المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الدعوة الإسلامية جاءت لكي تقلب مواضعات الحياة المكية، بما فيها - المستشرقون والسيرة النبوية

[عماد الدين خليل]

الفصل: الدعوة الإسلامية جاءت لكي تقلب مواضعات الحياة المكية، بما فيها

الدعوة الإسلامية جاءت لكي تقلب مواضعات الحياة المكية، بما فيها الاقتصادية، رأسا على عقب.

وحول الرواية المعروفة التي يوردها الطبري وابن هشام وغيرهما، والتي تتحدث عن اجتماع الزعامة القرشية لاتخاذ موقف نهائي من الرسول صلى الله عليه وسلم قبيل هجرته إلى المدينة، يثير (وات) شكّا جديدا: إن النية لم تنعقد على قتل محمد، ويستبدل بذلك- كعادته- افتراضا يراه، وهو أن محمدا ربما يكون قد رجم في مكة ذاتها بعد الاجتماع، وهو يطرح المسألة بالشكل التالي:«ليس هناك داع للشك بأنّ هذا الاجتماع قد عقد، وأن الحاضرين أدركوا أن محمدا يهيّئ مشاريع معادية لهم، كما يقول ابن إسحاق، وتوضح الحوادث التي وقعت فيما بعد بأن النية لم تنعقد على قتل محمد، لأنّ الاتفاق على ذلك لن يكون بالاجتماع كما تؤكده المصادر، ولربما كان وقوع الخطر يهدد محمدا وأتباعه برحيل محمد، ومن الصعب التأكّد من طبيعة الخطر الذي كان يهدد محمدا وأتباعه، فلقد أضيفت أشياء كثيرة على قصة الهجرة لتجميلها، حتى إن المصادر الأولى نفسها لم تخل من الإضافات، ولا يستبعد أن يكون محمد قد رجم في مكة ذاتها بعد الاجتماع» «1» .

‌4

إن (وات) الذي يعتمد- أحيانا- إثارة الشك في الواقعة التاريخيّة، أو نفيها إذا اقتضى الأمر، يسعى، بالاتجاه النقدي المبالغ فيه نفسه، إلى ما يقابل هذا ولا يقلّ عنه سوآ: افتراض وقائع أو استنتاجات معيّنة قد لا تدعمها حقائق السيرة ووقائعها، بل إنه يؤكد صدق رواية ضعيفة أو واقعة مدخولة ليس لها ما يؤيدها في حالة عرضها على التيار العام المتوحّد لتلك الحقائق والوقائع.

(1) المصدر السابق نفسه، ص 237.

ص: 67

إنه إذا كان في الحالة الأولى يشكّك فيما هو أقرب إلى الصدق، فإنه في الحالة الثانية يصدق ما هو أقرب إلى الكذب.. والموقفان في حقيقة الأمر وجهان لعملة واحدة؛ هي عملة النقد الذي يتجاوز حده الإيجابي البنّاء إلى الهدم والنفي والتشكيك.. إنه يفترض- مثلا- أن الآية التي تندّد برفض السجود عند تلاوة القرآن «1» إنما هي بادرة لبعض المعارضة في صفوف المؤمنين، أو إنها نوع من الارتداد عن الدين، وهو يستعمل هذه العبارة الافتراضية: «ولربما تخيّلنا أن الآية يمكن أن تكون تلميحا

إلى آخره» «2» .

كما يفترض أن «تجربة محمد في نخلة، عند عودته من الطائف «3» ، والتي هدأت من انحطاطه العصبي، مرحلة في حرمانه الثقة بالمجتمع الإنساني» «4» .

ولا داعي للتأكيد أن محمدا صلى الله عليه وسلم ما فقد الثقة يوما بالمجتمع الإنساني، ولا عانى من أي انحطاط عصبيّ، وإنما طرح قولته المعروفة مخاطبا الله سبحانه وتعالى:(إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي) ، والتي تتضمن معنى التماسك النفسي إزاء الأحداث، والثقة المطلقة بعون الله والاستعداد المتحدّي لمواصلة الطريق.

وعن سودة بنت زمعة زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم الثانية بعد خديجة، يقول (وات) : «نستطيع أن نفترض أنّ صلتها بمحمد كانت صلة خادم

(1) يشير بذلك إلى الآية 21 من سورة الانشقاق: (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) .

(2)

المصدر السابق نفسه، ص 211.

(3)

يشير وات بذلك إلى الآيات القرآنية التي تتحدّث عن سماع الجنّ للقرآن الكريم في سورة الأحقاف: (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) انظر الآيتين: 29- 30 من سورة الأحقاف.

(4)

محمد في مكة، ص 217.

ص: 68

بمخدومه» «1» كيف؟ لا أحد يدري.. وما هي الوقائع التي تؤكد هذا التصوّر المظلم؟ لا أحد يدري كذلك.. وهو يفترض أن استدعاء محمد صلى الله عليه وسلم للمهاجرين من الحبشة في السنة السابعة للهجرة كان بسبب رغبته في تقوية مركزة بالاعتماد على تأييد تلك الجماعة الصغيرة «2» .

والافتراضات كثيرة، والاعتماد على الضعيف الشاذّ منبثّ هنا وهناك، ولن يتسع المجال لمناقشتها أو حتى لاستعراضها.. ولكننا نريد أن نقف قليلا عند واحدة منها نظرا لخطورتها البالغة، ولكونها تمثل (نموذجا) واضحا لواحد من الأخطاء المنهجيّة التي يعاني منها البحث الاستشراقي:

الافتراض، وتبني الضعيف الشاذ ومحاولة ترصيعه وترصينه بعبارات التوثيق والتأكيد، بخلاف الروايات والوقائع التي يسعى إلى التشكيك بها، أو نفيها، حيث يحاول هدمها بعبارات التضعيف والتشكيك كما رأينا.

يقول (وات) - ولنلاحظ صيغ التأكيد التي يبثها في عباراته-: «نلاحظ واقعتين نستطيع أن نعدّهما أكيدتين: أولا: رتّل محمد في وقت من الأوقات الآيات التي أوحى بها الشيطان على أنها جزء من القرآن؛ لأنه لا يمكن أن تكون القصة قد اخترعها مسلمون فيما بعد أو دسها غير المسلمين.. ثم أعلن محمد فيما بعد أن هذه الآيات يجب ألّا تعدّ جزآ من القرآن، ويجب استبدال آيات بها تختلف عنها كثيرا في مضمونها.

والروايات الأولى لا تحدد الوقت الذي حدث فيه ذلك، والأقرب أن يكون ذلك قد وقع بعد بضعة أسابيع أو أشهر، وهناك واقعة ثالثة أو مجموعة وقائع نستطيع أن نكون واثقين منها؛ وهي أنه كان يجب على محمد تجاه معاصريه المكيّين أن يشير في القرآن للآلهة: اللات التي كانت معبودة الطائف، والعزّى المعبودة في نخلة بالقرب من مكة، ومناة التي كان معبدها

(1) المصدر السابق نفسه.

(2)

المصدر السابق نفسه، ص 181.

ص: 69

بين مكة والمدينة

ما تعنيه إذن الآيات الإبليسية أن الاحتفالات مقبولة في المعابد الثلاثة حول مكة، وأما معنى الآيات التي تقول بأن العبادة في هذه المعابد غير مقبولة فهي لا تحرم العبادة في الكعبة» .

«ويجب أن نعترف بأن الآيات التي صححت سورة النجم تمجّد الكعبة على حساب المعابد الآخرى، إلّا إذا افترضنا وجود آيات أخرى كانت تحرم ذلك، ثم رفعت فيما بعد من القرآن، ولكن ليس لدينا أي سبب يمكن الأخذ به، ومن المهم أن نتذكّر بهذا الصدد أن هذه المعابد قد هدمت عند صعود نجم محمد..» .

«وهكذا فإنّ قيمة الآيات الإبليسية مهمّة، فهل اعترف محمد بصحّتها لأنه كان يهم كسب الأنصار في المدينة والطائف وبين القبائل المجاورة؟

هل كان يحاول التخفيف من تأثير الزعماء القرشيين المعارضين له باكتساب عدد كبير من الأتباع؟ ذكر هذه المعابد دليل على أن نظرته أخذت في الاتساع (!!) » .

ويمضي (وات) إلى القول: «إن نسخ الآيات (الإبليسية) مرتبط بفشل التسوية (بين محمد وزعماء قريش) ، ولا شيء يسمح لنا بالاعتقاد أن محمدا قد استسلم لخداع المكيّين، ولكنه انتهى به الأمر إلى إدراك أن الاعتراف ببنات الله (كما كانت تسمى الآلهة الثلاثة وغيرها) يعني إنزال الله إلى مستواها. وعبادة الله في الكعبة لم تكن في الظاهر تختلف عن عبادته في نخلة والطائف وقديد. وهذا يعني أن محمدا لم يكن يختلف كثيرا عن كهّانهم، وأنه لم يكن يرى نفسه مدعوا لأنّ يكون تأثيره أعظم من تأثيرهم، ينتج عن ذلك: أن الإصلاح الذي عمل له من كل قلبه لن يتحقّق.

«وهكذا لم يرفض محمد عروض المكيّين لأسباب زمنيّة، بل لسبب دينيّ حقيقي؛ ليس لأنه لم يثق بهم مثلا، أو لأنه لم يبق شيء من مطامحه

ص: 70

الشخصية، بل لأن الاعتراف بالهتهم يؤدي إلى فشل قضيته والمهمة التي تلقّاها من الله، ولا شك أنّ الوحي قد نبّهه إلى ذلك، كما أنه من الممكن أن يكون قد شعر بخطئه بهذا الصدد قبل نزول الوحي..» «1» .

ويخلص (وات) إلى تركيز المسألة بالشكل التالي: «ولا شكّ أن محمدا قد نال نجاحا أمام زعماء قريش ليهتموا بأمره، فظهرت المحاولات لحمله على الاعتراف بصورة أو أخرى بالعبادة في المعابد المجاورة، وكان في أول الأمر مستعدا لذلك بسبب المنافع المادية (!!) ، ولأنه كان يشعر أنّ ذلك يساعده على تحقيق مهمته بسهولة، ثم أدراك شيئا فشيئا عن طريق النصح الإلهي أنّ ذلك كان تسوية مميتة، فأعدّ مشروعا لتحسين وسائله بالمحافظة على الحقيقة كما تظهر له، فأعلن رفض الشرك بألفاظ شديدة تغلق الباب في وجه كل تسوية» «2» .

إن هذه الواقعة المدخولة (التي تسمى أيضا بحديث الغرانيق) والتي يفترض (وات) أنها أكيدة، تحمل عناصر تناقضها واضطرابها وتهافتها.

إنها تعني: أن محمدا صلى الله عليه وسلم يمكن أن يخطئ، أو يتقبّل الخطأ، ولكن في ماذا؟ في أشد الأمور في دعوته وضوحا، وصرامة وجدّية، واستعصاء على الغموض، أو الخطأ أو التنازل أو المساومة: التوحيد المطلق لله، ورفض الوثنية رفضا جازما قاطعا لا يقبل مهادنة أو اعترافا..

إن (وات) نفسه يؤكد هذا المعنى، ولكن في تسويغ النسخ الذي تعرض له الموقف وليس في نفي الواقعة نفسها أو التشكيك فيها كما كان يجب أن يكون، ولا سيما بالنسبة لرجل يتميّز بالمهارة في النفي والتشكيك بالاستناد إلى ما يمكن اعتباره أدلة مقارنة أو مقنعة!!

(1) محمد في مكة، ص 166- 168.

(2)

المصدر السابق نفسه، ص 176- 177.

ص: 71

ثم إن (وات) الذي أعلن في مقدمته أنه سيمتنع عن استعمال تعبير مثل:

«قال تعالى» ، أو «قال محمد» ، بل «يقول القرآن» يعتمد ها هنا صيغا وتعابير يخالف فيها عما أكده في مقدمته، ويوحي للقارئ بأنّ محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذي يرتب آيات القرآن وفق ما تقتضيه الظروف!! فنحن نقرأ عبارات كهذه:

«أعلن محمد أن هذه الآيات لا يجب اعتبارها جزآ من القرآن، ويجب استبدال آيات بها تختلف عنها في مضمونها» ، «كان يجب على محمد أن يشير في القرآن للآلهة اللات» ، «إن ذكر المعابد في الآيات الإبليسية دليل على أن نظرته أخذت في الاتّساع» !!.

وهذا تناقض آخر.. فإنّ (وات) ما يلبث أن يبيّن خطأ هذا الموقف وتعارضه مع المهمة الأساسية التي تلقّاها محمد عن الله؛ وهي التوحيد..

وحتى على المستوى الشخصيّ فإن الاعتراف بالآلهة كان سينزل بمحمد صلى الله عليه وسلم كما يقرّر وات- من مرتبة النبوة المتفردة إلى أن يكون مجرد كاهن من كهان العرب!! فأيّ اتساع هذا في النظرة من خلال اعتراف بالأصنام يقود إلى نتائج سلبيّة واضحة كهذه؟

ولنرجع إلى رواية (الآيات الإبليسية) أو قصة الغرانيق التي أوردها ابن سعد في طبقاته والطبري في تاريخه وبعض المفسّرين.. إلّا أن رواياتهم، كما يقول ابن كثير في تفسيره:«من طرق مرسلة كلّها، ولم أرها مسندة من وجه صحيح» !!

«وأكثر هذه الروايات تفصيلا وأقلّها إغراقا في الخرافة والافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية ابن أبي حاتم (التي ينتهي سندها إلى ابن شهاب) قال:

أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه

ص: 72

ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنه ضلالهم، فكان يتمنى هداهم، فلما أنزل الله سورة النجم قال:(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان عندها كلمات فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهنّ لهي التي ترتجى

فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وتباشروا بها وقالوا: إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه، فلمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم سجد، وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك.. فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود.. فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين.. فاطمأنت أنفسهم- أي: المشركون- لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدّثهم به الشيطان: أن رسول الله قد قرأها في السورة، فسجدوا لتعظيمهم آلهتهم.. ثم نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته، وحفظه من الفرية وقال: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ

)

إلخ، فلما بيّن الله قضاءه وبرّأه من سجع الشيطان، انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم على المسلمين، واشتدّوا عليهم..» وهناك روايات أخرى أجرأ على الافتراء، تنسب قولة.. الغرانيق تلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلل هذا برغبته- حاشاه- في مراضاة قريش ومهادنتها!!

وروايات الحادثة جميعا مرفوضة منذ الوهلة الأولى.. فهي فضلا عن مجافاتها لعصمة النبوة وحفظ الذكر من العبث والتحريف، فإن سياق السورة ذاته ينفيها نفيا قاطعا، إذ إنه يتصدّى لتوهين عقيدة المشركين في هذه الآلهة وأساطيرهم حولها، فلا مجال لإدخال هاتين العبارتين في سياق السورة بحال، حتى على قول من قال: إن الشيطان ألقى بها في أسماع المشركين دون المسلمين، فهؤلاء المشركون كانوا عربا يتذوّقون لغتهم، وحين يسمعون هاتين العبارتين المقحمتين ويسمعون بعدهما:(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ

ص: 73

إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) ، ويسمعون بعد ذلك:(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ، ويسمعون قبله (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) .. حين يسمعون السياق كلّه فإنهم لا يسجدون مع الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الكلام لا يستقيم والثناء على آلهتهم، وتقرير أن الشفاعة ترتجى لا يستقيم، وهم لم يكونوا أغبياء كغباء الذين افتروا هذه الروايات التي تلقفها منهم المستشرقون مغرضين أو جاهلين «1» .

و (وات) لا يكتفي بافتراض صحّة حديث الغرانيق هذا، بل يوسّع هذا الافتراض، فيا بني على عدد من الآيات التي تدعو إلى التوحيد ورفض الشرك، من مثل:(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ)«2» هذه النتيجة التي يطرحها بصيغة التأكيد:

«الاعتقاد بأنّ محمدا عانى من إغراء التسوية مدة طويلة» «3» .

ولا نريد أن نمضي في مناقشة هذا الاستنتاج، كما لا نريد أن نعرض لافتراضات (وات) بصدد ظاهرة (الوحي)«4» . لأن هذا يخرج بنا عن دائرة (الاستشراق والسيرة) إلى مواقف الاستشراق من (القرآن الكريم) ، ولكننا فقط- نلمح إلى افتراض آخر للرجل الذي حاول جهده أن يدرس السيرة بأكبر قدر من الأمانة والموضوعية والحيادية والإخلاص..فماذا تكون النتيجة؟ «يجب (بهذا التأكيد الذي لم يمارسه وات تجاه العديد من الوقائع

(1) سيد قطب: في ظلال القرآن، جزء 27، ص 634- 636، المجلد السابع، ط 5 (دار إحياء التراث العربي، بيروت- 1967 م) .

(2)

الأنعام: 71.

(3)

محمد في مكة، ص 174- 175.

(4)

انظر: المرجع السابق، ص 85- 87.

ص: 74