الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير القرآن بالرأي:
251-
ذكرنا من مصادر التفسير: اللغة، والسنة، والصحابة مع تلاميذهم التابعين، وما دخل عصر التابعين من إسرائيليات دخلت التفسير وتناقلتها كتبه مع تمحيص أحيانًا، وسكوتٍ في كثير من الأحيان.
والمرتبة الرابعة في التفسير تفسير القرآن الكريم بالرأي، أي: بالنظر المجرَّد الذي لا يخالف اللغة، بل يستعين بمناهجها، ولا يخالف السنة، بل يعتمد على الصحيح من أسانيدها إن صحَّت عنده، ولا يناقض تفسير الصحابة المأثور، ولا أسباب النزول التي صحَّت بسند صحيح.
والتفسير بالرأي على هذا النحو تضاربَت فيه أقوال العلماء، فبعضهم توقف، ومنع أن يفسر القرآن بالرأي، بل لا بُدَّ لبيانه من علم السنة، ومنه علم الصحابة، وما يجتمع عليه التابعون.
وقد ناصر ذلك الرأي وشدَّد في التمسك به شيخ الإسلام ابن تيمية، فهو يقول:"أمَّا تفسير القرآن بالرأي فحرام".
ويستدل على ذلك بأخبار منسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبأخبار عن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم.
أ- ومن ذلك ما روي عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- أنه قال: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار".
ويعد ابن تيمية أنَّ من يفسِّر القرآن برأيه يقول بغير علم، ونحن نقول: إنّ الحديث خاص بمن لم يؤت أدوات التفسير من علم باللغة ومصادر الشريعة ومواردها ومرامي الإسلام وغاياته، والعلم بأساليب البيان، والعلم بجملة المأثور عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم، فهو الذي يقول بغير علم، أمَّا من أوتي علم اللغة والبيان وعلم الآثار وعلم الإسلام فإنّه إذا قال في التفسير معتمدًا على رأيه إن لم يكن نصّ يعارضه، فإن الخبر لا ينطبق عليه.
ب- ومن ذلك أيضًا ما روي عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- أنه قال: "من أخذ في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ".
ولقد قال الترمذي فيه أنه غريب، وقد تكلموا في بعض رواته، فليس سنده سليمًا، ومتنه غريب.
ج- ومن ذلك ما يروى عن كبار الصحابة من نهيهم عن القول في القرآن إلَّا إذا كانت سنة صحيحة يستأنسون بها، ورميهم بالتكلف من يحاول علم كل ما في القرآن.
ومن ذلك ما روينا عن أبي الصديق -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: "أيّ أرض تقلني، وأيّ سماء تظلني، إذا قلت في القرآن ما لم أعلم" وقد روي عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كنَّا عند عمر بن الخطاب وفي ظهر قميصه أربع رقاع، فقرأ "وفاكهة أبَّا" فسأل بعض الحاضرين "ما الأب" ثم عدل عن السؤال وقال: إن هذا هو التكلُّف فما عليكم ألا تدريه".
وإن الناظر إلى ما روي مستندًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعضه ضعيف لا يصلح أن يكون حجة، وبعضه لا يدل على منع الاجتهاد بالرأي، فيفهم القرآن إن لم تكن سنة مسعفة، وما روي عن أبي بكر إنما يدل على أنَّ الممنوع أن يقول في القرآن بغير علم، وعمر -رضي الله تبارك تعالى عنه- أراد أن يضرب الأمثال للناس بأن يبيِّن لهم أنَّ القرآن بحر عظيم عميق مملوء بالمعاني، فلا يصح لأحد أن يدَّعي أنه تقصَّاه وعرف أطرافه، وخشي أن يظن أحد أنه يحاول ذلك عندما سأل عن معنى كلمة "الأب" فعدل عن السؤال.
ونحن لا نرى فيما ساقه ابن تيمية -جزاه الله تعالى عن الإسلام خيرًا- ما يدل على المنع، ولكن يدل على وجوب الاحتياط في فهم القرآن، وأن يكون بين يديه من دلائل العلم وبيناته ما يجعله يقول عن بينة، ولا ينطبق عليه النهي في قوله تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [لإسراء: 36] .
وإذا كان ابن تيمية قد عدَّ التفسير بالرأي منهجًا مهجورًا أو يجب أن يهجر، فعلى أيّ شيء اعتمد! إنه اعتمد على أربعة مصادر:
أولها: القرآن؛ إذ إن القرآن يفسر بعضه بعضًا، فهو يبين أحيانًا في موضع ما أجمله في موضع آخر، ويوضِّح أحيانًا في موضع ما يبدو بادي الرأي أنه مبهم في موضع آخر، ويجمع آيات القرآن إذا تصدَّت لموضوع واحد يستطيع القارئ المتفهّم أن يفهم بعض القرآن ببعضه.
وإنَّ ذلك بلا شكٍّ نوع من الرأي والاجتهاد، ولكن ابن تيمية لا يمنعه بل يوجبه كخطوة أولى.
وثانيها: السنة؛ إذ لم يستطع القارئ أن يفهم القرآن من القرآن، فإنه يتجه إلى السنة كما أسلفنا تحقيقًا لقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقد قال النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم:"ألا إني أوتيت علم الكتاب وأوتيت مثله معه".
وثالثها: ما قاله الصحابة في تفسير القرآن، كما ذكرنا من الأسباب في موضعه، وقد روي أن عبد الله بن مسعود قال:"والله الذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلَّا وأنا علم فيمن نزلت، وأين نزلت".
ورابعها: أقوال التابعين في التفسير بتعرّف ما قالوه نقلًا عن الصحابة.
وتتعرف في هذا -السنة بكل طرائقها، وأنَّ النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو المبلغ للرسالة والمفسر للقرآن لا يمكن أن يترك شيئًا من القرآن قابلًا للبيان، ولم يبينه.
252-
هذا منهاج المتوقفين الذين يرون أن تفسير القرآن بالرأي غير جائز، وإنما يعتمد في بيان القرآن على السمع وحده، إمَّا عن الرسول أو عن صحابته أو عن تلاميذهم، وأنَّ الخروج عن هذه الدائرة خلع للربقة، وتهجُّم على القرآن الكريم بغير علم، وأن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- لم يترك القرآن من غير بيان.
وأنَّ هذا الكلام ينطبق كل الانطباق على الذين لا يعرفون أنَّ السنة بيان للقرآن، ولا يأخذون به بل يتركونه، وإن مثلهم في هذا كمثل الذين يعرفون الحكم الشرعي الثابت بالسنة، ويتركونه نسيًا منسيًّا.
وإنه في آيات الأحكام يجب الاتجاه إلى السنة ابتداءً ولا يتجه إلى غيرها إلَّا على ضوء منها وتعرّف لمرامي الأحكام، وغاياتها منها، وإذا كان ثمَّة رأي فعلى ضوءها وبقبس من نورها.
وإن الذين أخذوا في تفسير القرآن بالرأي في مقابل الذين توقفوا سلكوا مسلك الفقهاء الذين أخذوا بالقياس إن لم يجدوا في الموضوع نصًّا، فهم لا يتركون السنة، ولكن يأخذون بالرأي إذا لم يجدوا سنة مفسرة، وهم لا يقتصرون على الأخذ في غير موضع السنة، بل إنهم عند وجود السنة لا يناقضونها، ولا يغايرونها، بل يأخذون بها ويسيرون فيما وراء ما ثبت بالسنة إلى ما تدل عليه الألفاظ من إشارات بيانية، ويحاولون أن يتعرفوا من وراء ذلك الأسرار البلاغية في القرآن الكريم.
ولذلك كان هذا المسلك مسلك الذين حاولوا تعرف إعجاز القرآن، وعلى رأسهم الإمام جار الله الزمخشري، ومن قبله كان الإمام الطبري عندما كان يبدي رأيه بعد أن يسرد من الروايات الصحيح والسقيم.
والإمام حجة الإسلام الغزالي كان ممن سلكوا ذلك المنهاج، وأثبت بالأدلة العلمية أنَّ التفسير بالرأي من غير مناقضة للسنة جائز، ويستدل على ذلك:
أولًا: بأنَّ القرآن فيه كل علوم الدين، بعضها بطريق الإشارة، وبعضها بالإجمال، وبعضها بالتفصيل الذي يفتح الباب للفكر المستقيم، والاستبصار في حقائقه، وذلك لا يكفي فيه الوقوف عند ظواهر الآيات، ولا ظواهر أقوال السلف، بل لا بُدَّ من التعمق من غير تكلف، واستخراج المعاني ما دامت لا تخالف المأثور، وهناك أمور وراء المأثور، يسير المفسِّر على ضوء المأثور، ولقد قال عبد الله بن
مسعود: "من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن"، وإن ذلك لا يكون بغير التعمق في الفهم، من غير تكلف، وتعرف الغايات بالإشارة والمرامي.
وثانيًا: أنَّ القرآن الكريم فيه بيان صفاته تعالى وأفعاله، وذكر ذاته القدسية وأسمائه الحسنى، وإنَّ فهم ذلك مع التنزيه عن المشابهة للحوادث يحتاج إلى تدبر وفهم من غير الوقوف عند الظواهر، وجمع بين المؤتلف ونفي للقول المختلف.
ثالثًا: أنَّه قد وردت الآثار تدعو إلى الفهم والتدبُّر في معاني القرآن، فقد قال علي -كرَّم الله وجهه:"من فهم القرآن فسر به جمل العلم، وذلك لا يكون إلَّا بالتعمق في الفهم".
ورابعًا: إنَّ عبارات القرآن الكريم تدعو إلى التعمق في الفهم، فقد قال تعالى:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] ويقول مفسرو السلف: إنَّ الحكمة هي فهم القرآن، وإذا كان الله تعالى قد وصف فهم القرآن بأنه خير كثير، فإنه سبحانه وتعالى يدعو القادر على إدراك هذه الحكمة؛ لينال من علمها خيرًا كثيرًا.
وخامسًا: إنَّ النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- دعا لابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- بالفقه في القرآن، فقال عليه الصلاة والسلام: $"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"، وليس التأويل إلَّا التفسير العميق الذي يتعرَّف به القارئ ما وراء العبادات من معانٍ دقيقة عميقة، ولو كان كل علم التفسير مأثورًا عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- لقال عليه الصلاة والسلام:"اللهم علمه التأويل".
وإنَّ الغزالي لا يكتفي بسوق ما تؤدِّي إليه الأدلة من جواز التفسير بالرأي، بل يتجاوز فيقول: إنَّ المأثور من التفسير بالسنة قليل لا يشمل القرآن كله، ويذكر أن ما يؤثر عن الصحابة في التفسير إنما هو رأيهم، وعلينا أن نتبعهم بإحسان، فنجتهد في تفسير القرآن مثل اجتهادهم من غير معارضة، ولا مناقضة.
ثم إنَّ الصحابة فيما بينهم قد اختلفوا، وكذلك التابعون من بعدهم، واختلافهم دليل على أن بعض هذه الأقوال بالرأي لا محالة، ويجوز أن يكون بعضها بالسمع، ولكنَّه غير معروف، ولو كان واجبنا أن نختار من أقوالهم عند اختلافهم، فالاختيار أساسه الترجيح بالرأي بقبول بعضها وردِّ بعضها، وذلك في ذاته أشد من الأخذ بالرأي ابتداءً ما دام غير معارض للمأثور.
253-
هذا ما ساقه الغزال من أدلة في جواز الفهم بالرأي الذي لا يعارض السنة ولا يتزيّد عليها بما يخالفها، وإن أدلَّته مستقية منتجة لما يقول، بيد أنَّ قوله أنَّ المأثور عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- في التفسير محدود وقليل، إنما هو في غير الحلال والحرام، أمَّا ما يتعلق بتفسير القرآن في الحلال والحرام فإن ما ورد عن
النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- في ذلك كثير وليس قليلًا؛ لأنه بيان الشريعة، وتبليغ رسالة الله؛ إذ إنّ التكليفات لا بُدَّ أن يبينها النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يتركنا إلَّا وقد بيِّنَ ما يجب على المكلفين فعله، وما يجب عليهم تركه، إمَّا بالنص عليه، وإمَّا بذكر ما يدل على أصل الشرع الذي يقاس عليه، وتناط به الأحكام، وتقام عليه مصالح الأنام، وأحاديث الأحكام أكثرها في تفسير الآيات المتعلقة بالأحكام، وأكثر الأحاديث المروية في هذا المقام ثابتة بسند صحيح تبنى عليه الأحكام بالتحليل والتحريم.
254-
والغزالي وغيره من العلماء الذين سوَّغوا تفسير القرآن بالرأي، بل إن عباراتهم تومئ بوجوبه في غير موضع الأثر المروي عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- بسند صحيح، هؤلاء قد منعوا التفسير بالرأي في موضعين يكون الرأي فيهما مذمومًا:
أول هذين الموضعين أنَّ يفسر القرآن بهواه، أو أن يحاول حمل الآيات على مذهبه أو رأيه، بأن يكون له في موضوع الآية رأي معين، وله ميل له بطبعه، فيتأوّل القرآن على وفق رأيه ليحتجَّ به، ولو لم يكن له ذلك المذهب ما كان يظهر له ذلك التفسير، وإنَّه ليتجه ذلك الاتجاه، ويئول ظاهر الآية لتساير مذهبه، وينزلها عن علياء بيانها إلى حيث رأيه.
وأحيانًا يفعل ذلك غير قاصد حمل الآية على مقتضى رأيه، ولكن امتلاء عقله وقلبه بهذا الرأي يجعله يتَّجه إليه غير قاصد مجرَّد ترجيح مخيلته، ويلبس عليه الأمر فيظن ما قاله ظاهرًا، وما هو بظاهر.
فهذا بلا ريب تفسير بالرأي مذموم، ويكون من المنهي عنه؛ لأنَّ القرآن الكريم فوق الآراء والمذاهب، وليس خاضعًا لها.
وإنه من نوع تفسير القرآن بالهوى لا بالرأي المبني على النظر الخالص لوجه الحقيقة.
الموضع الثاني الذي يكون فيه التفسير بالرأي مذمومًا: يكون في المسارعة إلى تفسير القرآن بظواهر الآيات، والاقتصار على هذه الظواهر من غير تعرف للمنقول في موضوعها، ومن غير مقابلة الآيات بعضها ببعض، ومن غير تعرف للعرف الإسلامي الذي خصص بعض الألفاظ العربية، ومن غير علم دقيق بأساليب الاستنباط من القرآن من حمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص، ومن غير إدراك مواضع الإضمار والحذف والتقديم والتأخير، وغير ذلك من الأساليب البيانية القرآنية المعجزة.
فإنَّ ذلك يكون مذمومًا؛ لأنَّه تفسير بالرأي من غير إدراك لمعاني الألفاظ في عرف الإسلام، وبغير مؤهلات، واجتهاد في الفهم من غير التسلّح بأدواته، وحينئذ يكون الخطأ ويكون السقط.
فهذان هما الموضعان اللذان يذمّ الرأي فيهما.
وفي الحق أنَّ هذا ليس تفسيرًا بالرأي المجرَّد، إنما هو من الهوى أو التهجم، والتهجّم على ما لا يحسن، والعمل فيما لا يتقن، وذلك قبيح في كل شيء.