المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الأكاديميّة التخصصيّة بعامة، وما دام أن في بعض هذه البحوث - المستشرقون والسيرة النبوية

[عماد الدين خليل]

الفصل: الأكاديميّة التخصصيّة بعامة، وما دام أن في بعض هذه البحوث

الأكاديميّة التخصصيّة بعامة، وما دام أن في بعض هذه البحوث لمحات منهجية وموضوعية قد تمنحنا المزيد من الإدراك لنسيج السيرة، وتعطينا المزيد من الأدوات المعينة على الفهم، فلا بأس أن نتعامل معها على هذا الأساس، وليس أبدا على اعتبار أنها صيغة مقبولة في التعامل الدراسي مع سيرة رسولنا عليه الصلاة والسلام.

ومن أجل ألّا يختلط الأسود بالأبيض، وتمرّر على العقل المسلم معطيات المستشرقين المنحرفة وأخطاؤهم المكشوفة أو المستترة، كان لا بدّ من تقديم العديد من الدراسات النقدية لهذه المعطيات، تكون بمثابة مصدر إنارة للمسلم في هذا الدرب المعتم الطويل..

‌7

«إن (مونتغمري وات) يحاول ما وسعه الجهد أن يكون الباحث (الجديد) الذي يتجاوز أخطاء أسلافه ومعاصريه، بل إنه ليخطو خطوة أخرى، لم يسبقه بها أحد من أقرانه، فيسعى إلى التحقق بقدر من الاحترام والحيادية إزاء الجذور الغيبيّة لحقائق السيرة ووقائعها، يقول في مقدمة كتابه (محمد في مكة) : «فيما يتعلق بالمسائل الفقهيّة التي أثيرت بين المسيحية والإسلام فقد جهدت في اتخاذ موقف محايد منها، وهكذا بصدد معرفة ما إذا كان القرآن الكريم كلام الله أو ليس كلامه امتنعت عن استعمال تعبير مثل: (قال تعالى) ، أو (قال محمد) في كل مرة أستشهد فيها بالقرآن، بل أقول بكل بساطة: (يقول القرآن) .... وأقول لقرائي المسلمين شيئا مماثلا، فقد ألزمت نفسي، برغم إخلاصي لمعطيات العلم التاريخي المكرّس في الغرب، ألاأقول أي شيء يمكن أن يتعارض مع معتقدات الإسلام الأساسية» «1» .

(1) المرجع السابق، ص 5- 6.

ص: 13

ويعلق المستشرق البريطاني المعروف (سير هاملتون جب) على الكتاب قائلا: بأنّه يجعل القارئ يشعر بأنه كتبه رجل عاش بالخيال تجربة محمد في مكة أكثر من أي كاتب سابق، يضاف إلى ذلك تنظيمه الدقيق لمواد البحث الذي يعد إضافة جديدة قيمة لدراسة أصول الإسلام. لقد اهتم الكتاب خاصة يقول جب- بالأرضية الاقتصاديّة والاجتماعيّة وعلاقاتها بنظريات القرآن الدينيّة. ولهذا يؤمّل أن يؤدّي إلى تقدير حق لهذا القائد العظيم أكثر في الغرب مما مضى «1» !!. من أجل هذا وقع الاختيار عليه، لأن الآخرين من المستشرقين الذين افتقدوا بعض شروط البحث الجادّ، قد نوقشوا كثيرا؛ فضلا عن أن بحوثهم لم تعد تستحق ذلك العناء الكبير الذي عوملت به في العقود السابقة بسبب وضوح تناقضاتها وإلحاحها في ملاحقة ما تتصوّره أخطاء والتشبّث بها، كالمغناطيس الذي يمسك بقطع الحديد المتناثرة..

ثم إن (الدفاع) عن الحقائق الإسلامية العقيدية والتاريخية إزاء أخطاء الآخرين وتحريفاتهم ليس أكثر أهمية من تقديم أعمال بنائيّة، وإنه ليجب التأكيد باستمرار على حقيقة أن العمل التاريخي الجادّ بحاجة إلى البناة، الذين يملكون الحسّ النقدي بطبيعة الحال، أكثر من النقاد، ذلك أن جوانب كثيرة من تاريخنا وحضارتنا لا تزال تنتظر من يكشف النقاب عنها، أو يعيد عرضها بالأسلوب الذي يقدمها كما تحققت فعلا، أما ملاحقة دراسات الآخرين كشفا عن خطأ فيها، ودفاعا عن قيمة ما في تاريخنا وفكرنا وعقيدتنا، فيبدو أمرا ثانويا يجب ألّا يحتلّ الخطّ الأماميّ إلّا بعد أن يتم القدر الأكبر من مساحات البناء وتكويناته.

ومع ذلك فإن العملية النقدية- ما دامت تتضمن قدرا من الإنجاز البنائي في جانب ما من جوانب العقيدة أو التاريخ- تغدو جديرة بالممارسة هي الآخرى، شرط ألّا تكون هدفا بحدّ ذاتها.

(1) من تعليق جب الذي اعتمده الناشر على غلاف كتاب (محمد في مكة) .

ص: 14

باختصار فإنّ التوجّه الأكثر أهميّة وجدوى يجب أن يتجاوز الدفاع المتشنّج إزاء كل ما طرحه الخصوم حول هذه النقطة وأن تكون في مجرى التاريخ والعقيدة الإسلامية صوب أبحاث في تكوين التاريخ والحضارة والعقيدة والشريعة، نظما وصيرورة وأعمالا بنائيّة، في هذا الجانب أو ذاك لتقدّم بذاتها القناعات الموضوعيّة التي تتهافت عندها مقولات الخصوم «1» .

ومن ثمّ، واستنادا إلى ذلك كله؛ وقع الاختيار على (وات) في واحد من كتابيه المعروفين عن محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهو (محمد في مكة) .. ولم أشأ أن أتناول الكتابين معا لسببين: أولهما: أن حجم المادة سيتضاعف ولا شك، مما لا يسمح به مجال كهذا الذي أتاحه المجلد الخاص بالمستشرقين.

وثانيهما: إني سأضطر- حينذاك- لوضع القارئ أمام حشد كبير من الشواهد والنصوص قد تمثل في جوهرها تكرارا لمعان محدّدة.. فما دام أن المنهج في الكتابين واحد، وأن الخلل الذي يعانيه هذا المنهج واحد كذلك في الكتابين، فإن التعامل مع أحدهما سيغني بالضرورة عن التعامل مع الآخر.

فهل قدر الرجل على تنفيذ أمنيته التي طرحها في مقدمة بحثه؟

قبل الإجابة على هذا السؤال يجب أن نقوم بعرض مركّز للأدوار التي مرّت بها الحركة الاستشراقيّة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والملامح الأساسية في مناهجها، لكي نعرف على وجه التحديد موقع (مونتغمري وات) على خارطة الاستشراق، وبخاصة على مستوى (المنهج) .

(1) انظر: كتاب (فصول في المنهج والتحليل) للمؤلف، فصل (حول تداول السلطة في العصر الراشدي) .

ص: 15

تطوّر الموقف (الغربيّ) من السيرة

ص: 17