الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2- إسقاط الرؤية العقليّة المعاصرة على السيرة
1
هنا يكاد المستشرقون أن يلتقوا جميعا.. إن هذا الخلل المنهجي الذي هو أشبه بالحتميّة التي لافكاك منها للبحث الغربي، هو القاسم المشترك الأعظم لجل الأبحاث والدراسات التي قدّموها عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن مواضعات العقل الغربي ورواسبه الدينيّة جنبا إلى جنب مع نزوعه العلماني ومسلماته المادّية، ورؤيته الوضعيّة، وانحساره على المنظور وانكماشه على المحسوس وردّة فعله تجاه كل ما هو روحيّ أو غيبيّ، واعتقاده الخاطئ بأنّ تجاوز الواقع إلى ما وراءه سقوط في مظنة الخيال والمثالية والخرافة واللاعلمية.
بل إن غرور العقل الغربيّ، وانتفاخه المتورّم، واعتقاده القدرة على فهم كل شيء، وتحليل كل معضلة في دائرة ما يصطلح عليه بالعلوم الإنسانية ومنها التاريخ.
هذه كلها تفعل فعلها في حقل الدراسة الاستشراقية في السيرة، وتمسك بتلابيب الباحث فلا يستطيع منها فكاكا.
هذا إلى ما تفرضه مكونات البيئة النسبية في الزمان والمكان من مؤشرات قد تصلح لهذا القرن، ولكنها لا تصلح البتة لقرن مضى أو واقعة تاريخية سبق وأن تخلقت في بيئة أخرى.. في مكان غير المكان، وزمان غير الزمان.. وهي مؤشرات قد تكون كذلك خاطئة أو مضلّلة لكن
المستشرق ابن القرن العشرين يتشبّث بها، ويعض عليها بالنواجذ معتقدا أنها مفاتيح الحل ومفردات المنهج العلمي السليم؟
فكيف إذا أضيف إلى هذا كله نظرة اعتقادية مسبقة ترسم هياكلها على ضوء أيديولوجيتها الصارمة، وتسعى لكي تجد في التاريخ السند والدليل؟! بل إنها تحاول أن تعمل في وقائعه بمشرطها الذي لا يرحم من أجل أن تفسرها على الانسجام مع مقولاتها المسبقة، والدخول بالإكراه من عنق الزجاجة الضيّق الملتوي، كما يفعل النصارى المتعصّبون أو الماديون التاريخيون من المستشرقين؟!
بصدد الخطيئة المنهجيّة الأخيرة، فإن (مونتغمري وات) يتجاوز- بحق- الوقوع في إسارها، بل إنه ليعتمد- أحيانا- منهجا مغايرا تماما يبدأ من الواقعة التاريخية نفسها، وينتهي بالنتائج والدلالات التي تقود إليها.. لذا فإنه كثيرا ما كان يعلن رفضه لمقولات التفسير المادي للتاريخ، حيثما رأى الوقائع تتمرّد على هذه المقولات وتسلك مجاري أخرى في العمل والصيرورة.
فإذا كان (وات) يرفض الاعتقادية الجامدة في تحليل التاريخ، فإنه يقع متعمدا حينا، وغير متعمد أحيانا، في أسر القيود الآخرى التي تتحكّم في العقل الغربيّ عموما، والتي ألمحنا إليها قبل قليل.
وهو يحاول في مدخل بحثه أن يعلن تجاوزه لهذه الأزمة، وأن يتّخذ موقفا حياديا أقرب إلى التجرّد والموضوعيّة فيما يتعلّق بالمسائل الفقهية التي أثيرت بين المسيحية والإسلام، «فقد جهدت- يقول وات- في اتخاذ موقف محايد منها، وهكذا بصدد معرفة ما إذا كان القرآن الكريم كلام الله أو ليس كلامه، امتنعت عن استعمال تعبير؛ مثل:(قال تعالى) أو (قال محمد) في كل مرة استشهد فيها بالقرآن، بل أقول بكل بساطة:(يقول القرآن) ، وليس
هذا يعني أنني أرى من الضروري اتخاذ وجهة نظر مادية لضمان حياد المؤرخ، بل أنا، على العكس، أعبر كمؤمن موحد صريح» «1» .
ويمضي (وات) إلى القول بأن «مما لا شك فيه أن هذا الموقف الأكاديمي ناقص نوعا ما، إذ يجب على المسيحيين تحديد موقفهم من محمد بقدر اتصال المسيحية بالإسلام، ويجب أن يقوم هذا الموقف على أسس فقهية، وأنا اعترف بما في كتابي من نقص، بهذا الصدد، وإن كنت أرى أنه يقدم للمسيحيين المواد التاريخية اللازمة لتكوين رأي فقهي» «2» .
ثم ما يلبث أن يتوجّه بالحديث إلى (قرّائه المسلمين) قائلا: «لقد ألزمت نفسي برغم إخلاصي لمعطيات العلم التاريخي المكرّس في الغرب، أن لا أقول أيّ شيء يمكن أن يتعارض مع معتقدات الإسلام الأساسية، ولا حاجة بنا إلى القول بوجود هوّة فاصلة بين العلم الغربي والعقيدة الإسلامية، وإذا حدث أن كانت بعض آراء العلماء الغربيّين غير معقولة عند المسلمين؛ فذلك لأن العلماء الغربيّين لم يكونوا دائما مخلصين لمبادئهم العلمية، وأن آراءهم يجب إعادة النظر فيها من وجهة النظر التاريخية الدقيقة» «3» .
وهي شهادة من الرجل تستحق التقدير.. تجيء بعد سيل من المعطيات المضادة للإسلام طرحها مستشرقون من شتى البلدان، وتكاثرت حتى غدت ركاما، وها هو (وات) يجيء لكي يعترف بأنّ الخطأ لا يكمن في المبادئ العلمية، ولكن في سوء استخدامها من قبل العلماء الغربيين لهذا السبب أو ذاك..
(1) محمد في مكة، المقدمة، ص 5.
(2)
المصدر السابق نفسه.
(3)
المصدر السابق نفسه، المقدمة، ص 6.