق حمياها، ما كان يقنع باقتناء اللطائف، بل كان يجتهد في التقاط النواظر من عيون الطرايف، إذا انفتحت عين النظر على غرائب سور القرآن، وانطبعت في بصر الفكر بدايع صور الفرقان، فكنت لالتقاط الدرر أغوص في لجج المعاني، وطفقت في اقتناص الغرر أعوم في بحار المباني إذ وقع المحط على آية هي معترك أنظار الأفاضل والأعالي، ومزدحم أفكار أرباب الفضائل والمعاني كل رفع في مضمارها راية، ونصب لاثبات ما سنح له فيها آية، فرأيت أن قد وقع التخالف والتشاجر والمناقشة في التعاظم والتفاخر، حتى إن بعضاً من سوابق فرسان هذا الميدان قد تناصلوا عن سهام الشتم والهذيان، فما وقفوا في موقف من المواقف أبداً وما وافق في سلوك هذا السلك أحد أحداً. ثم إني ظفرت على ما جرى بينهم من الرسائل، واطلعت على ما أوردوا في الكتب في تحقيقات الأفاضل، فاكتحلت عين الفكر من سواد أرقامهم وانفتحت حدقة النظر على عرائس نتايج أفهامهم، وكنت ناظراً بعين التأمل في تلك الأقوال إذ وقع سبوح الذهن في عقال الإشكال فأخذت أحل عقدها بأنامل الأفكار، واعتبروا دورها بمعيار الإعتبار، فرأيت أن الأسرار قد خفيت تحت الأستار، وأن الأجلة ما اعتنقوها بأيدي الأفكار، فما زلت في بساط الفكر أجول وما زال ذهني عن سمت التأمل لا يزول حتى آنست أنوار المقصود قد تلألأت عن أفق اليقين وشهدت بصحتها لسان الحجج والبراهين فرغبت أحقق المرام، وأحرر الكلام، في فناء بيت الله الحرام، راجياً منه أن لا أزل عن الصواب وأن لا أمل عن الإجتهاد في فتح هذا الباب، سائلاً منه الفوز بالاستبصار عمن لا يفتر عين فهمه عن الإكتحال بنور التحقيق، ولا يقصر شأو ذهنه عن العروج إلى معارج التدقيق فوجدت بعون الله لكشف كنوز الحقايق معيناً، ولتوضيح رموز الدقائق نوراً مبيناً، ثم جعلت كسوة المقصود مطرزاً بطراز التحرير، ليكون في معرض العرض على كل عالم نحرير مورداً ما جرى بين الأجلة عند الطراد في مضمار المناظرة، وما أفادوا بعد الإختيار بمسبار المفاكرة، مذيلاً بما سنح لي في الخاطر الفاطر، وذهني القاصر. متوكلاً على الصمد المعبود، فإنه محقق المقصود.

ولما انتظم درره في سلك الإنتظام، ووسمت عليه بختم الاختتام، جعلت غرته مستنيرة بدعاء حضرت هي مقبل الأكاسرة والخواقين، ومعفر جباه أساطين السلاطين الذي خصه الله من البرايا بجميع المزايا، وأفاض عليه من سجال إفضاله أنواع العطايا جعل وفود الظفر في ركاب ركائبه، وجنود النصر مع جانب جنائبه، عم الأنام بغمام الإنعام، ومحى سواد الظلم عن بياض الأيام، وهو السلطان الأعظم والخاقان الأعدل الأكرم مالك رقاب سلاطين الأمم، خليفة الله في بلاده، وظل الله على عباده، حامي حوزة الملة الزهراء، الماحي سواد الكفر بإقامة الشريعة السمحة البيضاء، المجاهد المرابط في سبيل الله، المجتهد في إعلاء سنة رسول الله، المؤيد بلطف ال عباس بادشاه

ص: 340

الحسيني له خلد الله سبحانه على مفارق العالمين ظلال سلطنته القاهرة وشيد لإعلاء معالم الدين المتين أركان خلافته الباهرة ساطعاً عن ذروة الإقبال أشعة نيران حشمته وسطوته. صاعداً إلى أوج الجلال كواكب مواكب عظمته وشوكته. ولا زال شمس سعادته طالعة عن أفق المكرمات الإلهية مصونة عن الزوال، وبدر جلاله ثابتاً في أوج برج الشرف بالكمال، بالنبي وآله العظام وصحبه الكرام مدى الدهر والأعوام. والمسؤول من حضرته العليا ملاحظة تتضمن نيل المرام والله تعالى ولي الفضل والإنعام. قال صاحب الكشاف عند تفسير قول الله عز وجل:" وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتو بسورة من مثله " متعلق بسورة صفة لها أي بسورة كائنة من مثله، والضمير لما نزلنا أو لعبدنا ويجوز أن يتعلق بقوله فأتوا والضمير للعبد إنتهى، وحاصله أن الجار والمجرور أعني من مثله، إما أن يتعلق بفأتوا على أنه ظرف لغو، أو صفة لسورة على أنه ظرف مستقر وعلى كلا التقديرين فالضمير في مثله إما عائد إلى ما نزلنا أو إلى عبدنا، فهذه صور أربع جوز ثلاثاً منها تصريحاً ومنع واحدة منها تلويحاً حيث سكت عنها وهي أن تكون الظرف متعلقاً بفأتوا والضمير لما نزلنا.

ولما كانت علة عدم التجويز خفية استشكل خاتم المحققين عضد الملة والدين واستعلم عن علماء عصره بطريق الاستفتاء، وهذه عبارته نقلناها على ما هي عليه تبركاً بشريف كلامه: يا أدلاء الهدى ومصابيح الدجى، حياكم الله وبياكم وألهمنا بتحقيقه وإياكم ها أنا من نوركم مقتبس، وبضوء ناركم ملتبس، ممتحن بالقصور، لا ممتحن ذا غرور ينشد بأطلق لسان وأرق جنان.

ألا قل لسكان وادي الحمى

هنيئاً لكم في الجنان الخلود

أفيضوا علينا من الماء فيضاً

فنحن عطاش وأنتم ورود

قد استبهم قول صاحب الكشاف أفيضت عليه سجائل الألطاف، من مثله متعلق بسورة صفة لها أي بسورة كائنة من مثله والضمير لما نزلنا أو لعبدنا، ويجوز أن يتعلق بقوله فأتوا والضمير للعبد، حيث جوز في الوجه الأول كون الضمير لما نزلنا تصريحاً وحصره في الوجه الثاني تلويحاً، فليت شعري ما الفرق بين فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزلنا وفأتوا من مثل ما نزلنا بسورة، وهل ثمة حكمة خفية؟ أو نكتة معنوية؟ أو هو تحكم بحت؟ بل هذا مستبعد من مثله، فإن رأيتم كشف الريبة وإحاطة الشبهة والإنعام بالجواب أثبتم أجزل الأجر والثواب.

ص: 341

ثم كتب الفاضل الجار بردي في جوابه كلاماً معقداً في غاية التعقيد، لا يظهر معناه ولا يطلع أحد على مغزاه، رأينا أن إيراده في أثناء البحث يشتت الكلام ويبعد المرام فأوردناه في ذيل المقصود مع ما رده خاتم المحققين.

وقال العلامة التفتازاني في شرحه للكشاف، الجواب عن هذا أمر تعجيز باعتبار المأتي به والذوق شاهد بأن تعلق من مثله بالإتيان يقتضي وجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتى منه بشيء، ومثل النبي في البشرية والعربية موجودة، بخلاف مثل القرآن في البلاغة والفصاحة، وأما إذا كان صفة السورة فالعجوز عنه هو الإتيان بالسورة الموصوفة ولا يقتضي وجود المثل بل ربما يقتضي انتفاؤه حيث يتعلق به أمر التعجيز، وحاصله أن قولنا إيت من مثل الحمساة ببيت يقتضي وجود المثل، بخلاف قولنا إيت ببيت من مثل الحماسة إنتهى كلامه. وأقول لا يخفى أن قوله يقتضي وجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتى منه بشيء يفهم أنه اعتبر مثل القرآن كلاً له أجزاء، ورجع التعجيز إلى الإتيان بجزء منه، ولهذا مثل بقوله إيت من الحماة الحماسة ببيت فكان المثل كتاباً أمر بالإتيان ببيت منه على سبيل التعجيز وإذا كان الأمر على هذا النمط فلا شك أن الذوق يحكم بأن تعلق من مثله بالإتيان يقتضي وجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتى بشيء منه، لأن الأمر بالإتيان بجزء الشي يقتضي وجود الشيء أولاً وهذا مما لا ينكر وأما إذا جعلنا مثل القرآن كلياً يصدق على كله وبعضه وعلى كل كلام يكون في طبقة البلاغة القرآنية فلا نسلم أن الذوق يشهد بوجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتي بشيء منه بل الذوق يقتضي أن لا يكون لهذا الكلي فرد يتحقق والأمر راجع إلى الإتيان بفرد من هذا الكلي على سبيل التعجيز ومثل هذا يقع كثيراً في محاورات الناس مثلاً إذا كان عند رجل ياقوتة ثمينة في الغاية قل ما يوجد مثلها يقول في مقام التصلف من يأتي من مثل هذه الياقوتة بياقوتة أخرى؟ ويفهم الناس منه أنه لا يوجد فرد آخر من نوعه، فظهر أنه على هذا التقدير لا يلزم تعلق من مثله بقوله فأتوا أن يكون مثل القرآن موجوداً فلا محذور ألا ترى أنهم لو آتوا على سبيل الفرض بأدنى سورة متصفة بالبلاغة القرآنية لصدق أنهم آتوا بسورة من مثل القرآن مع عدم وجوب كتاب مثل القرآن، وأما المثال المقيس عليه أعني قوله إيت من مثل الحماسة ببيت فهذا لا يطابق الفرض إلا إذا جعل مثل القرآن كلا فإن الحماسة تطلق على مجموع الكتاب فلابد أن يكون مثله كتاباً آخر أيضاً وحينئذ يلزم المحذور وأما القرآن فإن له مفهوماً كلياً يصدق

ص: 342

على كل القرآن وأبعاضه وأبعاض أبعاضه إلى حد لا يزول عنه البلاغة القرآنية، وحينئذ يكون الغرض منه المفهوم الكلي وهو نوع من أنواع البليغ فرده القرآن أمر بإتيان فرد من هذا النوع فلا محذور.

وقال في شرحه المختصر على التلخيص قلت: لأنه يقتضي ثبوت مثل القرآن في البلاغة وعلو الطبقة بشهادة الذوق، إذ العجز إنما يكون عن المأتي به فكان مثل القرآن ثابت لكنهم عجزوا من أن يأتوا منه بسورة، بخلاف ما إذا كان وصفاً للسورة فإن المعجوز عنه هو السورة الموصوفة باعتبار انتفاء الوصف، فإن قلت: فليكن العجز باعتبار انتفاء المأتي به قلت: احتمال عقلي لا يسبق إلى الفهم ولا يوجد له مساغ في اعتبارات البلغا واستعمالاتهم فلا اعتداد به إنتهى كلامه. وأقول: لا يخفى أن كلامه ها هنا مجمل ليس نصاً فيما قصد به في كلامه في شرح الكشاف، وحينئذ نقول إن أراد بقوله إذ العجز إنما يكون عن المأتي مستلزم فكان مثل القرآن أن العجز باعتبار المأتي به لأن يكون مثل القرآن موجوداً ويكون العجز عن الإتيان بسورة منه بشهادة الذوق مطلقاً فهو ممنوع لأنه إنما يشهد الذوق بلزوم ذلك إذا كان المأتي به أعني مثل القرآن كلاً له أجزاء والتعجيز باعتبار الإتيان بجزء منه كما قررنا سابقاً وإن أراد أنه إنما يلزم بشهادة الذوق إذا كان المأتي منه كلاً له أجزاء فهو مسلم لكن كونه مراد ها هنا ممنوع بل المراد ها هنا أن المأتي منه نوع من أنواع الكلام، والتعجيز راجع إليه باعتبار الأمر بإتيان فرد آخر منه، كما صورناه في مثال الياقوتة فتذكر.

قال المدقق صاحب الكشف في شرحه على هذا الموضع من كلام الكشاف ويجوز أن يتعلق بفأتوا والضمير للعبد إما أن يتعلق بسورة صفة لها فالضمير للعبد، أو للمنزل على ما ذكره وهو ظاهر، ومن بيانية أو تبعيضية على الأول، لأن السورة المفروضة بعض المثل المفروض والأول أبلغ ولا يحمل على الإبتداء على غير التبعيضية أو البيان فإنهما أيضاً يرجعان إليه على ما أثر شيخنا الفاضل رحمه الله، وابتدائية على الثاني، وأما إذا تعلق بالأمر فهي ابتدائية والضمير للعبد، لأنه لا يتبين إذ لا مبهم قبله، وتقديره رجوع إلى الأول ولأن البيانية أبداً مستقر على ما سيجيء إن شاء الله فلا يمكن تعلقها بالأمر ولا تبعيض، إذا الفعل يكون واقعاً عليه كما في قولك أخذت من المال، وإتيان البعض لا معنى له بل الإتيان بالبعض فتعين الإبتداء ومثل السورة والسورة نفسها أن جعلا مقحمين لا يصلحان مبدءاً بوجه. أقول: فتعين أن يرجع الضمير إلى العبد، وذلك لأن المعتبر في هذا الفعل المبدأ الفاعلي المادي أو الغائي أو جهة تلبس بها ولا يصح واحد منها، فهذا ما لوح إليه العلامة وقد كفت بهذا البيان إتمامه انتهى كلامه.

ص: 343

أقول: حاصل كلامه أنه بسبيل السبر والتقسيم حكم بتعيين من للابتداء، ثم بين أن مبتدائية من لا يصلح ها هنا إلا للعبد، فتعين أن يكون الضمير راجعاً إليه ولا يخفى أن قوله ولا تبعيض إذا الفعل حينئذ يكون واقعاً عليه الخ محل تأمل، إذ وقوع الفعل عليه لا يلزم أن يكون بطريق الأصالة لم لا يجوز أن يكون بطريق التبعية؟ مثل أن يكون بدلاً فإنكم لما جوزتم أن يكون في المعنى مفعولاً صريحاً كما قررتم في أخذت من الدراهم، أنه أخذت بعض الدراهم، لم لا تجوزون أن يكون بدلاً عن المفعول؟ فكأنه قال بسورة بعض ما نزلنا، فيكون البعضية المستفادة من من ملحوظة على وجه البدلية، ويكون الفعل واقعاً عليه، فيكون في حيز الباء وإن لم يمكن تقدير الباء عليه، إذ قد يحتمل في التابعية ما لا يحتمل في المتبوعية، كما في قولهم رب شاة وسخلتها، لابد لنفي هذه من دليل.

ثم على تقدير التسليم تقول: قوله: لأن المعتبر في مبدئية الفعل المبدء الفاعلي إلى آخره محل بحث، لأن التعميم الذي في قوله أو جهة يلتبس بها غي منضبط، لأن جهات التلبس أكثر من أن تحصى من جهة الكمية، ولا ينتهي إلى حد من الحدود من جهة الكمية، ولا ينتهي إلى حد من الحدود من جهة الكيفية: ولا يخفى أن كون مثل القرآن مبدءاً مادياً للسورة من جهة التلبس أمر يقبله الذهن السليم والطبع المستقيم.

على أنك لو حققت معنى الإبتدائية يظهر لك أن ليس معناه إلا أن يتعلق به على وجه اعتبار المبدئية الأمر الذي اعتبر له ابتداء حقيقة أو توهماً، وقد ذكر العلامة التفتازاني كلام الكشف للرد وقال: في أثناء الرد على أن كون مثل القرآن مبدءاً مادياً للإتيان بالسورة ليس أبعد من كون مثل العبد مبدءاً فاعلياً انتهى.

أقول: لا يخفى أن مثل العبد باعتبار الإتيان بالسورة منه هو مبدء فاعلي للسورة حقيقة لأنه لو فرض وقوعه لا يكون العبد إلا مؤلفاً لتلك السورة مخترعاً لها فيكون مبدءاً فاعلياً حقيقياً لها؛ وأما مثل القرآن فلا يكون مبدءاً مادياً للسورة إلا باعتبار التلبس المصحح للسببية، فهو أبعد منه غاية البعد؛ بل ليس بينهما نسبة فإن أحدهما بالحقيقة والآخر بالمجاز وأين هذا من ذاك؟ نعم كون مثل القرآن مبدءاً مادياً ليس بعيداً في نظر العقل باعبار التلبس؛ تأمل وأنصف. قال الفاضل الطيبي: لا يقال: إنه جعل من مثله صفة لسورة فإن كان الضمير للمنزل فهي للبيان، وإن كان للعبد فهي للابتداء وهو ظاهر، فعلى هذا إن تعلق قوله من مثله بقوله فأتوا فلا يكون الضمير للمنزل لأنه يستدعي كونه للبيان، والبيان يستدعي تقديم مبهم ولا تقديم فتعين أن يكون للابتداء لفظاً أو تقديراً أي اصدروا وأنشؤا واستخرجوا من مثل العبد بسورة لأن مدار الإستخراج هو العبد لا غير فلذلك تعين في الوجه الثاني عود الضمير إلى العبد لأن هذا وأمثاله ليس بوافٍ. ولذلك تصدى بعض الفضلاء وقال: قد

ص: 344

استبهم قول صاحب الكشاف حيث جوز في الوجه الأول كون الضمير لما نزلنا تصريحاً وبحصره في الوجه الثاني تلويحاً. فليت شعري ما الفرق بين فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزلناه وفأتوا من مثل ما نزلنا بسورة؟ وأجيب بأنك إذا اطلعت على فرق بين قولك لصاحبك ائت برجل من البصرة أي كائن منها وبين قولك أئت من البصرة برجل عثرت على الفرق بين المثالين وزال عنك التردد والإرتياب. ثم نقول: إن من إذا تعلق بالفعل يكون إما ظرفاً لغواً ومن للابتداء، أو مفعولاً به ومن للتبعيض، إذ لا يستقيم أن يكون بياناًن لاقتضائه أن يكون مستقراً ولمقدار خلافه وعلى تقدير أن يكون تبعيضياً فمعناه فأتوا بعض مثل المنزل بسورة وهو ظاهر البطلان، على تقدير أن يكون ابتداء لا يكون المطلوب بالتحدي الإتيان بالسورة فقط، بل بشرط أن يكون بعضاً من كلام مثل القرآن وهذا على تقرير استقامته بمعزل عن المقصود، واقتضاء المقام يقتضي التحدي على سبيل المبالغة، وأن القرآن بلغ في الإعجاز بحيث لا يوجد لأقله نظير فكيف للكل فالتحدي إذاً بالسورة المووفة بكونها من مثله في الإعجاز، وهذا إنما يتأتي إذا جعل الضمير لما نزلنا ومن مثله صفة لسورة ومن بيانية فلا يكون المأتي به مشرواً بذلك الشرط، لأن البيان والمبين كشيء واحد كقوله تعالى:" فاجتنبوا الرجس من الأوثان " ويعضده قول المصنف في سورة الفرقان إن تنزيله مفرقاً وتحديهم بأن يأتوا ببعض تلك التفاريق كما نزل شيء منها أدخل في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كله جملة واحدة فيقال لهم جيئوا بمثل هذا الكتاب في فصاحته مع بعد ما بين طرفيه أو طوله إنتهى.

وأقول: هذا الكلام مع طول ذيله قاصر عن إقامة المرام كما لا يخفى على من له بالفنون أدنى إلمام فلا علينا أن نشير إلى بعض ما فيه، فنقول: قوله: وعلى تقدير أن يكون تبعيضياً فمعناه فأتوا بعض مثل المنزل بسورة وهو ظاهر البطلان فيه بحث، لأن بطلانه لا يظهر إلا على تقريره، حيث غير النظم بتقديم معنى من على قوله بسورة، وهذا فساد بلا ضرورة فلو قال: فأتوا بسورة مثل بعض المنزل على ما هو النظم القرآني فهو في غاية الصحة والمتانة وحينئذ يكون قول بعض مثل المنزل بدلاً فيكون معمولاً للفعل على ما حققناه سابقاً حيث قررنا على كلام صاحب الكشف فارجع وتأمل. ثم قوله وعلى تقدير أن يكون ابتداء لا يكون المطلوب بالتحدي الإتيان بسورة

ص: 345

فقط بل بشرط أن يكون بعضاً من كلام مثل القرآن فيه نظر، لأن الإتيان من المثل لا يقتضي أن يكون من الكلام مثل القرآن بل يكون المأتي جزءاً منه: بل يقتضي أن يكون من نوع من الكلام غالباً في البلاغة إلى حيث انتهى به البلاغة القرآنية، والمأتي به يكون فرداً من أفراده ولعمري إنه ما وقع في هذا إلا لأنه جعل المثل كلاً له أجزاء لا كلياً له أفراد كما فصلناه سابقاً في مثال الياقوتة حيث أوردنا الكلام على العلامة التفتازاني، فلا يحتاج إلى الإعادة، وظني أم منشأ كلام العلامة التفتازاني ليس إلا كلام الفاضل الطيبي تأمل وتدبر.

وقد يجاب بوجوه آخر، في غاية الضعف ونهاية الزيف أوردها العلامة التفتازاني في شرح الكشاف وبين ما فيها رأينا أن في نقلها على ما هي عليها استيعاباً للأقوال وليكن للمتأمل في هذه الآية زيادة بصيرة. الأول: إنه إذا تعلق بفأتوا فمن للابتداء إذ لا مبهم تبين ولا سبيل إلى البعضية لأنه لا معنى لإتيان البعض ولا مجال لتقدير الباء مع من كيف وقد ذكر المأتي به صريحاً وهو الصورة، وإذا كانت من للابتداء تعين كون الضمير للعبد لأنه المبدأ للإتيان بالكلام في التكلم، على أنك إذا تأملت فالمتكلم ليس مبدأ للإتيان بكلام غيره بل بكلام نفسه، بل معناه أنه يتصل به الأمر الذي اعتبر له امتداد حقيقة أو توهماً كالبصيرة للخروج، والقرآن للإتيان بسورة منه.

الثاني: إذا كان الضمير لما نزلنا ومن صلة فأتوا كان المعنى فأتوا من منزل مثله بسورة، فكان مماثلة ذلك المنزل بهذا المنزل هو المطلوب لا مماثلة سورة واحدة منه بسورة من هذا، وظاهر أن المقصود خلافه كما نطقت به الآي الأخر وفيه نظر، لأن إضافة المثل إلى المنزل لا يقتضي أن يعبر موصوفه منزلاً، ألا ترى أنه إذا جعل صفة سورة لم يكن المعنى من منزل مثل القرآن بل من كلام وكيف يتوهم ذلك؟ والمقصود تعجيزهم عن أن يأتوا من عند أنفسهم بكلام من مثل القرآن، ولو سلم فما ادعاه من لزوم خلاف المقصود غير بين ولا مبين.

الثالث: أنها إذا كانت صلة فأتوا كان المعنى فأتوا من عند المثال كما يقال ائتوا من زيد بكتاب أي من عنده ولا يصح من مثل القرآن، بخلاف مثل العبد وهذا أيضاً بين الفساد إنتهى.

وقد ألهمت لحل الكلام في فناء بيت الله الحرام ما إذا تأملت فيه عسى أن يتضح المرام فأقول: وبالله التوفيق، وبيده أزمة التحقيق،

ص: 346

إن الآية الكريمة ما أنزلت إلا للتحدي وحقيقة التحدي هو طلب المثل عمن لا يقدر على الإتيان به، فإذا قال المتحدي: فأتوا بسورة بدون قوله من مثله، كل أحد يفهم منه أنه يطلب سورة من مثل كل القرآن، وإذا قال: أيتوا من مثله بدون قوله بسورة كل أحد يفهم منه أنه يطلب من مثل القرآن ما يصدق عليه أنه مثل القرآن، أي قدر كان، سورة أو أقل منها أو أكثر، وإذا أراد المتحدي الجمع بين قوله بسورة وبين قوله من مثله فحق الكلام أن يقدم من مثله ويؤخر بسورة، ويقول: فأتوا من مثله بسورة، حتى يتعلق الأمر بالإتيان من المثل أولاً بطريق العموم وكان بحيث لو اكتفى به لكان المقصود حاصلاً، والكلام مفيداً لكن تبرع ببيان قدر المأتي به فقال بسورة فيكون من قبيل التخصيص بعد التعميم في الكلام والتبيين بعد الإبهام في المقام. وهذا الأسلوب مما يعني به البلغاء.

وأما إذا قال فأتوا بسورة من مثله على أن يكون من مثله متعلقاً بفأتوا يكون في الكلام حشواًن وذلك لأنه لما قال بسورة: عرف أن المثل هو المأتي منه، فذكر من مثله على أن يكون متعلقاً بفأتوا يكون في الكلام حشواً وكلام الله منزه عن هذا. فلهذا حكم بأنه وصف للسورة.

وتلخيص الكلام أن التحدي بمثل هذه العبارة يقع على أربعة أساليب: الأول تعيين المأتي فقط، الثاني تعيين المأتي منه فقط، الثالث الجمع بينهما على أن يكون المأتي منه مقدماً والمأتي به مؤخراً، والرابع العكس ولا يخفى على من له بصيرة في نقد الكلام أن الأساليب الثلاث الأول مقبولة عند البلغاء، والأخير مردود ويبقى ذكر المأتي منه بعد ذكر المأتي به حشواً هذا إذا جعل المأتي منه مفهوم المثل.

وأما إذا كان المأتي منه مكاناً أو شخصاً أو شيئاً آخر مما لا يدل عليه التحدي فذكره مفيد قدم أو أخر، ولذلك جوز العلامة صاحب الكشاف أن يكون من مثله متعلقاً بفأتوا حيث كان الضمير راجعاً إلى عبدنا. والحاصل أنه إذا جعل المثل المأتي منه فإذا أريد الجمع بين المأتي منه والمأتي به فلا بد من تقديم المأتي منه على المأتي به، ولا يكون الكلام ركيكاً وأما إذا كان المأتي منه شيئاً آخر فالتقديم والتأخير سواء. وما يؤيد هذا المعنى ما أفاده المحققون في قول القائل عند خروجه من بستان المخاطب، أكلت من بستانك من العنب أنه لو: قال أكلت من العنب من بستانك، يكون الكلام ركيكاً بناء على أنه لما قال أكلت من العنب علم أنه أكل من البستان، فقوله من بستانك يبقى لغواً وأما إذا قال: أولاً من بستانك أفاد أنه أكل من البستان بعد أن لم يكن معلوماً ولكن بقي الإبهام في المأكول منه فلما قال من العنب

ص: 347

رفع الإبهام. هاذا وإن لم يكن مثالاً لما نحن فيه لكن تنظير، إذا تأملت فيه تأنست بالمطلوب، الذي نحن بصدده لا يقال، فعلى هذا جعله وصفاً أيضاً لغو بناء على أن التحدي يدل عليه.

لأنا نقول: لاشك أن التحدي يدل على أن السورة المأتي بها هي السورة المماثلة، فإذا قيل من مثله مقدماً فيه إبهام وإجمال من حيث المقدار، فإذا قيل بسورة تعين المقدار المأتي به حينئذ وقوله بسورة لا يفيد إلا تعيين المقدار المبهم إذ بعد أن فهم المماثلة من صريح الكلام يضمحل دلالة السياق فلا يلاحظ قوله بسورة غلا من حيث أنه تفصيل بعد الإجمال، فلا يكون في الكلام حشو مستغنى عنه، وأما إذا قيل مؤخراً فإن جعلت وصفاً للسورة فقد جعلت ما كان مفهوماً بالسياق منطوقاً في الكلام بعينه وهذا في باب النعت إذا كان لفائدة لا تنكر كما في قولهم أمس الدابر وأمثاله، وأما إذا جعلت متعلقاً بفأتوا فدلالة السياق باقية على حالها إذ هي المقدمة على التصريح بالمماثل، ثم صرحت بذكر المماثلة فكأنك قلت فأتوا بسورة من مثله من مثله مرتين، على أن يكون الأول وصفاً والثاني ظرفاً لغواً وهو حشو في الكلام بلا شبهة.

فإن قلت فما الفائدة إذا جعلناه وصفاً للسورة قلت: الفائدة جليلة وهي التصريح بمنشأ التعجيز فإنه ليس إلا وصف المماثلة، وعند ملاحظة منشأ التعجيز أعني المثلية يحصل الانتقال إلى أن القرآن معجز، والحاصل أن الغرض من إتيان الوصف تحقيق مناط عليه كون القرآن معجزاً حتى يتأملوا بنظر الاعتبار فيرتدعوا عماهم فيه من الريب والإنكار.

هذا ما سنح في الخاطر الفاتر والمرجو من الأفاضل النظر بعين الإنصاف، والتجنب عن العناد والإعتساف، فلعمري إن الغور فيه لعميق، والمسلك إليه لدقيق، والله المستعان وعليه التكلان والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين الطيبين الطاهرين.

من تفسير الكبير للإمام الرازي: المسألة الخامسة: الضمير في مثله إلى ماذا يعود؟ فيه وجهان: أحدهما إنه عائد إلى ما في قوله مما نزلنا أي فأتوا بسورة مما هو على صفته في الفصاحة وحسن النظم، والثاني أنه عائد إلى عبدنا أي فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشراً أمياً لم يقرأ الكتب، ولم يأخذ عن العلماء، والأول مروي عن عمرو بن مسعود وابن عباس والحسن وأكثر المحققين.

ويدل عليه وجوه: أولها أن ذلك يطابق لساير الآيات الواردة في باب التحدي لاسيما ما ذكره في يونس فأتوا بسورة مثله.

ص: 348

والثاني أن البحث إنما في المنزل لأنه قال: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فوجب صرف الضمير إليه، ألا ترى أن المعنى وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا أنتم شيئاً مما يماثله، وقصة الترتيب لو كان الضمير مردوداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال وإن ارتبتم في أن محمداً منزلاً عليه: فهاتوا قرآناً من مثله.

وثالثها أن الضمير لو كان عائداً إلى القرآن لاقتضى كونهم عاجزين في الإتيان بمثله سواء اجتمعوا أو انفردوا وسواء كانوا أميين أو عالمين محصلين، أما لو كان عائداً إلى محمد صلى الله عليه وسلم فذلك لا يقتضي إلا كون آحادهم من الأميين عاجزين عنه، لأنه لا يكون مثل محمد صلى الله عليه وسلم إلا الشخص الواحد الأمي، فأما لو اجتمعوا أو كانوا قادرين مثل محمد صلى الله عليه وسلم فذلك لا يقتضي إلا كون آحادهم من الأميين عاجزين عنه، لأنه لا يكون مثل الأمي ولا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى.

ورابعها: إنا لو صرفنا الضمير إلى القرآن فكونه معجزاً إنما يحصل لكمال حاله في الفصاحة أما لو صرفنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكونه معجزاً إنما يكمل بتقدير كمال حاله في كونه أمياً بعيداً عن العلم، وهذا وإن كان معجزاً أيضاً إلا أنه لما كان لا يتم إلا بتقرير يوهم من النقصان في حق محمد صلى الله عليه وسلم كان الأول أولى. وخامسها: إنا لو صرفنا الضمير إلى محمد صلى الله عليه وسلم لكان ذلك يوهم أن صدور مثل القرآن عمن لم يكن مثل محمد صلى الله عليه وسلم في كونه أمياً ليس ممتنعاً، ولو صرفناه إلى القرآن لدل ذلك على أن صدوره عن الأمي ممتنع وكان هذا أولى.

منقول من حواشي الكشاف للقطب رحمه الله إذا تعلق من مثله بسورة وقد تقدم أمران المنزل، والمنزل إليه جاز أن يرجع الضمير إلى المنزل ويكون من للتبيين وللتبعيض أي فأتوا بالسورة التي هي مثل المنزل أو بسورة بعض مثله وجاز أن يرجع إلى المنزل عليه وهو العبد وحينئذ تكون من للإبتداء لأن مثل العبد مبدأ للإتيان ومنشؤه، أما إذا تعلق بقوله: فأتوا فالضمير للعبد، لأن من، لا يجوز أن تكون للتبيين، لأن من البيانية تستدعي مبهماً تبينه فتكون صفة له فتكون ظرفاً مستقراً، وإذا تعلق بفأتوا تكون ظرفاً لغواً فيلزم أن تكون ظرفاً واحداً مستقراً ولغواً وإنه محال، ولا يجوز أن تكون من للتبعيض، وإلا لكان مفعول فأتوا لكن مفعول فأتوا لا يكون إلا بالباء، فلو كان مثل مفعول فأتوا لزم دخول الباء في من وإنه غير جائز، فعين أن تكون من للإبتداء فيكون الضمير راجعاً إلى العبد لأن مثل العبد هو مبدء الإتيان لا مثل القرآن، وبهذا يضمحل وهم من لم يفرق بين فأتوا بسورة من مثل ما نزلنا وبين فأتوا من مثل ما نزلنا بسورة.

ص: 349

لجامعه

وثقت بعفو الله أعني في غد

وإن كنت أدري أنني المذنب العاصي

وأخلصت حبى في النبي وآله

كفى في خلاصي يوم حشري إخلاصي

هذا آخر مجلد الثاني من الكشكول على طبق النسخ التي طبعت من قبل.

المجلد الثاني

ص: 350