المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌3 مع بداية القرن، ونجاح الثورة البلشفية في روسية، بدأ يطل - المستشرقون والسيرة النبوية

[عماد الدين خليل]

الفصل: ‌ ‌3 مع بداية القرن، ونجاح الثورة البلشفية في روسية، بدأ يطل

‌3

مع بداية القرن، ونجاح الثورة البلشفية في روسية، بدأ يطل موقف جديد إزاء رسولنا عليه الصلاة والسلام، وتاريخنا الإسلامي بعامة، ينبثق عن التفسير المادي للتاريخ، ويسعى إلى إخضاع حقائق السيرة لمقولاته الصارمة.. يفصلها على مساحات منهجه المرسوم سلفا.. يقطع أوصالها لكي يرفض وينفي ويستبعد ما لا ينسجم ومطالب هذا المنهج، ويأخذ ويستبقي ما ينسجم وهذه المقولات.. وتحسب ما يأخذ مما يدع فلا يعدو أن يكون واحدا من عشرة في حساب الأرقام.

وإذ كانت وقائع السيرة تتأبّى على تحليلهم ومحاولاتهم القسرية، فإنهم يزدادون شططا في التقطيع والتمزيق وفي التفسير والتأويل، حتى لقد وصل الأمر بهم إلى أن يبلغوا حدّ المجّانيّة في التعليل والتحوير لتحقيق التطابق المرتجى بين الوقائع والفلسفة. الأمر الذي جعل أحدهم ينقض رأي الآخر وينحرف بتحليله في اتجاه نقيض تماما، على الرغم من أنهم تلامذة مدرسة واحدة، ورؤية مشتركة للتاريخ، ولكن لا بأس؛ فما داموا من المؤمنين بفلسفة النقيض فليتصد أحدهم للآخر، ولينقض بعضهم رأي الآخر، فلابدّ أنهم واصلون يوما قصدهم المرتجى.

لننظر على سبيل المثال إلى بعض ما قالوه، وهو كثير بصدد سيرة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: «لقد رأى بعضهم أن المجتمع العربي (في مكة والمدينة) شهد بداية تكوين مجتمع يمتلك الرقيق، بينما يرى (بيجو لفسكايا) أن القرآن يشعر بتركّز مرحلة ملكيّة الرقيق ويذهب مع (بلاييف) إلى أن المرحلة الإقطاعية هي من آثار اتصال العرب بالشعوب الآخرى. هذا ويرى آخرون أن المجتمع الإقطاعي بدأ بالتكون فعلا، ويتبع هذا قلق في التفسير؛ فمنهم من يرى أن الإسلام يلائم مصالح الطبقات المستغلّة الجديدة من ملاك

ص: 39

وأرستقراطية الإقطاع مثل (كليمو فيج) ، ومنهم من يراه في مصلحة أرستقراطية الرقيق فقط. في حين أن البعض مثل (بلاييف) يرى أن الإسلام المتمثل بالقرآن لا يلائم المصالح السياسية والاجتماعية للطبقات الحاكمة، فلجأ أصحابه إلى الوضع في الحديث لتسويغ الاستغلال الطبقي الجديد.

وفي حين أنّ بعضهم يقول: إن الأرستقراطية وحّدت القبائل العربية لتحقيق أغراضها، يقول غيره: إن القبائل كانت تتوثب للوحدة، فجاء الإسلام موحدا يعبر عن ذلك التوثّب.

ويضطرب الموقف من منشأ الإسلام ذاته، فبينما يدعي (كليموفيج) أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم واحد من عدة أنبياء ظهروا وبشّروا بالتوحيد، وأراد توحيد القبائل.. يذهب (تولستوف) إلى نفي وجود النبي العربي صلى الله عليه وسلم. ويعده شخصية أسطورية. وبينما يعترف البعض بظهور الإسلام يذهب (كليموفيج) إلى أن جزآ كبيرا منه ظهر فيما بعد في مصلحة الإقطاعيين، ونسب أصله إلى فعاليات معجزة لمحمد، وتجاوز (تولستوف) إلى أن الإسلام نشأ من أسطورة صنعت في فترة الخلافة لمصلحة الطبقة الحاكمة، وهي أسطورة مستمدة من اعتقادات سابقة تسمى الحنيفية» «1» .

ألا يقترب هذا أن يكون دينا جديدا، لا يقل عن النصرانية- يومها- حقدا على الإسلام وكراهية لنبيه عليه الصلاة والسلام، وبعدا عن المنهجيّة في التعامل مع الوقائع والأحداث؟ وأتباع المدرسة المادية أليسوا هم رهبانا جددا في موقفهم من رسولنا عليه الصلاة والسلام وتاريخنا؛ غيّروا أزياءهم ولكنهم ظلوا من داخل نفوسهم رهبانا ينتمون للكهنوت المادي الجديد الذي ما كان تدخينه على الرؤية النقيّة إزاء سيرة رسولنا عليه الصلاة والسلام بأقلّ كثافة من الدخان الذي أثاره رجال النصرانية الأوائل؟.

(1) انظر بالتفصيل: عبد العزيز الدوري ورفاقه: تفسير التاريخ، ص 14- 16.

ص: 40

هذا أحد أبناء الكنيسة المادية: بندلي جوزي «1» ، يقول محللا بعض مواقف رسولنا عليه الصلاة والسلام:«إن سياسة النبي مع المكيين قد تغيّرت كثيرا في المدينة تحت تأثير عوامل جديدة أوجدتها الظروف، وأدى إليها الاختيار وحب النبي لوطنه الأصلي وأهله وذويه، إلى غير ذلك من الانفعالات النفسيّة والعوامل السياسيّة التي ظهرت بعد موقعتي بدر، وأحد، وحصار المدينة، وكان من نتائجها أن النبي أخذ يلطّف من سياسته نحو إخوانه المكّيين. كما أن أصحاب السلطة في مكة رأوا- بعد ما أصابهم في موقعة بدر، وبعدما لحق بتجارتهم من الخسائر- أن يتساهلوا في أمور كثيرة مع النبي على شروط تضمن بقاء الكعبة والحج وعكاظ على ما كانت عليه قبل الإسلام، وأن يشملهم بالعفو ويشركهم في عمله الجديد الذي أخذوا يتوقّعون منه خيرا. وربّما كان من شروط التفاهم «2» أن يبقى النبي في المدينة، وألّا يتعرض في كلامه لأمورهم المادية.

فكانت الحديبية وسياسة (تأليف القلوب)، أو بعبارة أخرى: سياسة التسامح والتساهل المتبادل، فصار الناس (يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً) لا عن اعتقاد بصحة الدين الجديد الذي لم يكونوا يعرفون عنه إلا الشيء القليل، بل عن رغبة في التقرب من أصحاب السلطة الجدد، وحفظا لمراكزهم القديمة وثروتهم المجموعة في أجيال. يخيل لي- يقول جوزي أن من جملة الشروط التي اتفق عليها الطرفان في الحديبية- أو في زمان أو مكان آخرين- أن يكف النبي عن الطّعن في الملأ المكي، وألا

(1) بندلي جوزي (1871- 1942 م) : نصراني من أهل القدس، تخصّص في قازان باللغات السامية والدراسات الشرقية، وتولى التدريس في معهد الرهبان، ثم في جامعة قازان، ثم في جامعة باو إلى أن توفّي. وقد عده المستشرقون الروس مرجعا من مراجعهم:(عن كتاب نجيب العقيقي: المستشرقون: 3/ 931) .

(2)

أي تفاهم هذا؟ وفي أي مكان وزمان تم؟ وأية رواية أوردته؟ وفي أي مصدر على الإطلاق؟

ص: 41

يحرض صعاليك العاصمة الحجازية وأرقائها عليه، وهذا على ما يظهر لي أحد أهم أسباب خلوّ السّور المدنية ولا سيّما تلك التي نزلت في الدور الأخير، من العبارات القارصة والطعن في سكان مكة «1» . وهناك سبب آخر لا يقل خطورة عن الذي ذكرناه الآن؛ وهو حالة النبي الاجتماعية في المدينة تغيّرت- كما هو معلوم- تغيرا ظاهرا أدّى إلى تغيير نفسيّته فكان من نتائج هذا التغيير ومن الأسباب التي ذكرنا بعضها وغيرها مما لم نذكر (؟) أن بعض إصلاحات النبي الاجتماعية والدينية جاءت مبتورة وفيها شيء مما يدعوه الأوربيون: التساهل» «2» .

ويمضي بندلي جوزي إلى القول: «بأن الدّور المكّي كان دور تمهيد واستعداد، دور بث دعوة جديدة بين طبقات الأمة، ودور حرب ونزاع كلاميّ بين رجل ثابت في مبادئه مخلص في عمله، وبين طبقة من الناس شعرت بالخطر على ثروتها وزعامتها في البلاد فهبت تقاوم ذلك الرجل وتناوئه.. دور جهود وأحلام لو تحققت كلّها لقلبت البلاد رأسا على عقب، ما أجمل هذا الدور وما أعظمه، وما أحلى تلك الأحلام والمساعي التي بذلت في تحقيقها، وأما الدور الثاني فكان دور عمل وتنظيم، ودور حروب وافتتاحات، ودور سياسة ومكاشفات أدت إلى تساهل من الطرفين، ومعنى التساهل في مثل هذه الثورات الاجتماعية هو التنازل عن بعض المطالب أو المبادئ أو التلطف في الطلب، والرجوع عن بعض الأفكار، أو وضعها في قالب يرضاه الفريقان، وهذا ما كان من

(1) هذا غاية ما يمكن أن يصل إليه مؤرّخ من خروج على مستلزمات البحث العلمي، وعبث صريح بالوقائع التاريخية، وإلا ففي أي زمان ومكان وضعت هذه الشروط؟ وأين هي من شروط صلح الحديبية التي توافرت بنصوصها الحرفية في كافة المصادر والمراجع؟!.

(2)

من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام، ص 49- 50.

ص: 42

أمر النبي العربي ورئيس جمهورية مكة (أبي سفيان) الخبير المحنّك الذي كان يتكلّم بلسان الملأ المكّي، هذا يعترف بسيادة النبي الروحية والعالمية ويهجر الأوثان ويؤدّي الزكاة ويقيم الصلاة، وذاك يتعهد أن تبقى مكة مركز البلاد العربية الديني، وأن يجعل لأعيان مكة وقادة أفكارها حظّا في إدارة المملكة أو الجمهورية الروحية الجديدة، وأن يتركهم وشأنهم يتاجرون ويعيشون كما يشاؤون، أما الفريق الثالث، أي: الفقراء، وهو الطرف الذي استعرت الحرب لأجله وظهرت الدعوة لتحسين أحواله؛ فقد أرضوه في بادئ الأمر بشيء من الصدقات والزكاة، ثم نسوه أو تناسوه بعد وفاة النبي وخلفائه الأولين، فرجع إلى حالته الأولى بل إلى ما هو أسوأ منها» «1» .

ويقول في مكان آخر: «لا شك أن النبي العربي لم يقصد بأقواله وأفعاله في مكة والمدينة إلى أن يستأصل أسباب الشر الاجتماعي، ويقتل جميع جرائمه، كما يحاول أن يفعل اليوم جماعة الاشتراكيّين على اختلاف أسمائهم ونزعاتهم، بل كانت غايته الكبرى أن يخفف من وطأة تلك الأمراض على بعض طبقات الناس ممن خلقوا بعد قسمة الأرزاق أو وقعوا في الفقر والرقّ لأسباب لم يقو على مقاومتها. وإلّا فلو أراد أن يقتل جراثيم الأمراض الاجتماعية كلها لكان لجأ بعد أن أصبح صاحب الأمر والنهي في جزيرة العرب إلى وسائل غير تلك التي ذكرناها» .

«وما مثل النبي من هذا الوجه إلّا مثل الأنبياء الذين سبقوه؛ أي: أنه فضل استعمال الوسائل الأدبية- إلا فيما ندر من الظروف- على غيرها من الطرق التي لجأ إليها في عصرنا بعض مصلحي وسياسيي أوربة كلينين

(1) المصدر السابق نفسه، ص 51- 52.

ص: 43

وموسوليني وغيرهما. وعليه يمكننا أن نقول: إنّ محمدا أجاد في وصف الأمراض الاجتماعية العربية وتعدادها أكثر منه في علاجها واستئصال جراثيمها» «1» .

وغير (بندلي جوزي) كثيرون.. وهم- للأسف- قد ازدادوا عددا مع الأيام، وكثّر من سوادهم تلامذتهم المنتشرون ها هنا في الشرق بين ظهرانينا، على الرغم من أنهم محسوبون ظاهرا- على ديننا وعقيدتنا- ولكنها (موضة) منهجية إذا صحّ التعبير، وتؤول إلى انحسار كما انحسرت من قبلها مدارس ومناهج وآراء وأفكار وفلسفات كانت قد سيطرت على المؤسسة والشارع في بلادنا تقليدا لهذا الفكر الدخيل أو ذاك، وتمسكا بهذا المنهج الوافد أو ذاك، ولكنها لهجانتها وغربتها عن الأرض التي تحركت فيها سرعان ما ذبلت وتيبّست وعصفت بها رياح الزمن

والذي يتبقى أبدا هو المنهج الأصيل.

وها نحن نشهد تكسّر الموجة الجديدة، وتحوّل دعاتها أنفسهم إلى مواقف أكثر موضوعية واعتدالا بعد أن رأوا خطل ما كانوا فيه.

والذي يتبقّى، بعد هذا كلّه، بعد موجات الرهبان والمستشرقين والمادّيين.. بعد غبارهم الذي أثاروه ودخانهم الذي حجبوا به الرؤية الصافية.. الذي يتبقّى هو وقائع السيرة نفسها كما تكونت يومها في الزمان والمكان.. ويتبقى الشخصية الفذة لصانع هذه الوقائع وقائدها في الزمان والمكان.. رسول اختارته عناية الله لقيادة البشرية صوب الغد المرتجى..

ومع الرسول عليه الصلاة والسلام جيل من الرواد حملوا شرف الانتماء، واستجابوا للتحدّيات، وقدروا على أن يطووها بما يشبه الإعجاز، فليست

(1) المصدر السابق نفسه، ص 44- 45.

ص: 44

مناهج الرهبانية النصرانية والعلمانية الاستشراقية والمادية التاريخية بقادرة على إدراك البعد الحقيقيّ لهذا العصر الذي غيّر مجرى التاريخ.

كما أنهم ليسوا بقادرين على طمسه وتزييفه..

والذي يدرك هذا البعد ويستعيد جوهره النقي.. هم أبناء الإسلام وحدهم، وليس غيرهم أبدا من يقدر على حمل الأمانة وأداء الدور.

ص: 45

محمد في مكة (1)

ص: 47