الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واليهود «1» ، ولعله يريد أن يوحي بذلك أن اليهود لا يمكن أن يخدعوا!
ليس الشكّ والنفي الاعتباطيّ وحدهما، ولكنه الاعتماد على الروايات الضعيفة الشاذّة التي قد لا تصمد أمام النقد:«لقد أخذ المستشرقون- كما يقول الدكتور جواد علي- بالخبر الضعيف في بعض الأحيان وحكموا بموجبه، واستعانوا بالشاذ والغريب وقدموه على المعروف المشهور. استعانوا بالشاذ ولو كان متأخّرا، أو كان من النوع الذي استغربه النقدة وأشاروا إلى نشوزه، تعمدوا ذلك لأن هذا الشاذ هو الأداة الوحيدة في إثارة الشكّ» «2» .
ثانيا: إسقاط الرؤية الوضعية، العلمانيّة، والتأثيرات البيئيّة المعاصرة على الوقائع التاريخيّة:
إنه من المتعذّر بل من المستحيل، كما يؤكّد آتيين دينييه «أن يتجرد المستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم ونزعاتهم المختلفة. وأنهم- لذلك- قد بلغ تحريفهم لسيرة النبي والصحابة مبلغا يخشى على صورتها الحقيقية من شدّة التحريف فيها، وبرغم ما يزعمون من اتّباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجاد؛ فإننا نجد- من خلال كتاباتهم- محمدا يتحدّث بلهجة ألمانيّة إذا كان المؤلف ألمانيا، وبلهجة إيطالية إذا كان الكاتب إيطاليا.. وهكذا تتغير صورة محمد بتغير جنسية الكاتب! وإذا بحثنا في هذه السيرة عن الصورة الصحيحة فإننا لا نكاد نجد لها من أثر.
إن المستشرقين يقدمون لنا صورا خيالية هي أبعد ما تكون عن الحقيقة، إنها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التاريخية التي يؤلفها أمثال (وولتر سكوت) و (إسكندر ديماس) ، وذلك أن هؤلاء يصوّرون أشخاصا من أبناء قومهم، فليس عليهم إلا أن يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة، أمّا المستشرقون
(1) تاريخ اليهود في بلاد العرب، ص 145- 146.
(2)
تاريخ العرب في الإسلام: 1/ 8- 11.
فلم يمكنهم أن يلبسوا الصورة الحقيقيّة لأشخاص السيرة؛ فصوّروهم حسب منطقهم الغربي، وخيالهم العصري..» ، وما يلبث دينييه أن يضرب مثلا معاكسا فيقول:«ما رأي الأوربيين في عالم من أقصى الصين يتناول المتناقضات التي تكثر عند مؤرّخي الفرنسيين ويمحّصها بمنطقه الشرقي البعيد، ثم يهدم قصة (الكاردينال ريشليو) كما نعرفها ليعيد إلينا (ريشيليو) آخر له عقلية كاهن من كهنة بكين وسماته وطبعه؟ إن مستشرقي العصر الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة فيما يتعلق بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. ويخيّل إلينا أننا نسمع محمدا يتحدّث في مؤلّفاتهم إما باللهجة الألمانيّة أو الإنكليزيّة أو الفرنسية ولا نتمثّله قط، بهذه العقليّة والطباع التي ألصقت به، يحدّث عربا باللغة العربية» ، وينتهي المستشرق الفرنسي- الذي أعلن إسلامه- إلى القول:«إن صورة نبيّنا الجليلة التي خلّفها المنقول الإسلامي تبدو أجلّ وأسمى إذا قيست بهذه الصورة المصطنعة الضئيلة التي صيغت في ظلال المكاتب بجهد جهيد» «1» .
ويشير الدكتور جواد علي إلى أن كيتاني، وهو من كبار المستشرقين الأوائل الذين كتبوا عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يعتمد منهجا معكوسا في البحث يذكّرنا بكثير من المختصّين الجدد في حقل التاريخ الإسلامي، والذين يعملون وفق منهج خاطئ من أساسه، إذ إنهم يبيّتون فكرة مسبقة ثم يجيئون إلى وقائع التاريخ لكي يستلّوا منها ما يؤيّد فكرتهم ويستبعد ما دون ذلك، فلقد كان كيتاني (ذا رأي وفكرة) وضع رأيه وفكرته في السيرة قبل الشروع في تدوينها فإذا شرع بها استعان بكلّ خبر من الأخبار ظفر به، ضعيفها وقويّها، وتمسّك بها كلّها ولا سيّما ما يلائم رأيه، ولم يبال في الخبر الضعيف بل قوّاه وسنده وعدّه حجّة، وبنى حكمه عليه، ومن يدري فلعلّه كان يعلم بسلاسل الكذب المشهورة والمعروفة عند العلماء، ولكنه عفا عنها وغضّ نظره عن أقوال أولئك العلماء فيها؛ لأنه صاحب فكرة يريد إثباتها بأية طريقة
(1) محمد رسول الله، المقدمة، ص 27- 28، 43- 44.
كانت، وكيف يتمكن من إثباتها وإظهارها وتدوينها إذا ترك تلك الروايات وعالجها معالجة نقد وجرح وتعديل على أساليب البحث الحديث» ؟ «1» .
وترد في ختام كتاب آتيين دينييه (الشرق كما يراه الغرب) بعض الآراء حول هذا المنهج حيث يقول: «لقد أصاب الدكتور سنوك هيرغرنجه بقوله:
(إن سيرة محمد الحديثة تدل على أن البحوث التاريخية مقضيّ عليها بالعقم إذا سخّرت لآية نظرية أو رأي سابق) . هذه حقيقة يجمل بمستشرقي العصر جميعا أن يضعوها نصب أعينهم؛ فإنها تشفيهم من داء الأحكام السابقة التي تكلّفهم من الجهود ما يجاوز حد الطاقة فيصلون إلى نتائج لا شكّ خاطئة.
فقد يحتاجون في تأييد رأي من الآراء إلى هدم بعض الأخبار وليس هذا بالأمر الهيّن، ثم إلى بناء أخبار تقوم مقام ما هدموا وهذا أمر لا ريب مستحيل. إن العالم في القرن العشرين يحتاج إلى معرفة كثير من العوامل الجوهرية كالزمن والبيئة والإقليم والعادات والحاجات والمطامح والميول..
إلى آخره، ولا سيّما إدراك تلك القوى الباطنة التي لا تقع تحت مقاييس المعقول والتي يعمل بتأثيرها الأفراد والجماعات» «2» .
وفضلا عن هذا نجد أن الطابع العلمانيّ الوضعيّ، والرؤية المحدودة للمناهج الغربيّة في تعاملها مع تأريخنا، أوقع عددا من المستشرقين في خطأ آخر؛ مفاده: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يخطو خطوة واحدة وهو يعلم مسبقا ما الذي يليها، أي أن نشاطه كانت توحي به الظروف الراهنة ومتطلباتها ولوازمها، وأبرز مثل في هذا المجال ما ذكره فلهاوزن وعدد من رفاقه حول إقليميّة الحركة الإسلامية في عصرها المكّيّ، وأنها لم تنتقل إلى المرحلة العالمية- في العصر المدني- إلّا بعد أن أتاحت لها الظروف ذلك، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليفكر بذلك من قبل.
(1) تاريخ العرب في الإسلام: 1/ 95.
(2)
محمد رسول الله، المقدمة، ص 43- 44.
وما قالوه حول اعتماد الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب (اللاعنف) في العصر المكّي، وتحوّله إلى القوة بعد أن شكّل دولة في المدينة وتجمّع حوله المقاتلون:«لقد كان في وسع محمد (يقول فلهاوزن) - من طريق عقيدة تتجاوز دائرة معتنقيها الدائرة التي ترسمها رابطة الدم- أن يحطّم رابطة الدم هذه؛ لأنها لم تكن بريئة من العصبيّة وضيقها، ولا كانت ذات صيغة خارجيّة عارضة. هذا هو الذي جعلها لا تتّسع لقبول عنصر غريب عنها، ولكن محمدا لم يرد ذلك، ومن الجائز أيضا أنه لم يكن يستطيع أن يتصوّر إمكان رابطة دينيّة في حدود غير حدود رابطة الدم» «1» .
ويرفض سير توماس أرنولد في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) هذه الرؤية الخاطئة فيقول: «من الغريب أن ينكر بعض المؤرّخين أن الإسلام قد قصد به مؤسّسه في بادئ الأمر أن يكون دينا عالميا برغم هذه الآيات البينات.. «2»
ومن بينهم السير وليم موير إذ يقول: إن فكرة عالمية الرسالة قد جاءت فيما بعد. وإن هذه الفكرة على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤيدها، لم يفكّر فيها محمد نفسه، وعلى فرض أنه فكّر فيها فقد كانت الفكرة غامضة؛ فإن عالمه الذي كان يفكر فيه، إنما كان بلاد العرب، كما أن هذا الدين الجديد لم يهيّأ إلّا لها. وأن محمدا لم يوجه دعوته منذ بعث إلى أن مات إلّا للعرب دون غيرهم، وهكذا نرى أن نواة عالمية الإسلام قد غرست، ولكنها إذا كانت قد اختمرت ونمت بعد ذلك فإنما يرجع ذلك إلى الظروف والأحوال أكثر منها إلى الخطط والمناهج» «3» .
ويجيب أرنولد: «لم تكن رسالة الإسلام مقصورة على بلاد العرب، بل
(1) الدولة العربية وسقوطها، ص 4.
(2)
يستشهد أرنولد بالآيات التالية: سورة 36 آية 69- 70، سورة 21 آية 107، سورة 25 آية 1، سورة 24 آية 7، سورة 61 آية 9.. إلى آخره.
the caliphate ،pp. 43 -44 (3) وكايتاني آخر من يؤيد هذا الرأي.annali dell islam ،v. 323 -423 عن أرنولد: الدعوة إلى الإسلام، هامش 2 ص 49- 50.
للعالم أجمع نصيب فيها، ولم يكن هناك غير إله واحد، كذلك لا يكون هناك غير دين واحد يدعى إليه الناس كافّة» «1» .
ولم يقف أرنولد وحده بمواجهة هذا الخطأ الواضح؛ إنما هناك كولدزيهر ونولدكه وسخاو الذي يؤكد: «إن الرسالة الإلهية ليست مقصورة على العرب، بل إن إرادة الله تشمل جميع المخلوقات، ومعنى ذلك خضوع الإنسانية كلّها خضوعا مطلقا. وقد كان لمحمد بوصفه رسولا من الله حق المطالبة بهذه الطاعة، وقد كان عليه أن يطالب بها، وهذا ما ظهر في أوّل الأمر جزآ لا ينفصل من جملة ما أراد تحقيقه من مبادئ» «2» .
ويرفض آرنولد الخطأ الآخر الذي يرى: «أن محمدا قد تحوّل إلى القوة بمجرّد أن واتته الظروف، وهو رأي قد صرّح به نقلا عن فلهاوزن بعض الباحثين، ولا سيّما ميور لدى حديثه عن غزوة بني قريظة» «3» .
إلّا أن آرنولد لم ينج من الوقوع في الخطأ نفسه عندما يقول: «كانت رغبة محمد ترمي إلى تأسيس دين جديد، وقد نجح في هذا السبيل ولكنه في الوقت نفسه أقام نظاما سياسيا له صفة جديدة متميزة تميزا تاما، وكانت رغبته بادئ الأمر مقصورة على توجيه بني وطنه إلى الاعتقاد بوحدانية الله» «4» .
إن فهم السيرة لا يمكن أن يتمّ إلّا وفق نظرة شموليّة تدرس حركة الإسلام كخطوات في برنامج شامل مرسوم في علم الله، ومحدد في قرآنه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن سوى منفّذ لهذا البرنامج بأسلوب يعتمد على قدراته وأخلاقيّته وذكائه وإمكاناته الفذّة في التخطيط والتنفيذ. وبالرغم من أنّ القرآن الكريم نزل منجّما، وراحت آياته تنزل على مكث لكي تلامس
(1) المرجع السابق، ص 48.
(2)
المرجع السابق نفسه، هامش 1 ص 48.
(3)
المرجع السابق نفسه، هامش 1 ص 54.
(4)
المرجع السابق نفسه، هامش 2 ص 52.
الأحداث وتعلّق عليها (بعد وقوعها) ، إلا أنه بمجموعه كمبدأ «أيديولوجيّة» لا يخرج عن نطاق كونه برنامجا إلهيا شاملا ترتبط ممارساته الجزئية بكليّات شاملة محددة سلفا في علم الله.. ومن ثم فإن (الظروف الراهنة) ليست هي الحتمية المؤقتة التي تحدد مسار الإسلام وخطا رسوله صلى الله عليه وسلم. إنما هناك (الهدف) الذي يفرض أحيانا (وقفة) ضد الأعراف والظروف (وتمرّدا) عليها، و (انقلابا) شاملا على مواضعاتها.
وهذا ما يبدو واضحا منذ أول لحظة في الشعار الحاسم الذي طرحه الرسول صلى الله عليه وسلم بوجه الجاهلية (لا إله إلا الله) ، فأيّ ظرف راهن موقوت، أوحى بهذا الشعار الانقلابي الشامل الذي جاء يدمر على الوجود الجاهلي جلّ قيمه وأهدافه ومعالمه ومفاهيمه وعاداته وتقاليده؟.
إن القرآن الكريم كان قضية فوقية جاءت آياته لتقود الإنسان في كل زمان ومكان إلى عصر جديد، ولم يكن ينفعل انفعالا مؤقتا بالوضع السائد سلبا وإيجابا، كما يتصوّر معظم المستشرقين مسيحيّين وماديّين (كما سنرى) ،
(1) المرجع السابق نفسه، ص 21- 62؛ وانظر بالتفصيل: جولد زيهر في مؤلفه muhammedanishe stidien ،v.l ،1: