الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و (وات) من جهة أخرى يشير إلى إمكان اعتماد الأحاديث الأولى كمصادر تتمم المعطيات القرآنية في المساهمة لفهم تاريخ الفترة المكية..
وهذا أمر معروف ومتفق عليه.. إلّا أنّ الرجل ما يلبث بعد قليل أن ينقض هذه المقولة بالتشكيك في حجية الأحاديث هذه المرة، «ربما بدا في بعض الأحيان- يقول وات- أنني عمليا أقل تعلقا بالحديث من أولئك الذين هم أكثر منّي شكا فيه» «1» .
على الرغم من أنه كان قد طرح في مقدّمة كتابه نفسها موقفا أكثر اعتدالا من الحديث؛ حيث قال: «لما كنت أبحث في خلفية حياة محمد وفترته، فقد تقدّمت في الفكرة القائلة بأن الأحاديث يجب أن تقبل عامة، وأن تؤخذ بحذر، وأن تصحح قدر الإمكان في المسائل التي نشكّ فيها بوجود (تلفيق مغرض) ، ولكن يجب ألّا ترفض رفضا باتا إلّا إذا وقع تناقض داخلي بينها» «2» .
3
و (وات) أسوة بجلّ الباحثين الغربيّين، يأخذ بالمفهوم الغربي الحديث للنمو التاريخي للأديان، أي أنّ الرسول أو النبي يعمل وفق المقتضيات المرحليّة لكل فترة تاريخية، ومن ثم فإن منظوره للدين إنما هو وليد مواضعات تلك الفترة؛ فهو لا يملك- ابتداء- رؤية شمولية عن إبعاد دوره كنبي، وعن الملامح النهائية للعقيدة التي جاء لكي يبشر بها.. فمحمد صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال- ما كان يعرف في المرحلة المكية أن الدعوة الإسلامية هي دعوة عالمية، بل ما كان يعرف أنها دعوة للعرب جميعا، ولم يتبين له
(1) المصدر السابق نفسه، المقدمة، ص 13.
(2)
المصدر السابق نفسه، المقدمة، ص 11- 12.
ذلك إلا في فترات تالية ووفق الظروف التاريخيّة التي كان يجتازها حينا بعد حين، وقد يلتبس هذا المفهوم الوضعي الخاطئ للدين كحركة شاملة ذات أهداف محدّدة ابتداء، مع واحدة من أشدّ الحقائق أهمية في مسيرة الأديان تلك؛ هي أنّ كل دين سماويّ لا يتنزل دفعة واحدة ويطلب من المؤمنين به الالتزم بكافة واجباته ومنهياته مرة واحدة، إنّما يتنزل على مراحل، وينبني تدريجيا عبر مدى زمني قد يطول وقد يقصر، وهو خلال صيرورته تلك، يتعامل مع المراحل التاريخية وفق معطياتها المرحلية لكي يقدر على مد الجسور وإقامة الحوار وتحقيق التأثير المطلوب. هذا إلى أن النمو العقيدي، وفق هذا المنظور الحركي، يحقق من النتائج الإيجابية ويا بني من القيم ويعزّز من المبادئ ما لا يتحقق عشر معشاره في حالة التنزل الكامل دفعة واحدة.. ولهذا تنزل القرآن الكريم على مراحل، وهو يقولها بوضوح:
(وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا)«1» .
وراح من خلال تنزّله ذاك على مراحل، يا بني الإنسان المسلم والجماعة المسلمة خطوة خطوة، ولبنة لبنة، من أجل أن يستقيم البناء، ويقدر عن طريق الالتحام بين التعاليم والتاريخ أن يحقّق هدفه حركيا.. وليس وفق طرائق الجدل النظري واللاهوت.
ولكن هذا لا يعني البتة أن الأنبياء عليهم السلام ما كانوا يرون أبعد من مواطئ أقدامهم.. وأنهم ما كانوا يعرفون سوى مطالب المرحلة الزمنية التي يعملون خلالها كما يرى المفهوم الغربي للتطور التدريجيّ.
إن (وات) يقع في إسار هذا المفهوم بسبب من كونه ابن بيئته الثقافية، لكي ما يلبث أن ينفذه في أكثر من مكان من كتابه عن (محمد) فيقع في حشد من الأخطاء.
(1) الإسراء: 106.
فهو يقول- مثلا- معلقا على أقصوصة اعتراف الرسول صلى الله عليه وسلم بأصنام قريش الثلاثة (اللات والعزى ومناة)، عبر مساومته مع الزعامة القرشية فيما يعرف (بالآيات الإبليسية) التي سبق وأن ناقشنا تبنّيه لها في مكان آخر:«عد الفقهاء المسلمون الذين ظلوا بعيدين عن المفهوم الغربي الحديث للنمو التدريجي محمدا على أنه قد أخبر منذ البدء بالمضمون الكامل لعقيدة الإسلام، فكان من الصعب عليهم أن لم ير محمد خروج الآيات الإبليسية على عقيدة الإسلام (!!) والحقيقة هي أن توحيده كان في الأصل، كما كان توحيد معاصريه المثقّفين، غامضا، ولم ير بعد أنّ قبول هذه المخلوقات الإلهية (!!) كان يتعارض مع هذا التوحيد. لا شك أنه يعد اللات والعزى ومناة على أنها كائنات سماوية أقل من الله، كما اعترفت اليهودية والمسيحية بوجود ملائكة. ويتحدّث القرآن عنها في الفترة (الأخيرة) ؟ المكية باسم الجن وإن كان يتحدث عنها في الفترة المدنية على أنها مجرد أسماء، إذا كان ذلك فليس من الضروري اكتشاف سبب خاص للآيات الإبليسيّة، فهي لا تدل على أيّ تقهقر واع للتوحيد، بل هي تعبير عن النظريات التي دافع عنها دائما محمد» «1» .
أية فوضى فكرية هذه؛ وأيّ تصوّر مضطرب متهافت للدين، لا هو بالمادي فيرفض الحقيقة الدينية، ولا هو بالمؤمن فيعترف ببداهتها ومسلماتها؟!
لقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم كما بعث سائر الأنبياء عليهم السلام من قبله، بعقيدة واضحة كل الوضوح، صارمة أشد الصرامة، مستقيمة بيّنة لا تقبل نكوصا أو التواء، ولا تقبل تغيّرا أو تطورا تدريجيا: إنها شهادة ألاإله إلّا الله، بكل ما تعنيه هذه الشهادة من تسليم كامل بالألوهية المتفرّدة الواحدة، ورفض للتعدد بشتى صيغه وأشكاله:
(1) محمد في مكة، ص 170.
(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)«1» .
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ)«2» .
(قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)«3» .
(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)«4» .
(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)«5» .
(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)«6» .
(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ)«7» .
(1) الأعراف: 59.
(2)
الأعراف: 65.
(3)
الأعراف: 71.
(4)
الأعراف: 73.
(5)
الأعراف: 85، وانظر: هود: 50، 61، 84، النمل: 60، 61، 62، 63، 64.
(6)
هود: 54.
(7)
النحل: 2.
(وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)«1» .
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)«2» .
منذ اللحظات الأولى كان محمد صلى الله عليه وسلم يدرك أوضح الإدراك وأعمقه القاعدة التي سينطلق منها لدعوة الناس إلى الدين الجديد، والشعار الذي سيرفعه بمواجهة العالم، والهدف المحوري الذي سيسعى لتجميع المنتمين إليه:
شهادة لا إله إلّا الله:
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)«3» .
(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ)«4» .
(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)«5» .
(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)«6» .
(وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)«7» .
(1) النحل: 51.
(2)
الأنبياء: 25.
(3)
التوبة: 129.
(4)
الرعد: 30.
(5)
الكهف: 110.
(6)
الأنبياء: 108.
(7)
القصص: 88.
(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)«1» .
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ)«2» .
(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا)«3» .
(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)«4» .
(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)«5» .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم موضحا القاعدة التي ينطلق منها، والهدف المركزي الذي يسعى إليه:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألاإله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلّا بحقّ الإسلام وحسابهم على الله» «6» .
القاعدة المحوريّة الثابتة، الواضحة، الصارمة التي ظلّ الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إليها ويقاتل الجاهلية عليها، ويا بني أمته ودولته على أساسها.. وكان يعرف جيدا بوحي الله وتسديده أنّ أيّ انحراف عن هذا المفهوم، بأي قدر
(1) ص: 65.
(2)
محمد: 19.
(3)
المزمل: 9.
(4)
البقرة: 133.
(5)
التوبة: 31.
(6)
البخاري، تجريد: 1/ 13 (طبعة سنة 1931 م) .
وفي أي اتّجاه، ومن أجل أيّ هدف، يعني التفريط بعصب العقيدة وضياع وجهها وملامحها.. ولذا كان صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا وكما أكّد وكرّر جلّ الباحثين في تاريخ النبوة- مستعدا للقاء مع قريش في كل شيء إلا في هذه، وللحوار والانفتاح على أي شيء إلّا على هذه، ولإقامة الجسور بين الأطراف كافة للوصول إلى أي شيء مشترك إلّا في قضية التوحيد المطلق الذي هو قاعدة الدين وعصب الدعوة، وأساس العقيدة التي بعث لكي يحقّقها في العالم.
وإذا حدث فيما بعد، على المستوى الزمني، أن تنزّلت آيات القرآن لكي تواصل البناء العقيدي، وتمدّ آفاقه وتزيد معطياته غنى.. فإنّ هذا لا يعني حدوث تطور تدريجي بالمفهوم الغربي للتطور.. فإن الأساس العقيدي هو الأساس وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلّ على بيّنة من الأمر إزاء هذا الأساس، وكل الذي كان يحدث هو إضافة معطيات جديدة تنبثق عن القاعدة نفسها وتبني على محورها الثابت الواضح.
وثمة تفريق آخر يجب أن يكون واضحا في الأذهان: إنّ العقيدة غير الشريعة، صحيح أن هذه تقوم على تلك وتنبثق عن مقولاتها، وتكسب صيغها من معادلات العقيدة نفسها، ولكنها تجيء فيما بعد تتضمّن حشدا من الجزئيات التنفيذية التي لم يكن النبي- أيّ نبيّ- يعرف عنها مقدما..
أمّا العقيدة فهي تصوّر أساسيّ شامل للكون والحياة والمصير، فإن لم يكن النبي يعرف مقدما أبعاده وخصائصه وأسسه؛ فكيف يبدأ دعوته مجابها بها الإنسان والعالم والطبيعة والتاريخ؟!
ولقد ناقشنا من قبل تهافت ما أسماه (وات) بالآيات الإبليسيّة التي تحكي عن اعتراف الرسول صلى الله عليه وسلم بالأصنام مقابل اعتراف الجاهليّين بالله الواحد!! وسقوطها بالضرورة.. ولكننا نرجع إليها مرة أخرى مضطرّين؛ لأن (وات) يدافع من خلالها عن الرسول صلى الله عليه وسلم دفاعا ملتويا لا ندري إن كان متعمدا خبيثا، أم كان استمرارا طبيعيا لنظرية الغربيّين إياها عن التطور التدريجي للدين.
إنه يقول بأن ليس من حق أصحاب محمد أن يستغربوا قبوله اللات والعزى ومناة، وأنه لم ير في ذلك خروجا على عقيدة الإسلام!! إذ كان عليهم ابتداء أن يدركوا بأنّ نبيّهم لم يكن يعرف يومها المضمون الكامل لعقيدة الإسلام.
بل إنّ (وات) يمضي خطوة أخرى بهذا الاتجاه، فيرى أن توحيد محمد كان في الأصل غامضا تماما، كما كان توحيد معاصريه المثقفين، ولم ير حتى ذلك الوقت؛ أي بعد مرور سنين طويلة على بدء دعوته القائمة على التوحيد المطلق، أن قبول هذه الأصنام يتعارض مع هذا التوحيد.
بل إن (وات) ليمضي أبعد من ذلك كله فيخلع صفة المخلوقات الإلهية على الأصنام الحجرية المرصوفة على قارعة كل طريق، ثم يجزم (وهو صاحب المنهج الشكّي في السيرة) بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعد اللات والعزى ومناة كائنات سماوية ولكنها أقل من الله!!
ألا يدرك هذا الباحث أنه في استنتاجاته التي تتميز بالغرابة والفجاجة يتناقض مع بداهات الإسلام ومسلماته التوحيدية التي انطلق بها الرسول صلى الله عليه وسلم منذ اللحظات الأولى.. وسوف يقاتل العرب جميعا من أجل الحفاظ على نقائها وتفرّدها؟
ولماذا يشكّ الرجل وينفي الكثير من وقائع السيرة التي لا ترتطم أو تتناقض مع الخط العام لحركة النبوة، بينما يقبل هذه الرواية الشاذّة الضعيفة المهلهلة، المدخولة التي ترتطم مع الأوليات والأسس والبداهات؟
ثم ما يلبث (وات) أن يبلغ حدّ التخليط الذي تنعدم معه الرؤية الصحيحة للأشياء عندما يقرن اعتراف محمد صلى الله عليه وسلم بالأصنام؛ «تلك الكائنات السماوية التي هي أقل من الله» باعتراف اليهودية والمسيحية بوجود الملائكة!!
أية علاقة تربط بين الأصنام وبين الملائكة؟ وهل من مسوغ هنا أو في أية مناسبة لاستعراض الفروق التي تميّز بين الحجارة والملائكة، وللتزييف الدينيّ الذي تمثله الأولى والحقيقة الغيبيّة المؤكّدة التي تمثلها الثانية؟ ..
للعصيان الذي تمثله الأولى، وللطاعة والتسليم والإذعان الذي تمثله الثانية؟
ألا يجوز أن يكون (وات) قد طرح هذا التقابل غير المنطقي للتشكيك بجدية الموقف العقيدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتمرير هذه الواقعة المزيّفة في الوقت نفسه؟
وفي ختام مقولته يطرح (وات) معميات وتناقضات أخرى؛ فيشير إلى أن القرآن يتحدث عن تلك المخلوقات الإلهية (الأصنام) في الفترة المكية الأخيرة باسم (الجنّ) !! وإن كان يتحدث عنها في الفترة المدنية على أنها مجرّد أسماء.
أيتأخر- إذن- رفض الصنميّة وتجريدها من الفاعلية حتى نهاية العصر المكّي، بل حتى العصر المدني؟ فلم كان إذن ذلك الصراع الذي لا هوادة فيه بين المسلمين والزعامة الوثنية؟ ولم كانت قولة محمد المبكرة التي لم يشأ (وات) أن يشير إليها أو يعترف بها:«والله يا عمّ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة!» ، وما هو (الأمر) إن لم يكن التوحيد المطلق، والرفض المطلق للوثنية بكل صيغها وأشكالها؟ وكيف تفوت على (وات) هذه الحقائق جميعا؛ بحيث إنه يختتم مقولته بهذه الكلمات القاطعة «أن الحادثة لا تدلّ على أي تقهقر واع للتوحيد، بل هي تعبير عن النظريات التي دافع عنها دائما محمد» !
ولا أعتقد أن الأمر يحتاج إلى مزيد من نقاش وقد بلغ هذا الحدّ من التبعثر والفجاجة..