الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني:
إعجاز القرآن
إعجاز القرآن
…
إعجاز القرآن:
26-
ذكر المؤرخون ما كان عليه العرب من تلقٍّ لديانات النبيين السابقين، حتى قال قائل المؤرخين وأهل السير: إن نوحًا عليه السلام كان بعثه فيهم، وكذلك كان إدريس، وصالح، وشعيب، وهود، وإبراهيم، وإسماعيل، فكانت مهدًا للرسالة الإلهية.
وإذا كان لذلك أثر أو دلالة، فهو أنَّ العرب قوم فيهم ثقافة وأديان، وقد وضحنا ذلك عند الكلام في حكمة اختيار العرب لِأَنْ يكونوا موضع الرسالة الخالدة؛ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم "فيما كتبنا في سيرة الرسول عليه السلام".
وإذا كان العرب في عصر الرسالة المحمدية كانت فيهم بداوة سائدة، وحضارة قليلة، فأكثر العرب أو الصحراء العربية -إنِ استثنينا اليمن والحيرة، وما يصاقب الفرس والشام، وما يصاقب الرومان- كانت البداوة فيهم غالبة، ولكنهم في بدوهم وحضرهم، في مدرهم ووبرهم، امتازوا من بين معاصريهم بالنزوع إلى الكلام الطيب، وكانت سيادة الأمية سببًا في أن أرهفوا كلمات لغتهم وأسلوب خطابهم، وملاحظة جرس الكلمات، وموسيقى العبارات وانسجام الحروف، ومؤاخاة المعاني للألفاظ، حتى إنَّ النطق يدل على المعنى، وفي مترادف الكلمات ما يدل على أن المعاني كانت ملاحظة في كل لفظ، فالأسد يقال له: أسد وليث وغضنفر، وغير ذلك من المترادفات لمعنى السبع، فكلمة غضنفر تقال له في حال عنفه وفتكه، وكلمة ليث تقال في حالة ثباته ورباطة جأشه، وهكذا تجد النطق متلاقيًا مع المعنى، فهما متساوقان، المعنى ملاحظ في النطق، والنطق لابس للمعنى، وكلاهما يحيط بصاحبه ويؤاخيه ولا ينفصل عنه.
وفي الأسلوب الذي يصوره الإعراب تجد الانقطاع عن النسق الإعرابي في القول يتغير بتغيُّر وجه الإعراب من غير خطأ، بل يقصد معنى من معاني التخصيص يكون النطق في الانقطاع قائمًا مقام وضع خطوط تحت الكلمات، كما يفعل الكاتبون غير الأميين، وهكذا كان النطق قائمًا مقام خطوط الكاتبين في تنبيهها، وشدة الاختصاص في دقة المعاني، فهي بحق لغة إفصاح، وذلك لقوة المدارك، وعلوِّ الأفكار، والنزوع إلى السموِّ والمعالي مع الأمية وغلبة البدوية.
وقد ظهر ذلك في أمرين: أحدهما أنَّ الجزء الذي دخلته حضارة من البلاد العربية كاليمن والحيرة والبحرين لم تكن عندهم فصاحة، كالذين لم تسيطر عليهم الحضارة في قوة الإفصاح والبيان وسلامة التعبير، فلم تكن اليمنية كالعدنانية، ولا لغة أهل البادية كلغة قريش؛ لأن قريشًا قد قاربت وذاقت بعض الحضارة، وبقيت أميتها.
الأمر الثاني: في المسابقات البيانية التي كانت تعقد في الأسواق في موسم الحج في عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، فقد كانت فيها تجارة المادة، وتجارة البيان معًا، فقد كان في الأولى زاد الجسم، وفي الثانية زاد النفس، كما ظهر ذلك في الشعر ومسابقاته، فمن معلقات تعلق في أستار الكعبة، وحوليات يقطع الحول في نسخ خيالها، ووصغ عباراتها التاي تصغي إليها الأفئدة.
ولو أنَّك وازنت بين العرب وغيرهم مِمَّن هم في مثل حالهم من البداوة الغالبة، لوجدتهم في السماك الأعزل، وغيرهم في الحضيض الأوهد، فلا يزال الحاضرون من غير العرب يجدون في شعر زهير بن أبي سلمى حكمة البيان الشعري، وفي شعر امرئ القيس قوة الوصف وفورة الشباب، وفي شعر عنترة قوة البأس ولطف التشبيب والغزل، وفي شعر طرفة قوة النفس الثائرة، وهكذا لو وازنت بين هذه الآثار وما بقي من شعر اليونان والرومان، لوجدتها لا تقل عنها في إحكام الفكرة، وسلامة التفكير، ولكن تزيد عليها في حلاوة النغم، وتساوق الفكر، وتآخي الألفاظ مع المعاني.
نعم إنَّ الأدب القصص في اليونان كثير، وهو خلاصة ما عندهم ولبّه، وهو عند العرب قليل أو أقلّ من القليل، والسبب في ذلك هو أنَّ هذا ثمرة الكتابة التي تتيح للكاتب فرصة التأليف وتلفيق الوقائع، بحيث تكون كل واقعة لفق الأخرى مسلسلة معها، في خيال متسق، وهكذا.
أمَّا العرب الذين غلبت عليهم الأمية مع تذوّق القول، وتخيّر خيره، واستهجان هجينه، فإنَّ أدبهم يكون باللمح السريع، والنظر الخاطف أحيانًا، والمستبصر المتدبر في أكثر الأحيان عند الذين أوتوا فكرًا وعقلًا وإدراكًا، وفي الجملة لا وسط بين كلامهم وجنانهم، ولا زمن مستغرق بين خاطرهم وقولهم، فتكون خيالاتهم فيها جمال اللمح، وقوة اللحظ، وسرعة الإدراك.
27-
ولذلك أجمع المؤرخون في القديم والحديث على أن العرب لهم مآثر في البيان، وذوق الكلام، والتفريق بين كريمه وسقيمه، وجميله وهجينه.
ولنترك الكلمة للقاضي عياض المتوفَّى سنة 544هـ يصف بيانهم في كتابه الشفاء، فهو يقول: "خصوا من البلاغة والحكم بما لم يخص به غيرهم من الأمم، وأوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان، ومن فصل الخطاب ما يقيد الألباب، وجعل الله لهم ذلك طبعًا وخلقة، وفيهم غريزة وقوة، يأتون منه على البديهة بالعجب، ويدلون به إلى كل سبب، فيخطبون بديهًا في المقامات وشديد الخطب، ويرتجزون به بين الطعن والضرب، ويمدحون ويقدحون، ويتوسلون ويتوصلون، ويرفعون ويضعون، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال، ويطوقون من أوصافهم أجمل من سمط اللآلئ، فيخدعون الألباب، ويذللون الصعاب، ويذهبون الإحِن، ويهيجون الدِّمَن، ويجرئون الجبان، منهم البدوي ذو اللفظ الجزل والقول الفصل، والكلام الفخم والطبع
الجوهري، والمنزع القوي، ومنهم الحضري -أي: ساكن المدن- ذو البلاغة البارعة، والألفاظ الناصعة، والكلمات الجامعة، والطبع السهل، والتصرُّف في القول القليل الكلفة، الكثير الرونق، والرقيق الحاشية" إلى آخر ما ذكره عياض في بيان بلاغة العرب، ومقدار إدراكهم لجمال الكلمات في رنينها، كما يدرك الصيرفي رنين الحلى الكريمة غير الزائفة، من بين ما يعرض له.
تلك كانت حال العرب في جاهليتهم، كانت جهلًا بالدين مع بقايا ملة إبراهيم، وليسوا جهالًا في البيان ومعرفة أسرار البلاغة، يدركونه بلحظ الحال، لا بإمعان عقل وطول تفكير، يدركونه بنغماته ومعانيه في لمح الفكر من غير طول المكث.
لذلك كان المناسب لمثل هؤلاء الذين تلقَّوا دعوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاطبهم القرآن الكريم ابتداءً أن تكون المعجزة من النوع الذي يحسنونه، ليعرَّفوا مقدار علوِّه عن الطاقة، فالمعجزة بلا شك تناسبهم فوق مناسبتها لموضوع الرسالة وعموم أزمانها وخلودها إلى يوم القيامة، وقد بيَّنَّا ذلك في أول الكلام، فإذا كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم من نوع الكلام السامي فوق طاقة الناس، فإنها تكون مناسبة لمن تلقَّوْها في أول أمرها ومناسبة لخلودها.
إننا لا ننفي الآن، ولم ننف من قبل أنها مناسبة لعصر نزولها، ولكننا نقول أيضًا: إنَّها مناسبة لموضوع الرسالة وخلودها، وبقائها إلى يوم القيامة.
إن القرآن في أعلى درجات البيان من حيث لفظه، ومن حيث نغماته، ومن حيث مغازيه، ومن حيث الصور البيانية التي تكون في ألفاظه وعباراته، حتى إنَّ كل عبارة تلقي في الفكر والخيال بصورة بيانية كاملة في روعتها، ودقة تصويرها، بل إن كل كلمة لها صورة بيانية تنبثق منها منفردة، وبتآخيها مع أخواتها في العبارة تتكون صورة بيانة أخرى، فوق أنَّ الرنين الموسيقى تنفعل به الأسماع إلى القلوب في معان محكمة، وحقائق بينة، وشرائع منظمة للعلاقات والسلوك الإنساني القويم، الهادي إلى الصراط المستقيم.
التقى في المعجزة الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي القرآن المبين معنيان، أصيب بهما هدفان:
أولهما: إنَّه المناسب الذي يعرف به العرب معنى الشيء الخارق لما عرف، الخارج عن طاقتهم، فإنه لا يدرك أثر ذلك إلا هم، ولا يعرف مقامه إلَّا من على شاكلتهم من معرفة مقامًا لقول، ومنزلة البيان.
وثانيهما: إنَّ كونه من نوع الكلام الموحى به الباقي الخالد الذي حفظه الله تعالى، ووعد بحفظه إلى يوم القيامة كما تلونا من قبل {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ