الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنما كان ينظر نظرة شمولية بعيدة كل البعد عن رد الفعل المباشر، وهذا هو الذي يفسر لنا الكثير من الأخطاء التي مارستها مناهج البحث الاستشراقية في كافة أجنحتها.
ونحن لا نطلب من الغربيّين هنا أن يؤمنوا أن القرآن الكريم منزل من السماء وأنّ محمدا رسول الله.. وإنما نطلب أن يكونوا أكثر تجرّدا وموضوعية فينظروا إلى سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كوحدة عضوية متكاملة.
وإلى القرآن الكريم كبرنامج عقيديّ مترابط تعلو مكوناته على الظروف الموقوته زمانا ومكانا، بالرغم من ملامساتها اليومية المباشرة للوقائع الزمانية والمكانية، ولكنها الملامسة التي تنبثق عنها قيم ودلالات ذات طابع شمولي ما كان للمستشرقين أن يغافلوا عن أبعادها.
ثالثا: ردّ معطيات السيرة إلى أصول نصرانية أو يهودية:
إن هذا التصور (المسبق) يكاد يأخذ برقاب المستشرقين، ويضع بصماته العميقة على مناهجهم في التعامل مع وقائع السيرة وظاهرة النبوة.. ويحاول الدكتور جواد علي أن يبين الأسباب:«إن معظم المستشرقين النصارى هم من طبقة رجال الدين، أو من المتخرجين من كليات اللاهوت، وهم عندما يتطرّقون إلى الموضوعات الحساسة من الإسلام يحاولون جهد إمكانهم ردّها إلى أصل نصرانيّ، وطائفة المستشرقين من اليهود، وخاصة بعد تأسيس (إسرائيل) وتحكّم الصهيونية في غالبيتهم، يجهدون أنفسهم بردّ كل ما هو إسلامي وعربي لأصل يهودي، وكلتا الطائفتين في هذا الباب تبع لسلطان العواطف والأهواء» «1» .
ويلقي (طيباوي) مزيدا من الضوء على هذه العقدة المنهجية في العقل الاستشراقي وعلى دوافعها المذهبية، فيقول: «إن النظرة الأولى للإسلام
(1) تاريخ العرب في الإسلام: 1/ 9- 11.
تكشف مواضع شبه بين الإسلام والمسيحية، ولكن النظرة الفاحصة عن قرب تبرز خلافات أساسية وهذه الحقيقة كانت غالبا ما تثير المبشرين في الماضي، وما زالت تستميل قليلا في المجال الأكاديمي إلى التحايل على تصيّد مثل هذه الشوارد كأصول للإسلام.
وينزع المبشّر والباحث الأكاديمي إلى أن يتناسى وهو ينال من قدر محمد بطريق مباشر أو غير مباشر، كيف يقدس المسلمون الأتقياء المسيح.
وفي كتاب قريب من سلسلة بنغوين عمل مستشرق وهو قسيس أنجليكاني على عقد عدة مقارنات ليظهر أن الإسلام كان صورة غير محكمة أو مشوهة للمسيحية.. وهناك دارس آخر للإسلام هو أيضا من رجال الكهنوت (ويقصد به ولفرد كانتول سميث) يستحق الذكر هنا بوجه خاص بسبب تقديمه لمزيد من الجدل السطحي (spectulation) الذي يعرض للتشابه بين المسيحية والإسلام، وهو يكتب:«إن من أسباب تباعد الإسلام والمسيحيين بعضهم عن بعض أن كلا الفريقين قد أساء فهم عقيدة الآخر بمحاولته أن يضعها خلال طراز الاعتقاد الذي يؤمن به» «1» . وشأن كثير من التعميمات لا يبدو مثل هذا النص منصفا كما يحاول أن يكون، فإن المسيحيين وحدهم هم الذين ظلوا طوال القرون يحاولون فهم الإسلام- أو إساءة فهمه- من خلال اصطلاحات المسيحية، أما النظرة الأساسية للمسلم فقد ظلّت على حالها، لم تتغيّر على الدوام لأنها جزء من الوحي الإلهي في القرآن.
ولم يحاول مسلم مؤمن أن يدخل المسيحية في إطار آخر، والمسيحي لا يواجه في كتبه المقدسة قيودا صريحة تحجزه عن تقبل وجهة نظر المسلم في الإسلام، ومع ذلك فهو يرفض- لا رأي المسلم في المسيحية فحسب- بل رأيه في الإسلام أيضا، وهو يسعى جاهدا لتغيير الرأيين..
(1) المستشرقون الناطقون بالإنكليزية، مجلة the muslim world عدد تموز سنة 1963 م، ترجمة د. محمد فتحي عثمان، عن د. محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث، ص 593- 601.
وهذا مبشر قديم يحاضر في الشريعة الإسلامية بجامعة لندن، لا يبدي احتراما يذكر لذكاء القارئ، ويعلن في مقدمة مقال له: أنه يقدّم معلومات صحيحة لمعالجة الدراسة موضوعيا حتى يكون منصفا مدقّقا ولكن بعد هذا كله يكتب: (إنه لا يمكن أن يكون هناك شك على أي صورة أن محمدا قد تمثل أفكارا من التلمود وبعض المصادر المحرّفة، أما بالنسبة للمسيحية فإن هناك احتمالا طاغيا بأن محمدا قد استمدّ إيحاءه منها) .. ومن أجل تبيّن مدى موضوعية المبشّر المذكور يجب أن نقرأ هذه الكلمات التي وردت في ختام مقاله: (إن للعالم أن يرى ماذا سوف يحدث حين يعرض إنجيل المسيح الحي بالصورة الملائمة لملايين المسلمين) !! «1» .
وامتدادا لهذه الأزمة (المذهبية) التي تؤثر سلبا على نقاء المنهج الاستشراقي، يلمس المرء في معطيات المستشرقين تعاطفا مع العناصر والقوى المضادة للإسلام، ولنبيّه عليه الصلاة والسلام، ولا ريب أن ما يتمخّض عن هذا من (كراهية تضع جدرانا بين القوم وبين الفهم الصحيح لوقائع السيرة، وتصيب مناهج العمل بمزيد من التشنج.. وفرق كبير بين الحكم الذي يصدره قاض يقف موقفا محايدا بين طرفي القضية، والحكم الذي يصدره قاض يتعاطف مع أحد الطرفين ويكره الآخر أو يدينه ابتداء!!) .
الشواهد كثيرة، ويكفي أن يقرأ المرء كتابات مرغوليوث أو فلهاوزن أو بروكلمان ليرى بأم عينه اتساع هذا التيار في المعطيات الاستشراقية..
مثلا: نقرأ لدى بروكلمان هذا النص: «.. لم يطل العهد بمحمد حتى شجر النزاع بينه وبين أحبار اليهود. فالواقع أنه على الرغم مما تمّ لهم من علم هزيل في تلك البقعة النائية كانوا يفوقون النبي الأمي في المعلومات الوضعية وفي حدة الإدراك» «2» . ونقرأ: «كان على محمد أن يعوض خسارة
(1) المصدر السابق نفسه.
(2)
تاريخ الشعوب الإسلامية، ص 47.
أحد التي أصابت مجده العسكري، من طريق آخر ففكر في القضاء على اليهود؛ فهاجم بني النضير لسبب واه» «1» .
ويضرب فلهاوزن على الوتر نفسه فيقول: «لم يبق الإسلام على تسامحه بعد بدر، بل شرع في الأخذ بسياسة إرهاب في داخل المدينة. وكان إثارة مشكلة المنافقين علامة على ذلك التحوّل.. أما اليهود فقد حاول أن يظهرهم بمظهر المعتدين الناكثين للعهد، وفي غضون سنوات قليلة أخرج كل الجماعات أو قضى عليها في الواحات المحيطة بالمدينة؛ حيث كانوا جماعات متماسكة كالقبائل العربية، وقد التمس لذلك أسبابا واهية..» «2» .
ويظهر مرغوليوث عطفه- هو الآخر- على اليهود، ويرى أنّ اقتحام خيبر محض ظلم نزل باليهود، لا مسوغ له على الإطلاق: «عاش محمد هذه السنين الست ما بعد هجرته على التلصّص والسلب والنهب، ولكنّ نهب أهل مكة قد يسوّغه طرده من بلده ومسقط رأسه وضياع أملاكه، وكذلك بالنسبة إلى القبائل اليهودية في المدينة، فقد كان هناك- على أي حال- سبب ما، حقيقيا كان أم مصطنعا يدعو إلى انتقامه منهم، إلّا أن خيبر التي تبعد عن المدينة كل هذا البعد، لم يرتكب أهلها في حقه أو حق أتباعه خطأ يعتبر تعديا منهم جميعا، لأن قتل أحدهم رسول محمد لا يصح أن يكون ذريعة للانتقام، وهذا يبين لنا ذلك التطور العظيم الذي طرأ على سياسة محمد. ففي أيامه الأولى في المدينة أعلن معاملة اليهود كمعاملة المسلمين، لكن الآن (بعد السنة السادسة للهجرة) أصبح يخالف تماما موقفه ذلك، فقد أصبح مجرد القول بأنّ جماعة ما غير مسلمة يعد كافيا لشنّ الغارة عليها. وهذا يفسر لنا تلك الشهوة التي أثّرت على نفس محمد والتي دفعته إلى شنّ غارات متتابعة، كما سيطرت على نفس الإسكندر من
(1) المرجع السابق نفسه، ص 52.
(2)
الدولة العربية وسقوطها، ص 15- 16.
قبل ونابليون من بعد.. إن استيلاء محمد على خيبر يبين لنا إلى أي حد قد أصبح الإسلام خطرا على العالم» «1» .
بل إنهم ليتعاطفون مع العرب الوثنيين ضد الإسلام، بالرغم من أن الوثنية تمثّل موقفا رجعيا هو في بدء التحليل ومنتهاه: ضد التحضّر.. ويجد المرء نفسه مضطرا لعقد مقارنة بينهم وبين أسلافهم (زعماء يهود خيبر) الذين وقفوا أمام أبي سفيان وأصحابه من زعماء قريش يقسمون بالله أنّ دين الوثنية خير من دين محمد، وأنهم أولى بالحق منه «2» ، والهدف في الحالتين واضح لا ريب.
يقول بروكلمان: «لقد حالت الظروف بين الرسول وبين الشروع في شنّ حملة نظامية مباشرة على المشركين. فقد كانت فكرة الشرف العربية القديمة تمسك المهاجرين عن محاربة إخوانهم في قريش، في حين كان المدنيون غير شديدي الميل إلى تعكير صفو السلم مع جيرانهم الأقوياء.. حتى إذا كان شهر رجب الحرام وجّه جماعة من الغزاة بأوامر سرية فوقفت إلى مباغتة قافلة بالعروض، كانت حاميتها العسكرية تتقدمها مطمئنة إلى حرمة الشهر، فأصابت غنائم عظيمة عادت بها إلى المدينة. ولكن هذا النقض للقانون الخلقي القبلي لم يلبث أن أصاب عاصفة من الاستنكار في المدينة.
فما كان من محمد إلّا أن أنكر صنيع أتباعه الذي تم وفقا لرغباته بلا خلاف، وعزاه إلى سوء فهم لأوامره» «3» .
ويتمنّى نولدكه: «لو أن القبائل العربية استطاعت أن تعقد بينها وبين محمد محالفات عربية دقيقة للدفاع عن طقوسهم وشعائرهم الدينية، والذود عن استقلالهم، إذن لأصبح جهاد محمد ضدهم غير مجد. إلّا أن عجز
mahammed and the rise of islam.pp. 63 -202. (1)
(2)
ابن هشام: تهذيب، ص 211- 212، الواقدي: المغازي، ص 441- 443.
(3)
تاريخ الشعوب الإسلامية، ص 44.
العربي عن أن يجمع شتات القبائل المتفرّقة قد سمح له أن يخضع لدينه القبيلة تلو الآخرى، وأن ينتصر عليهم بكلّ وسيلة، فتارة بالقوّة والقهر، وتارة بالمحالفات الودّية والوسائل السلمية» «1» .
وعلى الرغم من أن العديد من أبناء هذه الطبقة من المستشرقين كشفوا بتعمقهم ونفاذهم وإحاطتهم- النقاب عن بعض الجوانب المضطربة الغامضة في تاريخنا الإسلاميّ عامة بما فيه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم بأخطائهم المنهجيّة التي عرضنا لبعض أنماطها، طرحوا الكثير من النتائج والآراء الخاطئة على مستوى الموضوع. وهذا أمر طبيعي، فالخطأ لا ينتج إلا الخطأ، والبعد عن الموضوعيّة لا يقود إلا إلى نتائج لا تحمل من روح العلم والجدية إلا قليلا.
ولن يتحمّل بحث موجز كهذا عرض وتحليل ومناقشة هذه الآراء والنتائج؛ فلهذا كلّه مجال آخر، وليس من نافلة القول الإشارة إلى أن هذه الآراء تمثل حصادا ضخما يمكن أن يجنيه كل دارس بتأنّ وروية لما كتبه هؤلاء المستشرقون عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حصاد يحمل في ثناياه كما رأينا عناصر تناقضه واضطرابه وخروجه على البحث العلمي المنهجي الدقيق.
ولكن القوم، إذا توخّينا الحكم الدقيق، ليسوا كلهم سواء؛ فقد شذّ عنهم بعض المستشرقين- ولكل قاعدة شواذ- وبالرغم من قلة هؤلاء بالنسبة للتيار الأوسع والأثقل، فإن صوتهم لم يضع، وقد مارسوا كشفا نقديا طيبا للكثير من أعمال رفاقهم في البحث، وألقوا الضوء على الثغرات والمطبّات التي وقعوا فيها.. وقد عرضنا لبعض مواقف هؤلاء: دينيه، وات، درمنغهم، أرنولد.. على الرغم من أن هؤلاء أنفسهم ما كانت رؤيتهم تصل أبدا درجة النقاء العلمي المطلوب، فهذا الأمر يكاد يكون مستحيلا!!
(1) تاريخ العرب للمؤرخين: 8/ 11.