المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌4 وانطلاقا من إسقاط المفهوم الغربي الخاطئ للدين على وقائع السيرة، - المستشرقون والسيرة النبوية

[عماد الدين خليل]

الفصل: ‌ ‌4 وانطلاقا من إسقاط المفهوم الغربي الخاطئ للدين على وقائع السيرة،

‌4

وانطلاقا من إسقاط المفهوم الغربي الخاطئ للدين على وقائع السيرة، نلتقي بحشد من الاستنتاجات والتحليلات الخاطئة التي يعتمدها (وات) ، وإن كانت بشكل عام أقلّ حدة مما نجده لدى المستشرقين الآخرين..

لكنها على أية حال تمثل ارتطاما بحقائق النبوة، ولا يمكن معها للعقل المسلم إلّا أن يرى فيها سذاجة وجهلا، أو خبثا ومكرا.. فنحن نقرأ عبارات كهذه يمكن أن تكون مناقشتها ضربا في غير هدف، أو اعترافا على الأقل بجدّيتها التي يجب ألّا تخلع عليها أبدا حتى على المستوى الأكاديمي.. فما كان الدين الإسلامي وأسسه العقيدية، على وجه الخصوص، حقلا لمماحكات الأكاديميّين وتجاربهم الفكرية في شرق أو غرب:«لقد تملكت محمدا، منذ وقت مبكر عقيدة أن الكلمات التي تصل إليه هي وحي من الله، مهما كانت الصورة الدقيقة لتجربته الأولى في تلقي الوحي.. وقد أظهر الإيمان بذلك منذ البداية في دعوته العامة» «1» .

ونقرأ «على المؤرخ أن يعترف بصدق محمد المطلق في اعتقاده بأن الوحي كان يأتيه من الخارج، وأنه يمكن أن يكون قبل نزول الوحي قد سمع من بعض الأشخاص قسما من القصص التي يذكرها القرآن، وعندئذ يترك المؤرخ الموضوع إلى الفقهاء ليقوموا بنوع من التوفيق» «2» .

ونقرأ «كما نرى أثر الشك في اليوم الآخر وراء السؤال الموجّه إلى محمد:

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) ، ويردّ القرآن على هذا السؤال، أو يتحاشى الرد لأنه يمكن أن يحدث بلبلة لمحمد، وهذا هو الهدف من سؤاله» «3» .

(1) محمد في مكة، ص 203.

(2)

المصدر السابق نفسه، ص 205.

(3)

المصدر السابق نفسه، ص 200.

ص: 102

و (وات) يعود إلى مسألة النمو التدريجي والضرورات المرحلية.. إلى آخره فيتصوّر أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف حتى أواخر العصر المكي، الأبعاد الحقيقة لدعوته، وأنها ليست لقريش وحدها أو للعرب وحدهم، وإنما للعالم جميعا.. ويغافل (وات) كما أغفل غيره من المستشرقين تلك المعطيات القرآنية التي كانت تؤكد منذ بدايات العصر المكي: عالمية الدعوة الإسلامية، وأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يمكن أن يسيروا كالعميان- خطوة خطوة دون أن يملكوا مسبقا استشرافا شاملا لما يسعون لتحقيقه، ولا حتى للخطوات التالية التي يجب عليهم أن يقطعوها.. وإذا كان الزعماء العاديون يمتلكون رؤية مستقبليّة نافذة تتجاوز حدود الزمن الراهن، وتتحرك صوب أبعاده النائية وفق برنامج مرسوم.. أفلا يكون الأنبياء مبعوثو الله إلى العالم، قادرين على امتلاك هذه الرؤية، بل ممتلكين بإرادة الله ووحيه- زمامها منذ اللحظات الأولى!!

على أية حال فهذه هي الآيات القرآنية (المكية) التي تؤكد عالمية الدعوة الإسلامية منذ البدايات الأولى:

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ)«1» .

(وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)«2» .

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)«3» .

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً)«4» .

(1) الأنعام: 90.

(2)

يوسف: 104.

(3)

الأنبياء: 107.

(4)

الفرقان: 1.

ص: 103

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)«1» .

(وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)«2» .

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) «3» .

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)«4» .

ونسمع (وات) يقول بصيغ الجزم والاعتقاد التي لم نألفها منه: «نحن نعتقد أن محمدا في هذا الوقت (بعد عودته من الطائف) أخذ يدعو أفراد القبائل البدوية للدخول في الإسلام، وأن وراء هذا النشاط تكمن فكرة غامضة في توحيد العرب جميعا» «5» .

ونسمعه يقول: «وعدّ محمد نفسه في البدء مرسلا لقريش خاصة، وليس لدينا أية وسيلة لمعرفة ما إذا كان قد فكّر بتوسيع أفق رسالته لتشمل العرب جميعا، قبل وفاة أبي طالب أو بعدها. وقد اضطره تدهور وضعه مع ذلك، أن ينظر إلى أبعد من ذلك، فلا نسمع من ثمّ خلال سنواته الثلاث الأخيرة في مكة إلّا عن علاقاته بالقبائل البدوية وسكان الطائف ويثرب» «6» .

وفي مكان آخر يصوّر محمدا صلى الله عليه وسلم كما لو كان لا يميّز بين الدين والسياسة، ولا يعرف تماما أنّ دعوة كدعوته ستقود بالضرورة إلى مركز الزعامة، وأنه لم يكن يفكّر بأيّ دور غير الدور الدينيّ الصرف وفق المفهوم

(1) ص 87.

(2)

القلم: 52.

(3)

التكوير: 26، 27.

(4)

سبأ: 28.

(5)

محمد في مكة، ص 223.

(6)

المصدر السابق نفسه، ص 219.

ص: 104

الغربي وأنه لم «يكن سوى رجل ينذر» ، وأنه «كان يجب تنبيهه على الجوانب السياسية الدينية» «1» . ومع ذلك يقول (وات) :«لم يكن يمكن استمرار الفصل بين رسالة النبوّة ووظيفة القائد السياسي في الظروف المشار إليها، أي في مثل نظرة العرب لما يحدد صفات الفضل والكفاءة الضرورية للحكم. فأيّ إنسان كان في استطاعته فيما بعد انتهاج سياسة تكذّبها كلمة من الله أو حتى من نبيّه؟ وهكذا تكون الإشارة إلى الآلهة بداية معارضة القرشيّين العنيفة، كما أن سورة الكافرين وإن بدت دينية صرفة، فهي حثّ لمحمد على فتح مكة» «2» .

ونحن نقرأ في هذا الصدد هذه المقولة كذلك: «إن السبب الأساسيّ في المعارضة كان من دون شكّ أنّ زعماء قريش وجدوا أن إيمان محمد بأنّه نبيّ ستكون له نتائج سياسية، كانت السنة العربية القديمة تقول: إن الرئاسة في القبيلة يجب أن تكون من نصيب أكثر الرجال حظا من الحكمة والحذر والعقل، فلو أن أهالي مكّة أخذوا يؤمنون بإنذار محمد ووعيده وجعلوا يستفسرون عن الطريق التي يجب أن تدار بها شؤونهم فمن ذا الذي يحق له نصحهم غير محمد نفسه» «3» ؟

فإذا كان زعماء قريش قد أدركوا العلاقة بين الدين والسياسة، بين الدعوة والقيادة، فكيف لم يدرك محمد ذلك وهو أكثر من أي قرشي آخر حظا «من الحكمة والعقل» كما يعترف (وات) نفسه؟!

كما أنه يعود إلى مسألة الضرورات المرحلية، إلى درجة أنه يوحي للقارئ بأن القرآن الكريم كان يتحايل على قريش خشية الارتطام بها،

(1) المصدر السابق نفسه، ص 177.

(2)

المصدر السابق نفسه، ص 177- 178.

(3)

المصدر السابق نفسه، ص 214.

ص: 105

فيؤجّل نهيه عن الربا، أحد أعمدة النشاط المالي المكيّ، إلى وقت طويل بعد الهجرة، ويكتفي بنقد موقفهم الشخصي من الثروة.. «لقد كان زعماء مكة من بعد النظر بحيث أقرّوا بالتناقض بين تعاليم القرآن الأخلاقية ورأس المال التجاري الذي كان عماد حياتهم، ولهذا لم يظهر النهي عن الربا حتى وقت طويل بعد الهجرة، بينما ظهر منذ البداية نقد لموقفهم الشخصي من الثروة» «1» .

ويصعب على المرء التصديق بأن مستشرقا متعمّقا كوات لا يدرك الفارق بين العقيدة والشريعة في الإسلام، وأن المرحلة المكّية تختلف عن المرحلة المدنيّة في أن حركة الإسلام في الأولى كانت منصبّة على البناء العقيدي، بينما انصبّت في المرحلة التالية على البناء التشريعي بسبب قيام دولة الإسلام وما تتطلبه من نظم ومعطيات تشريعيّة، مع استمرار البناء العقيدي بطبيعة الحال.. فالذي حدث ليس تحوّلا في بنية الإسلام نفسه، بل في تنظيم الأولويات بعد إنجاز مرحلة بناء الجماعة الإسلامية وقيام دولة الإسلام في المدينة ومع ذلك فنحن نقرأ في كتاب (وات) هذه العبارة:«نستطيع القول بأن الإسلام قد تحول في خطوطه الكبرى عند الهجرة، ولكن معظم مؤسساته كان لا يزال في مرحلة بدائية، فلم يتم بعد، تحديد الصلوات ولا العبادة، وإن كانت قد وضعت الأسس لذلك.. ولم تظهر ظهورا كاملا أركان الإسلام الآخرى: الصيام، الزكاة، الشهادة، والحج، ومع ذلك كانت كل الأفكار الرئيسية: الله، اليوم الآخر، الجنة والنار، وإرسال الأنبياء، واضحة تماما» «2» .

وفرق واضح بين أن نقول بأن معظم مؤسسات الإسلام كانت في طور الولادة أو التشكيل، وبين أن نقول: إنها كانت في مرحلة بدائية!!

(1) المصدر السابق نفسه، ص 215.

(2)

المصدر السابق نفسه، ص 238- 239.

ص: 106