الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1
- النزعة الشكّيّة والافتراض والنّفي الكيفيّ
1
يبدو (مونتغمري وات) على مستوى تقنية البحث متفوّقا بمعنى الكلمة، وهو يمتلك أداة البحث ومستلزماته، ويعتمد أسلوبا نقديا مقارنا يثير الإعجاب، وقد تمكّن بواسطته من تحقيق عدد من النتائج القيّمة على مستوى السيرة. وإن كان يلح أحيانا في نزعته النقديّة، كما سنرى، الأمر الذي قاده كما قاد عددا من رفاقه وأسلافه إلى تنفيذ عملية (نفي) واسع النطاق لمساحات من حقائق السيرة المتعارف عليها.
أما في الدائرة الثانية، دائرة (الموضوعية) التي قال الرجل بأنه سيلتزمها في بحثه فإنه لم يستطع أن يتحرّر بالكلّيّة من الضغوط المضادّة وعوامل الشدّ اللامنهجية، على الرغم من أن ثمة ما يميزه في عصر المذهبية التاريخية ويحسب لصالحه، إنه لا يفترض أو يعتنق، رؤية محددة سلفا، ويأتي إلى التاريخ لكي يعيد تركيبه وفق رؤيته تلك، ويعالج وقائعه بما يجعلها تنسجم، قسرا، مع مقولات المذهب، ويفصل ويقص ويمطّ الجزئيات التاريخيّة لكي تكون على (قدّ) القالب المصنوع سلفا.. وينتقي ويتقبّل كلّ ما يتناغم مع قناعاته هذه، وما لا يكون كذلك يعزل ويستبعد.
إن الرجل يعتمد منهجا مغايرا هو أقرب إلى الموضوعية.. إنه يسعى لأن يبدأ حركته مع الوقائع التاريخية، دون أي افتراض مسبق، ثم تجيء استنتاجاته وتنظيراته مستمدة مما تقوله الوقائع نفسها، ومما تتمخض عنه مكوناتها الأساسية وعلاقاتها المتشابكة.
لكننا مع ذلك يجب ألا نذهب في حسن الظن إلى المدى.. لأن الرجل بسبب من إلحاحه على التجريب في ميدان الوقائع؛ يرغمها- أحيانا- على أن تتكلّم، على أن تقول أيّ شيء حتى لو كان مناقضا للتيّار الأوسع والأعمق لحركة العصر الذي تتدفق عبره تلك الجزئيات التاريخية.
ويقينا فإن الكثير من استنتاجات (وات) ، بإحالتها على الأرضية التاريخية الشاملة التي تنتمي إليها الوقائع التي شكّلت الاستنتاج، سوف ترتطم بالكثير من المسلّمات والبداهات!!
ولا نريد أن نواصل اتّهام الرجل بهذه الخطيئة أو تلك فنقع في مظنة المبالغة والهوى.. والأحكام المسبقة.. ولكننا بدلا من ذلك سنسعى إلى اختبار معطياته لنعرف ما إذا كانت قد تضمّنت واحدا أو أكثر من الأخطاء المنهجيّة التي مارسها معظم المستشرقين في حقل السيرة.. وحينذاك فقط يمكن أن يكون الحكم أقرب إلى الصواب.
وسيحاول البحث أن يتجنّب الدخول- قدر الإمكان- في مناقشة التفاصيل والجزئيات، أو حتى الرد أو المناقشة المتوازية مع كل مقولة قد تتضمن خطأ ما.. إنما ينصبّ الاهتمام على تحديد الجذور المنهجية وتنفيذها على الموضوع من قبل (وات) .. وقد لا يستلزم كل شاهد مناقشة أو ردا ما دام أن مهمة هذا البحث ليست دراسة حقائق السيرة، وإنما مناهج التعامل معها «1» .
إن بمقدور المرء أن يتلمس عبر قراءته لكتاب (محمد في مكة) اثنتين من تلك الثغرات المنهجية التي تتردد في معطيات المستشرقين.. تتمثّل أولاهما في ذلك الانسياق وراء النزعة النقدية التي تبلغ على أيدي بعضهم حدّ النفي الكيفي للروايات أو إثارة الشكوك حول صحتها.. وتتمثّل ثانيتهما في إسقاط الرؤية والمواضعات المعاصرة، ذات الطابع النسبي، على الوقائع
(1) يمكن الرجوع في هذا المجال لكتاب للمؤلف بعنوان: (دراسة في السيرة) .
التاريخيّة الماضية، ومحاولة تحكيم المنطق الوضعي واعتماده في تحليل مكونات تلك الوقائع، وارتباطها وتفحص طبيعة نسيجها.
وثمّة مأخذ آخر أقل ترددا في كتاب (وات) يقوم على فكرة رد بعض وقائع السيرة إلى أصول دينية سابقة، يهودية ونصرانية، فلنبدأ بالمسألة الأولى:
المبالغة في النقد، والنفي الكيفيّ، وإثارة الشكوك، واعتماد الضعيف الشاذّ
…
بعد استعراض أهم أحداث السيرة بين ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم وزواجه بخديجة رضي الله عنها وتحليلها، يقول (وات) :«تلك هي الوقائع التي تهيمن على حياة محمد قبل زواجه، من وجهة نظر المؤرخ بعض هذه الوقائع موضع جدل.. وهناك مع ذلك عدد كبير من الروايات التي يمكن تسميتها «بذات الطابع الفقهي» ، ولا شك أنها ليست حقيقة بالمعنى الواقعي للمؤرخ؛ لأنها تحاول وصف وقائع يمكن نسبتها لفترات لا حقة من حياة محمد ولكنها تعني مع تلك مغزى محمد بالنسبة للمسلمين والمؤمنين؛ فهي بذل حقيقة بالنسبة إليهم.. وتكون ملحقا مناسبا لحياة نبيهم. وربما يمكن اعتبارها كتعبير (لمن كان له عيون ترى) فرأى لو كان شاهدا لها، ويكفي أن نذكر أشهر هذه القصص كما يرويها ابن إسحاق» «1» .
ويورد وات نص رواية (الملكين) و (وبحيرى الراهب) كما يرويها ابن إسحاق، ثم يعقّب عليها بأن القارئ يجد نفسه إزاء أرضيّة مهزوزة لوقائع هذا المدى الزمني الذي يبلغ ربع القرن بين الميلاد والزواج.
أولا: لأن بعض هذه الوقائع موضع جدل.
ثانيا: لأن هناك عددا كبيرا من الروايات يمكن تسميتها بذات الطابع الفقهي، وهي ليست حقيقة بالمعنى الواقع المؤرخ، وإنما هي حقيقة فقط بالنسبة للمسلمين!!.
(1) محمد في مكة، ص 66.
ثالثا: لأن بعض الوقائع يمكن نسبتها لفترات لاحقة من حياة محمد صلى الله عليه وسلم ولكنها سحبت إلى الوراء..
وإذا كانت قصة (بحيرى الراهب) موضع جدل، وقد تتعرض للاهتزاز أمام النقد «1» ؛ فإن حادثة شق الصدر تستعصي على النفي؛ لا لأن مسلما «2» وأحمد «3» أخرجاها فحسب- فضلا عن ابن هشام «4» وابن سعد «5» والبلاذري «6» وغيرهم من المؤرخين الأوائل- ولكن لكونها واقعة ترتبط بنسيج الظاهرة النبوية ذات الأصول الغيبيّة التي يصعب التعامل معها في إطار التحليل العقلي بمنظور تاريخي. وها هنا، فإن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي في نسيجها المغيّب بالمنظور، ويتداخل تداخل السدى باللحمة.. ونحن إما أن نقبل هذا البعد الذي يجعل من محمد عليه الصلاة والسلام (نبيا) ويرتب نتائج النبوة على أسبابها في التكوين النفسي، وإما أن نرفضه من الأساس وحينذاك يمكن حتى لظاهرة (الوحي) أن تستحيل إلى فعل منظور.. وإلا ألحقت «بالروايات ذات الطابع الفقهي التي هي ليست حقيقة بالمعنى الواقعي للمؤرخ، وإنما هي حقيقة بالنسبة للمسلمين» .
ولن يستطيع أحد بعد تجريد الواقعة التاريخية من بعدها الواقعي الحقيقي، إلّا أن يعتبرها غير تاريخيّة على الإطلاق!!
حتى إذا ما تزوج محمد صلى الله عليه وسلم وأنجبت زوجته رضي الله عنها أولادهما السبعة المعروفين؛ فإننا نجد أنفسنا أمام هذه الفرضية التي يطرحها (وات) :
(1) انظر: دراسة في السيرة للمؤلف، ص 271- 272 (الطبعة الخامسة المنقحة) .
(2)
1/ 101- 102.
(3)
3/ 121.
(4)
تهذيب، ص 31- 33.
(5)
طبقات: 1/ 1/ 70- 74.
(6)
أنساب الأشراف: 1/ 81- 82.
إذا كانت خديجة قد أنجبت ولدا في كل سنة «فإنها تكون في الثامنة والأربعين من عمرها عند ولادة الأخير، ليس هذا مستحيلا ولكنه غريب يثير التعليق، وهو من الأمور القابلة لأن تصبح فيما بعد معجزة» «1» .
والمسألة في أساسها لا تقتضي هذا التعقيد، فإن خديجة رضي الله عنها قد تكون أقل من الأربعين عمرا لدى زواجها، وقد تكون- فعلا- في الأربعين؛ لأنّ الإنجاب حتى الخمسين ليس مستحيلا.. لكن (وات) يا بني على هذه المسألة موقفا؛ وهو:«إننا لا نعثر على أي تعليق بهذا الصدد في كل صفحات ابن هشام وابن سعد والطبري» «2» . فكأن هؤلاء المؤرخين لا يملكون أي حس نقدي، كما أنه يلمح بموقف آخر: إن هذا من الأمور القابلة لأن تصبح فيما بعد معجزة، وبالتالي فإن أتباع الرسول أو الأجيال المسلمة عموما، تمتلك الاستعداد السهل لتحويل كل ظاهرة بعيدة عن المألوف بدرجة أو أخرى، إلى معجزة!!
عند بدء الدعوة يطرح (وات) هذا (المانشيت) العريض: «يوجد كثير من عدم الاطمئنان حول الظروف التي صحبت دعوة محمد، ومن الممكن إذا محّصنا أقدم الروايات أن ننتهي إلى رسم صورة عامة جديرة بالثقة، وإن كانت مختلفة التفاصيل ولا سيّما التواريخ غير الأكيدة» «3» .
لا بأس.. فما دام يشير إلى إمكانية رسم صورة عامة جديرة بالثقة، فإذا يمكن أن نتقبّل مبدئيا شكوكه حول الظروف التي صحبت الدعوة و (التفاصيل) و (التواريخ) .
ولكن هل نجح (وات) في بناء الصورة الجديرة بالثقة؟!
(1) محمد في مكة، ص 73.
(2)
المصدر السابق نفسه.
(3)
المصدر السابق نفسه، ص 93.
يمكن أن تكون المسألة نسبيّة؛ فهو بالمقارنة مع غيره من المستشرقين الذين درسوا السيرة يعدّ- ولا شكّ- أقدرهم على النجاح في هذه المهمة.. ولكنه بالنسبة للمنظور الإسلامي، الأكثر أصالة واتساعا، لواقعة السيرة يبدو أسير حشد من الشكوك، وتخرج الصورة من بين يديه وقد أزيل منها الكثير من مكوّناتها الحقيقية الواقعية، وأضيف إليها- في الوقت نفسه- بعض ما لم يكن فيها أساسا!!
وفي قضية (الوحي) - على سبيل المثال- تعترضنا- يقول وات- صعوبة صغيرة فيما يتعلق بالتواريخ؛ فالكلمات التي تختتم أول ما نزل من الوحي:
(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) هي من الوحي السابق، ويفسر المسلمون القول السابق بأنه يعني (علم استعمال القلم) ، وليس لهذا من فائدة إذا كان محمد لا يعرف القراءة والكتابة، ويبدو (ورقة بن نوفل) من بين الذين اتصل بهم محمد لسبب معرفته بكتب المسيحية المقدسة. ولا شك أن المقطع القرآني حين ردّده محمد قد ذكره بما هو مدين به لورقة.
وسنعرض فيما بعد لمسألة الأخذ عن ورقة، وتأثر التعاليم الإسلامية اللاحقة (كثيرا بأفكاره) !
(1) المصدر السابق نفسه، ص 93.
ولكنّنا نودّ أن نشير هنا إلى دوّامة (الشكّ) التي يثيرها (وات) في لحظات (الوحي) الأولى.. إن المسألة واضحة، وقد جرت بالشكل المعروف التالي الذي تحدّثنا به عائشة رضي الله عنها: «
…
حبب إليه صلى الله عليه وسلم الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه، (يتعبد الليالي ذوات العدد) قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني «1» حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال:
اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال:(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) ، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زمّلوني، زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلّا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأ قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانيّ من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: يا بن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا بن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجيّ هم؟
قال: نعم.. لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلّا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي» «3» .
(1) أي: ضمّني وعصرني.
(2)
أي: رجع بالآيات أو القصة.
(3)
البخاري: (تجريد: 1/ 6- 7، طبعة سنة 1931 م) .