المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌الافتتاحية

- ‌تمهيد

- ‌معجزة القرآن:

- ‌القسم الأول:‌‌ نزول القرآن

- ‌ نزول القرآن

- ‌حكمة نزوله منجَّمًا:

- ‌المكي والمدني:

- ‌كتابة القرآن وجمعه:

- ‌جمع القرآن في عهد عثمان أو الأحرف السبعة:

- ‌تحريق غير المصحف الإمام وغير ما نسخ منه:

- ‌ترتيب الآيات والسور:

- ‌قراءات القرآن:

- ‌فائدة وجوه القراءات:

- ‌القسم الثاني:‌‌ إعجاز القرآن

- ‌ إعجاز القرآن

- ‌تلقي العرب للقرآن:

- ‌سر الإعجاز:

- ‌الصرفة وبطلانها:

- ‌وجوه الإعجاز:

- ‌الإعجاز البلاغي:

- ‌وجوه الإعجاز البلاغي:

- ‌ ألفاظ القرآن وحروفه:

- ‌نظرات في ألفاظ القرآن:

- ‌الكلمة مع أخواتها والعبارات مع رفيقاتها:

- ‌ الأسلوب القرآني:

- ‌التآلف في الألفاظ والمعاني:

- ‌صور بيانية للطمع والشح ثم الندم

- ‌النفس الفرعونية:

- ‌قوة البلاغة في الأسلوب من كلمات متآلفة:

- ‌التلاؤم:

- ‌ تصريف البيان:

- ‌التكرار في القرآن:

- ‌قصص القرآن من الناحية البيانية:

- ‌الدعوة في أوساط الشعب:

- ‌موسى مع بني إسرائيل:

- ‌بنو إسرائيل والأرض المقدسة:

- ‌ قصص القرآن لون من تصريف بيانه:

- ‌أسلوب القصص في القرآن:

- ‌القصص الحق المصور في أهل الكهف:

- ‌التصريف في صور العبارات القرآنية:

- ‌الاستفهام والنفي:

- ‌الحقيقة والتشبيه والاستعارة في القرآن:

- ‌التشبيه في القرآن:

- ‌الاستعارة:

- ‌المجاز والكناية:

- ‌الكنايات في القرآن:

- ‌نظم القرآن وفواصله

- ‌التلاؤم:

- ‌الفواصل:

- ‌أفي القرآن سجع

- ‌الإيجاز والإطناب في القرآن:

- ‌أقسام الإيجاز:

- ‌طوال السور وقصارها:

- ‌الإعجاز بذكر الغيب:

- ‌ جدل القرآن واستدلاله:

- ‌أسلوب جدل القرآن:

- ‌مسلك القرآن في سوق الأدلة:

- ‌علم الكتاب:

- ‌معجزات سيدنا موسى:

- ‌الخوارق التي جاءت على يد سليمان:

- ‌معجزات عيسى عليه السلام:

- ‌البعث واليوم الآخر:

- ‌يوم القيامة:

- ‌الميزان والحساب:

- ‌الجنة والنار:

- ‌البعث والجنة والنار أمور حسية

- ‌علم الحلال والحرام:

- ‌العدالة:

- ‌العدالة الدولية:

- ‌الأحكام الفقهية في القرآن:

- ‌الأسرة في القرآن

- ‌الميراث في القرآن الكريم:

- ‌الزواجر الاجتماعية:

- ‌المعاملات المالية:

- ‌العلاقات الدولية في القرآن:

- ‌العلاقة في السلم والحرب:

- ‌علم الكون والإنسان في القرآن:

- ‌قصة يوسف في سورته:

- ‌المجتمع المصري في عصر يوسف:

- ‌تفسير الكتاب

- ‌مدخل

- ‌تفسير القرآن بالرأي:

- ‌الظاهر والباطن:

- ‌ ترجمة القرآن

- ‌بيان ما اشتمل عليه الكتاب

الفصل: ‌الأسرة في القرآن

‌مقدمات

‌الافتتاحية

الافتتاحية:

بسم الله الرحمن الرحيم

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا، وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 1-5] .

والصلاة والسلام على محمد الذي أرسل للعالمين بشيرًا ونذيرًا، وأنزل عليه الكتاب المبين حجة باقية شامخة إلى يوم الدين. ورضي الله عن صحابته الأكرمين، الذين بلغوا من بعده شريعة القرآن، ومعه العدل والقسطاس المستقيم.

1-

أما بعد: فقد اتجهت النفس متسامية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتعرَّف سيرته الطاهرة العطرة لأقتبس من نور هديه، وأتنسَّم نسيم عرفه، ولا شاهد إرهاصات النبوة، بل الإعجاز في حياته الأولى، كما أيده الله تعالى بالمعجزات في حياته الثانية بعد أن بعث رحمة للعالمين، وقد تابعنا حياته عليه السلام الأولى، ثم تسامينا إلى متابعة حياته الثانية بعد أن نادَى في الجزيرة العربية بصوته القوي العميق يدعو إلى التوحيد في وسط الوثنية، وهو يصبر ويصابر، ويجاهد ويناضل، ويلاقي الأذى، والمؤمنون الصادقون الذين معه يعذَّبون، وقلوبهم بالإيمان لا ينطقون بالكفر، ولو مزّق الأذى أجسامهم، وطواغيت الشرك يتمتعون بالإيذاء، بينما أهل الإيمان يرضون بالعذاب عن الكفران، وقد أخذ النبي من بعد ذلك يعرض نفسه على القبائل، تمهيدًا لبناء دولة الإسلام الفاضلة في غير مكة، وأخذ النور يسري في ظلمات الجاهلية منبثقًا من مكة، وإن لم يستضئ أهلها بنوره لعمى البصائر، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [سورة الحج: 46] .

والمعجزة الخالدة التي يتحدَّى بها قريشًا وسائر العرب هي "القرآن الكريم"، رأينا من مساوقة الحوادث أن نتكلم في هذه المعجزة الكبرى، على أن يكون كلامنا فيها تبعيًّا وليس أصليّا، وبالعرض لا بالذات.

ص: 3

2-

ولكن ما إن قاربنا نوره حتى بهرنا ضياؤه، واستغرض نفوسنا سناؤه، وانتقلت نفوسنا إلى الاتجاه إليه قاصدين ذاته أصلًا، لا تبعًا للسيرة، ولو كانت سيرة من نزل عليه القرآن وخاطب في ظله الأجيال، سيدنا الهادي رسول الله رب العالمين.

وقد حاولنا أن نملأ نفوسنا من ينابيع الهداية فيه، وأن نشفي أمراض قلوبنا بما فيه من دواء، وأن نكشف الغمة بما فيه من حكم وعبر.

لذلك صار القرآن وعلم القرآن، وكل ما يتعلق به هدفًا لنا مقصودًا، وأملًا منشودًا لا نبغي سواه، ولا نطلب غيره.

فكان لزامًا علينا أن نخص كتاب الله ببحث ودراسة، وأن نخرج من ذلك البحث كتابًا نرجو أن يكون قيمًا في ذاته، وإن كان لا يعلو إلى حيث يكون مناسبًا لموضوعه، فموضوعه أعلى من أن تناهده همتنا، وأن تتسامى إليه عزيمتنا؛ لأنه كتاب الله تعالى، وأنَّى لضعيف مثلي أن يصل إلى وصفه أو التعريف به، إنه فوق منال أعلى القوى إدراكًا، وأعظم النفوس إشراقًا.

"أ" وقد اتجهت ابتداء إلى بيان نزول القرآن منجمًا، وحكمته مستمدًّا هذه الحكمة من نص القرآن، وما أحاط بالتنزيل ووجوب حفظه في الصدور، ثم بينت أنه كتب في حياة الرسول، وأنَّ النبي عليه السلام كان يملي الآية أو الآيات التي تنزل عليه على كتَّاب الوحي، حتى إذا تمَّ نزوله كانت كتابته قد تمَّت، وقراءته بهذا الترتيب الذي نراه في الآيات والسور قد كملت، وقد تكلمت من بعد ذلك في جمع المكتوب في عهد الصديقين أبي بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما، ثم في عهد ذي النورين عثمان رضي الله تعالى عنه.

"ب" وقد اتجهت إلى الحق في وسط ما أثاره بعض العلماء من خلافات حول أحرف القرآن الكريم، وقراءته ونزوله، وقد أسرف بعض العلماء على أنفسهم وعلى الحق، فأثاروا أقوالًا باطلة ما كان من المعقول إثارتها، حتى إنَّ بعض المغرمين بالجمع ونقل الخلاف قالوا أمورًا تخالف نص القرآن الكريم، فيما ذكر من نزلوه، وتهافتت الأقوال حتى وجدنا الذين لا يرجون للإسلام وقارًا يتعلقون بأقوال ذكرت لهؤلاء، كقول بعضهم: إن هناك رأيًا يقول: إن القرآن نزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى واللفظ للنبي، ونسوا قوله تعالى معلمًا للنبي صلى الله عليه وسلم القراءة والنطق بها: {لَا تُحَرِّكْ بِه

ص: 4

لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16-19] ، فإن ذلك صريح في أنَّ القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ والمعنى والقراءة، وأنَّ ذلك عليه إجماع المسلمين، والعلم به علم ضروري، ومن يخالفه يخرج من إطار الإسلام، وقد صرَّح القرآن الكريم بأنَّ الله تعالى هو الذي رتل القرآن، فقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32] .

"ج" ولقد تكلمنا من بعد ذلك في إعجاز القرآن، وبيَّنَّا وجوه الإعجاز، ودفعنا القول بالصرفة دفعًا، ثم تكلمنا في علم الكتاب، وجدل القرآن، وتفسير القرآن، ومناهج التفسير، وبيَّنَّا التفسير بالأثر، ومقامه من التفسير بالرأي، وأنَّ الرأي يجب ألَّا يناقض المأثور، وأن التفسير باللغة والأثر مفتاح التفسير بالرأي.

"د" وتكلمنا في الغناء بالقرآن وتحريمه، والتغنِّي الجائز المأثور، وإبطال ما سواه، وسرنا في طرق الحق الذي لا عوج فيه ولا أمت.

3-

وإنا نحمد الله تعالى على ما اختبرنا به في أثناء كتابه ما كتبناه، لقد اختبرنا الله تعالى في أول كتابة ما كتبنا عن القرآن، فانقطعنا عن الاتصال بالصحف السيارة، نخاطب المسلمين من فوق منبرها، وقطعنا عن المجلات العلمية نوجّه الفكر الإسلامي من طريقها، ومن كل طرق الإعلام فلا نصل إليها، وكان الهمّ الأكبر أن انقطعنا عن دروسنا، وعن المحاضرات العامة.

ولكن القرآن آنسنا في وحدتنا، وأزال غربتنا، فكان العزاء النفسي والجلاء الروحي، واختبرنا الله تعالى بالضر كما اختبر نبيه أيوب؛ إذ قال:{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] ، وإنه وإن تشابه المرض فإنه يختلف المقام، فهذا نبي يوحى إليه، ونحن من الأتباع، ونرجو أن نكون من الأبرار في اتباع النبيين، لزمنا المرض المقعد نحو شهرين، فكان ألم الابتعاد عن القرآن أكبر من ألم المرض الممضّ، ولقد منَّ الله تعالى بالشفاء، فخرجنا من الداء العقام، وما منعتنا وعثاء المرض، فعدنا إلى القرآن نقبس من نوره، ونعيق من عرفه، هو أنس المستوحش، وسمير المستغرب، فأنسنا بعد طول الغياب، ومنحنا الله تعالى به العافية، فوفقنا لأنَّ نقطع كل ما أردنا عرضه في مدة المرض، وكأنَّا في مجموع ما بلينا في طول المدة أصحَّاء في أبداننا؛ لأنه سلمت نفوسنا من السقام، بفضل القرآن.

ص: 5

واختبرنا الله تعالى من بعد بهم واصب بأن أصاب رفيقة حياتي بكسر أقعدها، وأقعدني بالغم الشديد والكرب البعيد الأثر، العميق في النفس.

ولكن أنس القرآن خفف همي، وكشف غمي؛ لأنه ملأها إيمانًا بقضاء الله وقدره، ووضع في نفوسنا الصبر الجميل من غير أنين ولا ضجر، ولكن برضا لما أراد، وهو اللطيف الخبير، وهو الشافي في المرض، والجابر في الكسر، والمعين في الشدة، ولا رجاء في غيره.

هذه أمور جرت لنا، ونحن نكتب في المعجزة الكبرى، فما عوَّقت وما منعت، وما أيأست.

اللهم احفظنا بالقرآن، وآنسنا بنوره، ووفقنا للقيام بحقِّه آحادًا وجماعات، وإنك وحدك القائم على كل شيء، اللهم قنا شر نفوسنا، واحفظ الأمة من فساد يعم، وشر يطم، اللهم إنك عفوٌّ قدير فاعف عنا، ولا تؤاخذنا بما تكسب أيدينا، وارفع عنا المقت الذي حلَّ بنا، إنك عوننا وأنت نعم المعين.

محمد أبو زهرة

أول رمضان سنة 1390هـ.

31 أكتوبر سنة 1970م.

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

‌تمهيد

المعجزة الكبرى

1-

يسير الكون على سنن قد سنَّت، ونظمٍ قد أُحكِمَت، وارتباطٍ بين الأسباب والمسببّات العادية لا يتخلَّف، وإن تخلَّفت المسببات عن أسبابها ووجدت الأمور منفكة عن علتها، كالولد يولد من غير أبٍ، وكالحركة تجيء من جامد لا يتحرَّك كعصا،، ونار تنطفئ وقد أوقدت، إذا كان ذلك الانقطاع بين الأسباب العادية ومسبباتها حكم العقل بأن الذي فعل ذلك فوق الأسباب العادية ومسبباتها، ولو ساير العقل منطقه إلى أقصى مداه "وليس بعيدًا في حكم المنطق العقلي المستقيم الذي يصل إلى المدى من أقرَّ به"، فإنَّه لا بُدَّ واصل إلى أن الذي خرق العادات وخالف أساببها ومسبباتها لا بُدَّ أن يكون خالقها وموجدها، وإذا كان القصور العقلي لا يصل إلى هذه الغاية، فإنه لا بُدَّ واصل إلى أن خرق هذه العادات، لا بُدَّ أن يكون لغاية، وأنَّه إذا وجدت هذه الغاية وبينت مقاصدها، وعلم أنَّ ذلك الخرق لهذه الغاية تبين معه صدق ما يدعى، وأنه يعلم من وراء ذلك الخالق الحكيم، المسيطر على كل شيء، الذي يفعل ما يرد، ولا يقيده نظام خلقه، ولا عادات أوجدها.

لذلك كان الأمر الخارق للعادة حجة الصدق لمن يدَّعي أنه يتكلم عن الخالق الحكيم الفعَّال لما يريد؛ لأنه لا يغير العادات سواه، وإن الصادق يعلن دعواه، ويقيم ذلك برهانًا عليها، ويتحدَّى الناس أن يفعلوا مثلها، ويسمَّى في هذا الحال أنه معجزة.

ولذلك عرفوها بأنها: المرّ الخارق للعادة الذي يدَّعي به من جرى على يديه أن نبي من عند الله تعالى، ويتحداهم أن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين، وأن المعجزة المادية تتحدَّى بنفسها مع ادِّعَاء الرسالة، فإن النار لا تنطفئ من تلقاء نفسها؛ إذ يلقى فيها إبراهيم عليه السلام فتكون بردًا وسلامًا عليه فلا يحترق، وكالعصا التي تتحرك وتتلوَّى كأنها ثعبان مبين، وليست سحرًا كما أدرك الساحرون، وكانوا أول المؤمنين، وكإبراء عيسى للأكمه والأبرص بإذن الله، وكإحيائه الموتى بإذن الله، فما كان له أن يطلب منهم أن يأتوا بمثلها، والقصور بَيِّن والعجز واضح، ومع ذلك فالتحدي قائم، والعجز ثابت، والحجة قائمة، وكان عليهم أن يؤمنوا بالحق إذا جاءهم.

ص: 7

وهناك بجوار المعجزة المادية معجزة هي شيء قائم بذاته ثابت، ولكن الإعجاز فيه أمر لا يدرك بالحس، ولكن يدرك بالدراسة والفحص، وقد يدَّعي بعض من لا يسبر غوره، ويعرف أمره، أنه يستطيع أن يأتي بمثله، وما هو بمستطيع، وأنه في قدرته، وليس بقادر عليه، وهو من غرور النفس، أو ادِّعاء القدرة أو اللجاجة في الأفكار، والمباهتة المناهضة للحقائق.

وإن ذلك يكون في المعجزة التي تكون من نوع الكلام، وهي معجزة القرآن الكريم، فقد كان الغرور يوهم بعض المخاطبين به أن عندهم القدرة على الإتيان بمثله، فكان لا بُدَّ من كشف هذا الغرور، وإزالة تلك الغشية الباطلة، ليتبين وضح الحق، ولذلك طالهم الله تعالى بأن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين في مثل قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة البقرة: 23] ، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وقرَّر سبحانه أن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثله، فقال تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] .

2-

وهنا يسأل سائل: لماذا كانت معجزة إبراهيم نارًا موقدة صارت بردًا وسلامًا، ومعجزة موسى عليه السلام كانت عصا صارت حية تسعى، وغيرها أيده الله به إلى تسع آيات كلها كانت مادية حسية، وكذلك كانت معجزة عيسى عليه السلام إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، وإنزال مائدة من السماء، بل كانت ولادته ذاتها معجزة حسية؛ إذ ولد من غير أب، وتكلم في المهد صبيًّا، إذ قال:{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 30-33] .

لماذا كانت معجزات الأنبياء السابقة حسية على ذلك النحو، ومعجزة محمد صلى الله عليه وسلم معنوية، فقد كانت بيانًا يتلى، وذكرًا حكيمًا، يحفظ فيه بيان الشراع المحكمة الخالدة.

قبل أن نخوض في الإجابة عن السؤال الوارد في موضعه، نقرر أن كون المعجزة مادية حسية تبهر الأعين بادئ الرأي لا يدل على علوِّ المنزلة، أو عكسها، ولكنها حكمة الله تعالى العليم بكل شيء، القادر على كل شيء، والله تعالى فضل بعض الرسل على بعض، فمنهم من كلَّم الله ورفع بعضهم فوق بعض درجات، ولكن ليست

ص: 8

الرفعة بكون الآيات مادية أو حسية، بل بأمور قدَّرها الحكيم العليم الذي له وحده حق نوع التفضيل والرفعة.

ونعود بعد ذلك إلى الإجابة عن السؤال الوارد، فنقول: إن العلماء قالوا: إن كل معجزة مناسبة للعصر الذي أرسل فيه كل نبي؛ إذ تكون هادية ومرشدة، وخرقها للعادات الجارية يكون أوضح، ومناسبتها لرسالة النبي المبعوث يكون دليلًا على كمال الرسالة وعموم شمولها لكلّ الأزمنة.

وقد نخالفهم في بعض ما ذكروا أو نوافقهم، فنرى أنَّ إبراهيم جاء في قوم كانوا على مقربة من عبدة النار، فكان في إطفاء الله تعالى للنار من غير سبب ظاهر بيان بعجز النار التي تعبد.

ونوافقهم في أنَّ معجزات موسى عليه السلام كانت مناسبة لأهل مصر؛ لأن السحر والكهانة كانا فيهم، وقد كان للسحرة مكانة عندهم، وبقية المعجزات كانت متعلقة بالزرع وآفاته، وهم أهل زرع وضرع من أقدم العصور، كما قال تعالى:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ، وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف: 133-135] .

وهكذا كانت تسع آيات حسية مناسبة لأهل مصر، وبني إسرائيل، فكانوا يقولون: إنه سحر. واقرأ قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا، قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 101-102] .

3-

هذه معجزات إبراهيم وموسى -عليهما الصلاة والسلام، وهي مناسبة لزمنهما، وكذلك معجزة عيسى عليه الصلاة والسلام كانت مناسبة لعصره، لا لأن عصره شاع فيه علم الطب كما يقول بعض علماء الكلام؛ لأن علم الطب لم يكن رائجًا بين بني إسرائيل، فلم يكن بينهم علم أبقراط، كما قرر رينان في كتابه "حياة يسوع"، بل إن معجزاته كانت من ذلك النوع لسبب آخر يجب أن نتلمَّسه من غضون التاريخ، ومن حال بني إسرائيل، ذلك أن العصر كان عصرًا ماديًّا يؤمن بالمادة ولا يؤمن بالغيب، بل كان من اليهود من لا يؤمن باليوم الآخر، وإنك لترى أن التوراة التي بأيدينا، وهي ميراثهم من التوراة التي حرفت، تقرر أن نفس الإنسان هي دمه.

ص: 9

وكان بجوار هذه الروح المادية التي سادت بني إسرائيل استجابة لما هو سائد في عصرهم الروماني الذي كان يؤمن بالمادة، كان بجوار هذا إيمان بالأسباب العادية والمسببات، بحيث يعتقدون أنه لا يمكن أن ينفكَّ السبب عن مسببه، واللازم عن ملزومه، فلا توجد نتائج من غير سبب عادي، فهلَّا ولد من غير والد، ولا حياة تكون بعد موت من يموت، فلا يرتد حيًّا، وقد عجزت الأسباب عن أن يرتدَّ حيًّا من يموت، وعجزت الأسباب عن أن يرتدَّ بصيرًا من يولد أعمى.

لقد سادت الفلسفة الأيونبه، والفلسفة اليونانية التي تقرر لزوم الأسباب العادية، حتى لقد فرضوا أن الأشياء نشأت عن الخالق لها بقانون السببية، فقالوا: إن الكون نشأ عن المنشئ الأول نشوء المسبب عن سببه بلا إرادة مختارة منشئة. لقد قرروا أن قانون الأسباب هو الذي يحكم كل شيء.

لذلك كانت معجزات عيسى عليه السلام متضمنة الرد والتنبيه في أمرين:

أولهما: بيان سلطان الروح، فقد ظهرت الروح مسيطرة موجهة مرشدة في أنه كان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وفي أنه عليه السلام أحيا الموتى بإذن الله، وأخرجهم من قبورهم بإذن الله، وأنزل عليه مائدة من السماء بإذن الله تعالى.

وثانيهما: أنه كانت معجزاته عليه السلام هادمة لارتباط الأسباب العادية بمسبباتها، لقد ولد من غير أب، والأسباب العادية تقرر أنه لا مولود من غير والد، وتكلَّم في المهد صبيًّا، وذلك غير المقرر في الأسباب والمسببات، وأخبر عن بعض المغيب عنه، وذلك غير الأسباب العادية التي توجب المعاينة في صدق الأخبار، وأحيا الموتى بإذن الله، وذلك ما لا يتحقق في الأسباب العادية.

ص: 10

‌معجزة القرآن:

وكل معجزات الأنبياء إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم -سواء أكانت مادية في كونها، أم كانت متضمنة معاني روحية- كانت من النوع الذي يحسّ بالرؤية، ويكون من بعدها التأمل، وليس من النوع الذي يكون بالتأمل، ولا يدرك إلا بالتأمل، وإن كان قائمًا ثابتًا في الوجود من غير ريب، وكانت حوادث تقع، ولا تبقى، ولا يبقى منها إلا الإخبار بها، فلا يعرفها على اليقين إلا من عاينها.

4-

ولكن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم كانت من نوع آخر، لم تكن حادثة تقع، وتزول من غير بقاء لها إلا بالخبر، بل كانت قائمة تخاطب الأجيال، يراها ويقرؤها الناس في كل عصر، ونقول: إنها مناسبة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لعمومها في الأجيال، ولمكانته بين الرسل، ومقامه في هذا الوجود الإنساني إلى يوم القيامة.

إن معجزات الأنبياء السابقين لا يعلم وقوعها على وجه اليقين إلا من القرآن، فهو الذي سجل معجزات نوح وإبراهيم وموسى وعيسى -عليهم الصلاة والسلام، ولولا أنه سجلها ما علمها الناس، وإذا كانت بعض الكتب القائمة اليوم ذكرت بعضها فقد ذكرته مشوبًا بأمور غير صادقة؛ كإخبارهم بأن لوطًا كان مخمورًا فوقع على ابنتيه، وما يكتب فيه مثل هذا عن بعض النبيين لا يمكن أن يكون مقبول الخبر عن سائرهم ومعجزاتهم.

ونقول: إن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم كانت القرآن، لقد أجرى الله تعالى على يديه خوارق وعادات أخرى، مثل: إخباره عن بعض ما يغيب عن حسه، ومثل حنين الجذع إليه، ومثل بكاء الناقة عنده، ومثل الإسراء والمعراج، ولكن لم يتحد إلّا بالقرآن الكريم، ولم ير المشركون صرحًا شامخًا يتحداهم به سوى القرآن الكريم.

ولمذا كانت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن، وما كان يرجو الاتباع إلا به، ولقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"ما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن به البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحي به إليَّ، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوما لقيامة"، ومن هذا يتبين جواب ذلك السؤال، وهذا لأنه رسالة النبي صلى الله عليه وسلم خالدة، لأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ولا نبي بعده، فيجب أن تكون معجزته مناسبة لهذه الرسالة الخالدة الباقية التي لا يحدُّها زمان في المستقبل، بل تبقى إلى يوم القيامة، ولا تكون معجزته واقعة تنقضي وتنتهي بانتهاء الزمن الذي وُجدَت فيه، بل تبقى الحجة ما بقيت الشريعة، وذلك محقق في القرآن، فهو حجة قائمة على العرب والعجم إلى يوم الدين، وهو معجز لكل الخلائق، وذلك ما نتصدى لبعضه، والله هو المعين.

المعجزة الخالدة:

5-

تلك المعجزة الخالدة هي القرآن الذي يتحدى الأجيال كلها أن يأتوا بمثله، ولو اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، كما ذكر الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو حجة الله على خلقه، وحجة النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته، وسجل الشريعة المحكم في بيانه، وهو المرجع عند الاختلاف، والحكم العدل عند الافتراق، وهو الطريق المستقيم المرشد عن الأعوجاج، من سلكه وصل، ومن لجأ إليه اهتدى.

ص: 11

روى الترمذي بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرَّم وجهه في الجنة- أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون فِتَنٌ كقطع الليل المظلم"، قلت: يا رسول الله، وما المخرج منها؟ قال:"كتاب الله تبارك وتعالى، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرآنًا عجبا يهدي إلى الرشد، من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، خذها إليك يا أعور".

وقد رواه الحارث الهمذاني برواية الترمذي، وقد حسَّن رواية الحارث كثيرون من المحدثين، منهم الفقيه المحدث ابن عبد البر، وإن الذين اتهموا حارثًا فيهم نزعة أموية، ومنهم الشعبي، وقد قال فيه ابن عبد البر:"أظن الشعبي عوقب لقوله في الحارث الهمذاني: حدثني الحارث وكان أحد الكاذبين".

وإنه في معنى هذا الحديث ما روي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه؛ إذ جاء أنَّه فيما روي عنه "إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة من تمسك به، ونجاة من اتبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، فاتلوه، فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات".

وإن هذا الأخبار ومثلها كثير تدل على منزلة القرآن في الإسلام، وأنه العصمة من الزيغ، وأنه المرجع المتبع، وأن يشتمل على شرائع الإسلام كلها، وأنه بذلك هو الحكم بين الناس الذي لا يضل حكمه، وأن من تركه من جبار قصم الله تعالى ظهره، وأنه لا تشعب الآراء في حقيقته إذا استقامت الأفهام، ولم تضل المدارك.

والعلماء يجدون فيه المعين الذي لا ينضب، والثروة الإسلامية التي لا تنفد، فيه حكم الأمور كلها ما وقع ما لم يقع، وأن كل ما فيه حق، وأنه مصلحة الدنيا والأخرى، ما من خبر إلَّا له في القرآن أصل معتمد، ونص يمكن الحمل عليه، فما ترك الله الإنسان سدًى. وقد قال تعالى وقوله الحق:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] . وفيه عبر الماضيين وأخبار كل النبيين، فهو كتاب الله الكامل،

ص: 12

فيه معاني كل الكتب المنزَّلة على الرسل، وفيه أخبار أولئك الرسل مع أقوامهم، وفيه المثلات المرشدة، والعظات الموجهة، وفيه أعلى الآداب الإنسانية وأقوم السلوم الكامل للخلق أجمعين، وفيه تعليم الإنسان الاتجاه إلى الكون وتعرف ما فيه، والأخذ بالعلم من قوادمه وخوافيه، وفيه الدعوة إلى العلم بكل ضروبه؛ علم الإنسان، وعلم النفس، وعلم الكون، وإلى العلم بالنجوم في مسالكها، والسماوات وأفلاكها، والأرض في طبقاتها، فيه الدعوة إلى العلم بما لم يعلم، وطلبه فيكل مداراته.

خاطب الله تعالى به أولياءه فعرفوه، وأصحاب العقول المستقيمة فأدركوه، وكان حقًّا كما قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31] . ذلك هو كتاب الله تعالى بما حمل من معان وتكليف، وما كساه الله تعالى به من روعة وتشريف، وهو كما وصفه الله تعالى بقوله:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] .

ص: 13

‌القسم الأول:‌

‌ نزول القرآن

نزول القرآن

القسم الأول:

نزول القرآن:

6-

من وقت أن منَّ الله تعالى على الإنسانية بالبعث المحمدي ابتدأ نزول القرآن، فأول آية نزلت كانت الخطاب من الله تعالى بالتكليف الذي كلفه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بحمل الرسالة إلى خلقه، فقد نزلت أول آية وهي:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] ، فكان هذا إيذانًا بأن دين العلم قد وجب تبليغه، وأن كتاب العلم قد ثبت تنزيله، وأن إعلاء شان الفكر قد جاء به خاتم النبيين وسيد المرسلين، وفيه إيماء إلى أن الإسلام والعلم يجتمعان، ولا يتناقضان أبدًا.

توالي نزول القرآن منجَّمًا في مدة الرسالة المحمدية التي استمرَّت ثلاثًا وعشرين سنة يدعو فيها بالحق، وإلى صراط مستقيم، ينير السبيل، ويهدي للتي هي أقوم.

فكانت الآيات القرآنية تنزل وقتًا بعد آخر، وكان التحدي بما نزل وإن لم يكن ما نزل كل القرآن؛ لأن كل جزء منه ينطبق عليه اسم الكتاب، بل القرآن؛ إذ إنَّ التحدي يقع به، والمعجزة تتحقق فيه، فقد تحدى أهل مكة أن يأتوا بمثله، ولم يكن قد نزل كله، فقد قال تعالى في سورة يونس، وهي مكية:{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 16، 17]، وجاء التحدي في هذه السورة أيضًا فقال تعالى:{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 37، 38]، وجاء في سورة هود وهي مكية:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا ِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13] .

ومن هذا كله يتبين أن بعض القرآن قرآن يتحدى فيه، فهو الكتاب الكامل في كله، والكامل في جزئه، وهو معجز في أجزائه، كما هو معجز في ذاته، وإن شئت فقل إنه معجزات متضافرة، وإذا كان لموسى تسع آيات بينات فلمحمد مئات من المعجزات البينات.

ص: 17

‌حكمة نزوله منجَّمًا:

7-

وقد يسأل سائل: لماذا نزل القرآن منجمًا ولم ينزل دفعة واحدة كما نزلت الألواح العشر على موسى عليه السلام، وكما نزل الزبور على داوود؟ وإن مثل هذا السؤال جاء على ألسنة المشركين معترضين، متخذين منه سبيلًا للجاجتهم، وقد نقل القرآن الكريم عنهم ذلك وردَّه، فقد قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32] .

ونرى أن الن الكريم قد نقل اعتراض المشركين، ورده سبحانه وتعالى عليهم، وقد تضمَّن الرد ثلاثة أمور تومئ إلى السبب في نزوله منجمًا:

أولها: تثبيت فؤاد الرسول بموالاة الوحي بالقرآن، فإن موالاته فيها أنس للنبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيت لعزيمته، وتأيد مستمر له، فيقوم بحق الدعوة بالجهاد في سبيلها، وإذا الروح الأمين الذي يجيئه بكلام رب العالمين في موالاة مستمرة.

ثانيها: إن تثبيت الفؤاد بنزول القرآن يكون بحفظ ما ينزل عليه جزءًا جزءًا؛ ذلك أن هذا القرآن نزل ليحفظ في الأجيال كلها جيلًا بعد جيل، وما يحفظ في الصدور لا يعتريه التغيير ولا التبديل، وما يكتب في السطور قد يعتريه المحو والإثبات والتحريف والتصحيف؛ ولأنَّ الله تعالى كتب للقرآن أن يحفظ، كان يحفظ جزءًا جزءًا، وكان ينزل مجزءًا ليسهل ذلك الحفظ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يحفظه عند نزوله، فكان يردد ما يتلوه عليه جبريل، ويتعجَّل حفظه، وقد قال الله سبحانه وتعالى لنبيه في ذلك:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16-19] ، ونرى من هذا النص حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يحفظ ما يوحَى إليه، فيحرِّك به لسانه مستعجلًا الحفظ، فينبهه الله تعالى إلى أنه يتولى جمعه وإقراءه له، وأنه مبينه وحافظه، كما قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .

الأمر الثالث: هو ترتيل القرآن بتعليم تلاوته، وإنَّ هذا النص يستفاد منه أن تلاوة القرآن وطريقة ترتيله هما من تعليم الله تعالى؛ إذ إنه سبحانه وتعالى ينسب الترتيل إليه تعالت قدرته وكلماته، وعظم بيانه. فنحن بقراءتنا وترتيلنا إن أحكمناه، إنما نتبع ما علم الله تعالى نبيه من ترتيل محكم جاء به التنزيل، وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] ، وما كان تعليم هذا الترتيل المنزل من عند الله تعالى ليتوافر إذا لم ينزل القرآن منجمًا، فلما نزل جملة واحدة ما تمكَّن النبي صلى الله عليه وسلم من تعلم الترتيل، ولو علمه الله تعالى بغير تنجيمه ما كان في الإمكان أن يعلمه قومه وهم حملته إلى الأجيال من بعده.

هذا ما يستفاد من النص الكريم المتلوّ، وعبارته السامية فيه واضحة بينة تشرق بمعانيه العالية الهادية الموجهة المرشدة.

وهناك سبب آخر لنزول القرآن منجمًا نلمسه من حال العرب ومن شئونهم؛ ذلك أن العرب كانوا أمَّة أمية، والكتابة فيهم ليست رائجة، بل يندر فيهم من يعرفها، وأندر منه من يتقنها، فما كان في استطاعتهم أن يكتبوا القرآن كله إذا نزل جملة واحدة؛ إذ يكون بسوره وآياته عسيرًا عليهم أن يكتبوه، وإن كتبوه لا يعدموا الخطأ والتصحيف والتحريف.

ولقد كان من فائدة إنزال القرآن منجَّمًا أنه كان ينزل لمناسبات ولأحداث، فيكون في هذه الأحداث بعض البيان لأحكامه، والمبيِّن الأول هو النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] .

ص: 18

‌المكي والمدني:

8-

كان نزول القرآن منجمًا سببًا في أن بعضه نزل بمكة وبعضه نزل بالمدينة، فكان منه المكي ومنه المدني، فالمكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة، فما نزل بعد الهجرة ولو بمكة يسمَّى مدنيًّا، وما نزل قبل الهجرة يسمَّى مكيًّا، فالتقييم زماني وليس بمكاني، ليست العبرة بمكان النزول، إنَّمَا العبرة فيه بزمانه.

والآيات المكية فيها بيان العقيدة الإسلامية، وبطلان عبادة الأوثان ومجادلة المشركين والدعوة إلى التوحيد، ومخاطبة العرب، وفيها قصص الأنبياء الذين جاءوا إلى بلاد العرب ولهم آثار في أجزائها تنادي بما صنع أقوامهم، وما أصابهم الله تعالى بكفرهم من حاصب، ومن خسف جعل عالي ديارهم سافلها، ومن ريح صرصر عاتية.

ولم يكن في الآيات المكية أحكام للمعاملات، وإن كان فيها إشارات إلى المحرمات كالخمر والربا، فقد قال تعالى مشيرًا إلى أن الخمر أمر غير حسن:{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 67] ، فإن هذا النص الكريم يشير إلى أن الخمر ليست أمرًا حسنًا؛ لأنه سبحانه وتعالى جعلها مقابلة للأمر الحسن، ولا يقابل الحسن إلّا القبيح، أو على الأقل الأمر غير الحسن.

ولقد جاء أيضًا في سورة الروم ما يشير إلى أن الربا أمر غير مستحسن، فقد قال تعالى في سورة الروم:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] .

وإن عدم وجود أحكام للمعاملات في مكة سببه أن الدولة التي كانت قائمة كانت دولة شرك، وأن من المستحيل أن تنفذ أحكام المعاملات الإسلامية في ظلها، وكان

ص: 19

الاتجاه الأول إلى إخراجها من الشرك وإدخالها في التوحيد أولًا، ثم من بعد ذلك تكون الدولة الإسلامية المنفذة، ولكن المحرمات كانت ثابتة في أول تشريع الإسلام، وإن كان مسكوتًا عنها، فلم تكن موضع إباحة، بل كانت موضع سكوت وعفو حتى ينزل التشريع بتحريمها تحريمًا قاطعًا، فما كانت الخمر مباحة، ولكن كان مسكوتًا عنها، أو كانت في مرتبة العفوِ كما يقول علماء الأصول، حتى إذا كان المنع الصريح في المدينة كان معه العقاب، وهكذا كل ما كان مسكوتًا عنه لم يكن موضع إباحة.

ولما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان التنظيم الكامل للمعاملات؛ لأنه وجدت دولة إسلامية فاضلة، تنظِّم العلاقات بين الناس، وتقوم على تنفيذها، والقضاء بها، فنظم التعامل، وابتدأ بأعلى أنواع التعاون بين الناس وهو الإخاء الذي آخى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، والأنصار بعضهم مع بعض، والمهاجرين بعضهم مع بعض، وشرعت النظم الاجتماعية، والمعاملات الإنسانية؛ من أحكام للبيوع والمزارعات، وتحريم للربويات وغيرها. وفرضية الصدقات وتنظيمها، وإعطاء الفقير حقه، والتنظيم الاجتماعي الكامل، وشرعت الزواجر الاجتماعية من حدود وقصاص، وسُنَّت الأحكام الفاصلة بين الحقوق، وفتح باب الجهاد، ووضعت نظم الحرب، وقامت العلاقات الدولية على أسس متينة محكمة، يراعى فيها حق العدو، كما يلاحظ حق الولي على سواء؛ لأن المبادئ المدنية في الإسلام قامت على إعطاء كل ذي حق حقه من غير بخس ولا شطط، ولا مجاوزة للحد ولا اعتداء.

ويلاحظ أن مبادئ العدالة جاءت مع وجود الشريعة الإسلامية، وقد دعا إليها القرآن الكريم في مكة والمدينة؛ لأن العدالة حق ابتدائي لا يختلف في دولة عن دولة، فهو يتعلق بالنفس الإنسانية في ذاتها.

فالأمر بالعدالة والإحسان والوفاء بالعهد جاء في سورة النحل، وهي مكبة عند نظر الأكثرين؛ لأن الله تعالى يقول فيها وهو أحكم القائلين:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 90-92] .

ولقد أحصى القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن السور المدنية فقال: "عن قتادة نزل بالمدينة من القرآن: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، وبراءة، والرعد، والنحل، والحج، والنور، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات والرحمن، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، ويا أيها النبي لم تحرّم إلى رأس العشر، وإذا زلزلت، وإذا جاء نصر الله، هذه السور نزلت بالمدينة، وسائر القرآن نزل بمكة".

ويلاحظ أنَّه جعل سورة النحل من السور المدنية، ولكن المذكور في المصاحف التي بين أيدينا أنها مكية، ولعلَّ فيها روايتين.

ص: 20

‌كتابة القرآن وجمعه:

9-

منذ ابتداء نزول القرآن الكريم على الرسول الأمين، والنبي صلى الله عليه وسلم يحفظه، ويأمر من حوله ممن يحسنون الكتابة أن يكتبوه، وقد سمي أولئك الذين كتبوا القرآن بكتاب الوحي، ومنهم: عبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وغيرهم كثير ممن كانوا يحضرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي بالقرآن عليه، فيملي عليهم ما نزل، ويعلمون ما حفظه في حف ظه الكثيرون من الصحابة، وخصوصًا من كانوا له عليه الصلاة والسلام ملازمين، وعلى مقربة منه صلى الله عليه وسلم.

وكان زوال القرآن على غير الترتيب الذي نقرؤه الآن في السور الكريمة، بل كان ذلك الترتيب من بعد النزول بعمل النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله تعالى، فكان يقول صلى الله عليه وسلم: ضعوا آية كذا في موضع كذا من سورة كذا، فتكون بجوارها متسقة متلاحقة المعنى مترابطة، متناسقة اللفظ، تلتقي بها كأنها تقف معها، وكأنهما كلام واحد قبل في زمن واحد، أحدهما لاحق، والآخر سابق، وكأن المتكلم قالهما في نفس واحد، من غير زمن بينهما يتراخى، أو يتباعد، وذلك من سر الإعجاز، ولا غرابة في ذلك؛ لأن القائل واحد، وهو الله سبحانه وتعالى العليم الخبير الذي لا تجري عليه الأزمان، ولا يحد قوله بالأوقات والأحيان؛ لأنه هو خالق الأزمان، والمحيط بكل شيء علمًا.

ولذلك كان ترتيب القرآن الكريم في كل سورة بتنزيل من الله تعالى.

وكان من الصحابة من يحفظه كله، فكان عبد الله بن مسعود يحفظه المكي، ويحفظ المدني، ولكن الرواة قالوا: إنه عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم المكي فقط، وكذلك جمع أُبَيُّ المدنيّ، وقالوا: إنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم ما جمعه بعد الهجرة، وأكبر العرض هو عرض زيد بن ثابت -رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد كان سنة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان بعد أن قرأ الرسول الأمين على روح القدس جبريل القرآن مرتَّبًا ذلك الترتيب الموحى به الذي نقرأ به القرآن الكريم.

وإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلَّا وقد جمع القرآن في صدر طائفة من الصحابة، قيل: إن عددهم مائة أو يزيدون، ونحن نرى أنهم كانوا أكثر من ذلك عددًا، فإنه قتل من القرَّاء في إحدى مواقع الردة عدد يزيد على السبعين، وقيل: على سبعمائة، وربما كان الأول أدق، فإذا كان ذلك العدد مقتولًا فالباقي بحمد الله تعالى

ص: 21

أكثر، وإن كان قتل سبعين قد هال المؤمن الثاقب النظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعالى عنه وجزاه عن الإسلام خيرًا.

وإن كان بعض الكاتبين ذكر أنَّ الحافظ للقرآن من الصحابة أربعة هم: علي بن أبي طالب -كرَّم الله تعالى وجهه، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، فذلك ليس من قبيل الإحصاء ولا قبيل التعيين العادي، فإن العدد أكبر من ذلك.

والأمر الآخر الذي يجب التنبيه إليه هو أن القرآن كله كان مكتوبًا عند الصحابة، وإذا كان لم يكن كله مكتوبًا عند بعضهم، أو عند واحد منهم بعينه، فإن ذلك لم يكن منفيًّا عن جميعهم، فهو مكتوب كله عند جميعهم، وما ينقص من عند واحد يكمله ما عند الآخرين، وهكذا تضافروا جميعًا على نقله مكتوبًا، وإن تقاصر بعضهم عن كتابته كمل الأخر، وكان الكمال النقلي جماعيًّا وليس أحاديًّا.

وقد يسأل سائل: لماذا كان الجامعون له في الصدور كثيرين، وقد حفظوه كاملًا غير منقوص، ولم يوجد من جمعه في السطور جمعًا كاملًا؟

ونجيب عن ذلك بجوابين:

أحدهما: من واقع حياة العرب، فقد كانوا أميين، والمجيد منهم للكتابة قليل، وأدوات الكتابة غير متوافرة، وما يكتب عليه غير معد لها، فكانوا يكتبون على الأديم، وعلى لخاف الأشجار، وعلى العسب، وغير ذلك مما لا يعد للكتابة، فكان الغريب أن تكون كتابة، فضلًا عن أن تكون كتابة كاملة للقرآن عند الواحد من الصحابة، وكتابته كاملة عند الجميع كانت بتوفيق الله تعالى ومن عنايته بكتابه الكريم.

والجواب الثاني: إن ذلك من عمل الله تعالى؛ لأنَّ الله تعالى العليم الحكيم جعل حفظ القرآن الكريم في الصدور ابتداءً وانتهاءً، وفي السطور احتياطًا، ولا تحريف، وإنَّ تواتر القرآن الكريم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون كما تلقاه عن ربه العليم الحكيم، والتواتر يكون بالتلقي في الصدور لا في السطور، ولا يكون تواترًا في مكتوب إلَّا إذا قرئ المكتوب على من أخذ عنه وأجازه، فالمكتوب يحتاج في نقله إلى الإجازة القولية، والإجازة القولية لا تحتاج إلى كتابة إلَّا بمقدار تسجيل الإجازة.

ترك محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا والأمة على بينة من أمر القرآن، قد استحفظوه وحفظوه وكتبوه، وحمله رسول الحقيقة أمانة الخليقة، وهو القرآن الحكم في هذا الوجود الإنساني، فماذا كان من بعده.

ص: 22

جمع القرآن الكريم بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم:

10-

انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وقد حفظ عدد كبير من الصحابة يبلغ حدَّ التواتر القرآن كله كاملًا غير منقوص، لم يتركوا منه كلمة إلا حفظوها، وعلموا أين نزلت، ومتى نزلت، وعلموا معناها من صاحب الرسالة -صلى الله عليه وسلم، حتى إنَّه ليروى عن عثمان بن عفان أنَّه كان يقول: كنا إذا حفظنا عشر آيات من القرآن سألنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن معناها فيبينها لنا.

ترك الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبته القرآن، وهو أعظم ثروة إنسانية مثرية في هذا الوجود، وقد أدركوا حق الأمانة وأنهم حاملوها إلى الأخلاف من بعدهم كاملة كما تسلَّموها، فكان حرصهم عليها أشدَّ من حرصهم على أنفسهم؛ لأنهم فانون وهي الباقية، وهي تراث النبوة، وسجل الرسالات الإلهية، لذلك كانوا يحافظون عليها وعلى الذين حملوها في صدورهم.

ولقد هال عمر بن الخطاب أنه قد استحر القتال بين المؤمنين الأولين -وكثير منهم من حفظة القرآن الكريم، وبين أهل الردة في موقعة اليمامة، وقتل منهم فيما قيل: سبعمائة -كما جاء في الجامع الكبير للقرطبي، فأشار عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- على أبي بكر يجمع القرآن مخافة أن يموت أشياخ القراء كأُبَيّ وابن مسعود وزيد، فندبا زيد بن ثابت إلى ذلك، فجمعه بعد تعب شديد.

روى البخاري عن زيد بن ثابت قال: "أرسل إليَّ أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة، وعنده عمر، فقال أبو بكر: إنَّ عمر أتاني فقال: إنَّ القتل قد استحر يوم القيامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها، فيذهب كثير من القرآن إلَّا أن تجمعوه، وإني لأرى أن يجمع القرآن، قال أبو بكر: فقلت لعمر: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر، قال زيد: وعنده عمر جالس لا يتكلّم، فقال لي أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبَّع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر".

اختار أبو بكر كما ترى في رواية البخاري ورواية غيره من أصحاب الصحاح زيدًا ليقوم مع من يستعين به من حفظة القرآن، وكان اختياره لزيد لأسباب جمَّة:

أولها: ما اشتُهِرَ به بين الصحابة من العلم والفقه.

ص: 23

وثانيها: لأنَّه من كتبة الوحي الملازمين، لا الذين كتبوا مرة أو مرتين وأخذوا لقب كاتب الوحي شرفًا.

وثالثها: إنه ممن حفظوا القرآن وجمعوه في صدورهم، فكان حقيقًا أن يجمعه مسطورًا بعد أن جمعه محفوظًا.

ورابعها: إنه عرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التي انتقل فيها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كما قدمنا.

11-

حمل زيد ما هو أشد حملًا من الجبال؛ لأنه يحمل أثقل موازين الهداية في هذا الوجوه الإنساني، وهو وديعة الله تعالى إلى الوجود الإنساني إلى أن تزول السماوات والأرض.

وما كان لمن يحمل مثل هذا الحمل أن ينفرد بالعبء، فقد استعان بالحفظة الكرام من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الأعلام، وسلك في سبيل الجمع الخطة المثلى، فما كان ليعتمد على حفظه، وإنه لحافظ، ولا على حفظ من استعان بهم، وإنهم لحفاظ أمناء، ولكنه كان لا بُدَّ أن يعتمد على أمر مادي يُرَى بالحسِّ لا يحفظ بالقلب وحده، فكان لا بُدَّ أن يرى ما حفظه مكتوبًا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يشهد شاهدان بأنهما هكذا رأوا ذلك المكتوب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وبإملائه صلى الله عليه وسلم، وقد تتبع القرآن بذلك آية آية، لا يكتب إلَّا ما رآه مكتوبًا عن النبي صلى الله عليه وسلم في عهده، ويشهد شاهدان أنهما هكذا رأيا ذلك المكتوب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ونقلاه، أو يرى ذلك المكتوب عند اثنين، فهو شهادة كاملة منهما، وقد حصل على القرآن كله مكتوبًا بنصاب الشهادة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان إلَّا أن نقل المكتوب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه وجد آيتين لم يشهد اثنان بأنهما كتبتا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، بل شهد واحد فقط، وهو خزيمة بن ثابت الأنصاري، وهو قوله تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 128، 129] ، لم يجدهما إلا عند خزيمة، وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم تكريمًا له:"شهادتك باثنين".

وروي أنه لم يجد آية أخرى إلَّا عند خريمة، وهي قوله تعالى:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] .

هذا هو المسلك الذي سلكه المؤمن الحافظ الذي اختاره أبو بكر لحمل التبعة مع من اختاره، ولنترك الكلمة له -أي: لزيد- فهو يشير إلى ما سلكه، فهو يقول فيما رواه البخاري: "قمت فتتبَّعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال،

ص: 24

حتى وجدت آيتين من سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري، لم أجدهما مع غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] .

والآية الأخرى التي لم يجدها إلا عند خزيمة أيضًا جاء فيها عنه في رواية البخاري أيضًا: وعن زيد بن ثابت لمَّا نسخنا في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلَّا مع خزيمة الأنصاري الذي جعل الله تعالى شهادته بشهادة رجلين:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]، وقد علَّق على ذلك القرطبي: فكانت الأولى من سورة براءة في الجمع الأول على ما قاله البخاري والترمذي، وفي الجمع الثاني فقدت آية من سورة الأحزاب.

وهذا يدل على أنَّ الجمع الثاني اتبع فيه ما اتبع في الجمع الأول بالبحث عن الآيات مكتوبة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يشهد اثنان بكتابتها في عصره، أو توجد عند اثنين، فوجودها عندهما شهادتان، والجمع الثاني كان في عهد عثمان.

ولكن قد يسأل سائل: لماذا كان نصاب الشهادة كاملًا في الجمع الذي حدث في عهد أبي بكر، ثم لم يوجد النصاب في بعض الآي عند الجمع الثاني؟

نقول: إن فرض ذلك يتحقق بغياب أحد ركني النصاب عن المدينة أو موته، ولكن الله تعالى حافظ كتابه في هذا الوجود كوعده بحفظه وأنه منجز ما وعد:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ، ولذلك كان الشاهد في الثاني هو الشاهد في الأول، وهو خزيمة الأنصاري الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته باثنين، فالنصاب كان كاملًا.

12-

ولا نترك الكلام في هذا العمل الجليل الذي اشترك فيه أبو بكر وعمر، وحمل عنه زيد بن ثابت مع جمع من المهاجرين والأنصار، من غير أن نقرر حقيقتين ثابتتين تدلان على إجماع الأمة كلها على حماية القرآن الكريم من التحريف والتغير والتبديل، وأنه مصون بصيانة الله سبحانه وتعالى له، ومحفوظ بحفظه، وإلهام المؤمنين بالقيام عليه وحياطته.

الحقيقة الأولى: إن عمل زيد رضي الله عنه لم يكن كتابة مبتدأة، ولكن إعادة لمكتوب، فقد كتب كله في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل زيد الابتدائي هو البحث عن الرقاع والعظام التي كان قد كتب عليها والتأكد من سلامتها، بأمرين: بشهادة اثنين على الرقعة التي توجد فيها الآية أو الآيتان أو الآيات، ويحفظ زيد نفسه وبالحافظين من الصحابة، وقد كانوا الجم الغفير والعدد الكبير، فما كان لأحد أن يقول: إن زيدًا كتب من غير أصل مادي قائم، إنه أخذ من أصل قائم ثابت مادي.

ص: 25

وبذلك نقرر أن ما كتبه زيد هو تمام ما كتب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس كتابة زيد، بل هو ما كتب في عصره صلى الله عليه وسلم، وما أملاه، وما حفظه عن الروح القدس.

وإذا كان ما كتبه عثمان من بعد ذلك قد قوبل بما كتب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، فالمصحف العثماني الذي بقي بخطه إلى اليوم هو مطابق تمام المطابقة لما كتب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يجب ألا يخرج عنه قارئ في قراءة بزيادة حرف أو نقص، قد تكون القراءات متغيرة في أصوات المقروء وأشكال النطق، ولكن لا يمكن أن تكون متغيرة بزيادة أو نقص، فذلك هو الخروج عن الرسم الذي وضع في عصر محمد صلى الله عليه وسلم بإقراره صلى الله عليه وسلم.

الحقيقة الثانية: إنَّ عمل زيد لم يكن عملًا أحاديًّا، بل كان عملًا جماعيًّا من مشيتخة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أنَّ زيدًا بطبيعة عمله أعلن بين الناس ما يريد؛ ليأتيه كل من عنده من القرآن ما هو مكتوب بما عنده، وقد علموا مقدار ما ينبغي لكتاب الله من عناية، فذهبوا إليه وذهب إليهم، وتضافر معه من كانوا يعاونونه غير مدخِّرين جهدًا إلَّا بذلوه في عناية المؤمن بكتاب الله تعالى الذي يؤمن به.

ولما أتمَّ زيد ما كتب تذاكره الناس وتعرَّفوه وأقرّوه، فكان المكتوب متواترًا بالكتابة ومتواترًا بالحفظ في الصدور، وما تمَّ هذا لكتاب في الوجود غير القرآن، ولا يهمنا أن يقرَّ ذلك المعاندون أم لا يقروه، فذلك إيماننا، والحجة القاطعة لا يضيرها ارتياب في غير موضعه، بل الحقائق ناصعة، والبينات قائمة ثابتة، وهي في حكم البدهيات القاطعة، ومن يرتاب في أمر عقلي لا ريب فيه فهو يضل نفسه، ولا يضر غيره، والحق أبلج، والباطل لجلج، وإذن فلا عجب في أمر المعاندين الضالين.

إنما العجب كل العجب في أمر الذين يضلون في طلب الحق، فيتيهون في ظلمات الروايات المدسوسة المكذوبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ص: 26

‌جمع القرآن في عهد عثمان أو الأحرف السبعة:

13-

جمع القرآن كله في عهد الشيخين أبي بكر وعمر، وقد أودعه عمر حفصة أم المؤمنين، ليكون مصونًا يرجع إليه لا ليتلى منه، فالتلاوة استمرَّت كما كانت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم تتلقَّى من أفواه الرجال مرتَّلة، كما تلقوها عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليبقى القرآن محفوظًا في صدور المؤمنين بنصِّه وتلاوته.

وإن النصَّ المكتوب واحد لا تغير فيه، وهو يحتمل عدة قراءات، وقد ذكروا أن القراءة المتواترة لا تكون مقبولة إلَّا إذا كانت موافقة للنص المكتوب غير زائدة، ولا ناقصة، فهي شاملة للقراءات كلها.

ولقد أجيز في أول نزول القرآن أن يقرأ على لغاتٍ سبع من لهجات العرب كلها يمنيها ونزارها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهل شيئًا منها، ولذلك روى البخاري أنَّ القرآن نزل على سبعة أحرف، نُسِخَت ست وبقيت واحدة، ويروي مسلم عن أُبَيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاءة بني غفار -وهو غدير صغير عندهم، فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: $"إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك"، ثم أتاه الثانية فقال:"إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك"، ثم جاء الثالثة فقال:"إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله تعالى معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك"، ثم جاء الرابعة، فقال:"إن الله تعالى يأمرك أن تقرئ أمتك على سبعة أحرف، فأيما حرف قد قرءوا عليه فقد أصابوا"، وروى الترمذي عن أُبَيّ بن كعب، قال:"لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال: "يا جبريل، إني بعثت لأمة أمية منها العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لا يقرأ كتابًا قط، فقال لي: يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف" وهذا حديث صحيح.

وقد قال القرطبي في كتابه "الجامع الكبير لأحكام القرآن": "ثبت في الأمهات البخاري ومسلم والموطأ وأبي داود والنسائي وغيرها من المصنَّفات والمسندات قصة عمر مع هشام بن حكيم، وهو الذي صرَّح فيه بأنَّ عمر سمع هشامًا يقرأ بحروف لم يسمعها، فأخذه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرَّ ما قرأ هشام، وأقرَّ ما قرأ عمر، ثم قال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف".

14-

وإننا إذا تأملنا ما جاء في هذه الأخبار الصحاح ننتهي إلى أنَّ العرب ما كانت تطاوع ألسنتهم حرف القرآن، ففيهم الرجل الشيخ والمرأة العجوز اللذان جمد لسانهما على لهجتهما، فلا يطاوعهما على النطق الصحيح بلهجة لم يعرفوها ولم يلوكوها من قبل، فكان لا بُدَّ أن تمرن ألسنتهم أمدًا على لغة القرآن حتى تلين، وتألف النطق بكلماته على اللغة التي بقيت.

وتفسير الأحرف باللهجات أو اللغات العرب ما بين مضرية وربعية ونزارية وقرشية وغيرها، هو التفسير الذي اختاره ابن جرير الطبري، وكثيرون من الرواة، وهو الذي يتفق مع النسق التاريخي في الجمع الذي اضطر ذو النورين عثمان -رضي الله تعالى عنه- لِأَنْ يقوم به، وارتضاه الصحابة، وقال علي بن أبي طالب -كرَّم الله وجهه: لو كنت مكانه ما عملت إلّا ما عمل.

ولقد ذكر القرطبي أنَّ هذه الأحرف باقية في القرآن لم ينسخ منها حرف، ولكني أرى أن النَّسَق التاريخي الذي أشرنا إليه من قبل يوجب أن يكون حرف واحد قد بقي، وهو لغة قريش، وهو الذي كتب عثمان مصحفه عليه، وكان من قبل مكتوبًا عليه كما

ص: 27

سنبين أنه لم يأت قط بما يخالف المصحف المحفوظ عند أم المؤمنين حفصة عندما قابله به.

وقبل أن ننتقل إلى ما فعل الإمام عثمان -رضي الله تبارك وتعالى عنه، لا بُدّ أن نذكر حقيقتين دلَّ عليهما المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، والسياق التاريخي:

أولهما: إنَّ الذي كُتِبَ في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتره تغيير، ولم تجر عليه الحروف السبعة، وإنَّ الحروف السبعة كانت في قراءة القرآن لا في كتابته، وأن استئذان النبي صلى الله عليه وسلم كان في القراءة لا في الكتابة.

ثانيتهما: إنَّ استئذان النبي صلى الله عليه وسلم كان ليسهل على أمته حتى تلين ألسنتهم، وتستقيم على النطق باللغة التي اختارها الله تعالى لقرآنه المنزل من عنده وهو العليم، وهي لغة قريش في جلّ ما أنزل الله تعالت كلماته، فكانت لغة قريش لغة الأدب في الجاهلية والإسلام، فكان من منطق الحوادث أن يكون أعلى الكلام ينزل في ثوب أعلى اللغات العربية؛ إذ كانت لغة الشعر والأدب.

15-

ولنتنقل بعد ذلك إلى جمع ذي النورين عثمان رضي الله عنه، ومكانه من جمع الشيخين أبي بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما، وجزاهما عن الإسلام خيرًا.

تفرَّق الصحابة من المهاجرين والأنصار، وقد كان عمر -رضي الله تبارك وتعالى عنه- آخذًا بحجزات الصحابة، وخصوصًا كبارهم، يمنعهم من مغادرة الحرمين، فاختلف الناس في القراءة، ومنهم من كان يقرأ بالقراءات أو اللغات المختلفة التي ما كانت القراءة بها إلّا ترخيصًا مؤقتًا حتى تلين الألسنة إلى لغة القرآن، وإنها لواحدة، وإن اختلفت القراءات المتواترة، فيظلها ما بين حذف الهمزة في النطق، وإن كانت بقاية في مصحف عثمان تقرأ فيه مثبتة وغير مثتبة، كالأرض -مهموزة، والأرض -من غير همزة، ومن اختلاف في الشكل يدل في كل شكل على معنى صحيح يصلح أن يكون مقصودًا في القرآن، ويكون الجمع صحيحًا، مثل: أنفسكم -بضم الفاء، وأنفسكم -بفتحها، ومثل: فتبينوا -بالباء بعد التاء، أو فتثبتوا -بالثاء بعد التاء وبعدها باء ثم تاء.

وما كان اختلاف القراء في الأمصار في عهد عثمان في هذه القراءات المشهورة بيننا الآن، إنما كان الاختلاف في اللغات التي كان مرخَّصًا بها، فمنهم من لم يعلم نسخها عند قراءة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في العرضات الأخيرة.

لقد اشتدّ الأمر في ذلك، وعظم اختلافهم، وتشبَّث كل فريق بما يقرأ، زاعمًا أن غيره هو الباطل الذي لا ريب فيه، ووقع الخلاف بين أهل العراق وأهل الشام عندما اجتمعوا في غزوة أرمينية، فقرأت كل طائفة بما روي لها، وتنازعوا أمرهم بينهم، وأظهر بعضهم تكفير بعض، وتبرأ بعضهم من بعض، وكان معهم حذيفة بن اليمان كما

ص: 28

ذكر البخاري والترمذي، وقد ذكرا أنَّ حذيفة عندما آب من هذه الغزوة دخل إلى عثمان قبل أن يدخل إلى أهله فقال: أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك، قال عثمان: في ماذا؟ قال: في كتاب الله، إني حضرت هذه الغزوة، وجمعت ناسًا من العراق والشام والحجاز، ووصف له ما كان من الاختلاف والتكفير، وقال: إني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلف اليهود.

أفزع هذا الأمر عثمان التقيّ كما أفزع المؤمنين الذي علموا ذلك النبأ الخطير، ولكن الفزع لم يوهن العزيمة بل شحذها، ولم يضعف الإرادة بل حفزها، وكانت عزمة ذي النورين عثمان.

لقد أحضر النسخة المحفوظة عند أم المؤمنين حفظة؛ لتكون الإمام الذي يحتكم إليه فيما هو مقدَّم عليه، وجمع من الصحابة الحافظين الكرام بضعة على رأسهم زيد بن ثابت الجامع الأول، والثقة الثبت الذي كان له فضل التثبت في كل كلمة وآية.

وقد قال له عثمان -رضي الله تعالى عنه- عندما ندبه لذلك العمل الجليل: إني مدخل معك رجلًا فصيحًا لبيبًا فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إليّ، فجعل معه أبان وسعيد بن العاص، فلمَّا بلغا في الكتابة قوله تعالى:{إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248] . قال زيد: فقلت: التابوه، وقال سعيد بن العاص التابوت، فرفعنا الأمر إلى عثمان، فكتب التابوت.

وكان جملة من ضمَّهم إلى زيد ثلاثة هم: عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص الذي ذكرناه، وعبد الرحمن بن الحارث، وقال لهذا الرهط من قريش: ما اختلفتم فيه أنتم وزويد، فاكتبوه بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم.

ويظهر أنَّ سيدنا عثمان لم يكتف بهؤلاء الأربعة، بل كان يضمّ إلى معاونتهم من يكون عنده علم بالقرآن يعاونهم في كتابته، ولقد روى ابن عساكر أنَّ عثمان دعا إلى هذه المعاونة فقال: إن عثمان خطب يومئذ في الناس، وعزم على كل رجل عنده شيء من كتاب الله لما جاء به، ويقول ابن عساكر: فكان الرجل يجئ بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرة، ثم دعاهم رجلًا رجلًا، فناشدهم: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملاه عليك، وهكذا كان يتثبت في الرواية، كما كان التثبت من زيد ومن معه، والذي كتب المصحف الأول الذي أودع أمَّ المؤمنين حفصة رضي الله عنها وعن أبيها فاروق الإسلام.

وقد أتمَّ زيد ومن معه جمع القرآن، ولكن عثمان لا يكتفي، بل إنَّه يسير في الاستيثاق إلى أقص مداه، فيحضر مصحف أم المؤمنين حفصة، ويعرض المصحف الجديد، فيجدهما يتوافقها تمام التوافق، لا يزيد أحدهما عن الآخر حرفًا ولا ينقص

ص: 29

عنه، حتى لقد فهم بعض العلماء أنَّ جمع عثمان كان نسخًا لما جاء في الصحف المحفوظة عند أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها وعن أبيها الفاروق، وجاء ذكر ذلك في بعض الروايات تسامحًا، ولكن الحقيقة أنَّه ما كان نسخًا، بل قام بالتحريات كلها، حتى جمع ما جمع، وكان التوافق الكامل الذي يدل دلالة قاطعة على صدق الجمعين، وعلى تواتر القرآن الكريم مكتوبًا ومحفوظًا، وبذلك حفظه الله تعالى وصانه.

ولقد قال الطبري: إنَّ المصحف التي كانت عند حفصة جعلت إمامًا في هذا الجمع الأخير، ويقول الطبري:"هذا صحيح"، ومعنى صحته أنَّه بعد الجمع الذي قام به زيد بأمر عثمان، وعاونه المؤمنين الحافظون قد روجع على مصحف حفصة رضي الله عنها، وكانت هي المقياس لصحته، فبالمقابلة بينهما بعد الجمع تبينت صحتهما بصفة قاطعة لا ريب فيها، فكانت هذه الإمامة، حتى ظنَّ أنه نسخ منها.

16-

ويلاحظ أمران:

أولهما: إنَّ عثمان رضي الله عنه كان غرضه من إعادة جمع المصحف هو أن يكتبه على حرف واحد من الحروف السبعة، أي: اللهجات واللغات السبع، فما كان جمعه إلَّا لإثبات الحرف الباقي الذي روي مكتوبًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ليجتمع عليه المسلمون، ولا يكونوا متفرقين، أن يكون ذلك موافقًا للمكتوب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

جاء في القرطبي: "قال كثير من علمائنا كالداودي، وابن أبي صفرة: هذه القراءات السبع التي تنسب لهؤلاء القراء السبعة ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها، وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة، وهو الذي جمع عليه عثمان، ذكره ابن النحاس وغيره".

الأمر الثاني: إنَّ عثمان -رضي الله تبارك وتعالى عنه- حسم مادة الفتنة بذلك الجمع، وعمل ما كان ينبغي أن يعمل، ولذلك نسخ من هذا الذي جمعه نسخًا على قدر الأقاليم العربية، فأرسل إلى كل إقليم نسخة كانت هي الأصل لهذا الإقليم، فأرسل إلى مصر، وإلى الشام، وإلى مكة واليمن والبحرين والبصرة، والكوفة، وحبس بالمدينة مصحفًا كان هو الإمام لكل هذه النسخ، وهو المرجع الأول في الدولة، ترجع إليه كل المصاحف، وهو الحاكم عليها.

وإذا كان هو الأصل لكلِّ هذه المصاحف فيجب القول بأنه لا اختلاف بينها؛ لأنه الحكم، وأنها صور لنسخة واحدة، ويلاحظ أنَّ الإمام العظيم عثمان قد كتب المصحف خاليًا من النقط والشكل، كما كان المصحف الموجود عند حفصة خاليًا من النقط والشكل، ولم يكن نقط وشكل إلا بعد ذلك.

ص: 30

ولكن لماذا خلا من ذلك؟ والجواب عن ذلك: إنَّ القرآن له قراءات مختلفة هي سبع قراءات، وليست هي الحروف كما ذكرنا من قبل، ولكي يكون المكتوب محتملًا لهذه القراءات المرويّة بطرق متواترة كلها، كان لا بُدَّ أن يكون غير منقوط ولا مشكول، كما ذكرنا في اختلاف القراءة في {أَنْفُسِكُم} وكما ذكرنا في اختلاف القراءة في {فَتَبَيَّنُوا} ، وما كان يمكن أن يحتمل النص القراتين إذا كان منقوطًا ومشكولًا.

ومن جهة أخرى: إنَّ الأساس في تواتر القرآن هو الحفظ في الصدور لا في السطور، حتى لا يعتريه المحو والإثبات، فلو كان القرآن منقوطًا ومشكولًا لاستغنى طالب القرآن عن أن يقرئه مقرئ، فلا يكون التواتر الصحيح الذي يقتضي الإجازة ممن أقرأه، ولقد جاء التحريف في الكتب الأخرى لاعتمادها على المكتوب في السطور لا المحفوظ في الصدور.

ومن جهة ثالثة: إنَّ ترتيل القرآن كما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بُدَّ منه كما قال تعالى: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32] ، وإنَّ ذلك لا يتمّ إلَّا إذا كان القرآن يقرأ على مقرئ يجيزه حفظًا وقراءة وترتيلًا.

17-

وإن الرواية الصحيحة بينة مستقيمة لا مجال للشك فيها، وهي تدل على أمور ثلاثة قطعية في ثبوتها، وهي:

أولًا: على أنَّ النص الذي كان عند حفصة هو النص المكتوب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ذاته النص المكتوب في مصحف عثمان رضي الله عنه، فلا يصحّ الزيادة عليه، ولا يصح النقص.

ثانيًا: على أنَّ القرآن كتب بلغة قريش، وهي الحرف الذي استقرَّت القراءة عليه، وما كان الترخيص بالقراءة بالحروف الأخرى إلَّا مؤقتًا حتى تطوع الألسنة لحرف قريش، ولقد جاء في القرطبي:"إن القرآن نزل بلغة قريش" معناه عندي في الأغلب والله أعلم: لأنَّ غير لغة قريش موجود في صحيح القراءات من تحقيق الهمزة ونحوها، وقريش لا تهمز".

ومؤدَّى هذا الكلام أنَّ الألفاظ والأساليب والمنهج القرآني أنزل على لغة قريش، ولكن الحركات التي تعتري بنية الكلمة من همز أو إمالة أو نحو ذلك جاء على لهجات من غير قريش، ورويت كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثالثًا: إنَّ مصحف عثمان -رضي الله تبارك وتعالى عنه- يجب أن تكون كل قراءة قرآنية متفقة مع نصه، وأن الشك فيه كفر، وأن الزيادة عليه لا تجوز، وإنه القرآن المتواتر الخالد إلى يوم القيامة.

ص: 31

18-

إذا كانت هذه حقائق ثابتة تواترت في الأجيال، فلماذا كانت الروايات الغريبة البعيدة عن معنى تواتر القرآن الكريم التي احتوتها بطون بعض الكتب كالبرهان للزركشي، والإتقان للسيوطي، التي تجمع كما تجمع حاطب ليل يجمع الحطب والأفاعي، مع أنَّ القرآن كالبناء الشامخ الأملس الذي لا يعلق به غبار؟

قد أجاب عن ذلك الكاتب الكبير المسلم المرحوم مصطفى صادق الرافعي1، فقال في كتابه إعجاز القرآن:"ونحن ما رأينا الروايات تختلف في شيء من الأشياء فضل اختلاف، وتتسم في الرد والتأويل كل طريق وعر، كما رأينا من أمرها فيما عدا نصوص ألفاظ القرآن، فإن هذه الألفاظ متواترة إجماعًا، لا يتدارأ فيها الرواة من علا منهم ومن نزل، إنما كان ذلك لأنَّ القرآن أصل الدين، وما اختلفوا فيه إلّا من بعد اتساع الفتن، وحين تألف الأحداث، وحين رجع بعض الناس من النفاق إلى أشد من الأعرابية الأولى، وزاغ أكثرهم عن موقع اليقين من نفسه، فاجترءوا على حدود الله تعالى، وضربتهم الفتن والشبهات، مقبلًا بمدبر، ومدبرًا بمقبل، فصار كل من نزع إلى الخلاف يريد أن يجد من القرآن ما يختلف معه، أو يختلف به، وهيهات ذلك، إلَّا أن يتدسَّس في الرواية بمكروه يكون معه التأويل والأباطيل، وإلا أن يفتح الكلمة السيئة، ويبالغ في الحمل على ذمته، والعنف بها في أشياء لا ترد إلى الله ولا إلى الرسول، ولا يعرفها الذين يستنبطون من الحق، بل لا يعرفون لها في الحق وجهًا.. ونحسب أن أكثر هذا مما افترته الملحدة، وتزيدت به الفئة الغالية، وهم فرق كثيرة يختلفون فيه بغيًا بينهم، وكلهم يرجع إلى القرآن بزعمه، ويرى فيه حجته على مذهبه، وبينته على دعواه، ثم أهل الزيغ والعصبية لآرائهم بالحق والباطل، ثم ضعاف الرواة ممن لا يميزون، أو ممن تعارضهم لغفلة في التمييز. وذلك سواد كله ظلمات بعضها فوق بعض، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور"2.

وإن ذلك الذي ذكره الكاتب الإسلامي الكبير حق لا ريب فيه، فإن هذه الروايات التي جمعها من لا يفرق بين الحابل والنابل، وبين الحطب والأفعى، إنما كانت بعد الفتن، ولعل للإسرائيليات دورها الخفي المسموم، وإن الذين تولوها غلاة الفرق، والرواة الذين لا يميزون أو يغفلون ما لا يدركون.

ألم تر إلى أولئك الغلاة يطعنون في عثمان رضي الله عنه، ويجعلون من أسباب الطعن أنه جمع المصحف وجعل له إمامًا، عندما رأى الاختلاف قد تفاقهم، وأنه جمعهم على ما كتب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ورأى علي رضي الله عنه مثيري الفتنة بعد مقتل الشهيد عثمان، فقال رضي الله عنه وكرم الله وجهه:"يا معشر الناس، اتقوا الله، وإياكم والغلوِّ في عثمان، وقولكم حرق المصاحف، فوالله ما حرقها إلَّا على ملأ منَّا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"، وروي عن عمر بن سعيد أنه قال:"قال على بن أبي طالب: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت مثل الذي فعل عثمان".

1 توفي سنة 1937م.

2 إعجاز القرآن للرافعي ص42.

ص: 32

‌تحريق غير المصحف الإمام وغير ما نسخ منه:

19-

كانت الفتنة قد بلغت ذروتها وخبَّ فيها الذين يؤيدونها ووضعوا، وكان قد دخل في الإسلام الذين يريدون أن ينتقموا منه لدولهم التي غزاها نور الإسلام، وانفتح في قلوب الأكثرين باب الهداية، ووجدوا في القرآن السبيل إلى ما أرادوا أن يهدموه وهو الإسلام، ليقتلعوه من جذوره، ويأتوه من قواعده، فجاءوا من القرآن عماده ونور الله المبين وحبله المتين.

وكان السبيل إحياء الأحرف التي نُسِخَت، فاندسُّوا بين المسلمين يحيون المقبور، ويروجون المهجور، ويبثون روح الشك والريب فيما هو متواتر ثابت.

وقد انبرى لهم ذو النورين، واجتثَّ شرهم، فجمع المصحف الإمام على الطريق المأمون الذي كان مستوثقًا غير متظنّن، ومتأكدًا غير متشكك، فكان ما كتب في عهده هو عين ما كتب في عهد الشيخين أبي بكر وعمر، وما كتب في عهد الشيخين هو عين ما أملي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وما حفظه أصحابه في صدورهم.

حتى إذا تمَّ له ما احتسبه عند الله على ملأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شاهدوا وعاينوا واتبعوا عن بينة، وفيهم الكثيرون ممن حفظوا القرآن كله كعليّ -كرَّم الله وجهه، ومعاذ بن جبل، فكان التواتر الكامل والصيانة الكاملة والاستحفاظ على كتب الله تعالى.

فلم يبق إلَّا أن يزيلوا غيره من المصاحف؛ لأنها كتبت بغير حرف قريش أو به وبحروف أخرى، فأحرقها جميعًا، ولم يبق إلَّا المصحف الإمام وما نُسِخَ منه، فلا يرجع إلى سواه، ولا يعتمد على غيره، ولو بقيت مصاحف غيره لكان الاحتجاج بها، ولعادت الفتنة جذعًا، وكان التشكيك والريب، وقد حفظ الله تعالى كتابه.

حرق عثمان المكتوب كله، ولم يبق منه شيئًا، وردَّ إلى السيدة أم المؤمنين حفصة المصحف الذي كان مودعًا عندها، والذي كان إمامًا لمصحف عثمان، كما قرَّر بحق ابن جرير الطبري، وقد ردَّه إليها لموعدة وعدها إياها فوفَّى بوعده، ولكنّها لما توفيت أمر عبد الله بن عمر أن يحرق المصحف الذي كان عندها، وروي أنَّها توفيت رضي الله عنها في عهد معاوية بن أبي سفيان، وأن الذي حرق المصحف الذي عندها

ص: 33

والى المدينة مروان بن الحكم، ومهما يكن اختلاف الرواية في تاريخ وفاتها، فإنَّ عثمان رضي الله عنه قد قرَّر أن يحرق بعد وفاتها.

وهنا يسأل المؤرّخ: إذا حرق عثمان المصاحف الأخرى لما أثارته من فتنة، ولأنه كان فيها حروف أخرى غير حرف قريش، فلماذا قرر حرق المصحف الذي عند حفصة، وقد كان إمام مصحفه، والمرجع الذي وزن به صحة ما كتب في عهده، حتى إنه قيل: إن المصحف الذي كتب في عهده قد نسخ منه نسخًا؟

ونقول في الجواب عن ذلك: إنَّ المصحف أودع حفصة رضي الله عنها وعن أبيها؛ لأنَّها كانت حريصة على أن يبقى عندها، وما أراد الرجل الطيب عثمان أن يحرمها مما أرادت، فأعاده إليها، ولكنَّه الحريص على القرآن خشي أن يقع في يد أحد، فيمحو فيه ويثبث، ويقول: قد غيَّر ما عندكم، وها هو ذا الأصل، فاحتكموا إليه، ويكون صالحًا للاحتكام، فأمر أن يحرق بعد وفاتها، وما أبقاه عندها في حياتها إلا مرضاة لها، فاحتاط للقرآن، وما أعنتها -رضي الله تعالى- عن ذي النورين بما صنع -وأكرمه في مثواه ورضي عنه وأرضاه.

ص: 34

‌ترتيب الآيات والسور:

20-

أجمع العلماء على أنَّ الآيات رتبت بتنزيل من الله تعالى، فكانت الآية إذا نزلت يقول صلى الله عليه وسلم لكتابته ولصحابته: ضعوها في موضع كذا من سورة كذا، وتكون لقفًا مع التي وضعت بجوارها، وتكونان نسقًا بيانيًّا، هو الإعجاز، وإنه يدل على وحدة المنزِّل وهو الله سبحانه وتعالى، وإن الآيات المكية كانت توضع في السور المكية، والمدنية كانت كذلك توضع في المدنية، إلا بعض آيات مدنية وضعت في سور مكية ونبَّه إليها.

على ذلك انعقد الإجماع، وكانت العرضة الأخيرة التي قرأ فيها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل بترتيب الآيات ذلك الترتيب، ومن أنكر ذلك أو حاول تغييره فقد أنكر ما عُرِفَ من الدين بالضرورة، وخرج عن إطار الإسلام، وحاول التغيير والتبديل، فتلك الدعوات المنحرفة التي تدعو إلى ترتيب القرآن على حسب النزول، أو على حسب الموضوعات، هي خروج على الإسلام، يبثه بعض الذين لا يرجون للإسلام وقارًا؛ إذ يجعلون القرآن عضين، ويخالفون التنزيل، ويعارضون الوحي، وذلك خروج عن الإسلام.

هذا ترتيب الآيات، أمَّا ترتيب السور فإنَّه من الثابت أنَّ المصحف الإمام كان على هذاالترتيب، وقالوا: إنه ما ارتضاه زيد بن ثابت، ووافقه عليه الشيخان أبو بكر وعمر وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وذو النورين عثمان وهو المتَّبِع، فلا يغير ولا يبدِّل، وقد قيل: إنَّ بعض الصحابة كان له مصحف بغير هذا الترتيب، فكان لأُبَيّ مصحف، وكان لعلي

ص: 34

-كرَّم الله وجهه- مصحف، وقد نقل ابن النديم في الفهرس أنَّه كان على حسب ترتيب النزول، وأنه ابتدأ بقوله تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 1، 2] ، وهي أوَّل آية نزلت.

ولكن في العرضة الأخيرة من جبريل كان على هذا الترتيب، البقرة ثم آل عمران على ما والاها.

ولقد جاء في "الجامع الكبير" للقرطبي ما نصه: "ذكر ابن وهب في جامعه قال: سمعت سليمان بن بلال يقول: سمعت ربيعة يسأل: لم قدِّمت البقرة وآل عمران، وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة، وإنما نزلتا بالمدينة؟ فقال ربيعة: قد قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه، وقد اجتمعوا على العلم بذلك، فهذا مما ينتهي إليه".

قال ابن مسعود: "من منكم كان متأسيًا، فليتأسَّ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالًا، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".

ولقد قال الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه: "إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وذكر أبو بكر الأنباري كما نقل عنه القرطبي:"أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا، ثم فرِّق على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وكانت السورة تنزل والآية جوابًا لمستجيب يسأل، ويقف جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف، فكله عن محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، فمن أخَّرَ سورة مقدَّمة أو قدَّم أخرى فهو كمن أفسد نظم الآيات، وغيَّرَ الروف والكلمات، ولا اعتراض على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام، والأنعام نزلت قبل البقرة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عنه هذا الترتيب، وهو كان يقول: "ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن، وكان جبريل عليه السلام يقفه على مكان الآيات".

ومن هذه الروايات المختلفة المؤتلفة المجمعة على أنَّ ترتيب السور بتوقيف، يتبين أنَّ المصحف الإمام هو الذي يصوّر العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل ما بين يديه ولا من خلفه.

ولكن ماذا يقال عن الروايات التي جاءت بأنه كان لأُبَيّ مصحف بغير هذا الترتيب، ولعلي رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه- مصحف كان بترتيب النزول؟ لنا في الإجابة عن ذلك السؤال طريقان:

أولهما: أن نعتبر ما عليه الكثيرة التي تكاد تكون إجماعًا يؤخذ به، ويكون ذلك الإجماع دليلًا على ضعف ما عداه، وأنه لا يؤخذ به لعدم صحة السند.

ثانيهما: إنِّنَا نقول: إن ذلك كان قبل العرضة الأخيرة، وفي العرضة الأخيرة وضعت السور في مواضعها، وهذا ما اختاره القرطبي وغيره، فقد قال:"أمَّا ما روي من اختلاف مصحف أُبَيّ وعلي وعبد الله بن مسعود، فإنما كان قبل العرض الأخير، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رتَّب لهم ترتيب السور بعد، إن لم يكن فعل ذلك من قبل".

وننتهي من هذا إلى أنَّ ترتيب السور كترتيب الآيات كان بوحي من الله العليّ الحكيم.

ص: 35

‌قراءات القرآن:

21-

يقرأ القرآن الكريم بقراءات مختلفة: مختلفة في حركات أواخر الكلمات، أو في بناء الكلمة، أو في الوقوف في أواخر الكلمات، أو في الهمزات قطعًا ووصلًا، كهمزة الأرض، فهي تقرأ موصولة ومقطوعة، وهكذا، وإنَّه يجب التنبيه في هذا إلى أمرين:

أولهما: إنَّ قراءات القرآن متواترة ليست هي الأحرف السبعة كما ذكرنا، بل إن الرأي القويم الذي انتهى إليه الباحثون كابن جرير1 الطبري وغيره إلى أنَّ القراءات كلها تنتهي إلى حرف واحد، وهو الذي كُتِبَ به المصحف المحفوظ عند أم المؤمنين حفصة، وهو الذي جمعه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وألزم به الأقاليم الإسلامية، وهو مطابق تمام المطابقة للمصحف الذي كُتِبَ في عهد أبي بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما، وهو الذي حفظ في بيت أم المؤمنين حفظة -رضي الله تعالى عنها وعن أبيها الفاروق.

الأمر الثاني: إنَّ هذه القراءات تنتهي في نهايتها إلى أنَّها من ترتيل القرآن الذي رتله الله سبحانه وتعالى، وتفضَّل بنسبته إلى ذاته الكريمة العلية، فقال تبارك وتعالى:{وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32] فهي الأصوات التي أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان فيها موسيقى -إن صحَّ لنا أن نقول عنها هذا التعبير- فهي الأصوات القرآنية التي اتبعناها عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهي في مدّها وغنّها، وإهمازها، وإهمال همزاتها، وإمالها وإقامتها، أصوات القرآن المأثورة؛ إذ إنَّ القراءة سُنَّة متبعة، وإن اختلاف القراءات الصحيحة وكلها متواترة عن الصحابة الذين أقرأهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم طرق الأداء التي تعلمها عن ربه، كما يشير إلى ذلك ما تلونا من قبل، وهو قوله تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16-19] .

1 توفِّي سنة 310هـ.

ص: 36

فكانت القراءة التي وعد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم هي الترتيل، وهي تلك القراءات المأثورة عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين تلقَّوها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رأيت أنَّه تلقَّاها عن ربه.

وهذه القراءات نجد الاختلاف فيها مع أنَّه تنتهي جميعها إلى المورد العذب، والمنهل السائغ، وهو تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم التي تلقَّاها عن ربه، ليس اختلاف تضاد في المعاني، أو اختلاف تباين في الألفاظ، بل يكون الاختلاف:

أولًا: في شكل آخر الكلمات أو بنيتها، مما يجعلها جميعًا في دائرة العربية الفصحى، بل أفصح هذه اللغة المتسقة في ألفاظها، وتآخي عباراتها ورنَّة موسيقاها، والتواؤم بين ألفاظها ومعانيها.

وثانيًا: في المد في الحروف من حيث الطول والقِصَر، وكون المد لازمًا أو غير لازم، وكل ذلك مع التآخي في النطق في القراءة الواحدة، فكل قراءة متناسقة في ألفاظها من حيث البنية للكلمة، ومن حيث طول المد أو قصره.

وثالثًا: من حيث الإمالة، والإقامة في الحروف، كالوقوف بالإمالة في التاء المربوطة وعدم الإمالة فيها.

ورابعًا: من حيث النقط، ومن حيث شكل البنية في مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، فقد وردت فيها قراءتان متواترتان: فتبينوا، وقراءة أخرى "فتثبتوا" وهما متلاقيتان، فالأولى طالبت بالتبين المطلق، والأخرى بينت طريق التبيين، وهو التثبت بتحري الإثبات، فإن لم تكن طرق الإثبات، ولا دليل على القول، فإنه يرد الكلام، ولا يتمسَّك بما قيل متظننًا فيها من غير دليل، وكلتا القراءتين مروية بسند متواتر لا مجال للريب فيه، فكانت إحدى القراءاتين مفسرة للأخرى.

وخامسًا: زيادة بعض الحروف في قراءة، ونقصها في أخرى، مثل: زيادة الواو في قراءة، وزيادة مِنْ في أخرى، وهذه نادرة لم أرها إلَّا في حالتين اثنتين فقط، فقد ذكر بن الجزري إمام القراء المتأخرين المتوفَّى في سنة 823هـ، أنّ ابن عامر وهو من القرَّاء السبعة يقرأ {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [يونس: 68] وقرأ غيره: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} وإن حذف الواو ثابت في المصحف الشامي، وكان ابن كثير يقرأ:{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار} وقراءة غيرها {تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَار} ، ومفهوم كلام ابن الجزري أنَّ القراءتين متواترتان، وأن هذا يؤدي إلى أمر جوهري، وهو أن المصاحف في هذا الموضع ليست نسخًا متحدة اتحادًا كاملًا، منسوخة كلها من المصحف الإمام، وهو المصحف الذي احتفظ به الإمام عثمان في دار الخلافة، وقد اتفقت الروايات على أنه لم يكن

ص: 37

كالمصحف الشامي الذي كان على قراءة ابن عامر؛ لأنَّ مصحف الشام خالف كل المصاحف في نقص الواو -ومنها: المصحف الإمام مصحف عثمان، وبذلك يكون الرجوع لمصحف عثمان وما نقل عنه من المصاحف، وهو المصحف المجموع في عهد الشيخين أبي بكر وعمر، وحفظ عند حفصة، وهو أيضًا المتطابق مع المكتوب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك الأمر في زيادة "من" في قراءة ابن كثير، المتفق مع المصحف المكيّ وغيره من المصاحف، ومنه المصحف الإمام، على عدم زيادة من في الآية التي زيدت فيها في المصحف المكيّ.

وإن النتيجة لهذا أن نقول: إنَّ الأصل وهو المصحف الإمام مصحف المدينة يقبل ما يتفق معه، وينعقد الإجماع عليه، وما لا يتفق معه ينظر فيه، وربما كان رده أظهر لولا ما يقال من أنَّ القراءة بالزيادة ليست آحادًا، ولا شاذة، بل متواترة.

ومن أجل ذلك حاول القرطبي التوفيق بين الزيادة وحذفها، فقال:"وما وجد بين هؤلاء القرَّاء السبعة من الاختلاف في حروف يزيدها بعضهم وينقصها بعضهم، فذلك لأنَّ كلًّا منهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه ورواه؛ إذ كان عثمان كتب تلك المواضع في بعض النسخ، ولم يكتبها في بعض، إشعارًا بأنَّ كل ذلك صحيح، وأن القراءة بكل منها جائزة".

رواة القراءات:

22-

كانت القراءات معروفة في عصر الصحابة -رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وقد تلقَّوها جميعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا أن مصحف الإمام عثمان والإمامين من قبله، وما كتب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كان غير منقوط ولا مشكول؛ لكي يحتمل القراءات كلها، وليكلا يعتمد القارئ على المكتوب، بل يتلقى المقروء بالتلقي؛ ليصل السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال بعضهم: إنَّ الخط في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كان غير منقوط ولا مشكول؛ لأنَّ العربية لغة بيان وإفصاح وتعبير، وانسجام بين ألفاظها، وتآخٍ بين أساليبها، فلا تعتمد على المكتوب بل على المقروء ونغماته، وتآخي عباراته من غير تجافي اللفظ عن المعنى، ولا المعنى عن اللفظ.

ولمَّا أخذت العجمة تغزو اللسان العربي ابتدءوا بنقط القرآن وشكله في عهد عبد الملك بن مروان من غير بعد عن القراءات، ومن غير اعتماد على المكتوب، بل يكون مع المكتوب ضرورة الإقراء من حافظ، وبذلك أمكن اجتماع الشكل والنقط مع الرواية وتواتر القراءة، وتعرُّف أوجه القراءات المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في الصحابة من يقرئ الناس، ويعلمهم وجوه القراءات.

ص: 38

وقد اشتهر بإقراء الناس القرآن، وتعريفهم أوجه قراءته طائفة من الصحابة قد احتجزوا عن الخروج إلى ميادين الفتح؛ ليعلموا الناس ويفقهوهم في دينهم، ويقرئوهم القرآن الكريم.

ومن هؤلاء عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب فارس الإسلام، احتجز عن الجهاد بالسيف؛ ليكون له جهاد العلم والقرآن، وأُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء.

وعن هؤلاء أخذ كثيرون من الصحابة والتابعين، وأقرءاهم القرآن بوجوه القراءات، وكلها يتفق مع المكتوب عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ولما أخذ المقرئون للقرآن من الصحابة ينقرضون حمل التابعون ذلك العبء الكريم، فقاموا بحقه، ويظهر أنَّ المقرئ كان يقرئ طالب القرآن القراءات كلها، ويختار منها ما يطوع له لسانه من غير إعوجاج، فكان الصحابة وكبار التابعين يقرءون بالأوجه كلها، ولكن يختار المستحفظ ما يقوى عليه لسانه.

وفي آخر عصر التابعين خلَّف من بعد قراء الصحابة والتابعين خلف طيب، وجد التخصص في قراءة من القراءات أولى من حفظ جميعها، فإنه إذا كان ذلك في طاقة الصحابة ومن داناهم من كبار التابعين، فمن وراءهم دون ذلك؛ إذ أخذت الطبيعة العربية تضعف عن حمل العبء كاملًا، فعني من أفاضل القراء من صغار التابعين، وتابعي التابعين برواية كلِّ واحد منهم قراءة واحدة؛ ليسهل عليه نطقها، ورووها متواترة، فكانت الرِّحَال تشَدُّ إليهم يتلقَّون عنهم، ويأخذون بما يقرئه كل واحد.

واشتُهِر من هؤلاء الذين خلفوا عهد الحفاظ من الصحابة الذين كانوا يقرئون الناس من صحابة وتابعين -اشتهر سبعة كانوا من بعد أئمة القراء.

وهم: عبد الله بن عامر المتوفَّى سنة 118هـ، وعبد الله بن كثير المتوفَّى سنة 120هـ، وعاصم بن مهدلة الأسدي المتوفَّى سنة 128هـ، وأبو عمرو بن العلاء شيخ الرواة المتوفَّى سنة 154هـ، وحمزة بن حبيب الزياد العجلي المتوفَّى سنة 156هـ، ونافع بن نعيم المتوفَّى سنة 169هـ، وعلي بن حمزة الكسائي إمام الكوفيين المتوفَّى سنة 159هـ، وقراءات هؤلاء السبعة هي المتفق عليها التي نالت الإجماع، ولكل واحدة منها سندها المتصل المتواتر، وطريقه، وهو محفوظ في علم القراءات، وأجمع المسلمون على التواتر فيها.

وقد ألحق علماء القراءات وأهل الخبرة فيها ثلاثة غيرهم صحت قراءتهم، وثبت توارتها، وهم: أبو جعفر يزيد بن القعقاع المتوفَّى سنة 132هـ، ويعقوب بن إسحاق الحضري المتوفَّى سنة 185هـ، وخلف بن هشام.

وقراءات هؤلاء بإضافتها إلى القراءات السبع تكون عشرة كاملة.

ص: 39

أقسام القراءات:

23-

لا عبرة إلَّا بالقراءات المتوارة؛ لأنها هي التي تتناسب مع تواتر القرآن، وحفظه في الأجيال إلى يوم القيامة، وسدِّ السبيل للريب، فلا يأتيه في أي ناحية من نواحيه؛ لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ولأنَّ الله تعالى قد وعد بحفظه فقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] والله تعالى لا يخلف الميعاد.

ولكن مع ذلك قرَّر علماء القراءات أنَّ هناك ما روي بطريق الآحاد، وهناك الشاذ، وإن كان الاثنان لم يبلغا درجة أن تكون معتبرة أو لائقة بالقرآن.

ولذلك قسموا القراءات إلى أقسام ثلاثة:

أولها: القراءات المتواترة، وهي حجة في التلاوة، وليس لمؤمن بالقرآن أن ينكرها، وإذا كان قد روي عن الزمخشري1 إنكار بعض القراءات أو ردِّها مستنكرًا لهان، فإنَّ ذلك النوع ليس من القراءات المتواترة، وما كان لمثل الزمخشري في علمه ومكانته وإيمانه أن ينكر متواترًا، والذين يستمسكون بمثل قوله، لا يأخذون إلَّا بحل واهٍ، يهوي بهم إلى نار جهنم؛ لأنَّه -رضي الله تبارك وتعالى عنه- ما أنكر متواترًا، ولكنَّهم يطيرون وراء كل ريح يحسبونها هادمة، ولكن ما هم ببالغيه، ودون ذلك دق أعناقهم.

وشروط القراءة المتواترة ثلاثة:

أولها: أن تكون موافقة للمصحف الإمام؛ لأنه الأصل المعتمد عليه، وهو المرجع، وهو صورة صادقة للمكتوب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون بالتزامه القرآن متواترًا قراءة وكتابة، والله سبحانه وتعالى هو الحافظ له إلى يوم الدين.

الشرط الثاني: التواتر في السند، بأن يرويه جمع عن جمع حتى عصر النبي صلى الله عليه وسلم.

الشرط الثالث: أن يكون موافقًا للمنهاج العربي الثابت في اللغة، وليس معنى ذلك أن تكون أقوال النحويين حاكمة على القرآن بالصحة، فإنه هو الحاكم عليهم، وهو أقوى حجج النحويين في إثبات ما يثبتون، ونفي ما ينفون، ولكن معنى ذلك: ألَّا يكون فيه ما يخالف الأسلوب العربي في مفرداته وفي جمله وعباراته.

القسم الثاني: القراءة غير المتواترة، وقد رويت بطريق الآحاد، ولم تبلغ في روايتها حدِّ التواتر، وهذه يكون رواتها عدولًا، لم يثبت عليهم ريبة اتهام في قول أو عمل، وهذه يقرأ القرآن بها، وخصوصًا إذا وافقت المتواتر بشرط موافقتها للمصحف.

1 توفِّي سنة 385هـ.

ص: 40

الإمام وهو متواتر، فتكون في معنى المتواترة، وموافقتها للمنهاج العربي، فلا يكون فيها ما يخالف المنهاج العربي.

القسم الثالث: الشاذة وهي المخالفة للمصحف الإمام، ولم تثبت بسند صحيح، ولو بطريق الآحاد.

وإنّي أرى ألَّا يقبل إلا المتواتر.

ويجب التنبيه إلى أمر، وهو أنَّ القراءات السبع المنسوبة للقراء السبعة قيل: إنها لا تخلو من شاذٍّ مرفوض، وإن كانت في جملتها مشهورة، جاء في كتاب إعجاز القرآن للمرحوم الكاتب الكبير مصطفى صادق الرافعي رضي الله عنه نقلًا ما نصه:

"لا تخلو إحدى القراءات من شواذٍّ فيها، حتى السبع المشهورة، فإنَّ فيها من ذلك أشياء".

وازن بين هذا وبين القراءتين اللتين زيدت في إحداها "واو"، وقيل: إنها موافقة للمصحف الشامي.

وفي الأخرى "من" وقيل: إنها موافقة للمصحف المكي.

ص: 41

‌فائدة وجوه القراءات:

24-

إنَّ القراءات كما ذكرنا هي ترتيل القرآن الذي علمنا الله إياه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم؛ إذ علمه ربه، ونسب الترتيل إلى ذاته العليّة، فقال تعالى:{وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32] ، وأمر نبيه بهذا الترتيل هو ومن اتبعه، فقال -تعالت كلماته:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] فكانت القراءات التي نزل بها القرآن هي تصريف ذلك الترتيل وتنويعه، وكما أنَّ المعاني القرآنية صرفها الله تعالى من الاستفهام إلى التقرير، ومن الاستنكار والتوبيخ إلى التهذيب والتأديب، وكما صرف الله آيائته كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 105] فقد صرَّف تلاوته وترتيله، فكان الترتيل في التأليف الصوتي، والتناسق في النطق، وتنوع ذلك التناسق من ارتفاع ومد طويل، إلى خفض ومد قصير، مما يشبه التأليف الموسيقى، وإن كان أعلى؛ لأنه ليس من صنع البشر، ويجد القارئ في ذلك التنوع ما يجعله يترنم بالقرآن في إجلاله، وروعة بيانه ودقة معانيه.

وأمر ثانٍ يبدو في تنويع القراءات مع ثبوت توارتها، وأنها عن الله العلي القدير، نجد أنَّ اختيار قراءة من القراءات في المقام الذي تناسبه يكون توضيحًا للمعنى، ومناسبًا للمؤدَّى، فمثلًا قراءة الإمالة تكون في الوضع اللين والخطاب الرفيق، ويتركها القارئ الفاهم في موضع التهديد والإنذار إلى قراءة أخرى تناسب التهديد والإنذار.

ص: 41

الشديد، فمثلًا في سورة الحاقة لا يعمد المرتِّل المدرك إلى اللين في الوقوف على التاء؛ لأنه لا يتناسب مع موضوع التهديد الذي اشتملت عليه السورة كلها، وقد نبَّهنا بعض القراء الذي كان يختار اللين، فتنبَّه، وما عاود أمامنا ما كان يفعل.

وأمر ثالث في تعدد القراءات فوق ما فيها من مراعاة مقتضى المعاني، وفوق ما فيها من ترتيل هو موسيقى القرآن، إن صحَّ لنا هذا التعبير، مع أنَّ القرآن في مقام أعلى وأسمى، ذلك الأمر أنَّ تنوع القراءات فيه تسهيل على القارئ العربي، فقد تصعب عليه قراءة؛ إذ لا تطاوعها طبيعته أو سليقته اللغوية.

وهناك أمر رابع في تنوع القراءات، وهو أن يكون مجموع القراءتين -وكلتاهما قرآن- دالًّا على معنيين في لفظ واحد، متلاقيين غير متضادين، فمثلًا قراءة:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] بضم الفاء يدل على أنه من العرب، والعرب قومه، وذوو رحمه القريبة أو البعيدة، وإذا اجتمعت معها القراءة -بفتح الفاء- كانت الآية دالة بهذه القراءة على أنَّه من أوسط القوم وأعلاهم، فالقراءتان والكلمة واحدة تدلان بالنص على معنيين غير متضادين، وكلاهما صحيح صادق، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان من العرب، وكان من أنفسهم ترتبط مشاعره بمشاعرهم، يحس بما يحسون، وهو مندمج فيهم، وقريب منهم، ثم كان مع هذا القرب النفسي من أعلى العرب منزلة، وأكرمهم، وكذلك يكون الأنبياء من أوساط الأقوام الذي يتسامون عن سفساف الأمور، ويتجهون إلى معاليها.

وقد يقول قائل: إنَّ قراءة أنفسكم -بفتح الفاء- تدل على المرين، فهي تدل على أنه من أعلى قريش وسطًا، وتدل على أنه منهم، نقول في الجواب عن ذلك: إنَّها تدل بالنص على الشرف، وأنَّه من أعلى القوم، ولا يفيد بالقصد والذات أنه من نفس العرب، ومن ذاتيتهم، وأنَّه يحس بإحساسهم، لا تدل قراءة الفتح على ذلك النص، وبيان امتزاج نفسه عليه السلام بأنفسهم، وإن هذا لا بُدَّ منه ليشعر بشعورهم، ويشاركهم بوجدانه وإحساسه، ويجذبهم إليه بقوة الامتزاج النفسي، كما يعينهم بلدليل، وبالحق في ذاته، وبما أتاه الله تعالى من بينات باهرات.

وقد يكون اختلاف القراءة فيه كمال التوضيح البياني من غير قصور في إحداهما، ولكن بالقراءتين يكون البيان كاملًا، مثل قراءة قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فإن قوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} تقرأ {فتثبتوا} ولا شك أنَّ المعنى في القراءتين هو ألَّا يؤخذ الساعي بالنميمة أو الساعي بالأذى، أو المفسد بين الناس، لا يصدق قوله ابتداء، وألَّا ينساق وراء ما يثيره القول من عاطفة جامحة، أحيانًا قد تدفع إلى الشر من غير بينة، فالله -تعالت آياته- بينه إلى أنه لا

ص: 42

يجوز التصديق إلَّا بعد التبين، والتبين يكون بطرائق مختلفة، منها ما يكون بطرق الإثبات من بينات، ومنها ما يكون بالقرائن، ومنها ما يكون يربط الأمور الواقعة بالأمر المخبَر عنه، وهكذا، فالقراءتان تبين إحداهما التبين بالطرق المختلفة، والثانية تبين أنَّ أسلم الطرق هو تعرُّف الأمر بما يثبت من أقوال الصادقين المؤمنين.

وإنه قد يكون اختلاف القراءات مؤديًا إلى بيان حكم بقراءة، وحكم متمِّم له بقراءة أخرى، فتستفاد الأحكام في أوجز تعبير على ما فيه من تغيير القراءة من اختلاف في نغم الترتيل، وموسيقا البيان القرآني الذي يساميه.

وقد قال في هذا المعنى الكاتب الكبير المرحوم مصطفى صادق الرافعي: "وثالثة تلحق بمعاني الإعجاز، وهي أن تكون الألفاظ في اختلاف بعض صورها مما يتهيأ معه استنباط حكم أو تحقيق معنى من معاني الشريعة، ولذا كانت القراءات من حجة الفقهاء في الاستنباط والاجتهاد، وهذا المعنى مما انفرد به القرآن الكريم، ثم هو ما لا يستطيعه لغوي أو بياني في تصوير خيال فضلًا عن تقرير شريعة.

ولذلك تجد الفقهاء في استدلالاتهم الفقهية يقولون: الحجة فيه قراءة كذا، وهي لا تكون مناقضة للقراءة الأخرى، وربما تكون القراءة دالة على حكم آخر غير مناقض للحكم الذي دلت عليه القراءة المستشهد بها، فتكون الآية بالقراءتين دالة على حكمين متلاقين غير متناقضين، وذلك من الإيجاز المعجز الذي لا يوجد في كلام الناس، ولكنَّه موجود في كلام خالق الناس.

25-

هذا، ونختم الكلام في القراءات بكلمة مأثورة للصحابي الفقيه عبد الله بن مسعود، فهو يقول:

"لا تنازعوا في القرآن، فإنه لا يختلف ولا يتلاشى، ولا ينفد لكثرة الرد، وإنه شريعة الإسلام، وحدوده وفرائضه، ولو كان شيء من الحرفيين -أي: القراءتين- ينهى عن شيء يأمر به الآخر، كان ذلك الاختلاف، ولكنَّه جامع ذلك كله، لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائض، ولا شيء من شرائع الإسلام، ولقد رأيتنا نتنازع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأمرنا فنقرأ عليه، فيخيرنا أن كلنا محسن، ولو أنَّ أحدًا أعلم بما أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وقد كنت علمت أنَّه يعرض عليه القرآن في رمضان، حتى كان عام قبض فعرض عليه مرتين، فكنت إذا فرغ أقرأ عليه، فيخبرني أني محسن".

اللهم احفظنا بالقرآن واجعله محفوظًا بيننا كما وعدت، إنك لا تخلف الميعاد، ووفقنا للعمل به.

ص: 43

‌القسم الثاني:‌

‌ إعجاز القرآن

إعجاز القرآن

إعجاز القرآن:

26-

ذكر المؤرخون ما كان عليه العرب من تلقٍّ لديانات النبيين السابقين، حتى قال قائل المؤرخين وأهل السير: إن نوحًا عليه السلام كان بعثه فيهم، وكذلك كان إدريس، وصالح، وشعيب، وهود، وإبراهيم، وإسماعيل، فكانت مهدًا للرسالة الإلهية.

وإذا كان لذلك أثر أو دلالة، فهو أنَّ العرب قوم فيهم ثقافة وأديان، وقد وضحنا ذلك عند الكلام في حكمة اختيار العرب لِأَنْ يكونوا موضع الرسالة الخالدة؛ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم "فيما كتبنا في سيرة الرسول عليه السلام".

وإذا كان العرب في عصر الرسالة المحمدية كانت فيهم بداوة سائدة، وحضارة قليلة، فأكثر العرب أو الصحراء العربية -إنِ استثنينا اليمن والحيرة، وما يصاقب الفرس والشام، وما يصاقب الرومان- كانت البداوة فيهم غالبة، ولكنهم في بدوهم وحضرهم، في مدرهم ووبرهم، امتازوا من بين معاصريهم بالنزوع إلى الكلام الطيب، وكانت سيادة الأمية سببًا في أن أرهفوا كلمات لغتهم وأسلوب خطابهم، وملاحظة جرس الكلمات، وموسيقى العبارات وانسجام الحروف، ومؤاخاة المعاني للألفاظ، حتى إنَّ النطق يدل على المعنى، وفي مترادف الكلمات ما يدل على أن المعاني كانت ملاحظة في كل لفظ، فالأسد يقال له: أسد وليث وغضنفر، وغير ذلك من المترادفات لمعنى السبع، فكلمة غضنفر تقال له في حال عنفه وفتكه، وكلمة ليث تقال في حالة ثباته ورباطة جأشه، وهكذا تجد النطق متلاقيًا مع المعنى، فهما متساوقان، المعنى ملاحظ في النطق، والنطق لابس للمعنى، وكلاهما يحيط بصاحبه ويؤاخيه ولا ينفصل عنه.

وفي الأسلوب الذي يصوره الإعراب تجد الانقطاع عن النسق الإعرابي في القول يتغير بتغيُّر وجه الإعراب من غير خطأ، بل يقصد معنى من معاني التخصيص يكون النطق في الانقطاع قائمًا مقام وضع خطوط تحت الكلمات، كما يفعل الكاتبون غير الأميين، وهكذا كان النطق قائمًا مقام خطوط الكاتبين في تنبيهها، وشدة الاختصاص في دقة المعاني، فهي بحق لغة إفصاح، وذلك لقوة المدارك، وعلوِّ الأفكار، والنزوع إلى السموِّ والمعالي مع الأمية وغلبة البدوية.

وقد ظهر ذلك في أمرين: أحدهما أنَّ الجزء الذي دخلته حضارة من البلاد العربية كاليمن والحيرة والبحرين لم تكن عندهم فصاحة، كالذين لم تسيطر عليهم الحضارة في قوة الإفصاح والبيان وسلامة التعبير، فلم تكن اليمنية كالعدنانية، ولا لغة أهل البادية كلغة قريش؛ لأن قريشًا قد قاربت وذاقت بعض الحضارة، وبقيت أميتها.

ص: 47

الأمر الثاني: في المسابقات البيانية التي كانت تعقد في الأسواق في موسم الحج في عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، فقد كانت فيها تجارة المادة، وتجارة البيان معًا، فقد كان في الأولى زاد الجسم، وفي الثانية زاد النفس، كما ظهر ذلك في الشعر ومسابقاته، فمن معلقات تعلق في أستار الكعبة، وحوليات يقطع الحول في نسخ خيالها، ووصغ عباراتها التاي تصغي إليها الأفئدة.

ولو أنَّك وازنت بين العرب وغيرهم مِمَّن هم في مثل حالهم من البداوة الغالبة، لوجدتهم في السماك الأعزل، وغيرهم في الحضيض الأوهد، فلا يزال الحاضرون من غير العرب يجدون في شعر زهير بن أبي سلمى حكمة البيان الشعري، وفي شعر امرئ القيس قوة الوصف وفورة الشباب، وفي شعر عنترة قوة البأس ولطف التشبيب والغزل، وفي شعر طرفة قوة النفس الثائرة، وهكذا لو وازنت بين هذه الآثار وما بقي من شعر اليونان والرومان، لوجدتها لا تقل عنها في إحكام الفكرة، وسلامة التفكير، ولكن تزيد عليها في حلاوة النغم، وتساوق الفكر، وتآخي الألفاظ مع المعاني.

نعم إنَّ الأدب القصص في اليونان كثير، وهو خلاصة ما عندهم ولبّه، وهو عند العرب قليل أو أقلّ من القليل، والسبب في ذلك هو أنَّ هذا ثمرة الكتابة التي تتيح للكاتب فرصة التأليف وتلفيق الوقائع، بحيث تكون كل واقعة لفق الأخرى مسلسلة معها، في خيال متسق، وهكذا.

أمَّا العرب الذين غلبت عليهم الأمية مع تذوّق القول، وتخيّر خيره، واستهجان هجينه، فإنَّ أدبهم يكون باللمح السريع، والنظر الخاطف أحيانًا، والمستبصر المتدبر في أكثر الأحيان عند الذين أوتوا فكرًا وعقلًا وإدراكًا، وفي الجملة لا وسط بين كلامهم وجنانهم، ولا زمن مستغرق بين خاطرهم وقولهم، فتكون خيالاتهم فيها جمال اللمح، وقوة اللحظ، وسرعة الإدراك.

27-

ولذلك أجمع المؤرخون في القديم والحديث على أن العرب لهم مآثر في البيان، وذوق الكلام، والتفريق بين كريمه وسقيمه، وجميله وهجينه.

ولنترك الكلمة للقاضي عياض المتوفَّى سنة 544هـ يصف بيانهم في كتابه الشفاء، فهو يقول: "خصوا من البلاغة والحكم بما لم يخص به غيرهم من الأمم، وأوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان، ومن فصل الخطاب ما يقيد الألباب، وجعل الله لهم ذلك طبعًا وخلقة، وفيهم غريزة وقوة، يأتون منه على البديهة بالعجب، ويدلون به إلى كل سبب، فيخطبون بديهًا في المقامات وشديد الخطب، ويرتجزون به بين الطعن والضرب، ويمدحون ويقدحون، ويتوسلون ويتوصلون، ويرفعون ويضعون، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال، ويطوقون من أوصافهم أجمل من سمط اللآلئ، فيخدعون الألباب، ويذللون الصعاب، ويذهبون الإحِن، ويهيجون الدِّمَن، ويجرئون الجبان، منهم البدوي ذو اللفظ الجزل والقول الفصل، والكلام الفخم والطبع

ص: 48

الجوهري، والمنزع القوي، ومنهم الحضري -أي: ساكن المدن- ذو البلاغة البارعة، والألفاظ الناصعة، والكلمات الجامعة، والطبع السهل، والتصرُّف في القول القليل الكلفة، الكثير الرونق، والرقيق الحاشية" إلى آخر ما ذكره عياض في بيان بلاغة العرب، ومقدار إدراكهم لجمال الكلمات في رنينها، كما يدرك الصيرفي رنين الحلى الكريمة غير الزائفة، من بين ما يعرض له.

تلك كانت حال العرب في جاهليتهم، كانت جهلًا بالدين مع بقايا ملة إبراهيم، وليسوا جهالًا في البيان ومعرفة أسرار البلاغة، يدركونه بلحظ الحال، لا بإمعان عقل وطول تفكير، يدركونه بنغماته ومعانيه في لمح الفكر من غير طول المكث.

لذلك كان المناسب لمثل هؤلاء الذين تلقَّوا دعوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاطبهم القرآن الكريم ابتداءً أن تكون المعجزة من النوع الذي يحسنونه، ليعرَّفوا مقدار علوِّه عن الطاقة، فالمعجزة بلا شك تناسبهم فوق مناسبتها لموضوع الرسالة وعموم أزمانها وخلودها إلى يوم القيامة، وقد بيَّنَّا ذلك في أول الكلام، فإذا كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم من نوع الكلام السامي فوق طاقة الناس، فإنها تكون مناسبة لمن تلقَّوْها في أول أمرها ومناسبة لخلودها.

إننا لا ننفي الآن، ولم ننف من قبل أنها مناسبة لعصر نزولها، ولكننا نقول أيضًا: إنَّها مناسبة لموضوع الرسالة وخلودها، وبقائها إلى يوم القيامة.

إن القرآن في أعلى درجات البيان من حيث لفظه، ومن حيث نغماته، ومن حيث مغازيه، ومن حيث الصور البيانية التي تكون في ألفاظه وعباراته، حتى إنَّ كل عبارة تلقي في الفكر والخيال بصورة بيانية كاملة في روعتها، ودقة تصويرها، بل إن كل كلمة لها صورة بيانية تنبثق منها منفردة، وبتآخيها مع أخواتها في العبارة تتكون صورة بيانة أخرى، فوق أنَّ الرنين الموسيقى تنفعل به الأسماع إلى القلوب في معان محكمة، وحقائق بينة، وشرائع منظمة للعلاقات والسلوك الإنساني القويم، الهادي إلى الصراط المستقيم.

التقى في المعجزة الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي القرآن المبين معنيان، أصيب بهما هدفان:

أولهما: إنَّه المناسب الذي يعرف به العرب معنى الشيء الخارق لما عرف، الخارج عن طاقتهم، فإنه لا يدرك أثر ذلك إلا هم، ولا يعرف مقامه إلَّا من على شاكلتهم من معرفة مقامًا لقول، ومنزلة البيان.

وثانيهما: إنَّ كونه من نوع الكلام الموحى به الباقي الخالد الذي حفظه الله تعالى، ووعد بحفظه إلى يوم القيامة كما تلونا من قبل {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ

ص: 49

لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وذلك يناسب رسالته التي هي خاتم الرسائل الإلهية التي جاء بها محمد رسول الله تعالى خاتم النبيين، بصريح القرآن الكريم، فلا نبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

فكان المناسب أن تكون المعجزة من نوع الكلام الخالد الباقي، كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"ما من نبي إلّا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وكان الذي أوتيته وحيًا به إليّ، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا إلى يوم القيامة" كما روينا من قبل، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

وإنه معجزة للخليقة كلها، وفيه الدليل على أنه من عند الله للناس أجمعين، فهو إن جاء بلسان العرب، وفيه أعلى درجات البيان العربي، يشتمل في ثناياه على ما يعجز الناس أجمعين، فإذا كان قد أعجز العرب ببيانه، فقد أعجز الناس أجمعين بمعانيه وشرائعه، وما اشتمل عليه من علوم، بل بمبانيه أيضًا، قال منزله -عز من قائل:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] تعالت كلمات الله تعالى.

ص: 50

‌تلقي العرب للقرآن:

28-

كلف محمد عليه الصلاة والسلام أن يستعد للقاء الرسالة الإلهية لينشر التوحيد والخلق المستقيم والعبادة الخالصة لله تعالى بين الناس، وكان تكليفه بالقرآن وأول نزوله، فقال له جل جلاله:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] .

تقدم محمد للدعوة إلى ربه معتمدًا على أمرين بعد تأييد الله تعالى له وإعزازه، ومصابرته وأخذهم بالحسنى.

اعتمد أولًا على الحق الذي يدعو إليه، فالحق ذاته قوة لا تعدلها قوة عند النفوس التي لم تتعوج بمفاسد العصبية، أو التقليد المصم عن الحق، فذكر لهم التوحيد، وقد كانوا على إدراك له في الجملة، كما بيَّنَّا عند الكلام في القسم التاريخي عن بقاء بعض المأثورات عن إبراهيم -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتمَّ التسليم.

وكان التنبيه إلى أنَّ الأوثان لا يعقل أن تعبد، وإزالة ما حولها من أوهام، وما علق بها من خرافات ما أنزل الله بها من سلطان، وقد بَيِّنَ ذلك محمد صلى الله عليه وسلم على أكمل وجه.

ص: 50

واعتمد مع نور الحق في ذاته على نور القرآن المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو في هدأة الداعي الرشيد يدعوهم إلى هجر عبادة الأوثان، ويقرأ عليهم القرآن الكريم، ففي دعوة الحق وفي القرآن البرهان القاطع والضوء اللامع.

كانوا ينفرون من الحقِّ المجرَّد؛ لأنه يخالف ما ألفوا، وما وجدوا عليه آباءهم:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] .

ولكنَّهم إذا استمعوا إلى القرآن تحيَّرت الأفهام، واضَّطربت أحوالهم بين قديم ألفوه، وحقّ في القرآن عرفوه، فهم يحاورون في الحق، ولكن لا يدرون ماذا يدفعون به القرآن الذي يحمله ويدعو إليه وإلى ما جاء به، وإنهم بذوقهم البياني يجدون أنه فوق كل كلام، ولا يمكن أن يجري به لسان من ألسنتهم وأمثالهم، بل لا يمكن أن يأتيبه محمد من عنده؛ لأنهم من قبل عرفوا كلامه، وقد رأوه عاليًا في جوامع كلمه، ولكنَّ القرآن أعلى من طاقة الإنسان ومن طاقة محمد ذاته.

ماذا يقولون فيه؟ أيقولون إنه باطل وقد كبروا ما هو دونه من قصيد ورجز، إن في ذلك كانت الحيرة، وهم من الناحية البيانية لم يتهافتوا ولم يسفوا في القول؛ وإذا كان فيهم حمقى حاولوا أن يجاروه، أو ادَّعَوْا أنهم يجارونه، وعرضوا ما قالوا، فنال الاستضحاك والسخرية، وزاد القرآن الكريم مكانة وتقديرًا، وما كان لأمثال أبي سفيان والوليد بن المغيرة أن يسفّوا بأنفسهم ذلك الإسفاف، بل إنَّه لم يسف إلى هذا عمرو ابن هشام "أبو جهل"؛ لأنه يعلم مقدار علوِّه، فلا يتهافت إلى إنكار مكانته في البيان، فهو يستبيح أذى النبي صلى الله عليه وسلم وأذى أصحابه، ولا يستبيح الطعن في مقام القرآن البياني؛ لأنه يلحقه الطعن بالأذى والتصغير، ولا يلحق محمدًا الذي نزل القرآن عليه، وخاطب به الناس أجمعين، ولنذكر لك أخبار من سمع القرآن، وخرَّ بين يديه صاغرًا مع شدة العداوة والملاحاة واللدد واخصومة، والبقاء على الكفر، والإصرار على الشرك.

29-

"أ" سمعه الوليد بن المغيرة فرقَّ له رقة لم تعرف فيه نحو الإسلام، فخشي أبو جهل "عمرو بن هشام" أن يسير في الطريق القويم إلى الإسلام، فأنكر عليه أبو جهل حاله، ولكنه لم يستطع أن يقول في القرآن شيئًا، فقال له الوليد:

"والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني، أعرف رجزها وقصيدها، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من ذلك، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، ما يقول هذا بشر".

ولقد اجتمعت قريش عند الوليد يتذاكرون، ماذا يقولون في القرآن وقد رأوا العرب يفدون، ويستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيبلغ القرآن منهم أعماق نفوسهم، فكيف

ص: 51

يصدونهم عن ذكر الله، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، فأثمروا واجتمعوا حول الوليد، ليتعلَّموا ماذا هم قائلون لمنع الحق، وقد قال لهم أولًا الحق على ريب في نفسه.

قال لهم الوليد العارف الضال: إن وفود العرب ترد، فأجمعوا فيه رأيًا لا يكذب بعضكم بعضًا.

قالوا: نقول: "كاهن".

قال: والله ما هو بكاهن، ما هو بزمزمته، ولا سجعه.

قالوا: "مجنون".

قال: ما هو بمجنون، ولا بخنقه، ولا بوسوسته.

قالوا: فنقول "شاعر".

قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه، ومبسوطه ومقبوضه، ما هو بشاعر.

قالوا: فنقول "ساحر".

قال: ما هو بساحر ولا نفثه ولا عقده.

قالوا: فما تقول أنت؟

قال: ما أنتم بقائلين في هذا شيئًا، إلّا وأنا أعرف أنه باطل، وإن كان أقرب القول أنه ساحر؛ فإنه سحر يفرق بين المرء وابنه، والمرء وأخيه، والمرء وزوجه، والمرء وعشيرته. "فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس".

"ب" ولنذكر خبر عتبة بن أبي ربيعة، فقد سمع القرآن وهو على الشرك، ومن كبراء قريش، فأدرك بذوقه البياني مقام القرآن، وقال مقاله الحق:"والله قد سمعت قولًا ما سمعت مثله قط، ما هو بالشعر ولا بالكهانة".

"ج" وقد ورد في حديث إسلام أبي ذر الغفاري أنه قال: "ما سمعت بأشعر من أخي أنيس، لقد ناقض اثنى عشر شاعرًا في الجاهلية، أنا أحدهم، وقد انطلق إلى مكة، وجاء أنيس إلى أبي ذر بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو ذر: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر كاهن ساحر، لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أوزان الشعر فلم يلتئم، وما يلتئم على لسان أحد، وإنه لصادق وإنهم لكاذبون".

"د" إنَّ كبار المعارضين للنبي صلى الله عليه وسلم خافوا على أنفسهم من أن يؤثر القرآن فيهم، واستحبّوا الكفر على الإيمان، واستحبّوا العمى على الهدى، ولذلك تفاهموا فيما بينهم ألَّا يسمعوا لهذا القرآن؛ لأنَّ الذين يسمعونه يتأثرون بما فيه من علوِّ بيان، وإنه فوق طاقة البشر، ووجدوا الناس يؤمنون به فرادى، ومنهم كبراء كانوا ذوي مقام وجبروت.

ص: 52

فوجدوا الإيمان يقوى ويكثر أهله، والشرك يضعف وينقص عدده، تفاهموا على ألَّا يسمعوا لهذا القرآن كما أشرنا، وأن يهرجوا بالقول عند سماعه، ولقد حكى الله سبحانه وتعالى عنهم ذلك، فقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] .

"هـ" ولقد كانوا إذا تلي عليهم القرآن لا ينقده كبراؤهم، وإن كان السفهاء السفسافون منهم يتطاولون لحمقهم، أمَّا الذين أوتوا حظًّا من الإدراك، ولو أعمتهم العصبية وأبعدتهم عن الإيمان، فإنهم يفرون من مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون:{قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] .

"و" وإنَّ الله سبحانه وتعالى لم يتركهم في هذا العجز الصامت الذي يفرون فيه من المواجهة، ولا يريدون المناصبة، بل يكتفون بالسكوت العاجز، ويحاولون التمويه على غيرهم، كما كفروا في أنفسهم بالحق، وقد عرفوه، بل تحدَّاهم أن يأتوا بمثله؛ ليثير حميتهم أو يؤمنوا به. وليبين ضعفهم أو يستسلموا، فقال تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38] أي: إنه إذا كان قد نسبه لله تعالى افتراء وهو منه، فمحمد منكمن فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، وادعوا شهداء لكم أو عليكم.

وادعوا أن ما فيه غير صادق فتحدَّاهم سبحانه وتعالى أن يأتوا بمفترى يكون في مثل بيانه، فقال تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هد: 13] .

30-

وننتهي من ذلك إلى حقيقتين ثابتتين نشير إليهما بالإجمال، وسنتعرض ببعض التفصيل عند الكلام عن وجوه الإعجاز.

الحقيقة الأولى: إنَّ قريشًا مع شدة ملاحاتها للنبي صلى الله عليه وسلم، ومع أن القرآن قد ذكر آباءهم بغير ما يحبون، وذكر أوثانهم بغير ما يؤمنون، لم يتحرَّكوا لأن يقولوا مثله، وأذعنوا لبلاغته وقوته، وما أسلم عمر بن الخطاب إلَّا بعد أن قرأ فيه، وكذلك جبير بن مطعم، وإنَّ القرأن تحداهم أن يأتوا بمثله فما فعلوا، بل ما تحرَّك العقلاء منهم لِأَنْ يفعلوا حتى لا يسفّوا في تفكيرهم وهم أمام رجل كبير في قومه وعقله، ومعه آيات الله تعالى البينات، فدل هذا على عجز مطلق.

الحقيقة الثانية: إنَّ القرآن جذب العرب إلى الإيمان بما فيه من روعة وقوة بيان، وإيجاز معجز، وأقوال محكمة، وقصص تطول وتقصر، وهي مملوءة بالعبرة في طولها وقصرها، وإطنابها الرائع وإيجازها الذي لا يدع صغير ولا كبير إلا أوفاها بالعبارة الناصعة، والإشارة الواضحة، فما كان الإيمان نتيجة تحدٍّ للمقاويل منهم وعجز، وإن

ص: 53

كان العجز ثابتًا، وإنما كان الإيمان ثابتًا بالقرآن، فهو الذي جذب إلى الإيمان بما فيه من بيان أدركوا أنَّه فوق طاقة البشر، وأنَّه حقائق ثابتة كما قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] .

وإنَّ الثابت مع ذلك أنه لم يحاول أحد من أهل البيان أن يأتي بمثله، ولم يعرف ذلك، وإذا كان التاريخ قد ذكر شيئًا من هذه المحاولة فإنه كان في أيام الردة من مسيلمة الكذاب وأشباهه، وإن هذا الجزء الذي رواه التاريخ الذي روى تلك الكلمات التي حاول بها مسليمة الكذاب أن يجاري فيها القرآن، بَيِّن مقدار إدراك المشركين؛ إذ لم يحاولوا المجاراة حتَّى لا يسفوا، ويكونوا أضحوكة بين العرب، وموضع سخرية، يسخرون بعقولهم، ولننقل لك ما نقله الباقلاني1 في إعجاز القرآن، ليتعجب وليتبصر الناظر، كما قال الباقلاني، فإنَّه على سخافته قد أضلّ، وعلى ركاكته قد أزل؛ لأنَّ الزلل سابق على سماعه، والكفر سابق على ابتداعه، وميدان الجهل واسع، والحماقة له أهل، وميدانها عندهم، ونحن إذا قلنا: إنَّ المشركين ضلوا، فهم في عقولهم كانوا أوسع إدراكًا، وإن جحدوا.

انظر ما قال الجهول يحاكي القرآن: "والليل الأطقم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من أحرم"، لقد قال هذا لفضِّ خلاف وقع في قوم أصحابه: إنه ليس جديرًا بأن سمَّى كلامًا فضلًا عن أن يكون له فصاحة أو بلاغة، أو أي نوع من الإدراك البياني.

وهو يقول في الحكم في هذا الخلاف أيضًا:

"والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس".

وكان يقول: "ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصفها".

وقالت سجاح بنت الحارث بن عقبان، وكانت تتنبأ، فاجتمع مسيلمة معها، فقالت له: ما أوحي إليك؟ قال: أوحي إليَّ "إنَّ الله خلق النساء أفواجًا، وجعل ارجال لهن أزواجًا، فنولج فيهن فقسا إيلاجًا، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجًا، فينتجن سخالًا نتاجًا" فقالت: أشهد أنك نبي2.

31-

هذه تفاهات القول التي نقلت عن الذين حاولوا معارضة القرآن، وقد أسفوا في القول، وهبطوا في التفكير، مما لم يرد أن ينحدر إليه أرباب البيان من قريش،

1 توفِّي سنة 403هـ.

2 إعجاز القرآن للباقلاني ص240 "طبع دار المعارف تحقيق أحمد صقر".

ص: 54

لأنَّهم يعرفون مقام ما يسمعون من كلام رب العالمين، استطاعوا أن يجحدوا الحق وقد عرفوه، ولم يستطيعوا أن ينزلوا بمقامهم من الإدراك البياني فيفندوا بيانهم وذوقهم الكلامي، وإن ارتضوا أن يفسدوا عقائدهم، ويكابروا في دينهم، ويكذبوا رسالة ربهم.

وقد يقول قائل: إنَّ التاريخ الإسلامي لم يروِ غير الذين صدقوا وآمنوا، فحذفوا ما كانت فيه معارضة للقرآن الكريم، وذلك كلام قيل من الأفاكين، ويرده أمران:

أولهما: إنَّه ما كان يمكن أن يعمّ الإيمان، وثمَّة معارضون للقرآن في جَدٍّ لا لهو فيه، ولا عبث.

ثانيهما: إنَّ أعداء الإسلام كانوا في كل زمان منذ ظهر محمد إلى أن قبضه الله تعالى، ودخل الناس في دين الله تعالى أفواجًا أفواجًا، فالزنادقة كانوا منبثين في مشارق الأراضي ومغاربها، لا يألون المسلمين وبالًا، وكانوا أعداء الإسلام في أوساط المسلمين وبين ظهرانيهم، فبثوا الأفكار المنحرفة، والأقوال الهادمة، والمذاهب المخربة، وأولئك ما كانوا ليستروا الكلام الذي عورض به القرآن؛ إذ يرون فيه هدم الأصل، وأقصى ما استطاع أولئك الزنادقة أن يفعلوه هو أن يدعوا أن عبد الله بن المقفّع1 اتجه إلى أن يكتب كتابًا يعارض به القرآن، وهو إن صحَّ كلامهم فيه يدل على أنه نوى ولم يفعل، ولو فعل لنظرنا إلى ما أتى به، وإننا نشك في أصل صحته، ولكنهم يريدون أن يثيروا الغبار، والغبار قد يغشى الأعين المريضة، وإن كان قد أراد هذا فهو دليل على حمقه، ويثبت زندقته التي اتهم بها، وإنَّه أشاع ذلك توهينًا، وإن علم أنَّ المحاولة فوق طاقة البشرة.

1 توفِّي سنة 158هـ.

ص: 55

‌سر الإعجاز:

32-

عجز العرب عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ثابت ثبوتًا لا مجال للريب فيه، لا يرتاب فيه مؤمن ولا يجحده، ولا يماري فيه إلّا من يهمل عقله، ويسقط من حساب المفكرين، فعلى ذلك تواترت الأخبار، واتفقت الأمصار، لا فرق بين عدو وولي.

وإنَّه واضح من سياق الأخبار المتواترة أنَّ عجزهم اقترن بثلاثة أمور:

أولها: إعجابهم بعلوِّه عن أن يصل إليه أحد من البشر، ولم يحاول أحد من عقلاء المشركين أن يسفّ فيحاول المحاكاة إلّا من اتصف بالحماقة، فكانت حماقته ضعفين، أحدهما في محاولته، وثانيهما في نتائج هذه المحاولة؛ إذ جاء بلغو من القول لا يحتسب في عداد الكلام، فضلًا أن يناهد أبلغ كلام أنزله الله تعالى في البشر.

ولقد سببوا عجزهم بأنه يعلو ولا يعلى عليه، وأن له حلاوة، وعليه طلاوة، وأن أعلاه مثمر، وأسفله مغدق، وقد قال ذلك المغيرة في جمعهم، فما أنكروا عليه حكمه على القرآن الذي سمعه، ولكن أنكروا عليه أنه تحت تأثير هذا ترك جماعتهم، وكأنَّهم أقروه على الوصف الذي وصف به القرآن، ولكن أنكروا عليه الإيمان، وجحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم كما وصفهم القرآن الكريم.

ثانيها: إنَّهم كانوا مع شكرهم واستكراه نفوسهم لعدم الإقرار به ينجذبون إليه، ويريدون أن يسمعوه؛ استطابة لما فيه من لفظ ذي نغم يجذب، وعبارات مشرقة ونظم منفرد أجمل من سمط الآلئ، ولأنهم عرفوا ميلهم إلى استماعه، وأثره في نفوسهم، تواصوا ألا يسمعوه، وأن يلغوا عند سماعه، ولكن الذين تواصلوا ذلك التواصي ذهب كل واحد منهم منفردًا، ولكن الاستخفاء استعلن عندما التقوا جميعًا، ورأوا أنفسهم مجتمعين، وليس كل منهم منفردًا، وقد علموا أن التواصي على عدم الاستماع لا جدوى فيه، فتواصوا على الجحود والإنكار، فلم يكن تواصيهم على الحق، ولكن كان على الباطل.

ثالثها: إنَّ أشدهم عنادًا كان أقربهم إيمانًا، إذا قرئ القرآن صغى قلبه إلى الإيمان، وإلى الاستجابة لداعيه، فقد سمع أبو ذر الغفاري القرآن فآمن، وسمعه أخوه أنيس فأذعن لعلوِّ بلاغته عن مستوى البشر، وسمعه جبير بن مطعم فآمن، وقرأه عمر ابن الخطاب فانخلع قلبه من الشرك وطغيانه إلى الإيمان، وأن يكون فاروق الإسلام الذي كان إيمانه فارقًا بين الاستخفاء والإعلان، بين ظهور الحق وخفوته.

إن هذه الأمور التي اقترنت بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله دلَّت على أمرين بدهيين.

أولهما: إنَّ الأساس في عجزهم هو ما فيه من بلاغة ورنة قول، ونغمة بيان أدركوها بذوقهم البياني، وهم الذين يذوقون بأسماعهم، كما يذوق الإنسان الطعام بفمه، وأنه لم يكن عجزهم سلبيًّا، بل كان من كثيرين منهم إيجابيًّا يتبعه العمل ويقترن بالإيمان بأنه من عند الله تعالى، أي: أن وجه الإعجاز فيه أمر ذاتي فيه، وليس منعًا سلبيًّا.

الأمر الثاني: الذي تدل عليه هذه الأمور التي اقترنت بالعجز عن محاكاته، هو أن القرآن من بيانه العالي الذي لا يعالى، فيه من العلوم ما لم يكونوا يعرفونه، فيه الشرائع المحكمة التي تنظم العلاقات بين الآحاد الأقربين وغيرهم، فيه علم الميراث، وفيه علم الأحكام المختصة بالأسر، وفيه بيان خلق الإنسان من سلالة من طين، وفيه توجيه النظر إلى الكون، وما يشتمل عليه، وفيه من الحقائق ما لا يعلمه إلا اللطيف الخبير، الذي خلق فسوى، والذي أحاط بكل شيء علمًا.

وفيه القصص والعبرة، وما كانوا يعلمون شيئًا من ذلك من قبله، فيه قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وقصة بناء الكعبة:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] ، وفيه أنباء البلاد العربية التي تعلن آثار الأقوام عمَّا أنزله الله تعالى بهم، وفيه قصة موسى عليه السلام، وفيه قصة مريم، وترتيبها، وكيف اختصموا في كفالتها، وكيف يستخدمون القرعة بالسهام لتكون كفالتها لمن تكون السهام له:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] .

قرءوا ذلك وسمعوه، فكان العجز لهذه الأمور الذاتية، لا لأمور أخرى ليست من القرآن.

ص: 56

‌الصرفة وبطلانها:

33-

عرف العرب أنهم عجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن، وعلَّلوا عجزهم بما استرعاهم ما فيه من حلاوة اللفظ، وطلاوة المعنى والتركيب، وعمق ما اشتمل حتى إنه مغدق في جذوره، كلما تكشَّف القارئ عن عمقه رأى ما لا يصل إليه البشر، وكلما اتجه إلى أعلاه وجد ثمرًا شهيًّا.

هذا أمر ظاهر، ولكن الفلسفة التي تسيطر على عقول بعض الناس، ولا تكون فيها ثمرة ناضجة، قد يتجهون بها إلى كل ما يرونه بديئًا في التفكير، سواء أكان متصلًا بالحق المجرَّد أم لم يكن متصلًا، وسواء أكان متفقًا مع الإيمان والواقع أم لم يكن، بل إنَّ المتفلسفين ربما اتَّجهوا إلى الفكرة لا لأصالتها، ولكن لغرابتها، ولا لأنها لا بُدَّ منها لتحقيق الحق وإبطال الباطل، ولكن للترف العقلي، لا يفرقون بين أمر يتصل بالإيمان وأمر لا صلة له بالإيمان.

وإنَّ بعض المتفلسفين من علماء المسلمين اطَّلعوا على أقوال البراهمة في كتابهم "الفيدا" وهو الذي يشتمل على مجموعة من الأشعار، ليس في كلام الناس ما يماثلها في زعمهم، ويقول جمهور علمائهم: إن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثلها؛ لأنَّ براهما صرفهم عن أن يأتوا بمثلها.

يقول في ذلك أبو الريحان1 البيروني في كتابه "ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" ما نصه:

"إن خاصتهم يقولون: إنَّ في مقدورهم أن يأتوا بأمثالها، ولكنهم ممنوعون من ذلك احترامًا لها".

1 توفِّي سنة 430هـ.

ص: 57

ولم يبين البيروني وجه المنع، أهو منع تكليفي يسبقه الإيمان بهذه الكتب، وتكون دلائل وجوب الإيمان من نواحٍ أخرى، أم هو منع تكويني، بمعنى: إنَّ براهما صرفهم بمقتضى التكوين عن أن يأتوا بمثلها، والأخير هو الظاهر؛ لأنه هو الذي يتفق مع قول جمهور علمائهم، وما اشتهروا من أنَّ القول بالصرفة نبع في واديهم.

34-

وعندما دخلت الأفكار الهندية في عهد أبي جعفر1 المنصور، من والاه من حكام بني العباس، تلقَّف الذين يحبون كل وافد من الأفكار، ويركنون إلى الاستغراب في أقوالهم، فدفعتهم الفلسفة إلى أن يعتنقوا ذلك القول، ويطبقوه على القرآن، وإن كان لا ينطبق، فقال قائلهم: إن العرب إذ عجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن ما كان عجزهم لأمر ذاتي من ألفاظه ومعانيه ونسجه ونظمه، بل كان لأن الله تعالى صرفهم عن أن يأتوا بمثله.

وإنَّ رواج تلك الفكرة يؤدي إلى أمرين:

أولهما: إنَّ القرآن الكريم ليس في درجة من البلاغة والفصاحة تمنع محاكاته، وتعجز القدرة البشرية عن أن تأتي بمثله، فالعجز ليس من صفات القرآن الذاتية.

وثانيهما: الحكم بأنه ككلام الناس لا يزيد عليه شيء في بلاغته، أو في معانيه.

وإن مذهب الصرفة قد وجد من يقوله من علماء الفلسفة الكلامية وغيرها، بل وجد من يقوله من بين الذين أنكروا الرأي في الفقه، وهو مع جموده في الفقه، من أبلغ الكتاب والشعراء.

ولنترك الكلمة للباقلاني المتوفَّى سنة 403هـ في كتابه "إعجاز القرآن"، قال -رضى الله تبارك وتعالى عنه:

"فإن قيل: فلم زعمتم أنّ البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات وتصرُّفهم في أجناس الفصاحات، وهلَّا قلتم: إنَّ من قدر على جميع هذه الوجوه بوجه من هذه الطرق الغريبة كان على مثل نظم القرآن قادرًا، وإنما يصرفه عنه ضرب من الصرف، أو يمنعه من الإتيان بمثله ضرب من المنع، أو تقصر دواعيه إليه دونه مع قدرته عليه ليتكامل ما أراده الله تعالى من الدلالة، ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة؛ لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين لم يعجز عن نظم مثلهما، وإذا قدر على ذلك على ضمّ الثانية إلى الأولى، وكذلك الثالثة حتى يتكامل قدر الآية والسورة"2.

1 ثاني خلفاء بني العباس، توفِّي سنة 156هـ.

2 إعجاز القرآن للباقلاني ص41 "طبع دار المعارف".

ص: 58

ونرى من هذا أنَّ القائلين بهذا القول يشككون في مرتبة القرآن وكونه من عند الله تعالى من غير أن يقدموا دليلًا، بل إنَّ القصد الذي يبدو من لحن القول والدعوى هو التشكيك المجرَّد في علوِّ البلاغة القرآنية، ومن وراء ذلك التشكيك ما يريدون من توهين ثم دعاوي بأنه من صنع محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا يسير الخط من الاحتمالات تنافي الواقع إلى توهين لأمر القرآن، إلى ادِّعاء أنه ليس من عند الله.

35-

وإن القول بالصرفة نبت أول ما نبت من رواق الفلسفة الكلامية، قاله شيخ من شويخهم، وهو إبراهيم بن يسار الشهير بالنظَّام، المتوفَّى سنة 224هـ، فهو أول من جاهر به، وأعلنه ودعا إليه، ولاحى عنه كأنَّه مسألة من مسائل علم الكلام، ونقول: إنَّه أوَّل من جهر به ولا نقول أنه أول من فكر فيه، أو أول من ابتدأ القول به؛ لأنَّ الأفكار لا يعرف ابتداؤعها، وهي تتكون في خلاياها، بل لا تعرف إلا بعد أن تظهر، ويجاهر بها.

جاهر بها، وكان ذا فصح وبيان وحجة وبرهان، وإن لم يكن مستقيم الفكر، بل إنه يظن الظن فيحسبه يقينًا، ثم يبني عليه ويقايس، ويصحح القياس والتنظير بين الأشياء، بينما الأصل ذاته يحتاج إلى قياس صحيح.

ولقد نقده تلميذه الجاحظ المتوفّى سنة 255هـ، الذي كان معجبًا بشخصه، غير آخذ برأيه، وقال فيه ذاكرًا عيبه:

"إنما عيبه الذي لا يفارقه سوء ظنه وجودة قياسه على العارف والخاطر، والسابق الذي لا يوثق بمثله، فلو كان بدل تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل الذي قاس عليه، كان أمره على الخلاف، ولكنه كان يظن الظن ثم يقيس عليه، وينسى أن بدء أمره كان ظنًّا، فإذا أتقن ذلك وأيقن جزم عليه، وحكاه عن صاحبه حكاية المستبصر في صحة معناه، ولكنه كان لا يقول سمعت ولا رأيت، وكأن كلامه خرج مخرج الشهادة القاطعة، فلم يشك السامع أنه إنما حكاه عن سماع قد امتحنه، أو عن معاينة قد بهرته".

لم يوافق التلميذ أستاذه، لم يوافق الجاحظ شيخ الكتاب المسلمين وأكبر ناقد بين الناقدين شيخه، وإذا كان إبراهيم بن يسار قد اشتهر بالبيان وسرعة الجواب ولسن القول، فقد اشتهر الجاحظ بأنه ذواق الكلام وصيرفي البيان، فإن خالف من يتسرع في الخبر، ويبني عليه، فهي مخالفة الخبير العارف بتصريف القول، وأفانين التعبير والتفكير.

ولم يكن رد الجاحظ على شيخه رد المجادل المحاور، ولكنه كان بالعمل، فقد كان أول من كتب في إعجاز القرآن من الناحية البيانية؛ ليكون الرد على الصرفة ببيان الإعجاز الذاتي.

ص: 59

ولقد أشار إلى رد الجاحظ الذين كتبوا في الإعجاز ومنهم الباقلاني، وممن نسب إليه القول بالصرفة الشريف المرتضى من الشيعة، وفسر الصرفة بأن الله تعالى سلبهم العلوم التي يحتاج إليها في معارضة القرآن والإتيان بمثله. ومؤدى كلامه أنهم أوتوا المقدرة على المعارضة بما كانوا عليه من بيان وبلاغة وفصاحة، فهم قادرون على النظم والعبارات، ولكن ليست عندهم المقدرة بسبب أنَّهم لم يعطوا العلم الذي يستطيعون به محاكاة القرآن في معناه.

وإنَّ هذا القول ينافيه أن الله سبحانه وتعالى طالب بأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وأعفاهم من أن يكون كلامهم مشتملًا على ما في القرآن من علم، واقتصر على التحدي بالنظم والعبارة واللفظ.

فهذا القول نوع من الصرفة، ونفي للإعجاز الذاتي، ويختلف مع ما اشتمل عليه القرآن.

وممن قالوا بالصرفة الفقيه البليغ العنيف المتشدد ابن حزم1 الأندلسي، فقد قال في كتاب الفصل في سبب الإعجاز:"لم يقل أحد أنَّ كلام غير الله تعالى معجز، لكن لمَّا قاله الله تعالى، وجعله كلامًا له، أصاره معجزًا، ومنع من مماثلته" ثم قال: وهذا برهان كان لا يحتاج إلى غيره.

وإن ذلك الكلام يبدو بادئ الرأي غريبًا من ابن حزم، ولكن المتأمل فيه يجده سائر على مذهبه في نفي الرأي، والحكم بظاهر القول من غير تعليل، فالاتجاه إلى تعليل الإعجاز بأنَّ السبب فيه بلاغته التي علت عن طاقة العرب، والتي جعلتهم يخرون صاغرين بين يديه من غير مراء ولا جدال يُعَدّ تعليلًا، وهو من باب الرأي الذي ينفيه، والتعليل الذي يجافيه، فلا بُدَّ أن يبحث عن سبب غير ما ذكر الله تعالى.

36-

وإننا نرى أنه بعد كلام النظام صارت فكرة الإعجاز بالصرفة مجال اختلاف بين العلماء ما بين مقرر لها ومستنكر، وقد آن لنا أن نبين بطلان هذه الفكرة من أساسها، وإنَّ دلائل البطلان قائمة ثابتة مأخوذة من الوقائع التاريخية والموازنات الحقيقية الثابتة.

"أ" منها: ما ذكرنا من قبل أنَّ العرب عندما تلقَّوا القرآن راعهم بيانه، وأثار إعجابهم أسلوبه وعباراته، وقالوا: ما رأينا مثله شعرًا ولا نثرًا، فكان العجز لذاته، لا لشيء خارج عنه، وما لنا نفترض ما لم يقولوا وما لم يفعلوا، وما لم يقدروا، إلّا أن يكون ذلك تمويهًا وإنكارًا للواقع المستقر، بفرض وهمي.

1 توفِّي سنة 456هـ.

ص: 60

"ب" وأيضًا فإنه لو كان العجز لأمر خارجي لا لأمر ذاتي فيه، بأن تكون عندهم القدرة على أن يأتوا بمثله ولكن صرفوا، فإنَّ ذلك يقتضي أن يثبت أولًا أنهم قادرون على مثله، وهم أولًا قد نفوا ذلك عن قدرتهم، وليس لنا أن نفرض لهم قدرة قد نفوها عن أنفسهم، لو كانوا قادرين لكان من كلامهم قبل نزول القرآن عليهم ما يكون متماثلًا في نسقه ونسجه، وله مثل رنينه وصوره البيانية في شعر أو نثر، ولكن المتتبع للمأثورات العربية في الجاهلية والإسلام لا يجد فيها ما يقارب القرآن في ألفاظه أو معانيه أو صورة البيانية.

ولذا لجأ الباقلاني1 في كتابه "إعجاز القرآن" إلى الموازنة بين القرآن وبين المعروف من أبلغ الكلام في الجاهلية، ويقول في ذلك:"ولو كانوا صرفوا على ما ادَّعاه لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عمَّا كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة، وحسن النظم، وعجيب التأليف؛ لأنَّهم لم يتحدوا به، ولم تلزمهم حجته، فإذا لم يوجد في كلام قبله مثله علم أن ما ادَّعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان".

"ج" وإننا لو قلنا: إنَّ الذي منع العرب من الإتيان بمثله هو الصرفة ما كان القرآن هو المعجز، وإنما يكون العجز منهم، ولم يكونوا عاجزين، وإنما يكونون قد أعجزهم الله، ولم يعجزهم القرآن ذاته، وقد كان القرآن هو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، والقول بالصرفة ينفي عنه خواص الإعجاز.

وإنَّ معجزات النبيين السابقين ما كان في طاقة الناس أن يأتوا بمثلها في ذاتها، ولم يكن بصرف الناس أن يأتوا بمثلها، فمعجزة العصا، وتسع الآيات التي لموسى عليه السلام ما كان العجز من الناس بالصرف، ولكن بالعجز الحقيقي، فلماذا لا تكون معجزة النبي صلى الله عليه وسلم كسائر المعجزات، وهي أجَلّ وأعظم.

"د" وإنَّ الله تعالى قد وصف القرآن بأوصاف ذاتية تجعله في منزلة لا تصل إليها معجزات أخرى، فكانت هذه توجب أن يكون إعجازه ذاتيًّا، ولقد قال تعالت كلماته:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31] .

ويقول جلَّ من قائل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] .

وإذا كان القرآن بهذه الأوصاف التي وصفه بها منزله سبحانه وتعالى، أفيقال بعد ذلك أنَّ الناس يستطيعون أن يأتوا بمثله؟ اللهمَّ إن ذلك بهتان عظيم.

1 توفِّي سنة 403هـ.

ص: 61

"هـ" وإن مثل الذين يقولون: إنَّ إعجاز القرآن بالصرفة، كمثل الذين قالوا: إن القرآن سحر يؤثر.

وقد أثبت ذلك الرافعي في كتابه إعجاز القرآن، فقال: "وعلى الجملة فإن القول بالصرفة لا يختلف عن قول العرب: إن هذا إلا سحر يؤثر، وهذا زعم رده الله تعالى على أهله، وأكذبهم فيه، وجعل القول فيها ضربًا من العمى {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} [الطور: 15] .

وإنَّ التشابه بين القول بأنه سحر أنَّ الامتناع عن المماثلة في كليهما من خارج الشيء لا من ذاته، فالقول بالصرفة يفيد أنَّ العرب لم يكونوا عاجزين، ولكن حيل بينهم وبين العمل على المماثلة، وكذلك الأمر في السحر يشدهم، حتى يعجزوا.

ولقد سبق أنْ علَّلَ المشركون عجزهم بعد التفكير والتقدير بأنه سحر يؤثر.

قال -تعالت كلماته- في شأن الوليد بن المغيرة: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا، سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 11-25] .

هذا ما وصل إليه الوليد بن المغيرة بعد أن قدَّر ودبَّر في ملأ من قومه، يجيء كاتب متفلسف فيأتي بهذا القول من غير تقدير ولا تدبير.

37-

ومهما يكن من بطلان هذه الفكرة، فقد أدَّت إلى إنشاء علوم البلاغة في ظل القرآن، فاتَّجَه الكاتبون إلى بيان أسرار البلاغة في هذا الكتاب المبين، المنزَّل من عند الله الحكيم، قرآنًا عربيًّا، فكان هذا الباطل سببًا في خير كثير، وكما يقول المثل السائر "ربَّ ضارة نافعة"، فقد تولَّد عن هذا الباطل دفاع حكيم، ولدت منه علوم البلاغة العربية، وكما تولَّد عن الخطأ في تلاوة آية "علم النحو" تولدت علوم البلاغة العربية. وإن أكثر ما كتب الأولون في البلاغة والفصاحة كان في ظل القرآن، ومحاولة لبيان إعجازه.

وإنَّ أول ما كتب في إعجاز القرآن من ناحية البيان كان في الوقت الذي جاء فيه القول بالصرفة، بين نفي وإثبات كما أشرنا، وأول من عرف أنه تصدى للكلام في الإعجاز في نظم القرآن هو الجاحظ تلميذ النظَّم، الذي أنكر عليه قوله، وعابه في منهاجه الفكري من أنَّه يظن الظن، ثم يجعله أصلًا يجري عليه القياس مصححًا لقياسه.

ص: 62

بالمنطق، والعيب في أصل القول الذي بنى عليه، لا في الأقيسة التي أجرى بها مشابهاته، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.

وقد كتب في ذلك كتابه النظم، وقد عابه الباقلاني؛ ليدفع بذلك التسليم له بالسبق، ولأنه معتزلي، ولكن الجاحظ في كتابات له كثيرة غير كتابه النظم، كان يذكر مواضع من إعجاز القرآن في آيات يتعرّض للقول فيها، ليبيِّن مقامها من البيان، فهو في كتاب "الحيوان" يذكر أنه جمع آيات من القرآن يعرف مقامها في البيان، فهو يقول: "ولي كتاب جمعت فيه آيات من القرآن ليعرف بها ما بين الإيجاز والحذف، وبين الزوائد والفضول والاستعارات، فإذا قرأتها رأيت فضلها في الإيجاز والجمع للمعاني الكثيرة، والألفاظ القليلة، فمنها قوله تعالى حين وصف خمر أهل الجنة {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُون} [الواقعة: 19] وهاتان الكلمتان جمعتا جميع عيوب خمر أهل المدينة، وقوله عز وجل حين ذكر فاكهة أهل الجنة:{لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَة} [الواقعة: 33] ، جمع بهاتين الكلمتنين جميع تلك المعاني.

وهذا الكتاب الذي أشار إليه لم يكشف في التراث الإسلامي، ولكنه يدل على أن الجاحظ كان يتعرَّض لأسرار الإعجاز، كلما لمح بريق الإعجاز في آياته.

ولكن التعصُّب المذهبي يستهين بكلام الجاحظ في إعجاز القرآن، بل إنه يتحامل عليه في كتابته كلها، فيقول في ذلك الباقلاني الأشعري عن الجاحظ أحد شيوخ المعتزلة:"كذلك يزعم زاعمون أنَّ كلام الجاحظ من السمت الذي لا يؤخذ فيه، والباب الذي لا يذهب عنه، وأنت تجد قومًا يرون كلامه قريبًا، ومنهاجه معيبًا، ونطاق قوله ضيقًا، حتى يستعين بكلام غيره، ويفزع إلى ما يوشح به كلامه، من بيت سائر أو مثل نادر، وحكمة ممهدة منقولة، وقصة عجيبة مأثورة، وأما كلامه في أثناء ذلك فسطور قليلة وألفاظ يسيرة.. فإذا أردت أن تحقق ذلك فانظر في كتبه في نظم القرآن، وفي الردِّ على النصارى، وفي خبر الواحد، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى"1.

ولقد جاء من بعد نظم القرآن للجاحظ الذي كان ردًّا عمليًّا على كلام النظَّام الذي أدخله من الهند، وهو مذهب الصرفة، جاء بعده أول كلام واجه الصرفة في إعجاز القرآن، وهو كتاب "إعجاز القرآن" لأبي عبد الله محمد بن يزيد الواسطي المتوفَّى سنة 306 هجرية، أي: بعد موت الجاحظ بنحو ستين سنة، وهو صورة المجاوبة التي كانت دفعًا لمذهب الصرفة الذي بلبل الأفكار، وكان بين ممانعة من الأكثرين، ومجاوبة من القلة، حتى صارت نادرة، وحتى طواه التاريخ وهو في هذا قد طرق باب البلاغة طرقًا.

1 إعجاز القرآن ص377.

ص: 63

قويًّا، وأصل الأصول المشتقة من كلام العرب، ونظمها وطبقها على القرآن، وثبت في التطبيق أنه أعلاها.

وهذا الكتاب يعدُّ أصلًا بنى عليه، فقد شرحه عبد القاهر الجرجاني المتوفَّى سنة 471هـ شرحًا مطولًا، وأودع ذلك الشرح كتابًا سمَّاه "المعتضد"، وله شرح آخر أصغر منه.

وهكذا كل كاتب يقيم بناء يكمله من يجيء بعده، فالواسطي أكمل البناء الذي وضعه الجاحظ، أو بنى عليه، وترك لغيره أن يكمل البناء.

وجاء عبد القاهر الجرجاني فبنى على ما وضع الواسطي، وكان كتابه دلائل الإعجاز قد أوفى على ما وضع الجاحظ والواسطي.

وفي الزمن الذي سار فيه الجاحظ والواسطي من بعده، والجرجاني من بعدهما، وانتهى إلى تلك الثورة المثرية في باب الإعجاز البلاغي للقرآن، كانت هناك محاولة أخرى، في طريق مواز لذلك الطريق.

فقد وضع أبو عيسى الروماني المتوفَّى في سنة 382هـ كتابه في الإعجاز، فوضع بناء ثالثًا، غير بناء الجاحظ والواسطي، ثم جاء الباقلاني المتوفَّى سنة 403هـ فوضع كتابه "إعجاز القرآن"، ويلاحظ أنَّ تاريخه سابق على "دلائل الإعجاز"، وأحسب أنَّ من الحق علينا أن نقول: إنَّ "دلائل الإعجاز" لم يبنَ على الوساطي فقط، بل إنَّه أخذ من كل الينابيع التي سبقته، وإنَّ القارئ له يجد فيه كل مزايا من سبقه، وفيه زيادة جديرة بالأخذ، بل أساس لعلوم البلاغة كلها مستقاة من القرآن، وموضِّحة لأوجه البلاغة فيه أولًا، وعلوِّه على كل كلام ثانيًا، ثم فيه وضع مقاييس ضابطة لكل كلام بليغ ثالثًا.

فكتاب الباقلاني قد تعرَّض للإعجاز بالمواجهة ابتداءً، ولم يسبق علم البلاغة ابتداء، ثم يتعرَّض للإعجاز انتهاءً، ولكنَّه جعل الأصل في الكلام الإعجاز، ثم البلاغة تابعة له تبعية الدليل للمدلول، والبرهان للدعوى، والمقدمة للنتيجة.

ويلاحظ على هذا الكتاب أنَّه لم يشر إلى ما سبقه إلّا الجاحظ، فقد أشار إليه إشارة لا تكريم فيها، ولكن فيها استهجان واستصغار لما كتبه، ولم يشر أي إشارة إلى ما كتبه الواسطي، وما كتبه الرماني، وقد سبقاه، وكان ثانيهما على مقربة من زمانه، مع أنه أخذ من الرماني قطعًا ولم يذكر اسمه.

ومهما يكن الأمر بالنسبة لمن سبقوه في القول، وإهمال ذكرهم، فهو الكتاب الذي اختصَّ بأن يكون في الإعجاز ابتداءً كما أشرنا، وقد وفَّى فيه بأمهات المسائل.

ويقول فيه الرافعي المتوفَّى سنة 1937م في كتابه إعجاز القرآن: "على أن كتاب الباقلاني، وإن كان فيه الجيد الكثير، وكان الرجل قد هذَّبه وصفاه، وتصنَّع له، إلّا أنه

ص: 64

لم يملك فيه بادرة عابها هو من غيره، ولم يتحاش وجهًا من التأفف لم يرضه من سواه، وخرج كتابه كما قال هو في كتاب الجاحظ، لم يكشف عمَّا يلتبس في أكثر من هذا. وقد حشد إليه أمثله من كل قبيل من النظم والنثر، ذهبت بأكثره، وغمرت جملته، وعدها في محاسنه، وهي من عيوبه، ثم يقول:"وكان الباقلاني رحمه الله وأثابه- واسع الحيلة في العبارة، مبسوط اللسان إلى مدى بعيد، يذهب في ذلك مذهب الجاحظ، ومذهب مقلده، على بعد وتمكن، وحسن تصرف، فجاء كتابه وكأنه في غير ما وضِعَ له؛ لما فيه من الإغراق في الحشد، والمبالغة في الاستعانة؛ والاستراحة إلى النقل".

والرافعي بهذا ينقد الباقلاني، ويصفه بمثل ما وصف هو به الجاحظ.

ومن حق العلم على العالم ألَّا ينتقص غيره، وأن يعرف اللاحق أنه متمم لما بدأ السابق؛ غير ناكر لفضل، ولا باخس لحظ.

وهكذا في عصر الباقلاني ومن بعده، حتى كان آخرها تأليفًا من حيث القيمة العلمية والدرجة البيانية كتاب "إعجاز القرآن" للرافعي -رحمه الله تعالى وأثابه وجزاه عن الإسلام خيرًا.

ص: 65

‌وجوه الإعجاز:

38-

نقصد بوجوه الإعجاز الأمور التي اشتمل عليها القرآن، وهي تدل على أنه من عند الله، وما كان في استطاعة أحد أن يأتي بمثله، وما كان في استطاعة الجن والإنس أن يأتوا بمثله، ولنَتَّجِه إلى أقوال العلماء في هذه الوجوه؛ ثم نتجه بعد ذلك إلى بيان ما نقصد إلى بيانه من بحثنا هذا الذي نضرع إلى الله أن يمن علينا بالتوفيق فيه كما منَّ علينا من قبل، فنحن نعيش فيما نكتب، ونبحث تحت فيض الله تعالى وتوفيقه، ولولا توفيقه سبحانه وتعالى ما وصلنا إلى شيء.

يعد صاحب الشفاء أوجه الإعجاز في القرآن فيحصرها في أربعة:

أولها: حسن تأليفه، والتئام كلمه، وفصاحته وبلاغته الخارقة لما عند العرب.

وثانيها: صورة نظمه العجيب، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب، ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه، وووفقته عند مقاطع آية، وانتهاء فواصل كلماته، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحد مماثلة منه.

وثالثها: ما انطوى عليه من الأخبار بالمغيبات، وما لم يكن ولم يقع، فوجد كما ورد على الوجه الذي أخبر كقوله تعالى:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]، وكقوله: {غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى

ص: 65

الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 2-4] إلى آخر ذلك من الأمور المغيبة التي أخبر القرآن عنها قبل وقوعها، فوقعت كما أخبر.

ورابعها: ما أخبر به من أخبار القرون والأمم البائدة، والشرائع الدائرة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلّا الفذّ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك، فيورده النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه، ويأتي به على نصه، فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه، وأنَّ مثله عليه الصلاة والسلام لم ينله بتعليم، وقد علموا أنه -صلى الله تعالى عليه وسلم- أمي لا يقرأ ولا اشتغل بمدارسة.

هذا ما ذكره القاضي عياض المتوفَّى سنة 544 هـ في وجوه الإعجاز، ونجد الأمرين الأوَّلين يتعلقان بالناحية البيانية في القرآن، وإن كان أولهما يتعلق بتأليف كلماته وتناسقها، مع فصاحتها وسلامتها وخلوها من الحوش، والثاني بصورة النظم، ومع تخالف حقيقتها نجد منهما ينتهي إلى الناحية البيانية.

أمَّا الأمران الآخران فإنهما يتعلقان بصدق الأخبار التي اشتمل عليها القرآن الكريم، بيد أنَّ الأول يتعلق بالإخبار عن الغيب في المستقبل الذي لا يعلمه إلَّا الله تعالى، والثاني يتعلق بالإخبار عن الماضي.

39-

وذكر القرطبي سنة 684 هـ في تفسيره أن أوجه إعجاز القرآن عشرة:

1-

منها النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وغيرهم؛ لأن نظمه ليس في نظم الشعر في شيء، ولذلك قال رب العزة:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] .

2-

ومنها: الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب.

3-

ومنها: الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال من الأحوال، وتأمل ذلك في سورة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}

إلى آخرها [ق: 1] .

وقوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] إلى آخر السورة وقد ضرب على ذلك الأمثلة الكثيرة.

وهذه الأمور الثلاثة كما نقل القرطبي عن ابن الحصّار من النظم والجزالة لازمة في كل سورةٍ بعيدة عن سائر كلام البشر، وبها وقع التحدي والتعجيز.

4-

ومنها: التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي، حتى يقع منها للاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وكل حرف في موضع -باعتبار أنَّ القرآن الكريم فيه الكلمات من لهجات العرب، أو لغاتهم.

ص: 66

5-

ومنها: الإخبار عن الأمور التي تقدمت في أول الدنيا إلى وقت نزوله على أمي ما كان يتلو من قبله من كتاب، ولا يخطه بيمينه، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الخالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه وتحدوه من قصة أهل الكهف، وشأن موسى والخضر عليهما السلام، وحال ذي القرنين، فجاءهم وهو الأميّ الذي لا يقرأ ولا يكتب، وليس له بذلك علم بما عرفوا من الكتاب السالفة صحته، قال القاضي ابن الطيب1: ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه لا عن العلم، وإذا كان معروفًا أنَّه لم يكن ملابسًا لأهل الآثار وحملة الأخبار، ولا مترددًا إلى المتعلم منهم، وما كان ممن يقرأ، فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه، عُلِمَ أنه لا يصل إلى علم ذلك إلَّا بتأييد من جهة الوحي.

6-

ومنها: الوفاء بالوعد المدرك بالحسِّ في العيان، في كل ما وعد الله سبحانه، وينقسم: إلى أخباره المطلقة؛ كوعد الله بنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإخراج الذين أخرجوا، والقسم الثاني: وعد مقيد بشرط؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] .

7-

ومنها: الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطَّلِع عليها إلّا بالوحي، فمن ذلك ما وعد الله به نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على كل الأديان، بقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] ففعل ذلك.

8-

ومنها: ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام الأنام في الحلال والحرام وسائر الأحكام.

9-

ومنها: الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي.

10-

ومنها: التناسب في جميع ما تضمَّنته ظاهرًا وباطنًا من غير اختلاف، قال الله تعالى:{ولَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] . وبعد أن ذكر القرطبي هذه العشرة قال:

"قلت: فهذه عشرة أوجه ذكرها علماؤنا -رحمة الله تعالى عليهم، ووجه حادي عشر قاله النظَّام وبعض القدرية: أنَّ وجه الإعجاز هو المنع من معارضته والصرف عند التحدي بمثله، وأنَّ المنع والصرفة هو المعجزة، دون ذات القرآن، ذلك أن الله تعالى صرف هممهم عن معارضته، مع تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله، وهذا فاسد؛ لأنَّ الإجماع قبل حدوث المخالف أنَّ القرآن هو المعجز، فل قلنا أن المنع والصرفة هو

1 المتوفَّى سنة 435.

ص: 67

المعجز لخرج القرآن عن أن يكون معجزًا، وذلك خلاف الإجماع، وإذا كان كذلك عُلِمَ أن نفس القرآن هو المعجز، وإن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة؛ إذ لم يوجد كلام قط على هذا الوجه، فلمَّا لم يكن كذلك مألوفًا معتادًا منهم دلَّ على أن المنع والصرفة لم يكن معجزًا".

40-

ومن هذا نرى أنَّ القرطبي قد أتى بوجوه كثيرة عدَّها من إعجاز القرآن، وقد ذكر عشرة، وإنَّه لكي يكون استقراؤه كاملًا لا نقص فيه أتى بالصرفة، وعدها وجهًا من الوجوه عند بعضهم، وقد ردَّدْناها كما ردَّها هو، وانتهى إلى أنَّ إعجاز القرآن ذاتي وليس من أمر خارج، وأقمنا كما أقام الدليل على ذلك، مما لا يجعل موضعًا لهذا القول، وبيَّنَّا مصدرها الهندي، وأنها فكرة دخيلة على المسلمين، والحقائق تخالفها، والوقائع تجافيها.

ولكن يجب أن يلاحظ فيما أحصاه القرطبي والقاضي عياض أمران:

1-

أولهما: إنَّ الأقسام التي ذكراها يتداخل بعضها في بعض، أو أنهما جعلا ما يتعلق بالنظم جزءًا منه خاصًّا بفصاحة القول، وجزءًا يتعلق بالنظم، وجزءًا يتعلق بالأسلوب، وجزءًا يتعلق بالجزالة، وجزءًا يتعلق بالتصرف في القول، وكل ذلك يتعلق بالمنهج البياني القرآني، وهذه الكلمة تجمع تلك الأقسام كلها، فلا تخرج من عمومها خارجة.

والأمر الثاني: إنَّ بعض هذه الوجوه تحدَّى بها القرآن الكريم، فقد تحداهم الله تعالى أن يأتوا بمثله ولو عشر سورة مفتريات، والوجوه الأخرى لم يتحدَّ بها القرآن الكريم، وإن كانت من عند الله تعالى العليم الحكيم، مثل: إخباره عن أمور مغيبة في المستقبل، ثم وقوعها كما أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه.

وإخباره عن الأمم السابقة، وإخباره عن شأن عبد الله الصالح مع موسى نبي الله تعالى -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، ومثل قصة أهل الكهف، وذي القرنين، فذكر هذا في القرآن الذي نزل على أميٍّ لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجلس إلى معلم، دليل على أنَّه من عند الله سبحانه وتعالى.

ومن هذه الأحكام الشرعية التي اشتمل عليها القرآن، فإنَّها لا يمكن أن تكون من عند محمد صلى الله عليه وسلم، بل هي من عند الله.

وقد كتبنا في هذه عدة بحوث في إحدى المجلات1 الإسلامية، بعنوان "شريعة القرآن دليل على أنه من عند الله" جمعتها إحدى الهيئات الإسلامية في رسالة،

1 مجلة "المسلمون" ومجلس الشئون الإسلامية هو الذي جمع البحوث وترجمها إلى الإنجليزية والفرنسية.

ص: 68

ونشرتها، وترجمتها إلى الفرنسية والإنجليزية، وقد أقمنا الدليل على أن تلك الشريعة المحكمة لا يمكن أن يأتي بها أميّ لا يقرأ ولا يكتب، وقد نشأ في بلد أمي ليس به مدرسة ولا مكتب دراسة، وهي في إحكامها لا يمكن أن تكون إلَّا من عند الله تعالى.

وكتبنا بحثًا وازنَّا فيه بين شريعة القرآن وقانون الرومان في الملكية بالخلافة، وذكرنا أنَّ قانون الرومان قد تكوَّن في نحو ثلاثة عشر قرنًا، ومع ذلك هو في الملكية بالخلافة لا يوزان بشريعة القرآن، إلَّا إذا وازنَّا بين عصا هشة وسيف بتار، فلا يمكن أن يأتي به محمد من عنده، بل هو من عند الله تعالى.

والأوربيون القانونيون يرون في قانون الميراث في القرآن أنَّ العقل البشري لم يصل إلى الآن إلى خير منه، ونحن لهذا نقرر أن ما ذكره القرطبي غير الصرفة يدل على أن القرآن كله جملة وتفصيلًا هو من عند الله سبحانه وتعالى العليم الخبير.

ولكن نرى أنَّ الله تعالى تحدَّى العرب أن يأتوا بمثله ولو مفترى، فكان التحدي للعرب ابتداءً بالمنهج البياني للقرآن، وهو الذي استرعى ألبابهم، ولعله لم تكن بلغت مداركهم العقلية والقانونية أن يعرفوا مدى ما في أحكام القرآن من تنظيم سليم للمجتمع، فيه المصلحة الإنسانية العالية التي تعلو على تفكير البشر، وإن كان فيهم ذوق بياني يذوقون به الألفاظ الفخمة القوية في رنينها، المصورة للمعاني في أحوالها الصوتية، وتَكَوُّن حروفها، ومرامي عباراتها، ويدركون في ذلك المعنى السليم من غير إجهاد، فيدركون ما هو جيد المعنى في ذاته من غير أن يتعرَّفوا فلسفة قانونية أو عقلية أو كونية، وفي القرآن ما يرضهيم ويملأ نفوسهم، ويعجزون عن أن يأتوا بمثله.

وإن لقرآن فيه الشريعة الباقية الخالدة، وهو يخاطب الأجيال كلها، والأجناس كلها العرب والعجم، والبيض والسود، والأحمر والأصفر، فليس ما فيه من الإعجاز خاصًّا بالعرب، وإنما إعجازه يعمّ الجنس البشري كله؛ لأنه يخاطب الجميع، ويطالب الناس قاطبة بأحكامه، وفيه البينات المثبتة لكل جنس.

وعلى ذلك نقسم وجوه الإعجاز التي اشتمل عليها القرآن إلى قسمين:

أولهما: ما يتعلق بالمنهاج البياني؛ وهذا النوع من الإعجاز أول من يخاطب به العرب، لما ذكرنا في صدر كلامنا من أنه جاء بلغتهم، ولأنهم كانوا بمقتضى بداوتهم مع استقامة تفكيرهم، ومع وجود نبوات سابقة فيهم، أبقت بعض العلم، وبمقتضى ثقافتهم اللسانية وعنايتهم بلغتهم كانوا أكثرم الناس إدراكًا لمعنى الإعجاز في القرآن من ناحية بيانه ونغمه وجزالته، وكذلك كان الأمر منهم، وكانوا هم المخاطبين أولًا به، وبعجزهم قام البرهان الأول.

القسم الثاني: الإعجاز بما اشتمل عليه من ذكر لأخبار السابقين، ولأخبار مستقبلة، وقعت كما ذكر، واشتماله على علوم كونية وحقائق لم تكن معروفة في عصر محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أتى بها القرآن، وتقرَّرت حقائقها من بعد، وكذلك ما اشتمل عليه من شرائع أثبت الوجود الإنساني أنَّها أصلح من غيرها، وأنها وحدها العادلة، وأنَّ هذا النوع معجزة للأجيال كلها، وهو يحتاج في بيانه إلى مجلدات ضخام، ولذلك نتَّجِه ابتداء إلى القسم الخاص بالبلاغة، وهو الأول.

ص: 69

‌الإعجاز البلاغي:

41-

أخذنا أولًا من أسباب الإعجاز ذلك السبب؛ لأنه الواضح بالنسبة للعرب، لأنه هو الذي شدَّه به العرب عند أول نزوله فحيَّرهم، وهم المدركون لأساليبه العارفون لمنهاجه، الذين يذوقون القول بأسماعهم ويدركونه بعقولهم، ويعرفون مواضع الكمال، ومواضع النقص في كل ما يسمعون من شعر، حتى إنَّهم يتجهون إلى مواضع الحسن، والمآخذ التي تؤخذ بلقانة فطروا عليها، ولباقة عرفوا بها.

ولنسق لك مثلًا من نقدهم، فلقد عرض بيتان في سوق عكاظ على الخنساء لحسان بن ثابت رضي الله عنهما، فلمحت بقوة الملاحظة الناقدة ما فيها من عيوب تخفى إلا على من يذوق الكلام ذوقًا، ويدرك معانيه وألفاظه بأرب وفكر مستقيم.

قال حسان رضي الله عنه:

لنا الجفنات الغير يلمعن بالضحى

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

ولدنا بني العنقاء وابني محرق

فاكرم بنا خالًا، وأكرم بنا ابنما

فقالت الخنساء: ضعَّفت افتخارك، وأنزرته في ثمانية مواضع، قالت: قلت لنا الجفنات، والجفنات ما دون العشر، ولو قلت الجفان لكان أكثر، وقلت: الغر، والغرة البياض في الجبهة، ولو قلت البيض لكان أكثر اتساعًا. وقلت: يلمعن، واللمعان شيء يأتي بعد الشيء، ولو قلت: يشرقن لكان أكثر؛ لأنَّ الإشراق أدوم من اللمعان، وقلت: بالضحى، ولو قلت بالدجى لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف أكثر طروقًا بالليل، وقلت: أسيافنا، والأسياف دون العشرة، ولو قلت سيوفنا لكان أكثر، وقلت: يقطرن، فدلَّلت على قلة القتل، ولو قلت: يجرين لكان أكثر لأنصباب الدم، وقلت دمًا، والدماء أكثر من الدم، وفخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدوك أهـ1.

سقنا ذلك الخبر، وهو صورة لما كان عليه الذوق البياني، وإن كان هنالك شك في روايته، فإنّه يدل على أن روح النقد بالذوق المرهف كان مشهورًا بين العرب وكثيرًا.

هامش إعجاز القرآن للرافعي ص255.

ص: 70

وأذكر أن نقَّاد العرب كانوا يستنكرون بيت امرئ القيس الذي يقول فيه في معلقته:

أغرك مني أن حبك قاتلي

وأنك مهما تأمري القلب يفعل

فقد قالوا: إنَّ البيت لا يصدر من عاشق برح به الحب، وأحس بلطف العشق، وقالوا: إن الغانية إذا لم تعتز بالحب ففيم تعتز، كأنه يقول لها: إن كنت مغرورة بحبي فإني تاركك، وهكذا، وما ذلك شأن المحب اللهج.

42-

هؤلاء الذواقون للبيان الذين مرنت أسماعهم وألسنتهم على القول البليغ وإدراك مراميه، يستوي في ذلك أهل المدر وأهل الوبر، فأهل الوبر استفرغوا ذكاءهم في تعرف الكلام البليغ، والترنُّم بالشعر رجزه وقصيده، ولم يكن عندهم ما يزجون فيه وقتهم إلَّا سماع الكلام الطيب، وترديده، وروايته ونقله، ويرطبون به ألسنتهم في حلهم وترحالهم، وانتجاعهم إلى مواطن الكلأ وينابيع المياه، قد صفت نفوسهم صفاء السماء التي تظلهم، مع قوة الشكيمة التي اكتسبوها من وعورة الصحراء ولأوائها، وقسوة الحياة وغلظتها، ومع الرضا والقناعة التي اتسمت بها النفس العربية.

وأهل المدر وهم سكان القرى كأهل مكة والطائف ويثرب، وقد كانوا قومًا تجرا. من غير أن يخلوا من الشكيمة العربية، وقد كانت القبائل تجيء إليهم، أو يلتقون بهم في مواسم الحج وأسواقه التي كانت تعقد لتبادل السلع، وتبادل الفكر، والكلم المحكم، ويكون التباري بين الشعراء والخطباء، وكانت مكة وما حولها تشبه بعض الحدائق العامة في البلاد الأوربية تلقى فيها الخطب، ويتبارى فيها المتكلمون، وحسبك أن تعلم أن قسَّ بن ساعدة الإيادي ألقى خطبته التي ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم في عكاظ في موسم الحج.

هؤلاء الذين كانت الكلمة البليغة تقع في نفوسهم موقع الموسيقى فتطربهم، والقصيدة الطويلة فتهزهم، وكان حداؤهم لإبلهم رجزًا، وتدليلهم لأبنائهم أنماطًا من البيان، هؤلاء هم الذين خاطبهم القرآن، فرأوا فيه نوعًا من البيان لم يعرفوه من قبل، فانجذبوا إليه، وأقروا بتأثيره، ولم يستطيعوا أن يماروا فيه، بل خروا صاغرين أمام بلاغته، معترفين بأنه يسمو على قدرهم، ويعلو على طاقتهم، كفروا بما يدعو إليه، ولم ينكروا تأثيره، لاحوا النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- في دعوته إلى التوحيد، وتماروا فيه مع بداهته، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينالوا من القرآن، ولما دبّروا وقدروا في أمره، قالوا: إنه سحر يؤثر، وذلك يتضمَّن الإقرار باستيلائه على نفوسهم، وعلوه على كلامهم، وإن كان من نوعه، وسموا معانيه، وإن كانت حروفه في صياغة من حروفهم وكلماتهم.

ص: 71

‌وجوه الإعجاز البلاغي:

43-

إن كل شيء في القرآن معجز من حيث قوة الموسيقى في حروفه، وتآخيها في كلماته، وتلاقي الكلمات في عباراته، ونظمه المحكم في رنينه، وما وصل إليه من تأليف بين الكلمات، وكون كل كلمة لفقًا مع أختها، وكأنما نسيج كل واحدة قطعة منه تكمل صورته، وتوحد غايته، ومعانيه تجدها مؤتلفة مع ألفاظه، وكأن المعاني جاءت مؤاخية للألفاظ، وكأن الألفاظ قطعت لها، وسويت على حجمها.

ثم هو الذي يدركه كل ذي قوة فكرية بمقدار إدراكه، والمعنى صحيح في كل إدراك صحيح، وفي كل ذي طاقة سليم، بلا تخالف، يسمعه المؤمن فيقرّ به ويؤمن بما جاء فيه، ويسمعه المخالف فيدرك الحق من ثنايا كلماته ومعانيه إن أخلص في جانب الحق، وإن لم يؤمن فإنَّه يدرك ما في القرآن من خواصٍّ لا يصل إليها كلام كائنًا من كان قائله.

جاء في كتاب "الشفاء" للقاضي عياض: "حكي أنَّ عمر بن الخطاب -رضي الله تبارك وتعالى عنه- كان يومًا نائمًا في المسجد، فإذا هو برجل قائم على رأسه يتشهَّد شهادة الحق فاستخبره، فقال له: إني من بطارقة الروم ممن يحسن كلام العرب وغيرها، وإني سمعت رجلًا من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم فتأمَّلتها، فإذا قد جمع فيها ما أنزل على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة وهي: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] ، وحكى الأصمعي أنه سمع كلام جارية فقال لها: قاتلك الله ما أفصحك! فقالت: أو يعد هذا فصاحة بعد قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] ، فجمع في آية واحدة بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين. فهذا نوع من إعجازه منفرد بذاته غير مضاف إلى غيره على التحقيق"1.

وهكذا نرى كل إعجاز القرآن من نواح شتَّى، ربما تعِزّ على الاستقراء، ففي موسيقاه لا يسمع سامعه إلَّا أن يصغي بقلبه، وقد رميت كيف كان العرب يتفقون على ألا يسمعوا لهذا القرآن، وبلغوا فيه، ثم يذهب إليه المتفقون فرادى فيلتقون جماعة.

ولقد كان لموسيقى القرآن ونظمه روعة عند كل سامع، حتى من لا يفهم العربية، فإنَّ لكلماته ونظمه ومده وغنه، ونهاية فواصل، ووقفه، ما يستعري من لا يفهم العربية، وإذا كان لا يفهم معنى الكلمات فإنَّ النغم يعطيه صورًا رائعة.

1 الشفاء للقاضي عياض ص169.

ص: 72

وإن كل كلمة من كلماته تعطي صورة بيانية، وكل عبارة تجتمع من كلمات لها صورة بيانية رائعة تصوّر المعاني كالصورة الكاملة في تصويرها، التي تتكون أجزاؤها من صور، وتتجمَّع من الصور صورة متناسقة.

وإنه لأجل هذا يصعب على الكاتب أن يأتي بكل وجوه الإعجاز البياني، ولكنه يقارب ولا يباعد.

ولنذكر ستة وجوه نتكلم فيها، عسانا نصل إلى تقريب معاني الإعجاز من غير حد ولا استقراء كامل وهي:

1-

الألفاظ والحروف.

2-

الأسلوب، وما يكون من صور بيانية.

3-

التصريف في القول والمعاني.

4-

النظم وفواصل الكلم.

5-

الإيجاز المعجز والحكم والأمثال والإخبار عن الغيب.

6-

جدل القرآن.

ص: 73

1-

‌ ألفاظ القرآن وحروفه:

44-

قبل أن نخوض فيما اختصَّت به ألفاظ القرآن الكريم من جمال ودقة وإحكام، وما اشتملت كل كلمة مع أخواتها وجاراتها من صور بيانية لكل واحدة منفردة، ثم اشتملت عليه مجتمعة من معنى ذلك، نذكر أنَّ العلماء اختلفوا قديمًا وامتدَّ خلافهم إلى المتأخرين، تكلَّموا واختلفوا في أساس الفصاحة أو البلاغة، وهما غير مختلفين في الماصدق، وإن اختلفوا في التعريف اللفظي لحقيقة الفصاحة وحقيقة البلاغة.

قال بعض علماء البيان وعلى رأسهم عبد القاهر الجرجاني المتوفَّى سنة 471هـ: إن اللفظ والحروف ليس لهما أثر في كون الكلام بليغًا أو غير بليغ، إنما الأثر في مجموع ما يدل عليه النظم، وشكل النظم ليس هو المؤثر وحده، إنما تساوق المعاني وتلاقي الألفاظ وتآخيها، فيتكون هذا المعنى المؤثر، فيقول رضي الله عنه في كتابه "دلائل الإعجاز" ما نصه:

"ينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخلوها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارًا وأمرًا ونهيًا واستخبارًا وتعجبًا، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلّا بضمِّ كلمة إلى كلمة، وبناء لفظة على لفظة، هل

ص: 73

يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل في الدلالة، حتى تكون هذه أدل على معناها الذي وضعت له من صاحبتها على ما هي مرسومة به، ثم يقول رضي الله عنه:

"هل يقع في وهم أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة وتلك غريبة وحشية، أو أن تكون حروف هذه أخفّ وامتزاجها أحسن، وهل تجد أحدًا يقول هذه اللفظة فصيحة إلّا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤاسنتها لأخواتها، وهل قالوا: لفظة متمكنة ومقبولة، وفي خلافها قلقة ونابية ومستكرهة إلَّا وغرضهم أن يعبِّروا بالتمكُّن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها، وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم، وأنَّ الأولى لم تلتق بالثانية في معناها، وأنَّ الثانية لم تصلح أن تكون لفقًا للتالية في مؤداها، وهل تشك إذا فكرت في قوله تعالى:{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44] فتجلَّى لك منها الإعجاز، وبهرك الذي ترى وتسمع أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة، والفضيلة القاهرة إلَّا لأمر يرجع إلى ارتباط هذا الكلام بعضه ببعض، وإنه لم يعرض لها الشرف إلّا من حيث لاقت الأولى الثانية، والثالثة الرابعة، وهكذا إلى أن تستقر بها إلى آخرها، وأن الفضل نتج مما بينها، وحصل من مجموعها، إن شككت فتأمل: هل ترى لفظة بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت من الفصاحة ما تؤديه، وهي في مكانها من الآية، {ابْلَعِي} واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليه.. ومعلوم أن مبدأ العظمة في الآية في أن نوديت الأرض، ثم أمرت، ثم كان النداء بيا دون أي.. ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال ابلعي الماء

إلى آخر ما قال.

ويستدل على أن الكلمة ليس لها فصاحة ولا بلاغة في ذاتها أنَّ الكلمة تروق في موضع، ولا تروق في آخر في كلام الناس، فلو كانت الكلمة إذا حسنت كان حسنها من ذاتها، لاستحسنت دائمًا، وما استهجنت أبدًا.

وينتهي من هذا إلى أنَّ جمال الكلام ليس في توالي ألفاظه في النطق، بل إن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل.

ويسترسل الجرجاني في إثبات أنَّ الكلمات ليست لها فصاحة ذاتية، إنما بلاغتها في اجتماعها مع غيرها في تلاقي المعاني، وأنه ليس للألفاظ ولا للحروف حسن ذاتي منفرد، ولا قبح ذاتي منفرد، إنما حسنها في تلاقيها مع أخواتها في الدلالة وتساوق المعاني، وما تنتجه من صور بيانية، ومراتب أهل البيان في مقدار قدرتهم على اختيار الألفاظ المتآخية في معانيها، ويفهم من كلامه أنَّ النظم لا يلتفت إليه وحده، إنما يلتفت

ص: 74

إلى معانيه أيضًا، وأنه يريد من النظم الكلمات لا ذات الكلام كله برناته القوية أو الهادئة التي تنساب في النفس، وتتغلغل فيها حتى تصل إلى أعماقها.

45-

هذا رأي الجرجاني، وله مقامه، يقصر البلاغة والفصاحة على الأسلوب ومجموع العبارات التي تتضافر في الدلالة على معانٍ متآخية، وتتآخى الألفاظ في الدلالة على هذه المعاني.

وهناك فريق آخر، ومن هؤلاء الجاحظ، يرون للحروف وللكمات فصاحة، عندما تتلاءم حروفها ولا تتجافى مخارجها، ولا يكون فيها تكرار، فلا فصاحة في مثل ما رواه الجاحظ.

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر

فإنَّ تكرار الحروف جعلها غير متلائمة، وغير سهلة في النطق.

وقد عقد ابن الأثير في كتابه "المثل السائر" فصلًا قيما ذكر فيه فصاحة الكلمات وقبحها، في رنينها وفي تآخي حروفها، وقال:"إنَّ من الكلمات ما له نغمة أوتار، ومنها ما له صوت حمار"، وضرب على ذلك الأمثال، فقال:"إن كلمة السيف لها مرادف، وهو الخنشليل، فهل هما متماثلتان في الفصاحة والنغمة الصوتية، ومثل كلمة غصن، وكلمة عسلوج بمعنى الغصن، فهل هما متماثلتان في النغمة وسهولة النطق".

ويبدو من كتاب "إعجاز القرآن" للباقلاني أنَّه يرى أنَّ للكلمات ذاتها فصاحة خاصة، وأن تخيُّرها يدل على قدرة قائلها، وعلوّ بيانه، فإذا كانت المعاني البلاغية لجملة القول، ففي اختيار الألفاظ المتناسبة في موسيقاها، وفي نغمتها، وفي رنَّتها قوية أو هادئة على حسب المقام، فللفظ دخل في الاختيار. ويقول الباقلاني في ذلك:

"قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة، والأسباب الدائرة بين الناس أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة، وأسباب مؤسَّسة مستحدثة، فإذا برع اللفظ في المعنى البارع كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر، والأمر المتقرر المتصور، ثم انضاف إلى ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمَّن تأييد ما يبتدأ تأسيسه، ويراد تحقيقه، بأنَّ التفضال في البراعة والفصاحة، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعاني، والمعاني وفقها لا يفضل أحدهما على الآخر، فالبراعة أظهر.

ثم يقول:

"وأنت ترى جمال الكلمة من القرآن يتمثّل في تضاعيف كلام كثير، وهي غرة جبينه، وواسطة عقده، والمنادى على نفسه بتميزه وتخصصه برونقه وجماله، واعراضه في حسنه ومائه"1.

1 إعجاز القرآن للباقلاني ص64.

ص: 75

ومن هذا النقل يتبين أنَّ الباقلاني يرى أن ألفاظ القرآن غرة في كل كلام، وأن لها رونقًا، وأنَّ لها دخلًا في إعجازه، وأنَّ صورة الكلمة ومخارج حروفها لها روعة ذاتية؛ لأن ذلك من عند العزيز الحكيم.

وإنَّ المتأخرين ممن كتبوا في إعجاز القرآن رأوا أنَّ في الكلمة في القرآن بلاغة خاصة بأدائها، بمدها وغنِّها، وبأصواتها الموسيقية، وبنغماتها الحلوة، فلا يمكن أن يكون التآخي بينها وبين أخواتها في المعاني فقط، بل إن التآخي كما هو ثابت في المعاني ثابت في الموسيقى، وإذا كان الله تعالى قد اختار للقرآن ترتيلًا يبدو فيه نغمه ومده، ورنين ألفاظه، فلا بُدَّ أن تكون ألفاظه قد اختيرت لمزية في كل كلمة لا في مجموعها فقط، ومن أنصار الرأي الذي نظر إلى فصاحة الكلمة الرافعي -رحمه الله تعالى، ورضى عنه- في كتابه "إعجاز القرآن" فقد قال:

"لما قرئ عليهم القرآن رأوا حروفه في كلماته، وكلماته في جمله ألحانًا لغوية رائعة كأنها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة، قراءتها في توقيعها، فلم يتفهَّم هذا المعنى، وأنه أمر لا قبل لهم به، وكان ذلك أبين في عجزهم، حتى إنَّ من عارضه منهم كمسيلمة جنح في خرافاته إلى ما حسبه نظمًا موسيقيًّا أو بابًا منه، وطوى عما وراء ذلك من التصرُّف في اللغة وأساليبها ومحاسنها ودقائق التركيب البياني، كأنه فطن أن الصدمة الأولى للنفس العربية إنما هي في أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عداها، وليس يتَّفق ذلك في شيء من كلام العرب، إلَّا أن يكون وزنًا من الشعر أو السجع، وهو بهذا لا يرى رأي الجرجاني في أنَّ الكلمات ليس لها مزايا خاصة، والله أعلم".

46-

هذان رأيان يبدو أنَّهما متعارضان في كون فصاحة الكلمة جزءًا من البلاغة أو الفصاحة، وإن لم يكن بينهما فرق، فالأول لا ينظر إلى الجزء وهو الكلمة، بل لا ينظر إلا إلى المجموع المؤتلف، والآخر ينظر إلى الأجزاء وإلى المجموع معًا، بل لا يرى المجموع يكون بليغًا إلَّا إذا انتهى إلى ألحان مؤتلفة من حروف في كلمات متآلفة، وكلمات في أسلوب مؤتلف في نغماته وترتيله، وتناسق بيانه.

ولا شكَّ أن الكلمة وحدها من غير أن تكون في مجموعة ليس لها بلاغة ولا مؤدى، فكلمة شجر من غير أن تكون في كلام ليس لها مؤدَّى إلا أن تكون في جملة مفيدة تؤدي معنى، وتكون بحروفها وقوتها أو لينها متآخية مع أخواتها من الكلام، ولكن لا بُدَّ للكلمة مع الكلمات الأخرى من أن تكون متلاقية في لحن القول والمراد منه، وتحقيقه، فهي وحدها لا تؤدي منفردة، ولكن بضمها إلى أخرى يكون المعنى القوي، ويكون النغم الجميل، ويكون الترتيل الذي يملأ النفوس، وتطمئن به، وتقشعر منه الأبدان إن أنذر، وتهدأ إن بشر، وتتفكر العقول إن دعا إلى التأمل.

ص: 76

ومن أنصار هذا المذهب الخطَّابي المتوفَّى سنة 388هـ، فهو يقول في رسالته:"واعلم أنَّ القرآن إنما صار معجزًا؛ لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، متضمنًا أصح المعاني مع توحيد له عزت قدرته، وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساوئها، واضعًا كل شيء منها في موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ولا يرى في صورة العقل أليق منه"1.

وفي الحقيقة أنَّ الخطابي ينظر إلى الأسلوب على أساس أنَّ الألفاظ قوامه، وهي دعامة بنيانه، حتى إنَّ القرآن الكريم لو حاولت أن تنزع كلمة من جملة لتضع غيرها المرادفة لها لاختلَّ البناء واضطرب، وهو يقول في ذلك:"اعلم أن عمود هذه البلاغة التي تجمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به، الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه إما تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام، وإمَّا ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة، ذلك أنَّ في الكلام ألفاظًا متقاربة في المعاني، ويحسب أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب".

وبهذا انتهى إلى أنَّ الألفاظ في الكلام البليغ لها مقصد خاص من المتكلم، إما لنغمتها وإما لمعناها أو هما معًا، ولا يكون مرادفها صالحًا لِأَنْ يحلَّ محلها.

47-

وكون كل كلمة لها لحن قائم بذاته لا نحسب أن الجرجاني ينكره، ولكن مذهبه البلاغي باعتباره من علماء البيان يجعله يتَّجه إلى العبارة المتآلفة، والأسلوب الذي تتلاقى معانيه، ولا يتجه ابتداء إلى الألفاظ، ولعلَّه أيضًا يقبل أن تكون الألفاظ متآخية النغم مؤتلفة الألحان متلاقية في الترتيل. وهو يقرره على أنَّه فرض مقبول فيقول رضي الله عنه في تلاؤم الحروف في الكلمات:

"إن أخذنا بأن يكون تلاؤم الحروف في الكلمات وجهًا من وجوه البلاغة وداخلًا في عداد ما يفاضل به بين كلام وكلام على الجملة، لم يكن لهذا ضرر علينا؛ لأنه ليس بأكثر من أن يعمد إلى الفصاحة فيخرجها من حيز البلاغة والبيان، وأن تكون نظيرة لها، وفي عداد ما هو شبيههما من البراعة والجزالة، وأشباه ذلك مما ينبئ عن شرف النظم، وعن المزايا التي شرحت لك أمرها، وأعلمتك جنسها، أو يجعلها اسمًا مشتكًا، يقع تارة لما تقع عليه تلك، وأخرى لما يرجع إلى سلامة اللفظ مما يثقل على اللسان، وليس واحد من الأمرين بقادح فيما نحن بصدده، وإن تعسف متعسف في

1 رسالة الخطابي ص9 في ضمن رسائل ثلاث في إعجاز القرآن، والخطابي توفِّي سنة 388هـ.

ص: 77

تلازم الحروف، فبلغ به أن يكون الأصل في الإعجاز، وأخرج سائر ما ذكروه في أقسام البلاغة من أن يكون له مدخل أو تأثير فيما له كان القرآن معجزًا، كان الوجه أن يقال له: إنه يلزمك على قياس قولك أن يجوز أن يكون هنا نظم للألفاظ. وترتيب لا على نسق المعاني، ولا على وجه يقصد به الفائدة، ثم يكون مع ذلك معجزًا وكفى فسادًا".

وينتهي القول في هذا إلى أن الخلاف بين الجرجاني والخطابي والجاحظ وغيرهما يكون في أمرين غير جوهريين:

أولهما: إنَّ الجرجاني لا يعتبر للألفاظ جمالًا، وأنها في النظم تكون لنغماتها وألحانها مساعدات للمعاني، ولكنه يمنع منعًا مطلقًا، ونحن معه، أن تكون الألفاظ وحدها والكلمات منفردة سببًا للإعجاز، إنما الإعجاز يكون في أمور كثيرة؛ منها: تناسق الكلمات، وما تشعه من معانٍ وأخيلة بيانية في وسط أسلوب مكتمل البنيان يلتقي بنغمه وفواصله، وصوره البيانية، مع الألفاظ المحكمة، والمعاني السليمة التي لم يكن للناس عهد بها من قبل.

ص: 78

‌نظرات في ألفاظ القرآن:

48-

إن الألفاظ في ضمن الأسلوب البياني الرائع، ونعتقد مؤمنين أن كل لفظ في القرآن له معنى قائم بذاته، وفيه إشعاع نوراني يتضافر مع جملته، ويساعد بعضه بعضًا في المعاني العامَّة للأسلوب والعبارات الجامعة، وإنَّ العبارات مجتمعة يساعد بعضها بعضًا.

ولسنا نستطيع إحصاء تلك النواحي في جمال ألفاظ القرآن إحصاءً، ولكنا نضرب من الأمثال على مقدار طاقتنا، ومن غير أن نصل إلى أقصى الغاية، وإنما نسدد ونقارب، بل المقاربة فوق طاقتنا، وقد سبقنا إلى تلك المحاولة فحول البيان.

اقرأ قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] .

وإذا قرأنا وردَّدنا البصر كرتين، وجدنا كل كلمة في حيزها لا تفارقه، ولو فارقته لوجدناه فارغًا لا يملؤه غيرها، ولنبتدئ بالإشارة إلى ما في كل كلمة مما اختصت به.

الأولى: كلمة {آمِنَة} فالأمن معناه عدم الخوف من مغير يغير عليهم، أو عدو يساورهم ولعلَّ ذلك إشارة إلى مكَّة، أو أنَّ هذه القرية هي هي، كما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 76] ، فتجد في هذه الكلمة إشارة إلى نعمة ليست لغيرهم، واختصوا بها دون الناس أجمعين.

الثانية: كلمة {مُطْمَئِنَّة} فمعنى الإطمئنان يتَّصل بالنفس، فهي قد منحها الله تعالى القرار والسكون والدعة من غير ضعف، ومع هذه الدعة كان هو يقويها ويثبتها، مع ما أعطاهم الله من سلطان أدبي على العرب، وهم ملتقى اجتماعهم ومستقر شعائرهم الدينية ومقامهم الكريم الطيب، فكل هذا يشع من كلمة مطمئنة.

الثالثة: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا} فإنَّ هذا يشير إلى سهولة الحياة، وأنه لا يأتيهم كسائر العرب بانتجاع الكلأ، والتنقل في الصحراء، لا ينالون الحياة إلا بشق الأنفس، وبذوقهم في طلبهم الرزق حر الحياة وقرها.

الرابعة: كلمة {رَغَدًا} فالرغد هو الرزق الطيب المذاق المريء غير الوبيء، وهو الواسع الكثير، فهم في رزق يأتيهم سهلًا طيبًا، واسعًا مريئًا لا وباء فيه.

ولكنهم كفروا بهذه الأنعم كلها، فأي صورة بيانية أروع من هذه الصورة، وتجد الكلمات الأربع متآخية في معانيها، متلاقية في ألحانها، منسجمة في نغماتها، وكل كلمة منها تعطي صورة بيانية، فآمنة فيها صورة البلد الذي لا يساوره عدو في وسط موطن فيه يتخطّف الناس، ومطمئنة يشير إلى الاطمئنان النفسي الساكن القار كالماء الساكن الذي لا تعبث به الرياح، ويأتيها رزقها طيبًا من كل مكان، تشير إلى المكانة التجارية التي يأتيها الخير من كل بلد قاص ودان، وأن لهم رحلة الشتاء والصيف.

وإن مجموع الكلمات مع ما تشعه كل واحدة من معانٍ وصور يصور حال جماعة من الناس على هذه الأمور المجتمعة غير المفترقة، وكلها فيوض من أنعم الله تعالى، ومع ذلك تكفر هذه النعم فلا تشكر، بل تجحد الحق ولا تؤمن، وهنا تجيء الصورة الثانية من عقاب ومؤاخذة على ما ارتكبوا من كفر بأنعم الله، ونجد أن كلمة

ص: 79

أنعم فيها فصاحة وصورة بيانية؛ إذ إنهم لم يكفروا بواحدة، بل كفروا بها كلها، فكان الجحود أشد، والضلال أبعد، ولكلمة أنعم نغمة هادئة مع سعة المعنى في الكلمة؛ إذ إنها نعم متضافرة، وفيوض خير من الله تعالى متكاثرة.

هذه حال ما أفاض الله تعالى به عليهم، كانت فيها صور النعم واضحة كلًّا وجزءًا في كل كلمة سيقت لذلك.

فلننتقل من الآية الكريمة إلى الصورة التي حلَّت محل الأولى، ولننظر إلى الكلمات السامية كلمة كلمة، ثم ننظر إلى الصورة التي تتكون من هذه الكلمات التي كانت كل منها صورة قائمة بذاتها، وهي أيضًا جزء من الصورة الكبرى التي يكونها المثل القرآني السامي.

الكلمة الأولى: أذاقها الله: في التعبير بأذاق إشارة إلى أنَّ الإيلام مس نفوسهم، وبعد أن كانوا في ترف صاروا يذوقون الضر.

يقول الزمخشري1 في معنى الإذاقة: "قد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد، وما يمس الناس منها، فيقولون: ذاق فلان البؤس والضرر، وأذاقه العذاب، شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر"، ونرى من التعبير والتقابل أنهم بعدما سكن قلوبهم من اطمئنان، وما كان من العيش الرغد ذاقوا الجوع، وبما منحوا من أمن ذاقوا الخوف، وهكذا تجد التقابل.

والكلمة الثانية: لباس الجوع والخوف، فيها صورة بيانية رائعة، فهي تصور الجوع والخوف كأنَّه لباس لبسهم وأحاط بهم إحاطة الدائرة بقطرها، لا يخرجون منه إلَّا إليه، ولا يدورون إلّا في دائرته، وإن ذلك بلا ريب يفيد الإحاطة الشاملة الكاملة التي لا يستطيعون منها فكاكًا، وهذا يفيد استمراره، وتجدده آنًا بعد آنٍ، ولقد قال الزمخشري:"وإنَّ اللباس قد شبَّه به لاشتماله على اللابس، ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث، وأمَّا إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة عمَّا يغشى منهما ويلابس، كأنه قيل: ما غشيهم من الجوع والخوف".

ومهما يكن تصوير إمام البلاغة الزمخشري من أنَّ التعبير باللباس يفيد أنه غشيهم وأحاط بهم، فإن في الكلام صورة بيانية تصوّر حالهم بعد الأنعم التي أنعم بها عليهم، وكفروا بها من أنهم في صورة من كان لابسًا للجوع والخوف، وهم يذوقون، كمن يلبس ملبسًا كله قتاد، يجرح أجسامهم، ودمي جلدهم، بيد أن هذا لا يدمي الجلد، ولكن يمسّ الحشا بالجوع، والنفس بذهاب الأمن والاستقرار، وإنا نجد أن هذه الصورة البيانية التي يصورها القرآن قد تضافرت الكلمات في تكوينها فاشترك فيها التعبير بأذاقهم، والتعبير باللباس، وكون اللباس جوعًا وخوفًا، ولباس الجوع والخوف أشد.

1 هو محمود بن عمر الزمخشري، إمام عصره في اللغة والتفسير والحديث، توفِّي سنة 538هـ.

ص: 80

إيلامًا من لباس الشوك؛ لأنَّ الشوك يؤذي الجلد حسًّا، ولباس الجوع والخوف يؤذي الجسم ويؤذي النفس، وإذا قوبلت هذه الصورة عند الكفر بالصورة الأولى من أمن واطمئنان، ورخاء في العيش وطيبه واتساعه، وَجَدت الفارق بين صورة النعمة التي كفروا بها والشقاء الدائم بعد الكفر.

ومن ذلك يتبين مقام كل كلمة في تكوين الصورة العامة، فوق النغمة الهادئة، والتصور الحكيم.

49-

ولنتقل إلى مثال آخر، لا نختاره من القرآن اختيارًا، ولكن نأخذه من غير تخير؛ لأنَّ التخيُّر يكون فيما يكون فيه المختار وغير المختار، وكتاب الله تعالى كله خيار، وكله فوق طاقة البشر؛ ولأن الذي يختار يفرض من نفسه حكمًا، ومن يكون حاكمًا على كتاب الله تعالى؟ إنما بحكم على الكتاب من أنزل الكتاب، الذي تعهد بحفظه، وإنما نحن نتلمسه ونطلبه من الكتاب من غير تخيّر؛ لأنه فوق طاقتنا، وفوق التخير.

اقرأ قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا، قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء: 83، 84] .

اقرأ هذه الآية، وقِفْ عند كلماتها، وتأمَّل في تآخي نغمها، وتآخي معانيها وتصويرها في جملتها للنفس الإنسانية -الكلمة الأولى: أنعمنا، فقد أضافها الله تعالى إليه، وإنعام الله تعالى فيض وإسباغ يغمر صاحبه، والإنعام من الله تعالى يقتضي الشكر، كما قال تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] وكان هذا يقتضي إقبال الإنسان عليه سبحانه، والإقبال بالطاعة، ولكنَّه لم يقبل بل كفر وطغى أن رآه استغنى.

الكلمة الثانية: أعرض، وهي كناية عن البعد عن الله تعالى وعدم الإقبال عليه، تعالى الله علوًّا كبيرًا، وأصل أعرض في المعنى الحسيّ أن يولِّي عرض وجهه بألَّا يقبل على الله تعالى، ويطلب المزيد من النعم بالطاعات يقدمها، ويحب الله تعالى ويخلص له إذ أنعم، ولكنَّه يظن أنه استغنى، وعند ظنّ الاستغناء يكون الطغيان، ويكون ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، ووراء ذلك الفساد الكبير والشر المستطير.

الكلمة الثالثة: نأى بجانبه، النأي هو البعد، وكلمة بجانبه، مؤدَّاها اتخاذ جانب آخر غير جانب الله تعالى، فيسير في ضلاله البعيد، ويقول الزمخشري: إن كلمة "نأى بجانبه" تأكيد لمعنى أعرض. ونقول: إنها تأكيد لمعنى الإعراض من حيث إنه الخطوة التالية بعد الإعراض، فالإعراض عن الكلام عدم الإصاخة إليه، وعدم الالتفات

ص: 81

إلى دعوة الحق، وأنَّ هذه خطوة تكون من بعد أن يبتعد عن الله تعالى ويجافيه، وترى من هذا أنَّ الكلمات من حيث السياق يأخذ بعضها بحجز بعض في نغم مؤتلف، من حيث إن كل معنى يعقبه أخق له مترتب عليه متناسق معه.

ومن مجموع هذه الكلمات يتبيِّن كيف كان أثر النعمة كفرًا بها، وكيف يتدرَّج الكفر بها، حتى يكون البعد التام عن الله، فتكون الطاعة في جانب، ونفس المنعم عليه في جانب آخر، وهو جانب العصيان والضلال البعيد، ثم الطغيان من وراء ذلك.

والصورة البيانية من هذا الكلام قد تضافرت في تكوينها الألفاظ كلها مجتمعة، وكل كلمة صورة بيانية في ذاتها، فإنعام الله تعالى يعطي صورة بيانية للمنعم وفيض نعمه تعالى، والإعراض بتلقيها بجانب الوجه صورة حسية، ثم النأي من بعد ذلك.

هذه صورة المنعم عليه في جحود نفسه، وعدم التفاتها إلى الاعتراف بالنعم وشكرها، مع أنَّ شكر المنعم واجب عقلًا، وهو منبعث من الضمير الطيب الطاهر.

لننتقل من هذه الصورة التي تصورها الكلمات منفردة؛ إذ كل كلمة صورة بيانية رائعة، ثم هي بتضامنها وتلاؤمها تعطي صورة كاملة لنفس كفرت بأنعم الله وبطرت معيشتها واتخذتها سبيلًا لظلم العباد، والكفر برب الناس ملك الناس.

ثم نتجه إلى صورة تلك النفس، وقد أصابها الشر، ولم تنل النعمة، وهنا كلمتان كلتاهما تصور صورة من نزول الضر، وأعقابه في النفس الجاحدة، الكلمتان هما:"مسه الشر" و "كان يئوسًا"، إنَّ المسّ وهو الإصابة بالشر، وإنَّ التعبير بمسٍّ يفيد أن الأصابة بالشر ولو خفيفة تصيب من النفس ما تجعلها يائسة، والشر كل ما لا يرغب فيه، ويطلق على الأمور الضارة حسيًّا ونفسيًّا، وعلى الأمور القبيحة خلقيًّا. والتعبير بالشرِّ هنا يشمل الضار؛ كقوله:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12] ، ويشمل نتائج الطغيان والعصيان، فيكبه الله تعالى على وجهه، ويشمل العقاب الذي ينزله جزاءً لما ارتكب، وإذا كان قد جحد بنعمة الله تعالى؛ إذ أنعم بها وأعرض، ونأى بجانبه، فإنَّ النفس التي تطغى بالنعمة تذل وتهون وتضعف بسلبها، ويصيبها اليأس المطلق إذا نزلت بها النقمة.

الكلمة الثانية: كان يئوسًا، وهنا نجد كلمة كان الدالة على اللزوم والاستمرار ككان في قوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] ، وكلمة يئوسًا بصيغة المبالغة الدالة على لزوم اليأس وإيغاله في النفس، وعدم افتراقه عنها، فيكون في حال بؤس مستمرٍّ، ويأس دائم، يكفر إذا أنعم الله عليه، ويصاب بالطغيان، ويكفر إذا اختبره الله تعالى بالشر يصيبه.

ص: 82

ولا شك أنَّ هذه الجمل السامية والكلمات تصور حال إنسان غير قارٍّ ولا ثابت، تبطره النعمة، ويوئسه الاختبار، وكل ذلك في ألفاظ منسجمة في نغماتها، متضافرة في معانيها، تدل على النفس المنحرفة وتصورها.

ولقد ختم الله سبحانه وتعالى الاية الكريمة بقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء: 84] ، وهنا نجد النص الكريم يفيد ما يدل على أنَّ الناس جميعًا ليسوا سواء في ذلك، فمنهم شقي على الصورة التي ذكرها سبحانه، ومنهم سعيد، وهم الصابرون الذين لا تضطرب نفوسهم بنازلة تنزل، ولا يطغون بنعمة تسبغ، وكأنَّ هذه الجملة في موضع التخصص من عموم الإنسان المذكورة أولًا كالاستثناء في قوله تعالى:{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ، وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ، إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 9-11] .

والكلمة السامية {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه} ، نجد فيها ثلاث كلمات منها ينبثق نور، فالأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول ذلك، فيه ما يصور أنَّ بعض الناس كذلك، وأنَّ في الناس من ليسوا كذلك، فدلَّت كلمة "قل" التي تتضمَّن الرد على هذا الاعتراض المفروض، وانتقل الكلام من ضمير المتكلم من الذات العلية إلى الخطاب الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ الأمر تنبيه يتولَّاه صاحب الرسالة المتكلِّم عن الله نازلًا إلى مرتبة المسترضين ليواجههم بالرد، وفي ذلك فضل تنبيه وتقريب، وذات الانتقال من المتكلم إلى المخاطب فيه تجديد بياني، وتصوير بلاغي، والشاكلة -الهيئة والصورة والسجية، والمنج الذي يخطه لنفسه ويسير عليه من الضلالة كالأولين، والهدى للمهتدين، والشاكلة تطلق على الطريقة، ويقول الزمخشري: إنها من قولهم: طريق ذو شواكل، الطرق التي تتشعب منها.

وفي هذا الكلام معانٍ دقيقة تنبعث من صور الكلمات، ومرامي العبارات وحسن المقابلات، إنَّ الناس قسمان: قسم شاكلته تلقى النعمة بالإعراض، ووراء الإعراض الظلم والطغيان والفساد في الأرض، وقسم صابر ضابط لنفسه لا تبطره النعمة، بل يصبر عليها، فيطيع ويقوم بحق شكرها. والأوّل مضطرب النفس غير منضبط القلب، تطغيه النعمة فيستكبر، وتوئه النقمة فيكفر باليأس من رحمة الله.

وإن لله تعالى العلم الكامل بالصنفين، وهو مجاز للفريقين، وقد ختم النص الكريم بقوله تعالت كلماته:{فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} وهنا نجد المعاني تشع بنورها من هذه الكلمات.

ص: 83

فأولًا: الفاء التي تفيد ترتيب الجزاء على الأعمال، وثانيًا: التعبير بربكم الذي فيه الإشارة إلى أنَّه خلق فسوَّى، وهو المربي المكمل، الهادي كلًّا إلى غايته، وثالثًا: ترتيب العلم الكامل على كونه الخالق، ورابعها: ذكر العلم الكامل بأفعل التفضيل الذي يدل على أنه لا علم فوقه إن كان ثَمَّة تفاضل، وخامسًا: التعبير عن الجزاء بأنه أثر الهداية، وأنَّ الله تعالى أعلم بالمهتدين، وسادسًا: التعبير بأفعل التفضيل في أهدى، أي: إنه العالم بمن اهتدى بعد أن يغفر الله، وسابعًا: في التمييز بكلمة سبيلًا، وفيه بيان بعد نوع من الإبهام، وكذلك يكون العلم متمكنًا فضل تمكن، علم بالهداية وعلم بمنهاجها، وهو السبيل القويم.

50-

بعد هذا النظر السريع إلى تلك الآية نتجه إلى آية أخرى، نجد فيها الكلمة تدل على معنى لو غيّرت بغيرها مما يكون في معناها ظاهرًا، مرادفًا لها بادئ الرأي، لا يمكن أن يؤدي المعنى الذي يشرق منها، ويجتمع به في الدلالة صورة اللفظ، وإشراق المدلول.

اقرأ قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس} [التكوير: 18] ، فإننا لو أردنا تغيير كلمة من هاتين الكلمتين لتغيَّرت الصورة البيانية، ولننظر فيهما.

الكلمة الأولى: وهي الصبح، فإنَّها تدل على النور الذي يتخلَّل الظلمة، ويسري فيها شيئًا فشيئًا، وينبعث في هذا الوجود فيملؤه نورًا، وتنبعث من بعده الحياة، ويخرج الناس إلى معايشهم بعد سبات الليل وسكنه، وما يغشى به الكون من لباس الظلمة.

ولا شكَّ أن كلمة الفجر قد تدلُّ على بعض معاني كلمة الصبح، والعلماء يعدونهما من المترادفين، ولكن عند التحقيق نجد كلمة الفجر تدل على معنى شق الظلمة، وعلى مجرَّد ابتداء نهاية الظلمة، ولذلك يقترن بها ذكر الليالي، كما قال تعالى:{وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 1-3] ، فقد كان ذكر الليالي مع الفجر متناسبًا؛ لأنَّ الليل متآخٍ مع الفجر في معناه، وقصد به مجرد نهاية الليالي.

ولكن كلمة الصبح لوحظ فيها الإشارة إلى ابتداء النهار، فإذا كان وقت الفجر والصبح واحدًا فإنَّ الفجر فيه بيان إنهاء الليل، والصبح ابتداء النهار، ولذا يستحين الناس أن يقال طلع الفجر، ولا يقال طلع الصبح، بل يقال أشرق الصبح، وهنا نجد المعنى واحدًا في الجملة، ولكن الدلالة اللغوية الدقيقة مختلفة، فهذا إشاق وذاك إنهاء.

والكلمة الثانية: كلمة {تَنَفَّس} فإنَّ كلمة التنفس في ذاتها تدل على بدء مظاهر الحياة شيئًا فشيئًا؛ وذلك لأنَّ أصل التنفس من النفس، وهي الحياة، وهي أيضًا الريح،

ص: 84

وهي الحركة الدائمة المستمرة في الداخل والخارج، فهي تشمل ما يدخل في النفس من أسباب الحياة، وما يخرج منها لتستمرّ الحياة، ويقال: نفس عني، أي: فرج عني، وبذلك يكون كلمة التنفس يندرج فيها ثلاثة معانٍ تتصل بالحياة الدائمة المستمرة، أولها: التنفس بمعنى الحياة، وثانيها: حركتها واستمرارها، وثالثها: تدرجها في الظهور شيئًا فشيئًا، ولو أنك وضعت كلمة أشرق بدل تنفَّس، كأن يقال ولكلام الله تعالى المثل الأعلى:"والصبح إذا أشرق، أو أصبح أو أنار أو أضاء"، فإنَّ كلمة منها أو كلمات لا تقوم مقام تنفس، ولا تغني غناءها.

ولو أننا تركنا لفظ تنفس بانفرادها، وتابعناها مقترنة بكلمة الصبح، وهو النور الذي يبتدئ به النهار، ونظرنا ما يصوره قوله تعالى:{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس} ورأينا كل حي في الوجود، يفيض عليه الإصباح بالعمل والحركة، فالندى يصيب الزهور، والضوء يضيء الحدائق الغناء، والطوير تزقزق بموسيقاها، وينبعث كل من في الوجود خارجًا من لباس الليل إلى معاش النهار، فالزارع يخرج إلى حقله، والماشية تنبعث من مرابضها ناعقة فرحة، سائرة إلى المراعي ترعاها، والكلأ تنتجعه، والصبيان يخرجون من أكنانهم كما تخرج الطير من أكنانها، وكل ما في الوجود يخرج مما يخفيه الظلام.

وهكذا نجد كل مظاهر الحياة تندرج في الظهور، حتى يصل إلى الضحى، فيكون المعترك القوي الصاخب اللاغب، فهل ترى كلمة تدل على هذه المعاني أبلغ من كلمة: والصبح إذا تنفس، وبهذا يتبين أنَّ ألفاظ القرآن الكريم كل كلمة في حيِّزها، لا يملأ غيرها في موضعها فراغها.

51-

بعد هذا البيان الذي حاولنا فيه أن نتسامى إلى أن نذكر مواضع البلاغة أو الفصاحة في كل الكلمات التي سقناها وتلونا آياتها، وكون كل كلمة في موضعها ذات بلاغة خاصة تصور صورة بيانية رائعة، وهي مع أخواتها تتلاقى في صورة كاملة، لها أطياف تروع القارئ، وتستولي على لب المتفهم.

ولننتقل الآن من الألفاظ إلى عبارات لها معانٍ لا يحل محلها في نسجها ولا في مدلولها ما يقوم مقامها، ولنذكر منها أربع آيات.

أولاها: قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيِْمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176] .

وإن هاتين الآيتين الكريمتين تصوران رجلًا آتاه الله تعالى العلم بالآيات الموجبة التصديق بالحق، وإن هذه الآيات أحاطت بقلبه ونفسه، حتى لا مناص من إنكارها كما

ص: 85

يحيط الإهاب بالجسم، ولكنه ترك الأخذ بالهدى استجابة لداعي الشيطان، وصار من الضالين الذين أغواهم إبليس اللعين، فكان مثله كمثل من ينسلخ عن الإهاب الذي لبسه ولصق بجسمه، ولو شاء الله تعالى لرفعه من كبوة الضلال بما آتاه الله تعالى من علم، ولكنَّه هو الذي انحطَّ إلى الأرض ونزل إليها بسبب هواه، فصار مثله كمثل الكلب يلهث دائمًا، إن ترك يلهث، وإن حمل عليه يلهث، ولننظر في الكلمات التي تشتمل عليها هذه الآيات.

الكلمة الأولى: {انْسَلَخ} والسلخ نزع جلد الحيوان، يقال: سلخته فانسلخ، ووضع هذه الكلمة في ذلك النص الكريم له معنى لا يوجد في لفظ غيره، وهو يشير إلى أن البينات والآية المعلمة للحق أحاطت به، ولصقت بنفسه واتصلت بعقله اتصال إهاب الحيوان بلحمه، ولكنَّه انسلخ من هذه البينات، فكلمة انسلخ فيها استعارة، فشبَّه الكفر والفساد بالانسلاخ في الإهاب لكمال الملازمة؛ ولأنَّ الانسلاخ يكون بمعاناة وعنف، إذ إنّ مادة المطاوعة لا تكون إلّا للأفعال التي تحتاج إلى معالجة، فلا يقال كسرت القلم فانكسر، ولا يقال كسرت الزجاج فانكسر، ولكن يقال كسرت الباب فانكسر، ويقال: طويت الحديد فانطوى، فكان هذا تصويرًا لإثبات أنَّ الكفر ضد الفطرة، وأنه يحتاج إلى معاناة للنفس، ومقاومة لدواعي الهوى، ولكنها لا تكون إلَّا اتباعًا لهوى الشيطان.

الكلمة الثانية: اتبعه الشيطان: أي لحقه الشيطان، فإنَّه يقال: أتبعه إذا لحقه، ومن ذلك قوله تعالى:{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِين} [الشعراء: 60]، وقوله تعالى:{فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 85]، وقوله تعالى:{وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 42] ، وإن وضع هذه الكلمة في هذا الموضع لهو وضع بلاغي عميق، ففيه إشارة إلى أنَّ الشيطان إنما يلاحق الذين يتركون الآيات، ولا يعملون على الأخذ بموجب البينات، فأول دركات الضلال هو ترك الدلالة المعلمة للحق مع قوة سلطانها، وإن تركها فإنَّ الشيطان يلحقه، ويأخذ به إلى آخر غايات الضلال، وإذا وصل إلى هذه الدرجدة صار من الغاوين، والغواية معناها الجهل المردي، الذي يصحبه اعتقاد فاسد مردود، وكأنَّه بهذا الانسلاخ من موجبات المعرفة، ودواعي الحقيقة ينقلب من عالم بالبينات مدرك لها إلى جاهل أراده جهله في الفساد.

الكلمة الثالثة: {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْض} ومعنى أخلد إلى الأرض ركن إليها، يحسب أنَّ الركون إليها يجعله خالدًا، ويجعله باقيًا مستمرًّا، وهو يريد البقاء على أي صورة، وإنَّ مقابلة هذه الكلمة بقوله تعالى:{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أي: بالبينات، يفيد أنه اختار الاستفال بدل الارتفاع، والضعة بدل الرفعة، ويكون في هذا إثبات أن الرفعة تكون بطلب الحق والإيمان والاستجابة لبيناته، وعدم الانخلاع من موجبها.

ص: 86

وكل هذه المعاني تشرق من مقابلة الارتفاع بالإخلاد إلى الأرض.

وهنا نجد صورة رائعة تلتقي فيها أطياف مميزة بألفاظ مصوّرة، فهي تصور شخصًا أفاض الله تعالى عليه بأسباب الإيمان بالحق، والتصقت به حتى صارت كأنها جزء من كيانه، وقد اتصلت ببنائه، ولكنه بسبب أنه أخلد إلى الأرض وكان نزوعه متصلًا بأعلاقه قد سلخ البينات الملتصقة بها بانغماس في الضلال متكرر مستمر، حتى انسلخ من الهداية، وفي ذلك إشارة بيانية إلى أنَّه ترك الهداية بعد عمل مستمر قام به، فهو قد ابتدأ في الشر متبعًا هواه، ثم كرره حتى كون له خطوطًا في نفسه، وتكرَّر حتى صارت الخطوط مجاري، فكان الانسلاخ، وبعد الانسلاخ وجد الشيطان طريقه فأتبعه بغية الضلال، وقد مثله تعالى بمثال آخر، وذكر له صورة أخرى.

وذكر في الكلمة الرابعة: "فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث"؛ واللهث كما يقول علماء اللغة: أن يخرج الحيوان لسانه مرطبًا بلعابه في حال عطشه أو جوعه أو إعيائه، أو إهاجته وذعره، ويقولون: إن أخسّ أحوال الكلب أن يكون منه اللهث في كل أحواله، فإنه يكون مكروبًا دائمًا، وقد ذكر القرآن الكريم حال من ينسلخ من الهداية إلى الغواية بأنَّه يكون في حال هياج نفسي مستمر لا يستقر على قرار، ولا يسكن على حال؛ إذ إن الهداية إيمان، والإيمان اطمئنان وقرار، ومن يكفر بالله وينسلخ على هدايته اتباعًا لهواه يكون في لهج مستمر، فيكون كالكلب في أخسِّ أحواله وأذلها، إن هيج لهث وبدت صورته شوهاء، وإن سكت عنه بدا على هذه الصورة.

وإن هذا تصوير واضح لمن غلب عليه هواه؛ إذ تغلب عليه شقوته، ويكون في اضطراب وشعور بحرمان دائم يستقر في نفسه؛ لأنَّ الهوى يجعل النفس طلعة تتطلع ولا تهدأ ولا تستقر ولا تطمئن.

ونرى من هذه الآية وما سبقتها كيف يكون كل لفظ مؤديًا معنى خاصًّا يقصد، ويعطي صورة من البيان لها أطياف كأطياف صورة التصور الحسية التي تصورها يد صناع لمصور ماهر، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى، ومن مجموع هذه الصور المتكوّنة من الكلمات تكون صورة كلية يتمثَّل فيها أعلى صور البيان.

52-

ولننتقل من هذه الصورة الرائعة التي تتكوّن من مجموع صور بيانية للعبارات إلى صورة بيانية؛ لبيان حال ما ينزل بالكفار يوم القيامة، ولا يصحّ أن يجول بخاطر أحد أنَّنا نبحث في ألفاظ القرآن الكريم متخيّرين، بل نفتح فنجد الأمثال الواضحة من غير تحرّ ولا تخير.

ص: 87

لقد قال تعالى في سورة الدخان في تصوير غذاء المشركين يوم القيامة، وترى كل كلمة من النص تبيّن صورة مؤلمة مزعجة لما يتناولون، ويشترك في الصورة نغمة الكلمات ونسقها وتآخيها.

اقرأ قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ، خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 43- 49] .

ولننظر إليها، ونبيّن ما فيها من صورة بيانية تتخذ منها ومن أخواتها صورة بيانية لأغلظ عيش وأقسى حياة، وكيف يكون الغذاء كله إيلامًا لا إشباع فيه، وإيذاء لا متعة معه، ثم يختم القول بتهكُّم على من كان يحسب نفسه عزيزًا كريمًا، والمؤمنين أراذل منبوذين.

أولى هذه الكلمات شجرة الزقوم، وهذا استعمال قرآني لم يكن كثيرًا عند العرب، وإن كان أصل اشتقاقه من لغتهم، والزقّوم صيغة مبالغة من الزقم، الزقم إعطاء الطعام الكريه أو الأمر الكريه، ويقال: تزقَّم إذا ابتلع شيئًا كريهًا غير مرغوب فيه، بل تنفر عنه الطباع وتستكرهه.

فشجرة الزقوم الشجرة التي لا تثمر إلّا ثمرًا كريمًا تعافه النفوس، ولا يناله المتناول إلَّا مكرهًا بإكراه من ذي جبروت، أو من جوع، أو من يكون في حال من يريد تناول أيَّ شيء مهما يكن ذلك الشيء، ومهما يكن مذاقه، ومهما تكن وباءته، والتعبير بشجرة الزقُّوم فيه إشارة إلى أنَّه طعام مثمر مستمر؛ لأن ثمراته الوبيئة الكريهة لا تنقطع، فهي شجرة دائمة الإثمار.

وفي هذه الآية يذكرها، وفي آية أخرى يذكر سبحانه أنَّها تنبت في أصل الجحيم، فهي من ثمرات شجر جهنم، وفي ذلك تصوير لحال الطعام، وتصوير لحال المقام، وكيف أنَّ المترف في الدنيا يتنقَّل من وادٍ نيراني إلى وادٍ مثله، وكل حياته منها، فإقامته فيها، وغذاؤه من ثمار أشجارها، وبئس مثوى الكافرين.

الكلمة الثانية: طعام الأثيم، يقول الذين تكلموا في ألفاظ القرآن: إنَّ الإثم الأمر المبطئ عن الخير المعوق عنه أو المؤخّر له، وعبَّر عنها بكلمة أثيم، وهي صيغة مبالغة من أثِم، وصفة مشبهة تدل على حال دائمة مستمرة، فهي تدل على أنه فعل الإثم كثيرًا، ولذلك وصف بصيغة الصفة المشبهة، وهو حال دائمة عنده؛ إذ الصفة المشبهة تقتضي أن يكون الموصوف بها في حال دائمة في صفتها لا تفارقه ولا يفارقها، وهنا معنيان كلاهما يدل على بلاغه اللفظ، وعظم مؤداه:

أول المعنيين: ذكر الوصف الذي يشير إلى أنَّ سبب ذلك الجزاء هو الإثم الدائم الكثير الذي كان منه في الدنيا، فالجزاء من جنس العمل، والعدل يقتضي ألَّا يتساوى المسيء بالمحسن، هل يستوي الأعمى والبصير؟

ص: 88

ثانيهما: إنَّ ذلك الثمر الكريه الذي تثمره شجرة من نار جهنم هو الطعام الدائم المستمر الذي لا يقدّم للطغاة إلّا هو، فلا يذوقون طيبًا؛ لأنَّهم لم يذيقوا الناس في الدنيا طيبًا، وهو يكون جزاء الخبيث إلا خبثًا.

الكلمة الثالثة: كالمهل يغلي في البطون، والمهل دردى الزيت، أي: الراسب، أو بقايا الزيت، وتكون عادة سوداء معتمة، ثم هي في ذاتها شيء رديء، وأعطاه القرآن وصفًا وهو أنَّه يغلي في البطون، فهو بقايا رديئة أصابها العطن لغليانها، إمَّا لحموضتها؛ إذ تغلي كالأشياء العطنة التي تتخمَّر وتغلي بالزبد، وإمَّا لأنها تكون ذات حرارة شديدة تغلي من شدة هذه الحرارة، ولعلَّ غليانها من الأمرين، فهي متعفنة تغلي بالزبد من الحموضة، أو هي حارة تغلي منها البطون لشدة الحرارة، وفي كلتا الصورتين تدخل على البطون غذاءً وبيئًا، إن كان فيه مادة الغذاء، وليس غذاء مريئًا، فهو إن يمنع غائلة الموت ويبقى فإنَّمَا يبقى لتستمر الآلام، وتكون حياته نكدًا، فطعام كريه في مذاقه وبيء في مآله، مؤلم في كل أحواله.

وقد يقال: إنَّ الأظهر هنا أنَّ الغليان من العفونة التي تكون من بقايا هذا الزيت؛ لأنَّ التشبيه جاء بعد ذلك في قوله تعالى: {كَغَلْيِ الْحَمِيم} وهو الماء الحار إذا بلغ أقصى درجات الحرارة، فغَلَى واشتدَّ غليانه، والجواب: إنَّ الزيت يغلي مع شدة الحرارة كغليان الماء، وهو في هذه الحال يكون أشد؛ لأنه يكون في درجة حرارة أعلى، وكان تشبيهه بالماء للتصوير والتقريب، وكثير من تشبيهات القرآن للتقريب والتصوير، فالغليان يكون بالعفونة وبالحرارة معًا.

الكلمتان الرابعة والخامسة: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} فإنَّ كل كلمة من هذه الكلمات تصور صورة عنيفة لهذا الذي عصى وغوى، وضلَّ إذ حسب أنه استغنى.

فكلمة الأخذ تنبئ عن القبض بعنف، وقد كان في القرآن الكريم ما يدل على العنف فيها كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] ، وكان الأخذ بأمر الله لملائكة غلاظ شداد، فكان الأخذ في ذاته شديدًا، وكان الآخذون أشدَّاء، وتجهيلهم هنا مع وصفهم في آية أخرى بأنهم غلاظ شداد، فيه إرهاب وبيان لعظم الأخذ بالآخذين.

وقد فسَّر سبحانه في الآية بما يدل على شدة الأخذ، وبيان أنه نوع خاص منه؛ إذ قال سبحانه:{فَاعْتِلُوه} ؛ إذ العتل هو الأخذ بمجامع الشيء والإحاطة به، وجره بالقهر والعنف، فإذا كان الأخذ في ذاته عنيفًا، فهو في هذا النص أشد عنفًا؛ إذ هو جر وإحاطة قوية بالمأخوذ، وإن الأخذ بهذه الصورة من جر عنيف وإحاطة فيه ما يدل على الإهانة والتحقير، وخصوصًا إذا كانوا يحسبون أنهم وحدهم الكرام، وغيرهم أراذل دونهم، فإن الأخذ بطريق لعتلٍّ يعطي صورة للمهانة التي يكون عليها من يستكبرون على

ص: 89

الحق أن يتبعوه، ويتبع الحق أهواءهم، وفي هذا بيان أنَّ هذا العنف جزاء وفاق لما كان منهم من غطرسة مقتية، فإنهم سيعاملون بمثلها يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم.

الكلمتان السادسة والسابعة: {إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيم} ، فكلمة سواء معناها: المكان المتوسط، والجحيم: النار المتأججة التي تكون في مهواة، والصورة التي توضحها كل كلمة من هذه أنَّه يؤخذ عنوة ويوضع في وسط النيران المتأججة التي تشتعل وتتأجج مرتفعة من وهدة جهنم إلى أعلى، ويلقى في المكان المتوسط بحيث لا يكون قادرًا على الخروج منها، بل هو في وسطها لا ينتقل إلا إليها، وليته يستمر على حاله لم يجئ له عذاب من خارجها، بل إنه يجيئه العذاب من الخارج، فيلتقي عذاب الداخل والخرج معًا، بل يجيء ما تدل عليه العبارات التالية:

الكلمات الثامنة والتاسعة والعاشرة: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} ، والصب هو نزول الماء من أعلى إلى أسفل، ويكون متدفقًا مندفعًا، وهو مرتفع من فوق رأس الأثيم من عذاب الحميم، فالصب في ذاته من علٍ يؤلم ولو كان ماء باردًا، فكيف الحال إذا كان عذابًا، فهو صب لا لأجل التبريد، ولكن لأجل التعذيب، والإضافة هنا بيانية، أي: عذاب هو الحميم، وهو السائل الحار الشديد الحرارة، فهو عذاب ينزل فوق الرأس فيذيب أديمه ويصهره دهنًا.

وباجتماع الآيات من أولها يكون العذاب المهين في غذاء من المهل من الزيت الرديء يغلي في البطن من شدة العفن، ويغلي من شدة الحرارة، ويساق في هذا الحال مأخوذًا أخذًا عنيفًا محيطًا بمجامعه إلى وسط جهنم، ثم ينزل من فوق رأسه عذاب هو سائل شديد الحرارة، يصب على رأسه صبًّا عنيفًا يذيب كل ما يقع عليه.

ومع هذا العذاب المهين المؤلم الشديد يوجد عذاب معنوي بالتهكم عليه، فيقول لسان الحال:{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} ؛ ليعلم أنه كان طاغيًا.

53-

هذه جمل من الآيات الكريمة تسامينا فحاولنا أن نسمو إلى ألفاظ قرآنية مشرقة بمعانٍ، وكل كلمة منها لها طيف خاص بها، وتدل على معانٍ عميقة تصور ناحية بيانية تبدو واضحة في انضمامها لغيرها، وتتكون من مجموع الصور البيانية للكلمات صورة بيانية رائعة، وإذا كان لكل صورة حسية أطياف تعطي الصورة حيوية، فالصور البيانية لها أطياف عالية، تعطي الصورة روعة عالية، لا توجد في أي كلام غير القرآن الكريم.

وإن الصور البيانية القرآنية تبدو أوضح ما تكون في القصص القرآني، وإن كان كل البيان القرآني رائعًا واضحًا، فإنَّ القرآن في وصف الحوار والأجواء الفكرية والاعتقادية يصورها تصويرًا واضحًا، فإذا وصف حالًا لرجل تجده يصور قلبه وخواطره.

ص: 90

اقرأ قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 20، 21] ، هذه القصة بسياقها كل لفظ منها ينبئ عن معنى اللهفة والحذر، فهذا الرجل الناصح الأمين تجده يسعى من أقصى المدينة، والتعبير بأقصى يدل على المحبة الخالصة الطيبة، ثم كلمة يسعى تدل على أنه جاء عدوًا لا قرار عنده ولا اطمئنان، وقوله:{إِنَّ الْمَلَأ} ، وهو كبار القوم يدبرون الأمر ليقتلوك.

واستجاب موسى لنصيحة الرجل الأمين، فخرج خائفًا يترقب "انظر إلى كلمة يترقب" فهو ينظر يمينًا وشمالًا وأمامًا وخلفًا يترقَّب من يأتيه من أمامه، ومن يأتيه من ورائه، ومن يأتيه من شماله ومن يمينه، وكلمة يترقب تصور تلك الحال، وتصور النفس المحترسة الآخذة تجدها في اطمئنان نفسي، واحتراس من غير اضطراب، فالمترقب الخائف غير المضطرب الخائف؛ لأن الخائف المضطرب لا يحسن الترقب ولا الحذر، فيصيبه الهلع فيخاف من غير مخوف، ويقع بهلعه وفزعه فيما يخشاه، ولفظ القرآن الكريم ينبئ عن هذه المعاني السامية، والكلمات صور لمعانٍ حسية ومعنوية، ظاهرة وباطنة، والله سبحانه السميع العليم والحكيم الذي أنزل كتابه المبين الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ص: 91

‌الكلمة مع أخواتها والعبارات مع رفيقاتها:

54-

قلنا: إن للكلمة إشراقًا خاصًّا، فكل كلمة لها إشعاع فكري، ولكنها لا يبدو منها ذلك الإشعاع والبلاغة البيانية إلا مع أخت لها تناسبها، وتتلاقى فكريًّا معها، فمثلًا كلمة -تنفس- التي ذكرناها في قوله تعالى:{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس} لا ينبعث منها ذلك الإشعاع الفكري إلّا إذا كانت كلمة الصبح معها، فلا بُدَّ لكي يكون ذلك الإشعاع المعنوي صحيحًا واضحًا مؤديًا إلى غايته من أن يكون مقترنًا بالصبح، ومع أن الإشعاع منها وحدها، إلّا أنه لا يضيء إلا مع كلمة الصبح، وكلمة الصبح تفترق عن كلمة الفجر، إلّا إذا كان يتبعه التنفس والإسفار، فالصبح والتنفس متلازمان، وإن كان كل منهما مؤديًا معنى مستقلًّا، والتلازم كان بألا يتبين ذكل المعنى الاستقلالي إلا بضم الأخرى إلى الأولى.

وذلك ما أشرنا إليه في ابتداء الكلام في بلاغة الكلمة القرآنية، وما ارتضاه الجرجاني الذي حمل عبئ القول عن نفي بلاغة اللفظ المنفرد، فقيد نفيه بأن يكون مستقلًّا منفردًا، فإذا انضم إلى غير بدت بلاغة الكلمة في أنه يكون لها صورة بيانية وبانضمامها تكون لها صورة بيانية من الهيئة المجتمعة.

ص: 91

وقد راجعنا من بعد ذلك القاضي عبد الجبار1 في كتابه "إعجاز القرآن"، فوجدناه يقرر فصاحة الكلمة منفردة، ولكن لا تبدو بلاغة معانيها إلا إذا تضامت مع غيرها، فهو يقول:

"اعلم أن الفصاحة لا تظهر في إفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة، ولا بُدّ مع الضم من أن يكون لكل كلمة ابتداء، وقد يجوز أن تكون هذه الصفة بالمواضعة التي تناول الضم، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع، وليس لهذه الأقسام رابع؛ لأنه إما أن تعتبر فيه الكلمة أو حركاتها أو موقعها، ولا بد من هذا الاعتناق في كل كلمة، ثم لا بد من اعتبار مثله في الكلمات إذا انضم بعضها إلى بعض؛ لأنه قد يكون لها عند الانضمام صفة، وكذلك لكيفية إعرابها وحركاتها وموقعها، فعلى هذا الوجه الذي ذكرناه، إنما تظهر مزية الفصاحة بهذه الوجوه دون ما عداها.

هذا كلام من ذلك الإمام المعتزلي، نهج فيه نهجًا فلسفيًا، ولكنه يؤدي إلى ما قصدنا إلى بيانه، ولعله يريد من المواضعة الوضع اللغوي للكلمة، ويشمل ذلك الأصل اللغوي، والحقيقة العرفية، والمجاز والاستعارة والتنبيه، وغير ذلك، ويريد من الموقع موقع الكلمة من أخواتها من غير تنافر بينهما، بحيث تكون الكلمة لقف أختها، متناسقة متناسبة، ولعله يريد من موقع اختيار الكلمة في وضعها بأن تكون فاعلًا أو مفعولًا أو حالًا، أو فيها اختصاص؛ إذ عبَّر بالإشارة القريبة، وهكذا، فهو لم ينظر إلى بنية الكلمة وحدها، بل نظر إلى موقعها من الإعراب.

وعلى ذلك نرى أنَّ الكلمة البليغة تظهر بلاغتها مع أخواتها، وأنَّ الكلمة قد تكون بليغة في موضع، ولا تكون بليغة في موضع آخر في كلام الناس، أمَّا القرآن فالكلمة تكون بليغة دائمًا؛ لأنَّ منزل القرآن وهو الله تعالى يضع الكلمات في مواضعها، وفي الكلام الذي ينسب إلى الناس قد تكون اللفظة في موضع بليغة، وفي غيره غير ذلك، ولذلك يقول عبد الجبار في تفاوت كلام الناس:"لا بُدَّ في الكلامين اللذين أحدهما يكون أفصح من الآخر أن يكون إنما زادوا عليه بكلِّ ذلك أو بعضه -أي: بالأمور السابقة، ولا يمنع في اللفظة الواحدة أن تكون إذا استعملت في معنى تكون أفصح منها إذا استعملت في غيره" والله أعلم.

1 هو القاضي أبو الحسن عبد الجبار، توفي سنة 415هـ.

ص: 92

3-

‌ الأسلوب القرآني:

55-

قد تكلمنا في سابق قولنا في ألفاظ القرآن المفردة، أنّ اللفظ المفرد له بلاغة خاصة في ضمن الأسلوب، وأن كل كلمة في جملة من الكلام تدل بمفردها على معانٍ تتساوق مع المعنى الجملي للكلام، وأن كل كلمة تكون بمفردها صورة بيانية تكون جزءًا من الصورة العامَّة للقول، وقلنا: إن ذلك ليس معناه أن الكلمة لو جردت من الكلام تعطي وحدها ذلك الإشراق، ولكن ينبثق نورها بالتضام مع غيرها من غير أن يفنى ضوءها في ضوئه، ولا تنمحي صورتها البيانية التي أشرقت بهذا التضامّ.

وقلنا: إنَّ ذلك لم ينكره أحد حتى الجرجاني1 الذي تشدَّد في اعتبار الأسلوب وحده هو سر الإعجاز، من غير التفات إلى معاني المفردات.

وإذا أردنا أن نحرِّر القول الذي رآه الأكثرون، وخالف فيه الجرجاني ومن لفّ لفه، فإننا نقول: إنَّ كلمات القرآن لها في تناسق حروفها وتلاقي مخارجها إشراق بلاغي، ولكن لا ينكشف ذلك الإشراق إلَّا بالتضام، أي: إنَّ الإشراق ذاتي، وهو الأصل، ولكن شرط ظهوره تضام الكلمة مع غيرها.

وفي هذا المقام نتكلَّم على الأسلوب والصور البيانية التي تتكون منه، والتآخي بين ألفاظه في النغم وفي تناسق القول؛ بحيث تكون كل كلمة في موضعها الذي وضعت لا تنفر من أختها، ولا يمكن تغييرها، وكأن الكلمات في الأسلوب نجوم السماء وأبراجها، لا تزايل أماكنها، ولا تخرج من مواطنها، ويقول في ذلك القاضي عياض في "الشفاء":

"الوجه الثاني من إعجازه صورة نظمه العجيب، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب، ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه، بل حارت فيه عقولهم، وتدلهت دونه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم أو سجع أو رجز أو شعر"2.

وإن الأسلوب هو الصورة البيانية التي تظهر في معنى رائع، وكلام مشرق، يثير في النفس أخيلة الحقيقة يصورها ويبينها، ويحس الإنسان فيها بأطياف المعاني، كما يحس بأطايف الصورة على حسب تثقيف المصور، وحسن الاختيار في ألوان الصور، فللأساليب ألوان تحسن وتنسق، وتصريف في أوضاعها كما قال تعالى:{انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 65] .

ولقد قال في هذا المعنى الخطابي3 في رسالة إعجاز القرآن: "وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر؛ لأنها لجام الألفاظ، وزمام المعاني، وبه تنتظم

1 هو عبد القاهر الجرجاني، توفِّي سنة 471.

2 الشفاء ج1 ص176.

3 أديب لغوي محدث، توفِّي سنة 388هـ.

ص: 93

أجزاء الكلام، ويلتئم بعضه ببعضه فتقوم له صورة في النفس فيتكلم بها البيان" وإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفناه، فقد علم أنه ليس المغرد بذرب اللسان وطلاقته كافيًا في هذا الشأن، ولا كل من أوتي حظًّا من بديهة حاضرة وعارضة كان ناهضًا بحمله ومضطلعًا بعبئه، ما لم يجمع إليها سائر الشروط التي ذكرناها على الوجه الذي حدَّدناه، وأنَّى لهم ذلك، ومن لهم به1:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] .

وإنَّ الشروط التي ذكرها في آنف قوله هو اختيار الألفاظ من ناحية معانيها، وقوة تماسكها بعضها ببعض، وأشار إلى أنَّ الألفاظ قد تكون مترادفة في الظاهر، ولكن عند التحقق في مرماها يكون الاختلاف، وإن كان المعنى الجملي واحدًا.

وإنَّ الناظر إلى أسلوب القرآن الكريم في الخطاب والبيان يجده مختلفًا، فمثلًا أحيانًا يكون بالاستفهام، والاستفهام أحيانًا للتوبيخ، وأحيانًا للتقرير، وأحيانًا يكون للتنبيه، والكلام يكون بإطناب لا حشو فيه قط، ومعاذ الله أن يكون في كلامه تعالى ما يشبهه، وفي الإطناب يكون تكرار القول، وأحيانًا يكون الكلام إيجازًا ليس فيه إخلال، وأحيانًا يكون الكلام تهديدًا تضطرب له القلوب وتفزع، وأحيانًا يكون توجيهًا يدعو إلى التأمل والفكر، وأحيانًا ببيان أحكام الحلال والحرام وتوجيه أنظار المكلفين إلى حكمها، وكل ذلك في أسلوب متناسب مؤتلفة ألفاظه، ومؤتلفة معانيه، بحيث يتكّون من الجميع صورة بيانية متناسقة في معانيها مؤتلفة في ألفاظها لا ينبو واحد منها في لفظ أو معنى، بل يتآخى الجميع.

1 رسالة الخطابي ص37.

ص: 94

‌التآلف في الألفاظ والمعاني:

56-

التآلف في الألفاظ، بألَّا تكون بينها نفرة في المخارج، ولا نفرة في النغم، بل يتلاقى نغمها، وتسهل مخارجها، فلا تكون واحدة نابية عن أختها، بل تتآلف وتتآخى في نسق واحد، بحيث لا تبدو واحدة ينطق غير مؤلف مع نطق تاليتها، أو كما قال الجرجاني في "دلائل الإعجاز":"كل كلمة لقف مع أختها، ولو حاولت أن تنزع كلمة لتضع مكانها في معناها ما ائتلف السياق ولا انسجم الأسلوب" ويقول في هذا الباقلاني في كتابه "إعجاز القرآن":

"واعلم أن هذا علم شريف المحلّ، عظيم المكان، قليل الطلاب، ضعيف الأصحاب، ليست له عشيرة تحميه، ولا أهل بيت عصمة تفطن لما فيه، وهو أدق من السحر، وأهول من البحر

وكيف لا يكون كذلك وأنت تحسب أن وضع الصبح، في موضع الفجر يحسن في كل كلام، إلَّا أن يكون شعرًا أو سجعًا، وليس كذلك، فإن إحدى اللفظتين قد تنفر في موضع، وتزل عن مكان لا تزل فيه اللفظة الأخرى، بل تتمكّن فيه، وتضرب بجرانها، وتراها في مظانها، وتجدها في غير منازعة في أوطانها، وتجد الأخرى لو وضعت في موضعها لكانت في محلّ نفار، ومرمى شرار، ونابية عن استقرار"1.

هذا ما ذكره الباقلاني في كتابه، وإذا طرحنا ما فيه من سجع لم يجئ على رسله، واتجهنا إلى ما يرمي إليه وجدناه سليمًا دقيقًا، وإنه لا ينطبق على كلام كما ينطبق على القرآن، ومقام القرآن فيه مقام الذروة والسنام.

وإن التأليف ليس فقط في نسق الألفاظ ونغمها، بل إنه يشتمل التآخي في المعاني كالتآخي في المباني، فلا يكون معنى لفظ نافرًا من المعنى الذي يجاوره، ويتألف من الألفاظ والمعاني وما توعزه من أخيلة، وما تثيره من معانٍ متداعية يدعو بعضها بعضًا، ويتألف منها علم زاخر، كثير خصب، وقد عبَّر عن هذا المعنى الوليد بن المغيرة بقوله:"إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق".

ولنذكر لك شاهدًا على ما نقول هو قصة الأعرابي الذي سمع قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]، فأخطأ القارئ وقال: غفور رحيم، فقال الأعرابي: إنه يقطع الأيدي نكالًا فلا يتفق القول، فراجع القارئ نفسه وأدرك المعنى.

57-

وإن التآخي في المعاني والألفاظ ونسقها ونغمها ومعانيها واضح في كل آيات القرآن، لا في آية دون أخرى، ولا في سورة دون سورة، فلا تجد في لفظ معنى يوجه الخاطر إلى ناحية، ويليه آخر يوجهه إلى ناحية أخرى، بل تجد النواحي متحدة إمَّا بالتقابل وإما بالتلاصق والمجاورة، وفي كلتا الحالين تجد معنى كل لفظ يمهد لمعنى اللفظ الآخر، فلا تنافر في المعاني، كما أنه لا تنافر في الألفاظ، وهما في مجموعها يناسبان في النفس غذاء رطيبًا مريئًا، ونميرًا عذبًا سلسبيلًا.

وقد ساق الباقلاني آيات ليست مختارة اختيارًا؛ لأنَّ آيات القرآن كلها لا نظير لها، فليس اختيار من ينتقي؛ لأنَّ كله خير، وسنذكر آيات مما ذكر وأخرى لم يذكر كأن نفتح الكتاب، فيبدو نوره فنقبس منه قبسة.

وقرأ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

1 إعجاز القرآن ص280 طبع المعارف.

ص: 95

صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52، 53] .

هذه الآيات الكريمة بعباراتها وإشاراتها البيانية، وسياقها تدلّ على ابتداء الرسالة المحمدية، وانتهاء أمر الناس في الأخذ بها، وعاقبة من اهتدى، ومن ضلَّ وعصى وغوى.

وإذا نظرت إلى الآيات الكريمات مع ما سبقها وجدتها كلامًا متآخيًا، يندمج بعضه في بعضه في ائتلاف لا نفرة فيه، فالآية قبلها تبين طرق كلام الله تعالى لخلقه، فقد قال تعالى قبل هذه الآيات:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51] .

ولنبتدئ بالإشارات البيانية التي وعدنا أن ننبه إلى بعضها، فليست لنا الطاقة إلى إدراك كلها، ولعل غيرنا يدرك بعضًا آخر، ولا أحسب أننا جميعًا نصل إلى كنه إشاراتها.

فهنا نجد كلمة "كذلك" تربط هذه الآيات بما فيها، فهي تدل على المؤاخاة بينهما، وهي تشير إلى علوِّ الله في المعنى الذي قرره "إنه عليّ حكيم" وتشير إلى حكمة اختيار الطريقة في الرسالة المحمدية.

ولننظر في الألفاظ نجد التآلف بينها في النطق والنغم، أفلا نجد ائتلافًا بين كلمة أوحينا، وكلمة روحًا، وكلمة من أمرنا، لا أنبه إلى ما فيه من تآلف في النطق، وتآخذ في المخارج والنغم، فذلك بَيِّنٌ لا يحتاج إلى بيان، وهو يتصل بالذوق والجرس في السمع، فهو يدرك بالحس، ولا ينبه إليه بالمعنى.

ولكن نريد أن ننبه إلى التآخي في المعنى لكل كلمة سيقت، وما تتسع له كل واحدة من معانٍ تتلاقى مع أخواتها وتأتلف، فتعطي صورة بيانية رائعة.

فكلمة أوحينا تدل على أن خطاب الله تعالى لرسله لا يكون جهرًا يعلمه كل واحد، ويسمعه كل إنسان، فهو خطاب لرسول، والرسالة بمجرى الأمور تكون بين المرسِل وبين من يرسله، والتعبير بأوحينا إيطال لقول من يقولون:{أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَة} أو قول من يقولون عن جهل الله ورسالاته الذين يقولون: {لَوَْا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أي: نراه ونحسه، ولذا رد الله تعالى قولهم بقوله:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8، 9] .

فكلمة أوحينا مع حلاوة لفظها فيها إشارة إلى هذه المعاني في عمومها، ولم يبين نوع الوحي؛ إذ هو على ضروب مختلفة متعددة بالنسبة لخطاب الله تعالى لأنبيائه.

ص: 96

عامة، وبالنسبة لمحمد خاتم النبيين خاصَّة، وذلك إمَّا برسول يشاهد، يرى ويسمع كلامه؛ كتبليغ جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم "يراها النبي صلى الله عليه وسلم وحده"، وإما بإلقاءٍ في الروع كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن روح القدس نفث في روعي"، وإمَّا بمخاطبة الله تعالى وسماع كلامه سبحانه من غير حس، كما كان في المعراج وفرض الصلوات.

وبكل تلك الأنواع والطرق كان وحي الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.

ونجد في إضافة الإيحاء إلى الله تعالى بيان عظمة الوحي، وكون الإيحاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبًا له جل جلاله إعلاءً لشأنه، وبذلك تتآخى في رفع شأن الرسالة والنبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} ، والروح هنا قال أكثر المفسرين للقرآن إنه جبريل، ونرى أنها تشمل جبريل عليه السلام، فقد سمَّاه الله تعالى روح القدس، ويكون معنى الإيحاء الإرسال، ويشمل القرآن، ويشمل الشريعة نفسها، وتسميتها بالروح لما فيها من معنى البقاء والحياة إلى يوم القيامة، وإضافتها إلى من أمر الله تعالى لتشريفها وتشريف من جاءت إليه وبعث باسمها، وهكذا نجد مع ائتلاف الألفاظ في النسق والنغم وجرس الكلام تآخيًا في المعاني، فإنها كلها تدل على شرفها بعظم مصدرها وهو الله تعالى، وكبر المعاني في ذاتها، فكان لها شرف المعاني، وكان لها شرف أنها من الله تعالى، فأيّ كلام بليغ يصل إلى كل هذا في التآلف بين المعاني والألفاظ.

58-

والآية السامية تحوي في سياقها دليل الرسالة، فيقول تعالى:{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} ، وإن هذا النص الكريم مع إيجازه يرمي إلى ثلاث حقائق:

الأولى: إنَّه ما كان يعلم علم الكتابة، فلم يكن قارئًا ولا كاتبًا، وعبَّر هنا عن العلم بالدراية؛ لأن الدراية علم يأتي بالتعلُّم والممارسة؛ فهو علم كسبي، وأنه ما كان يعلم بالدراية، ونفي الدراية في الإيمان؛ لأنه لم يكن هناك من يلقنه علم الإيمان إلَّا أن يكون إلهامًا من الله تعاونه الفطرة المستقيمة، وقد يقال: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان مؤمنًا منذ بلغ التمييز وقبل ذلك، فكيف كان لا يدري الإيمان، والجواب عن ذلك: إنه كان موحدًا، ولكن بقية ما يقتضيه الإيمان من صلوات وزكوات وتنظيم للمجتمع وطرق التعامل السليم، ما كان يدريه، وبهذا يفسر قوله تعالى:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 6، 7] .

الثانية: إنَّ في هذا الكلام السامي حجة على أنَّ القرآن من عند الله تعالى، وأن محمدًا لم يأت به من عنده؛ لأنه ما كان يقرأ ولا يكتب، وهذا كما قال الله تعالى في

ص: 97

سورة أخرى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] .

الثالثة: إنَّ قوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} الدراية داخلة على الاستفهام، ففي الدراية متجه إلى الحقيقة، أي: إنَّه ما كان يدري حقيقة الكتاب ولا تفصيل الإيمان، وهذه تأكيد لنفي العلم بالكتاب علم دراية، ونفي العلم بتفاصيل الإيمان علم دراية.

ولا شك أن كل كلمة من هذا النص وما سبقه تتآخى مع ما بعدها وما قبلها في تقرير حقيقة ثابتة، وهي أنَّ القرآن روح من عند الله، وكل روح فيها حياة، وحياته في الشريعة التي أنزلها، والتوحيد الذي دعا إليه، والحق الذي أثبته، والصلاح الذي بثه، ودفع الفساد في الأرض، ولكن القرآن نور هذا الوجود {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} .

59-

وننظر في النص وانسجام ألفاظه، وتلاقي معانيه، وإنك تجد للاستدراك هنا موضعًا طيبًا؛ إذ إن النص الكريم السابق كان فيه نفي الدراية عن حقيقة الكتاب وعن حقيقة الإيمان، والاستدراك هنا لا يفيد أنَّ نفي الدراية دائم، بل إنه ينتهي بعلم الكتاب الذي هو النور الذي يهدي به الله تعالى.

ولنترك الكلمة للباقلاني في الإعجاز فهو يقول:

"جعله سبحانه وتعالى روحًا؛ لأنه يحيى الخلق، فله فضل الأرواح في الإحياء، وجعله نورًا؛ لأنه يضيء ضياء الشمس في الآفاق، ثم أضاف وقوع الهداية إلى مشيئته، ووقف وقوع الاسترشاد به على إرادته، وبَيِّنَ أنه لم يكن ليهتدي إليه لولا توفيقه، ولم يكن ليعلم ما في الكتاب ولا الإيمان لولا تعليمه، وأنه لم يكن ليهتدي لولا هداه، فقد صار يهتدي، ولم يكن من قبل ذلك ليهتدي، أي: إنَّ القرآن الكريم قبل نزوله ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدري ما الكتاب ولا الإيمان، وبعد نزوله اهتدى وعلم، وبلغ مرتبة أن يحمل الهداية والإرشاد للناس بعد أن كان لا يدري الكتاب ولا تفصيل الإيمان، وهذا يفيد أنَّ القرآن تعليم الله للنبي، وللناس من بعده".

وإنَّ الكلام السامي {وَلَكِنْ جَعَْنَاهُ نُورًا} في هذا استعارة تمثيلية، أي: إنَّه هو كالنور المضيء الذي لا يضل فيه الساري ولا يختفي على من يبصر بسببه شيء، بل إن فيه تأكيد التشبيه بجعله هو النور، وأن الذين لا يبصرون حقائقه وما فيه من علم، العيب فيهم وليس فيه، والنقص منهم وليس منه، وإضافة جعله نورًا إلى الله تعالى تشريف له فو ق تشريف، وهو يتفق مع النسق الذي ابتدأ به النص الكريم، ولكن مع أنَّه النور الذي يهدي، لا يهتدي به الناس من غير أن يكون ذلك بمشيئة الله تعالى، فقال

ص: 98

سبحانه: من نشاء من عبادنا. فبيِّن سبحانه سلطانه على القلوب، وخصَّ بالهداية من شرَّفه بأنه من عباده، تعالى سلطانه، وقام عدله، وفي هذا إشارة بيانية إلى أن الذي شاء الله تعالى هدايته هو من خلص نفسه، وجعلها الله وحده، وشرف بأنه من عباد الله لا من إخوان الشياطين.

ولقد شرَّف الله تعالى نبيه بأن نسب إليه هداية الإرشاد، وبيان السبيل فهو نور معه نور الكتاب، ولذا قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أكَّد الله تعالى عمل النبي صلى الله عليه وسلم ببيان سبيل الحق والدعوة إليه، وأنَّه المستقيم الذي لا عوج فيه ولا اضطراب.

فهنا هدايتان: أولاهما: هداية التوجيه والإرشاد وبيان الحق ودعوته، وهي للرسل؛ لكيلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فمن علم واستنار واهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنِّما يضل عليها، وما الله بظلام للعبيد، والهداية الثانية العليا، وهي امتلاء القلب بالإيمان بعد أن سار في طريقه وأرشد إليه، وهذا لمن يشاء الله هدايته من عباده المؤمنين.

وقد ذكر الله تعالى من بعد ذلك الحكم العدل بإعطاء الطائع جزءاه من ثواب، وما يستحقه العاصي من عقاب، فقال تعالى:{أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُور} أي: وإليه وحده مآل الأعمال كلها، وكل امرئ بما كسب رهين، فمن عمل صالحًا فله جزاؤه، ومن عصى وبغى نال عاقبه ما عمل.

ونرى من هذا تآخي المعاني في الآيات، وتسلسل ما ترمي إليه، فبيِّن أولًا بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وإعطاء الدليل بمجزة القرآن، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وذكر ثانيًا الحجّة على صدق القرآن، ثم أشار إلى أنه نور، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الإرشاد وبيان الحق والطريق إليه، وأن الهداية من بعد ذلك.

هذا تآخي المعاني، وكون كل معنى مقدَّم للذي يليه والتالي مبني عليه ودعامة لما بعده، أمَّا تآلف الألفاظ في النغم والحروف فأمر فوق طاقة البشر.

وإنه ليتألَّف من هذا الكلام صور بيانية للوحي، والقرآن ونوره وهداية الأنبياء وموضعها، وهداية الله تعالى، وثمرتها في القلوب، وكونه لعباد الله المخلصين، لا لعبدة أهوائهم وشهواتهم.

ص: 99

‌صور بيانية للطمع والشح ثم الندم

صورة بيانية للطمع والشح ثم الندم:

60-

تلك صورة لمن سيطر عليهم الشيح فذاقوا عاقبته، ثم تنادوا بالتوبة والتلاوم قال تعالى:{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ، وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ، قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ، قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ، عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ، كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 17- 33] .

سبحان الله تعالت كلماته، وعزَّ قرآنه، وعلا بيانه، ولعلَّ من فضول القول أن أقول: إنَّ الآيات تصوير رائع لنفس الشحيح وحرصه وندمه؛ إن ذلك من فضول القول؛ لأنَّ القرآن كله رائع لا يصل إلى روعته كلام مطلقًا، ولا يستطيعه قائل.

إن الآيات الكريمة فيها:

1-

صورة بيانية لنفس الحريص الغافل عن سلطان الله تعالى.

2-

وصورة بيانية لغفلة الحريص عن قضاء الله تعالى، وأن كل شيء عنده بحساب.

3-

وفيها بيان لحال المناعين للخير، وما يدور في نفوسهم.

4-

وصورة بيانية للندم كيف يدخل النفوس بعد التنبه.

5-

ثم حال الندم وما يليه من توبة نصوح.

6-

ثم بيان حال الرجال في رضا الله تعالى.

وقبل أن نتكلم في تلك الصور البيانية نقول: إن الألفاظ ليس فيها نبوة تبدو، ولو بترجيح النظر كرَّات، والتناسق فيها متوافق النغم تفيد برنينها، وتصل إلى القلوب في عميقها، والمعاني متآخية تتجِه كلها إلى تصوير الطامعين أهل الشح، وكيف يبتدئ بالحرص العنيف المغالى فيه، وتغليب الطمع في كل شيء، والاستيثاق من تحقق ما يطمع فيه، كما يصور له الطمع، ثم يشتدُّ المنع حتى يكون لكل خير، ثم تكون المفاجأة.

هذا، وإنَّ مجال التصوير يظهر في أنَّ الموضوع كله ذكر مثلًا لكل منَّاع للخير؛ لأنه ذو مال وبنين، ودفعه غروره بما آتاه الله من مال ثم كفر به واعتدى، وكانت

ص: 100

عاقبته أن حُرِ َم مما طغى به، وصار يوم القيامة أمام الجزاء الأليم، بيد أنَّ أولئك أصحاب الجنة وهي الحديقة المثمرة، كانت لديهم فرصة الرجاء بعد الندم، أما هؤلاء فقد فاتت فرصة الرجاء ولات حين مناص، ولنذكر بعد ذلك ما نستطيع الإشارة إليه من النواحي البيانية.

61-

الصورة الأولى: صورة الطمع المتغلغل في النفس الذي ينسيها كل شيء ما عدا ما تطمع به النفس، فقد قال تعالى:{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ} .

اختبرهم الله تعالى بالطمع كما اختبر أصحاب البستان المثمر، ونرى التشبيه هو ما يسمَّى التشبيه التمثيلي، وهو تشبيه حال الطاغين المعتدين أنْ رأوهم استغنوا؛ لأنهم ذو مال وبنين، فغلبهم الطمع، حتى أوبأهم في أسوأ الأحوال، والعناد مع الله تعالى، بحال أهل الحديقة إذ غرَّهم الغرور، فظنوا أنهم واصلون إلى ما يبتغون، وأقسموا على ذلك غير مقدِّرين عاقبة ولا حسابًا لم يأتي به الله تعالى، والتشبيه بلا ريب للتقريب، لا للمساواة؛ لأنَّ حال الكفار أشد عتوًّا وأبلغ غرورًا، وهكذا كل تشبيهات حال القيامة وما وراءها بحال ما يقع، ليس للتساوي، أو لأن المشبه به أبلغ في وجه الشبه، ولكن لتقريب الغائب بتصويره بالحاضر، ومثل ذلك تصوير المعنويات بالمحسوسات، وما يكون من جزاء وعقاب هو من المحسوسات، ولكنه غائب.

وهنا في النص نجد تصوير النفس الطامعة؛ إذ إنها لشدة رغبتها تتصور محل الطمع واقعًا لا محالة، لذلك أقسموا جاهدين في قسمهم ليصرمنها، أي: ليقطعنُّها قطعًا يستأصلونها من أدناها، وهذا اللفظ في هذا المقام أبلغ من القطع؛ لأنَّ الصرم قطع من الجذور، أي: هو قريب من القلع، ولتصورهم استجابة لطمعهم أنهم واصلون أكدوا الصرم باللام ونون التوكيد الثقيلة، ولشدة الطمع م يتوقعوا تخلفًا قط، ولذلك لم يستثنوا، فلم يقولوا: إن شاء الله، أولًا؛ لأنَّ حرصهم ورغبتهم الجامحة أنستهم الله تعالى؛ ولأن تطلعهم إلى ما تهوى أنفسهم لم يجعل لاحتمال التخلف موضعًا في عقولهم، وكانت اللهفة والحرص على التنفيذ قد جعلاهم معجلين التنفيذ، فهم يبكرون به مصبحين غير متلبثين ولا متأخرين؛ لأن القطع أمر محبوب لا يرون معه إبطاء ولا تريثًا، بل يستعجلون ما يريدون، بل ما يهوون.

وقد صوَّر الله سبحانه وتعالى غفلتهم عمَّا يقدره الله تعالى، مع أنه متحقق، فهم يقدرون ويرغبون ويستعجلون، والله من ورائهم محيط، وقد صوَّرَت الآية الكريمة قدر الله تعالى بقوله تعالت كلماته:{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} ، الطائف العارض الذي يعرض ليلًا من ريح صرصر عاتية، أو عواطف تقتلع الأشجار وتلقي بالثمار، وهذا الطائف بأمر الله تعالى، فكل شيء في الوجود بإرادة الله تعالى القدير، والصريم الأخشاب المتراكمة، أو الأشجار القائمة

ص: 101

المصروم ثمرها المقطوع منها ما أينعت، وهذا بلا شك تصوير بَيِّنٌ لما يجريه الله تعالى في الأرزاق، ومهما يقدّر الإنسان في كسب الرزق ويحاول التحكم فيه فإنَّ الله تعالى فوق ما يقدّر.

ونرى من هذا تصوير ما في نفوسهم، وبيان ما يحيط بهم في بيان متماسك في ألفاظه، متآخٍ في معانيه.

62-

ولقد صوَّر سبحانه وتعالى صورة الحرص ومنع الخير في أعنف صوره النفسية، فقال تعالت كلماته:{فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} .

أنزل الله بالحديقة ما أنزل وهم لا يعلمون، فكان حرصهم على ما هو عليه، وتعجلهم لجني الثمار كما هو، وقد صور الله تعالى ذلك بذكر حالهم أنهم تنادوا، أي: نادى بعضهم بعضًا مجمعين على ما أرادوا، أن أصبحو في الغد مبكرين على زرعكم وثماركم الذي حرثتم أرضه، وأصلحتم ثمره، إن كنتم تريدزن قطعه وقطف ينعه. ويلاحظ أن التعبير بصارمين فيه معنى الإرادة الصارمة للقطع الذي لا ريب فيه.

وإن معنى التعجل والحرص قد أكد بقوله تعالى حكاية عنهم: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} هذه النصوص تصور اجتماعًا وافتراقًا، فقد اجتمعوا على نية القطع، واجتمعوا على المسارعة فيه، واجتمعوا على أمر خبيث لم يعلنوه، ولكن اتفقوا عليه في تخافت وإسرار، واجتماع على تلك النية الخبيثة، وإن كلمة يتخافتون تصوير لحالهم الحسي ولأمرهم النفسي، ولمعنى المنع، فإنَّ الامتناع عن الخير لا يكون إلا بإصرار النفوس والتفاهم في سرٍّ، ولا يكون في جهر، فتخافتوا على ألَّا يعطوا مسكينًا، وعبَّر عن المنع عن إعطاء المسكين بمنعه من الدخول، فهم لا يمنعون العطاء فقط، بل يمنعونه من الدخول نهيًا مؤكدًا وبإصرارٍ على المنع، ولو بالدفع أو القهر، فضلًا عن الطردِ والنهر، وإغلاق الأبواب وإقامة الحراس المانعين، أكَّدوا تنفيذ فكرتهم بما حكى الله عنهم من تأكيد المنع بالنون الثقيلة، هذه أحوال اجتماعهم، أمَّا افتراقهم فهو دخولهم على الحديقة، متفرقين كلٌّ في جانب منها، ودلَّ على ذلك قوله:{فَانْطَلَقُوا} فهم ذهبوا ليقطعوا ويجمعوا، كلٌّ في جانبٍ تجمعهم فكرة التعجل والتصميم والإلحاق في منع المساكين، وقال تعالى في تصوير تعجُّلهم مع سيطرة فكرة المنع عليهم {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِين} ، فغدوا معناها أقدموا في باكورة الغداة، والحرص معناها المنع والتشدد فيه، والمعنى: إنهم أصبحوا قاصدين القطع، ومعتزمين المنع من حق الفقير، بل منع دخوله، وموضع قادرين هنا هو وصفهم بالقوة على العمل والتنفيذ والمنع بكل الوسائل.

ص: 102

هذا تصوير لا تعرف اللغات تصويرًا للحرص والتعجل والاستيثاق بالإيمان وعدم التردد فيما يعملون، ونية السوء، والتخافت فيها مثله، ولو اجتمعت الإنس والجن أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.

63-

ولكن الآيات الكريمات بعد تصوير حالهم هذه في التعجل والحرص، لتصوير المفاجأة، وتنبيه المفاجأة للغافل، وإيقاظها للضمير النائم، وإثارتها للوجدان الساهي، فيقول سبحانه في رؤيتهم لتهدُّم ما بنوا عيه إشباع طمعهم، وما حملهم على نية البشر، فقال تعالت كلماته:{فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} .

كانت المفاجأة بمقدار الحرص والطمع، واسترسالهم في المطامع المادية حتى استأثروا بها ولم يعطوا منها حق الفقير المسكين والسائل والمحروم، وإذا كان حرصهم بلغ أقصاه، فالمفاجأة بالحرمان كانت أشدَّ وقعًا، أصابتهم بالحيرة الشديدة، والضلال البعيد، وأوّل الضلال أنهم توهَّموا غير أرضهم، فلمَّا استيقنوا أحسّوا بضلال آخر معنوي أشدَّ فتكًا في النفوس وتأثيرًا في القلوب، وهو إحساسهم بالضلال المعنوي إذ قدروا، ولم يدركوا تقدير الله، وحسبوا أن الأمر إليهم وحدهم، والله فوقهم، فلمَّا أدركوا ضلال تفكيرهم قرروا الحقيقة الثانية، وهي أنَّ الله تعالى قدّر حرمانهم، وما قدره نافذ لا محالة، ولذا قالوا كما حكى الله عنهم مؤكدين:{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُون} ، فالإضراب معناه هنا: إنهم ترقوا من حال الضلال المؤكد إلى حال الإيمان بالحرمان المؤكد.

وإن قوله تعالى عنهم: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُون} بعد {إِنَّا لَضَالُّونَ} فيه إشارة واضحة إلى الأسف والألم المرير؛ ألم الضلال والحرمان من الهداية، ثم الحرمان المطق من الثمرات التي طمعوا فيه، وتخافتوا على ألَّا يعطوا الفقير.

وإذا كانوا قد اجتمعوا على ما كان منهم أولًا، فقد اجتمعوا على المفاجأة والحرمان ثانيًا، ولكن يظهر أنَّ الشر لا يمكن الإجماع عليه دائمًا، بل لا بُدَّ من قائم لله تعالى بحجة، وإذا لم يستمع له قول ابتداء فإنَّ قوله سيكون له صدى في النتيجة بعد أن تتبدى الأمور وتنجلى.

وكذلك كانت حال أصحاب الجنة، فقد كان فيهم رشيد ينبههم إلى خطأ ما أزمعوا أن يفعلوه، وقد حكاه الله سبحانه وتعالى بقوله:{قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} .

الوسط هو الأمثل، والوسط في أوصاف الخير هو الأمثل دائمًا، ومن ذلك قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] ، وهذا الأمثل عندما رأى حالهم وتدبيرهم وطمعهم، وما يسرون به وما يجهرون، وما يتخافتون وما يعلنون، لاحظ

ص: 103

أنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فكان لا بُدَّ لكي يدركوا صالح أمورهم أن يؤمنوا بالله وأن يذكروه في أعمالهم ظاهرة وباطنة، فهم لا ينقصهم الجد في العمل، ولكن ينقصهم الإيمان، فقال لهم:{لَوْلَا تُسَبِّحُون} أي: هل تسبحون وتنزهون الله تعالى وتقدسونه، وتعلمون أنه القاهر فوق كل شيء، وأنه العليم الحكيم، وهنا كان فيما حكاه الله تعالى بالتعبير:{قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} الاستفهام الداخل على النفي في معنى الإثبات؛ لأن نفي النفي إثبات، وهو يدل على التوبيخ، وتذكيرهم بأنهم لم يفعوا ما فعلوا فاقدين للمنبه المرشد، فقد أرشدهم إلى الطريقة المثلى والمنهاج الأسلم، وهو الإيمان بالله تعالى وتقديسه وتنزيهه، والإحساس بأنه الغالب على كل شيء، القاهر فوق عباده.

64-

إن المفاجأة مع التذكير، ووجود الضمير والنفس اللوامة من شأنها أن تحيي موات القلوب، وخصوصًا أنه وجد من بينهم من ربط بين الحرمان الذي فوجئوا به والضلال الذي كان من نسيان ربهم، وحرصهم وطمعهم، وتفاهمهم على حرمان الضعيف مما أخرج الله تعالى من الأرض، كان ذلك كله سبيل الهداية التي تجيء، ومن القارعة التي تقرع الحسّ والنفس تنبهوا فعلموا ما ينقصهم، وأنهم لهجوا في الدنيا، ولم يذكروا الله تعالى خالق السماوات، فقالوا فيما حكى الله تعالى عنهم:{قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .

بعد أن تنبهوا من غفتلهم، واستأنسوا بالحق من تذكير أمثلهم طريقة استجابت نفوسهم لداعيه، وعلموا أمرين: علموا أنهم كانوا غافلين عن ربهم، وعلموا أنهم ظلموا أنفسهم وظلموا الناس فيما تخافتوا به، قالوا في إعلان إيمانهم بالله:{سُبْحَانَ رَبِّنَا} نقدِّس وننزِّه ونسلِّم أمورنا لربنا الذي خلقنا وربَّانا وهو الحي القيوم القائم على كل شيء، فرجعوا بذلك إلى الله تعالى خالق كل شيء، ولكنه لا يكون الرجوع كاملًا إلا إذا تابوا توبة نصوحًا، وأحسنوا التوبة، وأول طريقة للتوبة هو الإقرار بالذنب، إقرار من يحس بذل المعصية، وذل الذنب قربة، كما يقول ابن عطاء الله السكندري:"إن معصية أورثت ذلًّا خير من طاعة أورثت دلًّا" ولهذا الإحساس بالذنب، قالوا مؤكدين القول:{إِنَّا كُنَّا ظَالِمِين} لقد ظلموا أنفسهم بطمعهم وحرصهم، ونسيان ربهم، وظلموا الناس بمنع الفقراء من حقهم، وإن الإحساس بألم المعصية من شأنه أن يجعل كل واحد يلقي تبعة التقصير أو التنبه على غيره، فهم كانوا مجتمعين على طمعهم وحرصهم وتعجلهم، ولكنهم بعد أن أحسوا بجرمهم أخذ كل واحد يتبرأ من أنَّه الذي ابتدأ بالدعوة بالمعصية، وأن الآخر هو الذي دعا فأجاب، ولذا قال الله تعالى حكاية عنهم بعد أن دخل الإيمان قلوبهم وأشربوا حبه:{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُون} كل واحد منهم يلقي على الآخر لومًا، لا كل اللوم، فإنهم جميعًا

ص: 104

ملومون؛ لأنهم جميعًا نووا وهمُّوا أن ينفوا ما نووا، والتلاوم هنا ليس هو الاختلاف الذميم، ولكنه من الإحساس الكريم؛ إذ إنَّهم أحسوا بأن عبء المعصية كاملًا ينوء بكل واحد منهم، فيريد أن يلقي جزءًا منه على صاحب له، وإن اتفاقهم لا يجيء من غير داعٍ منهم، فإذا كان أوسطهم دعاهم إلى الخير ولم يستجيبوا فقد وجد منهم من دعا إلى الشر واستجابوا له، وكان شرهم متعدد الأطراف، فكان كل منهم قد دعا إلى ناحية دون الأخرى، وهنا نجد أن التعبير بالتلاوم لا يدل على الفرقة والانقسام، بل إنَّه في هذا لا ينافي الالتئام.

وإنهم ينتهون من هذا التلاوم الذي ابتدأ بالألم من عبء المعصية، ينتهون بعد التلاوم لفرط إحساسهم بالندم إلى أن يقولوا:{قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} كان الإقرار بالذنب في هذه المرة أقوى من الإقرار أولًا؛ لأنهم أحسُّوا بالهلاك الشديد ينزل بهم، قالوا منادين الويل:{يَا وَيْلَنَا} ، أي: أيها الويل النازل باستحقاق أقبل، فإن ذلك وقتك، ونحن موضعه، ولا نتزايل عنه ولا نخرج، وعلَّلوا الويل الذي يستحقونه بأنهم كانوا طاغين، والطغيان دائمًا يؤدي إلى الظلم، فإن كانوا في الآية السابقة قد اعترفوا بالظلم، ففي هذا النص السامي اعترفوا بسببه وهو الطغيان، والطغيان يتبدئ من وقت أن يحسّ الشخص بأنه استغنى عن معونة غيره، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7] ، وقد ظنوا أنهم لا يحتاجون إلى معونة أحد، وأن الله لا يمنعهم خيرًا أوتوه، وأن الأرض أرضهم والعمل عملهم، والكسب كسبهم وحسبوا أن الثمرات آتية لا محالة.

بعد ذلك اتجهوا خاضعين إلى ربهم، معتقدين أنَّ الخير بيده، وأن لا سلطان إلا سلطانه، فاتجهوا بالرجاء بعد أن رأوا المنع جهارًا نهارًا، وقالوا راجين:{عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} هنا كان التفويض كاملًا، وإن ذلك النص الكريم يفيد في تفويضهم ثلاثة أمور في أجمل تعبير من الله تعالى عن ضمائرهم الخائفة، بعد أن خلعوا رداء الطغيان:

أولها: الرجاء، والرجاء يتضمَّن معنى التفويض من ناحية أنَّهم لا يرجون إلَّا من الله، ومن ناحية أنَّ كل ما يكون من الله تعالى خير، فإذا كان نزل بهم ما يكرهون فعسى أن يكون الخير في هذا الحرمان، كما قال تعالى:{فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] ، ومن الخير أن هذبت نفوسهم، وإذا كان حالهم من قبل حال طغيان وغرور، فعسى أن يعطيهم الله تعالى بديلًا لما منعوه، ويكون معه الاطمئنان.

ثانيها: الاتجاه إلى الله تعالى مالك أمورهم ومربيهم، والكالئ لهم والحامي، والشعور بالمساواة مع المساكين في ربوبية الله الخالق لكل شيء.

ص: 105

ثالثها: قولهم: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُون} ، ولا أحسب أنَّه يمكن أن تضع كلمة مكان راغبون، مع إلى، وتجد في هذا التعير إشارات بيانية رائعة؛ أولاها: في تكرار كلمة ربنا للشعور بنعمه سبحانه الظاهرة والباطنة، والثانية: في تقديم الجار والمجرور على خبر إن، فإن ذلك التقديم للقصر، وهو يفيد أنهم لا يرغبون في مال ولا نشب، ولا يحسبون شيئًا يمكن أن يكون بغير إرادة ربنا؛ إذ كانوا قد حسبوا أنهم بجهودهم يصلون ويمنعون الماعون، ويقسمون ألَّا يدخلنها مسكين، ولكنهم الآن لا يتجهون إلّا إلى الله تعالى العلي القدير، والتعبير براغبون يفيد أنهم يسيرون في طريق الله تعالى وحده برغبة ومحبة، فهم يطلبون طريق الله تعالى لا خوفًا من عقابه، ولا رجاء لثوابه فقط، ولكن محبة لذاته العلية، فانتقلوا من دركة العصيان إلى مرتبة المحبة وطلب الرضوان.

65-

ونرى في هذه الآيات الكريمة المصورة تللك القصة التي تشتمل على العبرة الواضحة، فيها تتلاقى المعاني، وكل معنى ردف لما سبقه، ومقدّم لما يليه في تآخٍ بَيِّن جزئياته، وتعانق مع كلياته، كل جزء من الكلام يوعز لما يليه، وفيها الألفاظ مؤتلفة في نغم يهز النفس، وتآلف بين الألفاظ مفردة وجملًا، وفيها تصوير للنفس الإنسانية كيف يدخل إليها الطمع، ومع الطمع الشح، وإذا سكن الشح قلبًا دخل منه الظلم وهضم الحقوق، وإنه لكي ينجو المؤمن من أن يكون ظالمًا عليه أن يراقب مداخل الشح إلى نفسه، فإن سدَّ طرقها إليها فقد فاز وكان عادلًا، كما قال تعالى في سورة أخرى:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ، فإن وراء الشح الهلاك، ووراء السماحة الفوز.

وإن الآيات تصور لنا حال من يغتر، ومن يطغيه الاستغناء، ومن يحرم نعمة الاعتماد على الله تعالى والتفويض إليه، ثم حاله عندما يفاجأ فيجد قدر الله تعالى أمامه يرد عليه طغيانه، ثم تصوّر النفس التائبة، وذلك كلام العزيز الحميد.

ص: 106

‌النفس الفرعونية:

66-

وإذا كانت هذه الآيات التي تلوناها تصور النفس التي تطغى أن رأتها استغنت، وحسبت أنه لا قدر فوق ما تقدر، وكيف تفاجأ بقدر الله فتتنبه، فقد صور الله تعالى في كتابه العظيم النفس التي تطغى، فتتغطرس فتتحكم في الرقاب، وتفرق بين العباد، فهذه يأخذها الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، ولا مكان لتوبتها؛ إذ تفاجأ؛ لأنه لا يكفر ذنوب العباد إلّا ردها، ولا سبيل لردِّ ما فعلوه، ثم كان فسادهم، وتضييعهم الناس، ولذلك يؤخذون بذنوبهم، واقرأ قوله تعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 4، 5] .

ولا شَكَّ أن نسج الآيات متماسك بخيوطٍ دقيقة غير قابلة لأن تنقطع، وهي واضحة في تصوير الحاكم الفاسد كيف يعلو في الأرض، وكيف يتحكّم، وقد قال الباقلاني في صيغة العبارة بالنسبة للآية الأولى:

"هذه تشتمل على ست كلمات، سناؤها وضياؤها على ما ترى، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد، ورونقها على ما تعاين، وفصاحتها على ما تعرف".

وهي تشتمل على جملة وتفصيل، وجامعة وتفسير، ذكر العلوّ في الأرض بستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبي النساء، وإذا تحكَّم في هذين الأمرين فما ظنك بما دونهما؛ لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم، والقلوب لا تقر على هذا الجور، ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد، وكفت في التنظيم، وردت آخر الكلام على أوله، وعطفت عجزه على صدره.

ثم ذكر وعده بالتخليص بقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} ، وهذا من التأليف بين المؤتلف، والجمع بين المتسأنس"1.

هذا ما ذكره الباقلاني من ناحية التآخي في الألفاظ والالتحام في نسجها، وإنك لتجد ذلك التآخي في سوق العلوِّ الذي تعالى به وهو في الأرض، فقال تعالى:{عَلَا فِي الْأَرْضِ} فهو علوّ من في الأرض، ولاصق بها، فليس يعلو إلى السماء، ولكنه مستمر في الأرض، فهو استعلاء وليس بعلوِّ، والاستعلاء طلب للعلوّ، أو الإحساس به، وليس قائمًا على أيّ اعتبار، فكان ذلك التقابل في اللفظ من حيث الانسجام ومن حيث المعنى فيه دليل على أنه استكبار وليس علوًّا في ذاته.

ولكن كيف يستقيم له هذا العلو وهو لاصق في الأرض متنقل فيها، إنما هو الغلوّ في الكبر، وحمل الناس على الإقرار أو السكوت، أو ظهور الرضا وما هم براضين؛ لأن أساس الرضا التخيير ولا اختيار، فإن لم يكن فلا رضا.

ولننتقل من ذلك النص المصور للاستعلاء الكاذب الظالم إلى ما سكله لحمل الناس على السكوت عنه، أو الخضوع له كارهين، وإن مردت نوسهم على الخضوع، حتى صاروا كالطائعين، وذلة الإحساس بالتحكم قارة في نفوسهم حتى أخضعتها، فجعلتها خانعة، أظهرتها راضية ولا رضا عندهم؛ لأنه لا اختيار لها فيما تختار.

1 إعجاز القرآن ص295.

ص: 107

ذكر سبحانه ما سلكه فرعون كما يسكله أيّ طاغية من طواغيت هذه الدنيا الذين يظهرون في كل زمن، وفي أرض كأرض مصر، وناس كناسها، كما أشار إلى أنه عمل على تفريق جمعهم وتشتيت أفكارهم، وصاروا متفرقين في ذات نفوسهم ولا تجمعهم جامعة حق ولا ثورة على ظلم، بل كان يقول لهم في استكبار:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ويقول في استنكار: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] .

وقد قال تعالى فيما سلكه: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} وهنا نجد كلمات ثلاثًا، كل واحدة منها تنبئ عن قصد الفرقة والانقسام بعد الوحدة والالتئام، فكلمة جعل هي بمعنى صيَّرَ، وهي تدل على أنهم كانوا متحدين في المشاعر والأحاسيس، متفقين في المنازع والمطامح والآمال، فجعلهم متفرقين منتشرين في غير اجتماع، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتَّى، والكلمة الثانية "أهلها" فهم كانوا قبلها أهلًا، أي: إنهم كانوا مجتمعين غير منقسمين، فلكي يعلو عليهم أجمعين فرَّق جمعهم وشتَّت شملهم، فكيف يعلو إنسان مهما يكن طاغوته ومهما تكن قوته وغلظته وحيلته على قوم متحدين مجتمعين، ولكنه يخذل بينهم، ثم يملك عليهم.

والكلمة الثالثة كلمة "شيعًاط، فإنَّ الشياع يتضمَّن معنى الانتشار، وأن يقوى جزء على الآخر، يحسب كل جزء منهم أنه أقوى من الآخر، وأنه لا تربطه به رابطة، ولا يجمعهم به قومية أو رحم، أو تشابك المصالح، ودفع المضار، فإذا كانوا كذلك استعلى واستكبر، ولا يجد من يرده عن غيه، ويقمعه في شره، فيكون الهلاك، وتقطع الأسباب.

وإن النتيجة التي تكون أثرًا لذلك أن يجعل من طائفة منهم بطانة له، وجندًا يستنصر بهم ويتخذهم أسواطًا يضرب بها غيرهم، ويتحكم في جمعهم، ولذلك قال تعالى في ذكر هذه النتيجة الحتمية التي تتبع التفرق تبعية المسبب لسببه، والنتيجة للمقدمة:{يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} أي: يصور طائفة منهم ضعفاء، أو يطلب ضعف طائفة منهم، ويتتبعه، وهنا إشارة بيانية رائعة لا تكون إلا في القرآن الكريم، وهذه الإشارة هي أنه ذكر الطائفة المستضعفة، ولم يذكر الطائفة التي جعل فيها قوته يضرب بها رقاب الناس، والسبب في أنه تعالى لم يذكرها موصوفة بالقوة؛ لأنها وإن لبست لبوس القوة ليست -في حقيقة أمرها- قوية في شيء؛ لأنها ليس لها اختيار فيما اختارت؛ ولأنها لا تملك من أمرها شيئًا، بل مسخَّرة لطغواه، مراده له، وليست بمريدة فيما تفعل، والقوي هو الذي يفعل ما يريد هو لا ما يريده غيره، ويعمل ليرضي شهوة نفسه لا ما يرضي غيره، وليس هو من تكون إرادته فانية في إرادة غيره، قد لبس جلد النمر، وما هو إهابه، وإذا كانت الطائفة المستضعفة إيذاؤها بدني مادي، فهؤلاء الذين ظهروا بمظهر القوة إيذاؤهم معنوي، وهو فناء إنسانيتهم وإرادتهم وتفكيرهم، وكل مكونات

ص: 108

الإنسان الكامل، فهم ضعفاء وإن ظهروا كأنهم الأقوياء، فجنود السلطان الغاشم لا يعتبرون الأقوياء؛ لأنهم أداة طائغة، وإمعات طامعة.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى: ذكر الضعفاء تمهيدًا لبيان مظاهر الطغيان الذي يفعله الملوك مع مَن يتحكَّمون فيهم بحكم الهون والفساد، لا بحكم المصلحة والرشاد، وأنَّهم يرتكبون أقصى ما تتصوره العقول من تذبيح وتقتيل، ولذا قال تعالى:{يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} ، وإن ذلك شأن الطغيان دائمًا، يقتل نخوة الأمة بقتل شبابها، أو زجّهم في غيابات السجون من غير أمد، ومن غير حكم، كما رأينا في حكم الدكتاتورية في ألمانيا، وفي إيطاليا، وهكذا، وقد رأينا مثل ذلك في العراق.

وقد ختم الله تعالت كلماته النص السامي بالباعث على الطغيان والتحكم والاستعلاء، وتفريق الأمة، فقال:{إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِين} ، أي: إنَّ الفساد مستحكم متغلغل في أطواء نفسه، وقد بعثه على جعل الأمة متفرقة، وتحكيم طائفة من طائفة، فأغرى بينهم العداوة والبغضاء، يحسّ كل فريق منهم بأنه مظلوم، وظالمه هو الفريق الآخر، يتظالمون فيما بينهم ويتعادون؛ ليتمكَّن الظالم من ظلمهم والتحكم في رقابهم، وأن يقول لهم:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ولا ينكر أحد، ولو في قلبه؛ لأن كل فريق يتهم الآخر بأنه عين عليه، ويريد النكاية به.

وقد أكَّد سبحانه وصف الإفساد فيهم بأَنَّ وبِكَانَ الدالة على أنَّ الفساد كان في الماضي، ومستمر في الحاضر، وببيان أنه داخل في ضمن المفسدين في الأرض إخوان إبليس، وينطبق عليه قوله تعالى في شأن الظالمين الذين يمنون الناس الأماني ويكذبون ويخلفون:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204-206] .

وإن هذا الوصف الذي ساقه الله تعالى للوالي الفاسد هو وصف فرعون ومن استعلى واستكبر، وووصفه لكل طاغية من طغاة الدنيا يمنِّى الناس الأماني، حتى إنه ليصور لهم أنه سيجعل لهم الأرض نعيمًا، وخيراتها لبنًا وعسلًا، حتى إذا حكم تحكَّم، وكانت شهوته نظامًا، وهواه حكمًا، ولا بُدَّ أن يرضى الناس حكومته طوعًا أو كرهًا، ومن قال له اتق الله قطع عنقه، أو سلط عليه كلابه الذين جعلوا أنفسهم ملكًا له، يملك رقابهم، ويظنون أنفسهم الأحرار، وهم العبيد حقًّا.

67-

هذا ما تصوره الآيات في وصف فرعون وأمثاله من الطواغيت الذين يظهرون في العصور المختلفة، وإذا لم يتسموا باسم فرعون ففيهم صفاته وفعاله، وفي

ص: 109

أتباعهم أوصاف أتباعه، المستضعفون مأكولون في عهودهم، كما هم مأكولون في عهده.

وبعد تصوير الله تعالى طغيان فرعون كان من نسق البيان الرائع أن يذكر نهايته، وأنَّه إذا وصل الطغيان إلى أقصى حدِّه كانت النهاية؛ لذا ذكر سبحانه وتعالى في مقابل إرادته الإفساد، وكونه متغلغلًا في كيانه، ذكر في مقابله إرادة الله تعالى، وإرادته سبحانه فوق كل إرادة، ولو كانت طغيان فرعون، ولذا قال سبحانه في بيان إرادته:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5، 6] .

إرادة طاغية مغرورة مستكبرة، وهي إرادة الطغيان، وإرادة كريمة معطية مانحة مانعة من الشر والعبث، وهي إرادة الله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه يمُنُّ على المسضعفين، ونجد هنا تعميمًا في المنِّ، فلم يذكر سبحانه وتعالى ما يمنُّ به، بل كان التعميم، فهو سبحانه يمنُّ عليهم بالحرية بعد الاستعباد، ويمنُّ عليهم بالقوة بعد الضعف، ويمنُّ عليهم بالعزة بعد الذلة، ويمنُّ عليهم بالثمرات بعد الجدب، وهكذا تتعدد النعم التي يمنُّ بها سبحانه:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] . وكل هذه المعاني هي بعض ما تدل عليه كلمة "نمنُّ"، وخَصَّ سبحانه من بين هذه النعم التي يمنُّ بها نعمة كبيرة هي الخلاص من حكم فرعون إلى أن يكونوا أئمة، أي: ولاة لأنفسهم لا يملك أحد التحكم فيهم ولا السيطرة، فكل حر أمير في نفسه، ويجعل منهم أمراءهم وأولياء أمورهم، لا يفرض عليهم أمير لا يرضونه ولا ولي من غيرهم، وآراؤهم في حكمهم هي الغالبة، فلا يحكمهم متحكِّم، ولا يسيِّر أمورهم متغلب، فانظر كيف جمعت الكلمة كل هذه المعاني، وجاءت من بعد ذلك كلمة تدل على كمال إرادته سبحانه في هذا الوجود فقال:{وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين} ، ونجد أنه سبحانه لم يبين الموروث، وفيه إشارة إلى عموم ما آل إليهم؛ إذ إنهم سيخلفونه في جنات وعيون، وكنوز ومقام وكريم، ولكن يكون لهم هذا إذا استقاموا على طريقة الحق، ولم يخرجوا عن جدته ومنهاجه، وغير ذلك.

بعد هذا يبين سبحانه وتعالى أنَّ طغيان فرعون انتهى بالفناء، وأن يذوق عاقبة أمره، كما اغتر أصحاب الحديقة بحديقتهم المذكورة، فقال تعالت كلماته:

{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} .

ص: 110

التمكين كان بإعطاء سلطان لهم في الأرض، إذا استطاعوا القيام بحق التمكين، فإنه يحتاج إلى قوى نفسية عالية وإدراك لمعنى العزة والكرامة، ولم يمردوا على الذلة والمهانة.

ثم يبين سبحانه عاقبة الظلم، وأنه لم يدفع المحذور، فقال تعالى:

{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} .

لقد كان فرعون وحده، ووزيره وجنود معهما تابعين غير مستقلين في فكره أو إرادة فهم ما كانوا يحذرون أن يدبّر الناس ما ينتقضون به على حكمها، أو يقتلوا فرعون، فقد أراهم رب العالمين، فكان موت فرعون على ما قدره الله تعالى لموسى عليه السلام ومن معه، وهكذا كل طاغية يطغى ويستبد، ويرتكب الفجور في كل ناحية، حذر أن تخرج خارجة، وبعد أن يكون منه ما يكون من مثل ما فعل فرعون، ثم تكون من بعد كلمة الله تعالى هي العليا، ويقع المحذور في وقت لا يملك الرجوع، كما قال فرعون وقد أدركه الغرق، قال:{آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 90-92] .

68-

وبعد ذلك البيان الذي حاولنا به الوصول إلى بعض أسرار المعاني القرآنية التي تعلو ولا يعلى عليها، واليانعة الثمار الدانية القطوف في أعلاها، والثروة الخصبة المملوءة حياة في أدناها، كما قال البليغ العربي القرشي، نريد أن نشير إشارة إلى ما وصل إليه تفكيرنا في إجمال ما سبق، فنجد:

أولًا: اتساق العبارة في المقابلة بين العلوِّ المصطنع والالتصاق بالأرض، الذي يفيد مع هذا المقابلة اللفظية أنَّه سيطر على الأرض واستمكن فيها وتحكَّم حتى ساغ له أن يقول:{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51] .

ثانيًا: إنَّ التعبير باستضعاف، وأنَّ كل من يراد على الضعف ليس طبيعيًّا فطريّا، ولكنه يكن بالاستضعاف، وأنَّ كل من يراد على الضعف لا يستسلم فيستضعف، بل يقاوم ويناضل، فيموت عزيزًا أو يمنحه الله تعالى القوة، وإنَّ الرضا بالذل يؤدي إلى الموت، وطلب العزة يؤدي إلى الحياة، وكما قال خليفة رسول الله أبو بكر -رضي الله تعالى عنه:"اطلب الموت توهب لك الحياة".

وثالثًا: إنَّ الاستضعاف يؤدي إلى الموت لا محالة، ويكون الموت على نحو لا كرامة فيه، وصوره سبحانه وتعالى بقوله تعالى:{يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} ،

ص: 111

فهو موت ذليل فيه خسة الذل وقتل النخوة، أما الموت في سبيل الكرامة فهو موت عزيز كريم، ورحم الله الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده إذ يقول:"إن موتًا في سبيل الحق هو عين البقاء، وحياة في ذلك هي عين الفناء".

رابعًا: إنَّ القوة تكون للقوي بتمكين الله تعالى وبمشيئته، وذلك بأن يهيئ الأسباب ليستبدلوا بضعفهم قوة فيمنحهم الأمن، وذلك بأن يجعلهم يشعرون بأنهم سادة، وليسوا عبيدًا، وهذا يتضمَّنه التعبير بقوله تعالى:{وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّة} ، أي: يجعلهم مسيطرين على أنفسهم، كما نوَّهنا فيما ذكرنا من قوله تعالى، كما منَّ الله تعالى على بني إسرائيل إذ جعلهم مالكين لأنفسهم مسيطرين على أمورهم؛ إذ قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْم اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20] ، ومعنى جعلهم ملوكًا أنَّه سبحانه وتعالى جعلهم أحرارًا يملكون شئون أنفسهم، ويتولون أمورهم لا مسيطر يسيطر عليهم.

هذه نظرات إلى النص القرآني الكريم في بعض شأن فرعون ومآله، ومن يجري في حكم شعبه على طريقته، ويتحكم في الرقاب تحكمه، ونجد فيه جمال اللفظ، وجمال القصص، والألفاظ التي تشع منها المعاني كأنَّها الضياء المتلألئ، والماء العذب النمير الذي ينساب في النفس المؤمنة، والله سبحانه هو العلي الحكيم، وكلامه هو النور المبين الهادي إلى رب العالمين.

ص: 112

‌قوة البلاغة في الأسلوب من كلمات متآلفة:

69-

يقول الخطابي في رسالته في إعجاز القرآن في بيان البلاغة القرآنية: "اعلم أنَّ عمود هذه البلاغة التي تجمع لها هذه الصفات هو بموضع كل منوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه سقوط البلاغة؛ ذلك أنَّ في الكلام ألفاظًا متقاربة في المعاني، يحسب أكثر الناس أنَّها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب كالعلم والمعرفة، والحمد والشكر، والبخل والشح، وكالنعت والصفة، وكقولك: اقعد واجلس، وبلى ونعم، والأمر في ترتيبها بخلاف ذلك؛ لأنَّ لكل لفظة خاصة تتميز بها عن صاحبتها".

وهكذا يسترسل في بيان التفرقة بين الألفاظ، ويضرب الأمثلة في القرآن، وفي اللغة في التفرقة بين الألفاظ التي يزعم أنها تدل على معنى واحد يؤديه كل واحد منها من غير افتراق في المؤدَّى مع أنَّ المؤدى مختلف متباين.

ص: 112

وإنه يذكر أن ألفاظ القرآن مختارة تدلّ على أدق معانيها، فمثلًا ذكر عن إخوة يوسف عليه السلام أنهم قالوا: أكله الذئب، ولم يقولوا: افترسه؛ لأنهم لو قالوا افترسه لطالبهم ببعض أثره، والأكل إفناء الجسم في جسم.

وإنَّ الخطابي ليقول في بحثه القيم: "اعلم أن القرآن إنما صار معجزًا لأنه جاء بأفصح ألفاظٍ في أحسن نظوم التأليف، مضمِّنًا أصحَّ المعاني من توحيد له عزت قدرته، وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته، من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساوئها، واضعًا كل شيء منها في موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه، ولا يرى في صورة العقل أمر أليق منه".

وإذا كانت ألفاظ القرآن ومعانيه لها ذلك المكان الأسمى الذي لا يمكن أن يناهد إلى سمائه إنسان أو جن، شرقي أو غربي، فإنَّ في القرآن مع جمال الألفاظ ورونق الأسلوب، خاصة لا يصل إليها أحد في الألفاظ والأسلوب والمعاني.

وقد قسَّم الخطابي الكلام البليغ إلى أجناس ثلاثة، ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة، ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية، "فمنها: البليغ الرصين الجزل، ومنها: الفصيح القريب السهل، ومنها: الجائز الطلق السلس، وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود، دون النوع الهجين المذموم الذي لا يوجد في القرآن شيء منه ألبتة".

وإنَّ هذا الكلام لا يمكن أن يمر من غير أن نبدي عليه ملاحظة لاحظناها، أنه يفرض أنَّ الكلام البليغ يتفاوت بتفاوته في الجزالة والسلاسة والسهولة، وهذا يوهم أنَّ القرآن الكريم تتفاوت بلاغته، وهذا الزعم باطل، فالقرآن كله رتبة واحدة في البلاغة، في المنزلة التي لا يمكن أن يسمو إليها بليغ؛ لأن البلاغة أن يكون الكلام موافقًا لمقتضى الحال، فالعبارات الجزلة القوية تكون في موضع الإنذار، والعبارات السهلة غير المسترسلة تكون في التبشير، والعبارات المسترسلة في مواضع التنبيه إلى وجوب التفكير والتدبر، وكل بليغ في موضعه، ولا يختار سواه، فلا تكون عبارات الإنذار كعبارات التبشير، ولا تكون عبارات الدعوة إلى التأمل كعبارات التهديد والتخويف، هذه ملاحظة أبديناها على عبارة الخطابي، وكان حقًّا علينا أن نبديها، فلا نجعلها تمرُّ بغير تعليق.

وإنَّ الخطابي قد بيِّنَ أن القرآن الكريم قد اشتمل على الأجناس الثلاثة في عبارات قيمة حازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد كالمتضادين؛ لأن العذوبة نتاج السهولة والجزالة والمتانة في الكلام تعالجان نوعًا من الوعورة، فكان اجتماع الأمرين في نظمه

ص: 113

مع نبوغ كل واحدٍ منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن، يسَّرها الله بلطيف قدرته مع أمره؛ ليكون آية بينة ودلالة على صحَّة ما دعا إليه من أمور دينية، وإنما تعذَّر على البشر الإتيان بمثله لأسباب؛ منها: إنَّ علمهم بجميع أسماء اللغة العربية وبألفاظها التي هي ظروف المعاني والحوامل لها غير كامل، ولا تدرك أفهامهم جميع وجوه النظم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصلون باختبار الأفضل من الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله.، وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنى قائم، ورباط لهما ناظم.

وإنَّا نوافق الخطابي في أنَّ قدرة البلغاء من الناس على الإتيان بمثل القرآن من أسبابه نقص علمهم باللغة، جزلها وسهلها، وعدم علمهم بالمعاني، وأنَّى يكون علمهم بجوار علم الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علمًا.

ونقول من ناحية ثانية: إن البلغاء من الناس يختلفون جزالة وسهولة واسترسالًا، تبعًا لطبائعهم وبيئاتهم، وما يتجهون إليه، فالفرزدق كان يميل إلى اختيار الألفاظ القوية أو الحوشية، ويقتحم بذلك الوعر من القول، وقالوا: إنه كان يحاول أن ينهج نهج البدويين من الجاهلين، وجرير يتخيِّر السهل العذب من الألفاظ، وكذلك كان الأمر في شعراء الجاهلية؛ فامرؤ القيس كان يتخيِّر الوعر الجزل من الألفاظ، وهو يقيم في الصحراء العربية، ولانت ألفاظه لمَّا كرثته الكوارث، ورحل إلى أنقرة، وهكذا

فكان من البلغاء من البشر من غلبت عليهم عذوبة الألفاظ، ومنهم من غلبت عليهم جزالتها وقوتها، بل وعورتها، ويختلف الرجل الواحد باختلاف حاله، وتغير البيئات عليه.

هذا في بلاغة البشر، أمَّا القرآن فبلاغته من عند الله خالق كل شيء، القادر على كل شيء، والخالق للناس وبيئاتهم، فكان في كلامه المبين، كل أجناس القول ومناهج البيان بلا تفاوت في البلاغة القرآنية، وإن اختلفت ألوان الألفاظ وأجناسها بين جزل قوي وعذب سهل، وكلام مرسل ينساب في النفس أنسياب النمير، وكل من موضعه.

ص: 114

‌التلاؤم:

70-

يقصد بالتلاؤم في الأسلوب أن تأتلف مخارج الحروف والكلمات كما ذكرنا، والانسجام في النّغَم بينها، ويعدُّ القاضي عبد الجبار أنَّ تآخي النغم في الألفاظ والحروف من حلاوة الكلام ومحسناته، ولكنا نقول: إنَّها بالنسبة للقرآن الكريم من تأثيره في النفوس، فهو في القرآن طريق الوصول إلى القلوب، وإنَّ نظمه على ما سنبيِّن يسير هو وأسلوبه بألفاظه ومعانيه إلى القلوب ليأخذها من طبعها الأرضي ليعلوَ بها إلى الأفق السماوي.

ويذكر أبو عيسى الرماني فائدة التلاؤم فيقول: "والفائدة في التلاؤم حسن الكلام في السمع، وسهولته في اللفظ، وتقبل النفس لمعناه، لما يرد عليها من حسن الصورة، وطريق الدلالة، ومثل ذلك مثل قراءة الكتاب في أحسن ما يكون الخط والحرف، وقراءته في أقبح ما يكون من الحرف والخط، فذلك متفاوت في الصورة وإن كانت المعاني واحدة".

وإنَّ الكلام يذاق كما يذاق الطعام، فكلما كان التنسيق والتلاؤم حسن في الذوق.

وإن لغتنا العربية لغة نطق ابتداء، وصارت من بعد لغة كتابة، ولم تنفصل عنها خاصتها، فهي نطق وكتابة، ولذلك كان لمخارج الحروف أثر في فصاحة الكلام، ولا شكَّ أن مخارج الحروف مختلفة منها ما يكون في أقصى الحلق، ومنها ما هو من أدنى الفم، ومنها ما هو في الوسط بينهما، فالتلاؤم فيها بأن تكون الكلمة حروفها متقاربة المخارج، والكلمات متقاربة المخارج ليسهل النطق على اللسان، وتتقبله الأسماع.

فإذا أضيف إلى ذلك التآخي في المعاني كان التلاؤم الكامل، والأسلوب الرابع، وذلك ما جاء في القرآن.

ص: 115

3-

‌ تصريف البيان:

71-

تختلف مناهج البلغاء كُتَّابًا وشعراءً، كل يجيد منهاجًا معينًا ويمتاز فيه، ويكون من الأوساط في غيره أثر دون الأوساط، فمنهم من يجيد الوصف، ويحكي الأشياء لقارئه كأنه يراها، ومنهم من يجيد القول الوعر العنيف، ولا يكون منه السهل الميسّر، ومنهم من يجيد شعر الغزل ولا يجيد غيره، ومنهم من يجيد القول الساخر، ولا يجيد القول الجاد، كما نرى في بعض كتاب العصر، ومنهم من يجيد الكتابة في السياسة، فإذا كتب في غيرها هان وابتذل، ومنهم من يجيد الكتابة في التحليل وإثارة التأمل، وهكذا، وقلَّ من يجيد الدخول إلى الكلام البليغ في أكثر من باب أو بابين، ويكونان متآخيين غير متناقضين.

أما القرآن المعجز الذي هو فوق قدرة البشر، فإنَّ البلاغة فيه في كل أبواب القول، وهي في كل باب تعلو علوًّا كبيرًا عن المجيدين في هذا الباب وحده، ولذلك كان تصريف القول فيه من تهديد وإنذار وتبشير، وإثارة للتأمل، ودعوة للتفكير في آيات

ص: 115

الله تعالى الكونية والقرآنية، والتفكير في النفس وفي الحس، كل ذلك من دلائل الإعجاز وسره.

ولقد قال سبحانه في ذلك: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [الإسراء: 41]، أي: إنَّ التصرف لزيادة التنبيه، وكلما زاد تنبيههم بالحق وإرشادهم ازدادوا نفورًا، فزادوا كفرًا، وقال تعالى:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 98]، أي: إنَّ الله تعالى صَرَف في القرآن يضرب الأمثال وبيان الأحوال رجاء أن يؤمنوا، ولكن سبق الكفر إليهم جعلهم يأبون الإيمان بالله والخضوع له، فزادوا نفورًا عن الحقائق، كما ينفر المريض السقيم عن الدواء الناجع، والغذاء الصالح، وقال تعالى:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 45] ، ذكر الله تعالى أنَّه يصرِّف القرآن بذكر الأمثال والأحوال، ولكن الذين سبق الضلال إليهم يجادلون، والجدل في الحق الواضح المبين يطمس الحقائق ويطفئ النور، ويختفي نور الحق وسط الأقوال المتضاربة والأهواء المتنازعة.

وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113] .

وقال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 46] .

وقال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65] .

وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 105]، أي: نصرِّف الآيات ليفقهوه ويدركوا الحق إنْ كانوا غير ضالين، ولم يطمس على قلوبهم، وليقولوا درست وتعلّمت، ويكذبوا أن طمس على قلوبهم ولم يؤمنوا بالحق، كما قالوا يعلمه غيره، ورد تعالى عليهم بقوله:

{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، وقال تعالى:{كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58] .

72-

وبهذه النصوص الكريمة تبيَّنَ أنَّ القرآن كان يصرف الآيات، بمعنى أنه يتضمَّن الأمر بالتوحيد والتكليفات الشرعية التي بها صلاح المجتمع وتكوين مدينة فاضلة تحترم فيها حقوق الإنسان احترامًا كاملًا، بأوجه مختلفة من البيان، من تهديد وإنذار، إلى تبشير وتوبيخ واستنكار، ودعوة إلى التأمل في خلق الله تعالى، وفي القول ومناهج التأثير، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ص: 116

وإنَّ التصريف في القرآن الكريم على ضربين: أحدهما في المعاني، وثانيهما: في الألفاظ والأساليب، فأمَّا التصريف في المعاني فإن المؤدَّى في جملته يكون واحدًا في عدة مواضع، ولكن لها في كل مرة عبرة، وهذا تصريف في المعاني وإن كانت الألفاظ تختلف أو تتقارب أو تتحد العبارات في بعض الأحيان، ولقد قال في تصريف المعاني الرماني في رسالته إعجاز القرآن:"وهذا الضرب من التصرف فيه بيان عجيب يظهر فيه المعنى بما يكتنفه من المعاني التي تظهره وتدل عليه، وتصريف المعنى في الدلالات المختلفة قد جاء في القرآن في غير قصة، منها: قصة موسى عليه السلام في سورة الأعراف، وفي طه والشعراء؛ لوجوه من الحكمة، منها: التصرف في البلاغة من غير نقصان، ومنها: تمكين العبرة والموعظة"1.

73-

وأول تصريف في مناحي القول في القرآن يكون في السور، فمنها: الطوال التي يجد فيها القارئ أبواب العلم الإسلامي المختلفة من بيان الوحدانية، وبطلان الوثنية، وتوجيه الأنصار إلى الكون، وما فيه من دلالة على قدرة الله، والأرض وما حوت من كنوز وزروع وثمار، من اتصال الأرض بالسماء بالمطر الذي يكون غيثًا يحيي الأرض، وينبت الزرع، ويسقي كل حيّ، ومن شرائع فيها المصلحة الإنسانية وكرامة الإنسان، وتكريمه بالعقل.

وفيها القصار التي يسهل على القارئ حفظها، وأن يعيها صدره لما فيها من جمل قصار يسهل وعيها والاعتبار بهان وذكرها في صلواته، وفيها بيان الوحدانية وذكر اليوم الأخر، وفي بعضها تجد أحكامًا شرعية مثل قوله تعالى في سورة الكوثر:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ، ففيها ذكر لليوم الآخر ومقام النبي صلى الله عليه وسلم، ومقام الشانئين الذين عادوه وعادوا الحق معه، وحكم الأضحية.

واقرأ قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ، ففي هذه السورة القصيرة جماع الخصال الإنسانية التي تصلح الآحاد والجماعات، وهي الإيمان الذي يعمر القلوب ويوجه الجوارح، فلا صلاح لإنسان أو جماعة إلَّا إذا صلحت القلوب، وأثمر الإمان العمل الصالح في الآحاد، وكانت الجماعة كلها للحق تتواصى عليه وتتعاون، فما صلح قوم ضاع الحق بينهم، وتخاذلوا في نصرته، وإن السبيل إلى احتمال أعباء الحق هو الصبر، فإنَّ الصبر فيه ضبط النفس، والابتعاد عن الشهوات، وجعلها خاضعة

1 رسالة الرماني من مجموع الرسائل في إعجاز القرآن ص101.

ص: 117

للعقل، بحيث تكون أمة ذلولًا لا سيدًا مطاعًا، وما تخاذل قوم عن نصرة الحق إلَّا لأنَّ الشهوات قد استولت على نفوسهم، وصار السائد على الجماعة الهوى المطاع، والشح المتَّبَع، ولذلك نصَّ الله سبحانه وتعالى على أنَّ الجماعة الفاضلة هي التي تتواصى على الحق، فلا يذل صاحب حق ولا يعلو أهل الباطل، وتتواصى على الصبر، وضبط النفس، وقدعها عن أهوائها وشهواتها.

وفي القرآن السور المتوسطة التي ليست بالطوال ولا القصار، ومنها ما يقرب من الطوال، ومنها ما هو قريب من القصار، وهي مشتملة على جل مقاصد الشريعة الإسلامية في عبارة موجزة مثيرة، ولكن بوضوح، ومبينة ولكن بإيجاز.

وكأن الله سبحانه وتعالى بذلك التصريف في السور بين الطويل والمتوسط والقصير، وكلها في أعلى درجات البلاغة، يقدِّم مائدته الكبرى وهي القرآن للناس أجمعين، ذوى العلم الذين يتَّسع علمهم للإحاطة بالسور الطوال وما فيها من علم بالشريعة، وما فيها من علم الكون الذي لا يحيط به من دونهم، وهم أوتوا مدارك تسمو إليها، وتستخرج من كنوزها جواهر.

وأعطى الذين يشغلهم أسباب الرزق عن الإحاطة قصار السور، وفيها غناء لا قصور فيه، بل إنه كمال في كمال.

وبين هؤلاء وأولئك الذين يطلبون السور المتوسطة طولًا، وهم الشادون في العلم الذين لهم من وقتهم ما يمكنهم أكثر ممن كانت لهم قصار السور.

وقد يقول قائل: هل تقسيم القرآن إلى سور قصار وما بينها تنزيل من الله تعالى؟ ونقول في الجواب عن ذلك: إنَّ ترتيب السور بوحيٍ من الله تعالى وقد بيَّنَّا ذلك فيما أسلفنا من قول في جمع القرآن.

ص: 118

‌التكرار في القرآن:

74-

كانت السور منها القصار ومنها الطوال، وإنَّ الجميع بترتيب من الوحي الإلهي، ولم يكن من عمل النبي صلى الله عليه وسلم من غير وحي، بل هو من توقيف الله تعالى ووحيه، وإنَّ وضع الآيات بعضها بجوار بعض من وحي الله تعالى؛ إذ كانت الآية إذا نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضعها في مكانها من السورة التي يعينها بالوحي النازل عليه، والذي كان لا يني عن الاتصال به فيما يتعلق بالقرآن الكريم. وإن ذلك من الإعجاز؛ إذ إنَّ الآيتين المتلاصقتين مع أنهما قد تكونان نزلتا في زمنين متباعدين، نجد أن كل واحدة لقف للأخرى، هما صنوان متلازمتان متآخيتان، وذلك من سرِّ الإعجاز ودلائله؛ إذ إنَّ التناسق البياني بينهما متصل، والمعاني متلاقية، وكل واحدة منها تتم الأخرى في الموضوع في أحيان كثيرة، وفي التوجيه النفسي والتوالد المعنوي بينهما؛ بحيث لا يتصور القارئ للقرآن الكريم، أو المستمع لترتيله والمدرك لنغمه؛ لا يحسب أن بينهما فارقًا زمنيًّا في النزول.

وبجوار طول السور وقصرها، مع الإعجاز في كلها، قد نجد في القرآن تكرارًا، وهو من تصريف البيان، لا من الإطناب المجرَّد، إنما هو لمقاصد ولتوجيه النظر، ومناسبة المقام، ولقد لاحظ ذلك الأقدمون الذين تكلموا في سر الإعجاز، وقد قال في ذلك الجاحظ في كتابه الحيوان:

"ورأينا الله تبارك وتعالى إذا خاطب العرب والأعراب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي والحذف، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعله مبسوطًا وزاد في الكلام".

وإنَّا نقدِّر كلام الجاحظ حق قدره، وإن ذلك واضح في كثير من آي القرآن، وإن الأعراب الذين يعتمدون على ذاكرتهم؛ لأنهم أميون يناسبهم الكلام الموجز، وأحيانًا يغني فيهم لمح القول ولحنه وإشارته، ولكن نلاحظ ثلاثة أمور:

أولها: إنه قال: وزاد في الكلام، وإنَّا لا نحسب أنَّ هذه الكلمة تتفق مع بلاغة القرآن ولا مقامه، فليس في القرآن زائد، وإن أطنب في القول؛ لأن الزيادة تتسم بالحشو، ومحال ذلك في أبلغ القول الذي نزل من عند الله تعالى، ولعله أراد معنى البسط والإطناب لا أصل الزيادة، ولا يمكن أن يكون قد أراد الحشو، ولكن مع كل نقول: هذه العبارة ليست سائغة.

الثاني: إنَّ الآيات المكية وقد كان الخطاب لعبدة الأوثان، فإنَّا نجد فيها بسطًا في القول، وخصوصًا في الاستدلال من الكون على أنَّ الله سبحانه وتعالى خالقه، وفي الاستدلال بعجزهم، والالتجاء إليه سبحانه.

اقرأ قوله تعالى: {أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 60-64] .

ص: 119

وإن هذا الكلام الكريم لا يمكن أن يكون خطابًا لليهود وحدهم، وإنما هو خطاب للعرب، ولم يكن باللمح والإشارة، بل كان بالتصريح والعبارة، فلم يكن بالإيجاز، وإن كان الإيجاز القرآني من نوع الإعجاز، بل كان بالإطناب المتَّسِق المبين، وكان فيه بعض التكرار في موضعه؛ لأنه التوجيه إلى النظر فيما تحت أيدهم هو في ذاته مقدمة لنتيجة هي الوحدانية للمعبود، ما دامت وحدانية الخالق قد ثبتت بهذا الكلام، فكان لا بُدَّ أن تذكر النتيجة أمام كل مقدمة؛ لأنها وحدها دليل، ولو لم تذكر النتيجة أمام كل مقدمة لكانت النتيجة ثمرة لمجموعها، مع أنَّ كل واحدة منها صالحة لِأّنْ تكون الوحدانية نتيجة لها، دون أن تنضمَّ معها غيرها.

الملاحظة الثالثة: وهي مبنية على الملاحظة السابقة، أنَّ الإيجاز والإطناب يكون لكل موضعه ومقامه، فلكلِّ مقام مقتضاه الذي توجه أحوال البيان المعجز.

وقد لاحظنا أنَّ مقام الاستدلال على الوحدانية من المواضع التي يحسن فيها الإطناب، وكلام الله تعالى اتجه إلى ذلك كما رأينا في الآية السابقة، وكما نرى في سورة الرحمن، فإنها تذكير بنعم الله تعالى، وكل نعمة كفروا؛ إذ استعملوها في غير موضعها، وفي أمر الله تعالى ونهيه، وإذا كان جزاء النعم كفرًا بالمنعم، وإشراك غيره معه في العبادة، فقد قال تعالى في سورة الرحمن:{الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ، وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ، وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ، فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ، وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ، فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ، فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلى آخر السورة الكريمة.

وهكذا نجد بعد كل نص سام تتبين فيه نعمة لخالق بديع السماوات والأرض يكون تذكير بنعم الله، ووجوب شكرها بالطاعة وتجنب المعصية، والإقرار بوحدانية المعبود، وألَّا يعبدوا غيره سبحانه وتعالى، وفي ذلك إشارة إلى أن كل نعمة من هذه النعم، وبينة من هذه البينات توجب وحدها الشكر، وتوجب الإقرار بوحدانية الله سبحانه وتعالى.

ص: 120

‌قصص القرآن من الناحية البيانية:

75-

ومن المواضع التي يحسن فيها الإطناب بل التكرار أحيانًا قصص القرآن، ولا نذكره هنا من ناحية أنَّه من وجوه الإعجاز في ذاته، فلذلك موضع خاص من القول، إنما نذكره من ناحية التكرار فيه، وموضع ذلك من سرِّ الإعجاز وبلاغة القرآن التي لا تساميها بلاغة في الوجود، وإنَّ ذلك التكرار من تصريف القول الذي هو وجه من وجوه البيان القرآني الذي قصد إليه الكتاب العزيز.

لقد تكرَّرت قصص الأنبياء، فذكرت قصة نوح عدة مرات بالإطناب أحيانًا، والإيجاز أحيانًا، وذكرت عيسى عدة مرات، وذكرت قصة إبراهيم عدة مرات، وذكرت قصة موسى عدة مرات، وإنه يبدو بادي الرأي أنَّ ذلك من مكرور العقول، وفيه التكرار، فما وجه البلاغة في هذا التكرار؟

إننا إذا نظرنا نظرة فاحصة تليق بمقام القرآن ومكانته في البيان العربي، نجد أن التكرار فيه له مغزى؛ ذلك أنَّ القرآن ليس بكتاب قصص، وليس كالروايات القصصية التي تذكر الحوادث المتخيلة أو الواقعة.

إنما قصص القرآن وهو قصص لأمور واقعة يساق للعبر وإعطاء المثلات، وبيان مكان الضالين ومنزلة المهتدين، وعاقبة الضلال وعاقبة الهداية، وبيان ما يقاوم به النبيون، ووراءهم كل الدعاة للحق، فهو قصص للعبرة بين الواقعات، لا لمجرد المتعة من الاستماع والقراءة، ولذلك قال الله تعالى في آخر قصة نبي الله يوسف عليه السلام:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] .

ولكي يتبين للقارئ الكريم أنَّ التكرار بتسبب تعدد العبر التي هي المقصد الأول من القصص، نذكر قصة إبراهيم وقصة موسى -عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، فإنهما ذكرتا كثيرًا في القرآن الكريم.

قصة إبراهيم:

76-

ذكرت قصة إبراهيم في القرآن عدة مرات؛ لتعدُّد العبر فيها، وإنَّ إبراهيم كان أبا العرب، فقصصه له مقامه عند العرب، ونذكر من قصة بعضه لا كله، فإنه ليس هذا مقام ذكره في القرآن.

أ- أول ما نذكر من قصة إبراهيم هو ما يربطه بالعرب، وما كان شرف العرب به بناء الكعبة، فقد ذكر هذا البناء الذي قام به، وعاونه فيه ابنه إسماعيل -عليهما الصلاة والسلام، وبإبراهيم وإسماعيل تشرَّف العرب بأنهم سلالتهما، وبالبيت الحرام اعتزوا، وعلوا في العرب؛ إذ كان مثابة للناس وأمنًا، وقد قال تعالى في هذا البناء الذي قام بأمر رباني:

ص: 121

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 124-128] .

ثم بَيِّنَ سبحانه وتعالى من عد ذلك بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان استجابة لدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبذلك تتبين الصلة بين الإسلام ودعوة إبراهيم، فإذا كان العرب يفتخرون بإبراهيم عليه السلام، فهذه دعوته قد استجيبت في محمد صلى الله عليه وسلم.

ب- نجد بعد هذه القصة قصة النفس البشرية في نبيّ الفطرة إبراهيم عليه السلام؛ إذ النفوس ولو كانت مؤمنة تتمتع بكثرة الدليل؛ لتزداد إيمانًا، وإن كان أصل الإيمان قائمًا، فزيادة البينات تزيد المؤمن إيمانًا، وتزيد الجاحد كفرًا وعنادًا.

واقرأ قصة طلبه زيادة الإيمان: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] .

ومن قبل ذلك في الذكر كانت قصته مع الملك عندما ناقشه في إثبات وجود الله وكيف استطاع إبراهيم عليه السلام أن يفحمه؛ إذ هو لا يؤمن إلَّا بالمحسوس؛ إذ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] .

وترى في قصة إبراهيم والطير أنَّه صوَّر النفس الإنسانية، ولو كانت نفس نبي مؤمن يدعو إلى تكشّف المجهول، وتعرُّف المستور، والمؤمنون يهديهم الله تعالى، ومن لا يريدون الهداية يتركون في غيهم يعمهون.

وفي قصة إبراهيم مع الملك نجد إبراهيم الأريب يأخذ بالطريق الذي يحسم الخلاف دون الطريق الذي يحدث لجاجة من غير إفحام؛ إذ الملك فهم أن القتل إماتة

ص: 122

وتركه إحياء، فلم يسترسل رسول الله الفطن الأريب في تعريف للموت والحياة، بل عمد إلى ما يفحمه حسيًّا، فبهت الذي كفر، والله لا يهدي القوم الظالمين.

ومن هذا نرى أنَّه ليس ثمَّة تكرار في المعاني والعبر والعظات، وإن كان الموضوع في الأحوال الثلاث يتعلق بإبراهيم عليه السلام.

ج- ولننتقل إلى قصة أخرى موضعها يتعلق أيضًا بإبراهيم عليه السلام، وهو تدرُّج النفس الإنسانية في الاتجاه إلى طلب الحقيقة الإلهية، والإيمان بالوحدانية. كيف ابتدأ إبراهيم عليه السلام تأمله في الكون؛ ليتعرَّف من الوجود سر الوجود، وعظمة الخالق، فأوَّل ما استرعاه نجم ساطع تألَّق فحسبه ربه، ولكنَّ الرب موجود دائمًا، فلمَّا غاب نفر مما زعم، ثم رأى القمر فحسبه كذلك، ثم رأى الشمس، وهكذا حتى هدي إلى أن سرَّ الوجود يجب أن يكون غير هذا كله، فاتجه إلى الله، وإليك القصة كما ذكرها القرآن، وكما وقعت، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَاَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْم إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 74-80] .

ونرى من القصة أنَّها مغايرة تمام المغايرة لما سبق، وإنْ كانت غير معارضة لها، بل هي متمِّمة، ولا تكرار في القصص، إنما الموضوع وهو إبراهيم عليه السلام هو المتكرر، ونرى أنه ابتدأ بنفي عبادة الأصنام على أساس أنَّ البديهة تدعو إلى ذلك، وأنَّ ضلال العقل هو الذي يؤدي إلى عبادتها، ثم أخذ يبين أنَّ طريق اليقين يبتدئ بالشك في صدق ما تضل فيه الأفهام، فأخذ يعرض على عقله ما يتصور أن يكون فيه نفع، فاتَّجَه إلى الكوكب الساري، ثم إلى القمر المنير، ثم إلى الشمس السراج، فوجد أنَّ كل ذلك يأفل، ويجري عليه تغيُّر، فاتَّجَه إلى خالق ذلك كله، ولذلك يقول بعض العلماء، ومنهم ابن حزم الظاهري: إن إدراك الله ضروري إذا استقامت الفطرة، ولم تركس في ضلال الأوهام.

د- انتقل سيدنا الخليل من الاهتداء إلى الله تعالى إلى عمل إيجابي نحو الأصنام، دفعه الشباب ونور الله إلى أن يحطِّمها، وهذا يجيء في قصص القرآن الكريم، فيذكر سبحانه أنَّه عقب أن نال إبراهيم رشده، وهو في حياطة الله، تقدَّم

ص: 123

ليثبت ضلال عبادتها، وأنَّها لا تضر ولا تنفع، فحطَّمَها، ويقول سبحانه وتعالى في ذلك:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ، قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ، قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ، قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ، قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ، فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ، قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرّكُمْ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} "صدق الله العظيم".

[الأنبياء: 51-70] .

هذه قصة من قصص إبراهيم عليه السلام ذكرها القرآن الكريم في موضع غير المواضع السابقة، ولا نرى تكرارًا فيها، وإذا كان قد ذكر في قصة تتبع الكواكب والقمر والشمس الحكم على أبيه وقومه بالضلال، فقد ذكر ذلك مجملًا في الأول، أما هنا فقد ذكر المناقشة التي جرت بينهم في ذلك، ثم ذكر تدبيره في حطم الأصنام، وإثبات عجز الأصنام بالدليل القاطع، ثم نجاته من النار، فكان بهذا مثبتًا بالعمل أنهم لا ينفعون ولا يضرون، ولما سألوه عمَّا فعل بالأصنام قال متهكمًا:{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} ، فأنطقهم بضلالهم؛ إذ نكسوا ثم قالوا:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} ، وقد أثبت الواقع أيضًا أنَّ الله وحده هو الذي يضر وينفع؛ إذ جعل سبحانه وتعالى النار {بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} .

وهنا لا نجد تكرارًا مطلقًا، وإن الموضوع واحد، فهذه قصة إبراهيم، ولكن فرقت في أبواب شتَّى؛ لأن النسق القرآني المعجز اقتضى ذلكح إذ يكون كل جزء مكونًا لقصة ذات عبرة مستقلة في ذاتها، فهي قصة واحدة الموضوع، في قصص متعددة العبر.

ص: 124

هـ- ولندخل إلى جزء آخر من قصة إبراهيم، ونراه مستقلًّا غير مكرَّر، وهو صلة إبراهيم بأبيه، وكيف كان حريصًا عليه مع رفق الدعوة وإحسان البنوة، وطرق الهداية الرشيدة، يقول الله تعالى حكاية عن إبراهيم بعد أن صار صدِّيقًا نبيًّا:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا، يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا، قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا، قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 41-47] .

وهنا نجد رفق الدعوة التي تفيض بحنان البنوة في عباراتها، وفي نغماتها الهادئة، وفي معانيها العاطفة، ولا يمكن أن يوجد في أيِّ لغة في أيِّ كلام عبارات برفق الدعوة والعطف والرعاية بمثل هذه العبارات؛ لأنها كلام العليم الحكيم العزيز الكريم.

وبمقدار ما في عبارات الابن من رفقٍ واسترضاءٍ واستعطاف كانت عبارات الأب كما صوَّرها القرآن جفوة، وكأنَّها الجنادل تصك الآذان، ولم يمنع ذلك الابن العطوف من أن يعد أباه بأن يستغفر له ربه؛ لأنه له مكانة عند الله تعالى:{إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} .

ولكن الله تعالى يخبره بأنه ليس له أن يستغفر لأبيه؛ لأن كل امرئ بما كسب رهين، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وكل إنسان وما قدَّمت يداه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وقد نهى الله تعالى عن الاستغفار للمشركين، وعفا عن إبراهيم إذ استغفر لأبيه، ولكنه أمره بالبراءة منه فتبرأ، وقال تعالى في ذلك:

{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ، وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 113، 114] .

هذه قصة إبراهيم عليه السلام، قبضنا منها قبضة؛ لكيلا يتوهَّم القارئ للقرآن، أو المستمع لتلاوته أنَّ فيها معاني مكررة وألفاظًا مرردة، ومنها يتبين أنه لا تكرار قط فيها، ولكن حكمة العليم الخبير تعالت كلماته اقتضت ذكرها متفرقة الأجزاء في مواضع؛ لتكون كل عبرة بجوار خبرها في القصة، ولو اجتمعت في مكان واحد لاختلطت العبرة بالقصة الخبرية، وما تميزت كل عبرة تميزًا يجعلها كونًا مستقلًّا مقصودًا بالذات، وبقية الأجزاء التي لم نرطّب قمنا بذكرها لا تكرار فيها، بل كل

واحدة لها عبرتها.

ص: 125

قصة موسى عليه السلام:

77-

قصة سيدنا موسى ذكرت في القرآن الكريم كثيرًا؛ لأنه هو الذي نزلت عليه التوراة، وفيها المبادئ المقررة في الشرائع السماوية، وكثير من أحكام المعاملات فيها لم ينسخ، بل جلها صدَّق عليه القرآن الكريم كما وصفه الله تعالى؛ إذ قال سبحانه:{وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [آل عمران: 50] ؛ ولأنها تبيِّن أحوال اليهود؛ ولأنَّ فيها أوصافهم الحقيقية من الشكِّ والتردد في الحق وخذلانه، وما وسموا به من خنوع وخضوع، إلى آخر ما ذكره القرآن عنهم، وكل ذكر لهم يجيء معه ذكر لنبي من الأنبياء، ففيهم تجارب الإنسانية الفاسدة، وحالهم في هذه الأيام هي امتداد لما ذكره القرآن من أوصافهم.

وإن المتتبع لقصة سيدنا موسى في القرآن يجدها متعددة العبر، في جهاده وفي قومه، وفيما لقيه وهو من أولي العزم من الرسل الذين جاهدوا في الله حق جهاده، ففي كل واقعة من وقائع حياته عبرة، ولا تكرار بالقدر الذي يتوهَّمه التالي للقرآن أو المستمع لتلاوته، ولنقبس قبسات من ميلاده إلى جلاده مع فرعون الطاغية الذي كان من أغنى ملوك العالمين، وأشدّهم طغيانًا، ولسنا نحصي كل المواضع، بل نذكر ما يتوهم فيه التكرار من قصد لجديد.

أ- أول ما نتجه إليه هو ميلاده؛ وما أحيط به من خوارق العادات، فقد قال تعالى في سورة القصص:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ، وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ، فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 7-13] .

وفي هذه القصة نجد عِدَّة خوارق للعادات اقترنت بنبيّ الله موسى عليه السلام في نشأته، فقد وُلِدَ فخافت عليه أمه؛ إذ إنَّ فرعون اللعين الذي يعدّ أستاذًا لكل طاغة في الأرض كان يرهق بني إسرائيل، يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم؛ لكيلا تكون منهم في القبائل قوة تناوئ حكمه، وترد طغيانه، ولكنَّ الله تعالى ألهم نفس أمه الصافية أن تصنع له تابوتًا، وتلقي فيه فلذة كبدها، وتدفعه إلى البحر، فكان الوحي

ص: 126

أو الإلهام صادقًا كل الصدق، مصدِّقًا كلَّ التصديق، فالتقطه آل فرعون ليكون المصير والمآل أن ينجو، وأن تكون رسالته عدوًّا للشرك، وحزنًا على آل فرعون؛ إذ إنه سيقاوم فرعون ويقتلعه من أرض مصر، وقد وهب امرأة فرعون الرحمة لهذا المُلْقَى في اليم، وقد ألهم الله أمّ موسى أن تتقصَّاه حتى تعرف أنه آل أمره إلى بيت فرعون، ويجيء الأمر الثالث الخارق للعادة، فيمتنع الرضيع عن المراضع بأمر الله التكويني، وتعرف أخته التي تقصَّت أخباره، فتدلهم -وهي المترقبة المترصدة- على من يكفله، تدلهم على أمه، وبذلك يرده الله تعالى إليها كما وعد، وهو أصدق الواعدين، وقد اقترنت هذه الخوارق بنشأة موسى، كما تقترن الخوارق بنشأة كل رسول من رب العالمين، وقد رأيناها من بعد مقترنة بولادة محمد خاتم الأنبياء، وآخر لبنة في صرح النبوة، مما هو مذكور في السيرة النبوية المعطَّرة، وإنَّ سورة القصص يرى التالي لها المتتبع للقصة أنها ذكرت بالإجمال ولادته ونشأته في بيت فرعون إلى أن أرسله الله رسولًا نبيًّا، ولاقى فرعون في عزمة المؤيد من الله تعالى، وفيها ختام حياة فرعون، وما انتهى إليه من غرق في اليمّ.

ابتدأت بعد نشأته ببيان أنَّه فهم طغيان فرعون، وظلمه لبني مصر عامة، وتخصيصه بني إسرائيل بظلم خاص، فيقول الله سبحانه:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 14-17] .

أدرك موسى بنفاذ بصيرته القدرة على الحكم على الأمور والعلم بمداخلها، فأعطاه الله تعالى حكمة وعلمًا، وخرج من سجن القصر إلى حيث الشعب، يتحسّس الأمور، ويتعرَّف مقتضياتها وغايتها ومآلاتها، فدخل المدينة في وقت لا يعلم أهلها أنه من قصر فرعون، ورأى الإسرائيلي الذي يدل ظاهر الحال على أنه من المظلومين، يقتتل مع المصري الذي يدل ظاهر الحال على أنه من الظالمين، فاستنصر به الذي من شيعته على الذي من عدوه، وقتله ولكنه ندم؛ إذ قتل قبل أن يتبيِّن، وتاب إلى الله، واعتزم على ألَّا يعود لمثلها.

ولكن تتكرَّر المأساة، وتعاوده رغبته في الانتصار لمن هو من شيعته، فينبهه الآخر إلى أنَّه لا يصح أن يكون جبَّارًا في الأرض؛ إذ جاء من شيعته من يستنصر به على مصري آخر فيعرفه المصري فينبهه.

ص: 127

عندئذ يحس الطبيب الأمين الذي أراد الله تعالى له أن يكون من المصطفين الأخيار، بأنَّه صار في خطر أن يبطش به فرعون وأعوانه، وقد جاء النذير بذلك:{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 20، 21] .

خرج من المدائن إلى حيث الأمن والاستقرار، خرج إلى الصحراء؛ حيث السماء الصافية، والنور المشرق، فتوجه تلقاء مدين، وارتبط حاله بشعيب كبير مدين، وخاطبه الله تعالى من وراء الشجرة، وقد آنس نارًا ذهب ليصطلي هو وأهله بها، فهداه الله تعالى، وبعثه إلى فرعون وقومه ليلقى الطاغي الول في العالم، وأُعْطِي المعجزة الأولى، وكانت لأنَّ الله تعالى يخاطبه، وقد قال الله تعالى لما أتى إلى جذوة النار:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ، اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ، وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ، وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ، فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص: 30-40] .

إلى هنا بَيِّنَ القرآن حياة الكليم عليه السلام، من وقت أن نشأ رضيعًا، وكيف كلأته عناية الله تعالى وهو يتدرَّج حتى صار شابًّا سويًّا قادرًا، ورأى الظلم عيانًا، وصقلته الحاجة الشديدة حتى صاح ضارعًا إلى ربه {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ، فصار من تربَّى في تَرَف فرعون في حاجة إلى عيش الكفاف، ووجده في أن يكون أجيرًا لشعيب بمهر إحدى ابنتيه، فالتقى فيه ترف النعمة ابتداء حتى زهد فيه، لما تأشب حياته فيه من إحساس مرير بالظلم، فأقبل على الشعب يعيش في وسطه عيشًا مريرًا، ولكنه هنئ، وحياة لأغبة، ولكنها في راحة الضمير والوجدان.

ص: 128

عندئذ بدت أرهاص النبوة، ثم كانت الرسالة، وشعر بشدة التكليف؛ لأنَّه سيكون في مواجهة فرعون الذي قتل من قومه نفسًا، والتقى فرعون بطغوائه وجهله، فحسب أنَّ الله في السماء الدنيا، وأراد ان يتخذ الأسباب للارتفاع إليه، ومع جهله بالحقائق الإلهية استكبر هو وجنده، فكأنَّ الجند في جانبه، والشعب ليس في جانبه، أو هو مغلوب على أمره لا يحرك ساكنًا حيث يجب أن يتحرك، ولا يدفع ظلمًا يجب أن يدفع، ثم نزل العقاب بفرعون وجنده، فألقوا في البحر. هذه قصة موسى رضيعًا فشابًّا قويًّا، فأجيرًا فتيًّا، فمبعوثًا نبيًّا، فمجاهدًا مجالدًا، حتى أدال الله تعالى من الطاغي المتغطرس.

78-

جاء بعد هذا الإجمال تفصيل لما ذكر بالإجمال من الوقائع، وكان في التفصيل ذكر للنعم التي أنعم الله بها على موسى.

وأوَّل تفصيل كان في ذكر التأهب للقاء فرعون، فقد توقَّع أنه سيلقى عنتًا، وما ذكر من بعض التكرار؛ فلأنه لا بُدَّ منه ليقوى موسى على اللقاء، وليذكر بالنعم التي أنفذته سابقًا؛ ليعلم أنَّ الله تعالى معه ومؤيده ومنقذه، ذكَّره بنعمه عليه رضيعًا ثم كيف ابتدأ التكليف، ثم كيف استعان بأخيه، ثم كيف استعدَّ للقاء الرهيب؛ إذ قال:{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا، إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا، قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى، وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه: 25-37] ، ثم ذكَّره بعظم مِنَنِه السابقة؛ ليتأكَّد أن الله تعالى مؤيده بنصره، وليعلم أنَّه مهما يكن أمر فرعون فإن الله تعالى لن يمكنه منهما.

ثم جاء التكليف بالرسالة ومخاطبة فرعون نتيجة للآات التي ذكرها أولًا، ثم ذكرها ثانيًا؛ ليربط التكليف بها، وهذا نص التكيف الخطير:{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى، قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 43-47] .

وفي هذا النص دعاهم إلى التقدُّم برقيق القول إرشادًا لسبيل الدعوة؛ إذ هي تكون بالتي هي أحسن ليلين الطاغي وليسكن الناقر، وقد أبديا لله سبحانه الخوف من أن يطغى، فوعدهما سبحانه بأنه سيكون معهما، وقد سبق القول بسابغ نعمه وصادق وعده، وكان لا بُدَّ من ذكر ذلك عند دعوتهما إلى ذلك الإقدام الخطير.

ص: 129

وقد كانت إجابة فرعون أن سألهما عن ربهما، فأجابا قائلًا أحدهما ومصدقًا من الآخر:{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى، قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى، كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} [طه: 50-54] .

وأخذا يذكران أسباب الهداية مبينين حقائق الوجود كله، ولما تقدَّم موسى له بالعصا التي قُلِبَت ثعبانًا مبينًا، وقال سبحانه وتعالى:{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى، فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه: 57، 58] . التقى السحرة وموسى، ووقعت المعارك بين الحق يؤيده الله، والسحر يؤيده الباطل، والله يطمئن عبده الرسول وقد رأى السحرة، فيقول له:{قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 68] .

وقد كانت نتيجة المعركة بين الحق والباطل أن خرَّ السحرة ساجدين لله، وهنا تتجلَّى الحقيقة، ويتجلَّى الفداء في سبيل الحق، والطغيان الفرعوني الذي يستكثر أن من المصريين من يذعن للحق قبل أن يأذن الطاغوت الأثيم، وينذر بالعذاب {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} .

وهنا تتجلَّى قوة الإيمان؛ لأنه إذا سكن القلب واطمأنت به النفس هان تهديد العباد ولو كان من فرعون ذي الأوتاد، {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا، وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه: 72-75] .

وينتهي هذا الجزء من قصة موسى وفرعون بأنه مقصد قائم بذاته، وهو تفصيل اللقاء بين الحق يؤيده الدليل، وبين الباطل يؤيده الطاغوت، وفيه قوة الإيمان عند المؤمن، وما جاء من ذكر لآلاء سبق بيان فيها، فلكي يتخذ من التأييد الأول والوعد به وصدق الوعد دليلًا على صدق الوعد الجديد، وقد اشتدت الشديدة.

ص: 130

‌الدعوة في أوساط الشعب:

79-

سرت الدعوة بين المصريين سريان النور في الظلمة، ومع قوة فرعون الطاغية سرت الدعوة بين الشعب، بل كان من ملأ فرعون نفسه من آمن، ودعا إلى الإيمان، وتجري المجاوبة في ربوع مصر حاضرها وريفها، وفرعون يرعد ويبرق، ولا مستمع يستمع؛ لأن الحق أبلج، فالله تعالى يقول عنه:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ، وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ، وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، يَا قَوْم لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ، وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْم إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ، وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ، وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر: 25-34] .

استمرَّت المجاوبة بين الذين آمنوا وبين فرعون، وكان فرعون ومن معه يصدون عن سبيل الله تعالى، والذين آمنوا يدعون إلى سبيل الرشاد {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْم اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ، يَا قَوْم إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} إلى قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ، تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 38-45] .

ص: 131

استمرَّت المجاوبة بين الحق والباطل في داخل الشعب المصري وبين آل فرعون والمؤمن، ولعله -والعلم لله وحده- أنَّ الذين آمنوا من آل فرعون وأهل مصر عدد قليل؛ كالذين آمنوا بمحمد من بعد قد كانوا عددًا قليلًا، ومن الضعفاء، فكان لا بُدَّ من هجرة موسى من مصر، كما هاجر محمد من مكة إلى المدينة، وكان معه الذين اتبعوه بإحسان، ونالهم ما نالهم من الأذى.

خروج بني إسرائيل وموسى من مصر:

80-

كان أتباع موسى عليه السلام من بني إسرائيل الذي جاء لاستنقاذهم وبعث للدعوة إلى الوحدانية أولًا، واستنقاذ المظلومين من الظالمين ثانيًا، فكان لا بُدَّ من الهجرة، ومن أراد أن يلحق بهم من المصريين.

لقد جاء الأمر بالهجرة وأن تكون ليلًا، كما كانت هجرة محمد عليه السلام خفية، وقد ساق سبحانه وتعالى قبل الخروج قصة الدعوة الموسوية، وما لاقته من فرعون وشيعته؛ ليتبين أنَّه لا أمل في إيمان غير الذين آمنوا من قبل، لذلك جاء الأمر بالهجرة كما جاء بعد ذلك الأمر بالهجرة لمحمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى في ذلك:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ، فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ، فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} [الشعراء: 52-64] .

انتهى أمر فرعون بهذا الإغراق، ولكنَّه لمَّا أوشك على الغرق جاء إليه الإيمان متأخرًا، فكانت المعجزة أنَّ الله أبقاه مثلًا للأخرين، وأنَّ الله سبحانه يقول مفصِّلًا مهلكه من غير تكرار، وإن ذكر المقدمات مفصّلًا، قال سبحانه:{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 90-92] .

انتهى فرعون، ونلاحظ هنا ثلاث ملاحظات:

أولاها: إنَّ فرعون كان دائمًا يذكر جنوده على أنهم الذين يوالونه في طغيانه، ويمالئونه في عدوانه، وينصرونه، والشعب لا يذكر في مقام المناصرة لفرعون.

ص: 132

وثانيتها: إنَّ الذين آمنوا من الشعب عدد لا يكون كثرة تهزّ ملك فرعون، وإذا كانوا كثرة لم يذكروا مع فرعون؛ لأنهم فريسته، فلم ينصروا بكثرتهم دعوة موسى، وكانوا كشأنهم فيم يتعلّق بملوكهم إن خالفوا الحقّ نافق منهم من ينافق، وتملّق من يتملق، والشعب وقف موقف النظارة، ولذلك كانت الهجرة؛ إذ قلَّ النصير المؤيد، وكثر العدو المناهض.

وثالثتها: إنَّ الله تعالى أجرى على يد موسى معجزات تتصل بمصر الزراعية كما ذكر في سورة الأعراف، ولقد ذكر في السورة موسى وفرعون، وذكرت هنا كما ذكرت في غيره العصا والسحرة، وكررت لأنَّها المعجزة الكبرى التي تحدَّى بها، كما كان القرآن الكريم يذكر كثيرًا في القرآن؛ لأنه المعجزة الكبرى التي جاء بها محمد -صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد اختبر الله تعالى آل فرعون بمعجزات زراعية تتعلق بالزرع والضرع، فقال تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ، فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ، وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ، فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 130-136] .

وهكذا توالت المعجزات حتى بلغت تسعًا، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا، قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا، وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا، وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء: 101-105] .

هذه قصة موسى مع فرعون ومع أهل مصر، قد ذكرنا جزءًا منها، وهي في فصول متعددة من أجزاء القرآن الكريم، ونلاحظ مع بلاغة القصص وقوة تأثيره الذي قد نتكلم عليه من بعد، أنَّه لا تكرار في جزء من القصة، فلا يكرر جزء بمعناه في آيات واحدة، بل يذكر أيضًا بمعناه في آيات أخرى، وإنَّ كل جزء من القصة في معناه وجزئياته وغاياته ومراميه إلى مقصد، بل لكل جزء معنى سيق له، لم يسق له غيره، وإذا كانت بعض العبارات أو المعاني تكررت، فإنَّ ذلك لبيان المقصد الأصلي من الجزء، فمثلًا رأينا في لقاء موسى لفرعون أنه ذكرت عبارات النعم وهو رضيع، وكيف سهَّل الله سبيل العيش الرغيد؛ ليبين له سبحانه أنَّه معه في لقاء فرعون، كما كان مع أمه في إلقائه في اليمِّ؛ ليلْقَى فرعون وهو رابط الجأش، وهكذا نجد تكرار بعض المعاني؛ لأنها ذكرت في موضعها الأول مقصودة، وذكرت في موضعها الثاني تمهيدًا لقصده، وتثبيتًا لمغزاه، فالتكرار لم يكن لمجرد التكرار، بل هو تجديد للمعاني، ليس ترديدًا، والفرق بين التجديد ومجرَّد الترديد أنَّ الترديد يكون تكرارًا لا غاية لها، أو يكون لمجرد التوكيد، أما التجديد في تكرار اللفظ فإنه يكون لغاية بعده لا تتمّ إلا به.

ص: 133

‌موسى مع بني إسرائيل:

81-

لقد قسِّمَت قصة موسى في القرآن إلى قسمين: أحدهما ما كان وهو في مصر يجاهد فرعون ويجالده، وقد أشرنا فيه إلى أنَّه لم يكن تكرارًا إلَّا لتجديد الأمر؛ إذ يكون تمهيدًا للمقصد من الجزء لا يتمّ البيان إلَّا به، أو هو مقدمة يتلوها الجزء الذي سيق له القول، وكان لقصد غير الأول.

أمَّا القسم الثاني فهو ما كان بعد الهجرة إلى الطور، وصار موسى مع بني إسرائيل، وقد خلصوا من فرعون وجنده، وفي هذا القسم تلقَّى الألواح وعُلِّمَ التوراة، ولاقى المرارة فيها من بني إسرائيل وضعفهم وتقليدهم، كما لاقى من قبل الجهاد مع فرعون.

وفي قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام يتبين ما يكون عليه قوم قد مردوا على الخنوع، وضعفت فيهم النفوس، واستمرءوا الهون من الحياة، ورضوا بالمكان الدون واستقروا فيه1.

انتقل بهم موسى عليه السلام إلى الطور، فأرسل الله لهم السلوى والمنّ طعامًا، وأظلَّ الله تعالى عليهم بالغمام حتى لا تلفحهم شمس الصحراء، ثم توالت عليهم النِّعَم، وتوالت خوارق العادات، ولقد ذكرت الآيات القرآنية في أول سورة البقرة بعض أخبارهم، فقال تعالى:

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ، وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ

1 هو تفضيل نسبي، وليس تفضيلًا ذاتيًّا؛ وذلك لأنَّ الله اختارهم بقيادة موسى لمقاومة فرعون؛ ولأنه فضَّلهم واختار بعض الأنبياء منهم، وقد عصوا فأنكروا نعمة الله فاستحقوا سخطه.

ص: 134

وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ، وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ، ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ، وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ، فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا

ص: 135

الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ، وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 47-74] صدق الله العظيم.

وفي هذه النصوص السامية المعجزة المحكمة نجد القرآن الكريم يذكر بني إسرائيل بأنَّ الله تعالى خصَّهم بنِعَم لم يعطها غيرهم، وأنَّه فضلهم في عصرهم بأن جعل منهم الذين يقاومون طاغوتًا من أعظم طواغيت الأرض، وخصَّهم بكثرة المعجزات التي تجري على أيدي نبيهم الذي هو من أولي العزم من الرسل، وأنه سبحانه جعل من ذرية يعقوب أبيهم أنبياء كثيرين ومرسلين، ومع هذه النِّعَم المتضافرة، والآيات المتكاثرة، يكفرون بالنعمة ويبطرون معيشتهم، ويتخذون تفضيل الله لهم تفضيلًا نسبيًّا في عصرهم ذريعة للكفر بالنعمة لا لشكرها، وأنَّ الله قد أخذ عليهم الميثاق ألَّا يعبدوا غيره ولا يؤمنوا إلّا به، ولكن نفوسهم التي مردت على التقليد والخنوع للقوي سوَّلت لهم أن يعبدوا العجل، كما كان يعبده المصريون، وفعلوا ذلك تقليدًا وخضوعًا للأهواء، وتركوا وراءهم ظهريًّا أوامر الله تعالى الذي أنقذهم من ظلم فرعون، الذي كان يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم. ويأمرهم الله تعالى بأن يدخلوا متطامنين خاضعين، فيحرّفون كلام الله تعالى عن مواضعه، ويمنُّ الله تعالى عليهم بخيرالطعام وأطيبه، فيأخذهم الإلف إلى ما دونه، ويستبلدون الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ لأنهم خاضعون لأهوائهم غير مستطيبين لرزق ربهم، ويرون المعجزة نهارًا، وينعمون بها؛ إذ يطلبون الماء فلا يجدونه، فيأمر الله نبيه موسى الكليم بأن يضرب الحجر بالعصا، فينبعث اثنتا عشرة عينًا، ويكون لفرقهم الأثنى عشرة مشاربهم {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60] .

ومع هذا النعم المتوالية والآيات البينات الباهرة يأمرهم الله تعالى بالطاعات، ويأخذ عليهم الميثاق بأن يرفع عليهم الطور حتى يصير كأنَّه فوقهم تأكيدًا للميثاق بالآية التي اقترنت به، ومع ذلك لا يطيعون عامدين؛ إذ يتولَّوْن معرضين عن ذلك البيان الموثق؛ لأنهم قد طبعوا على الجحود، وكانوا مضرب المثل فيه، وإذا كانت الآيات قد تضافرت بالبيان عليهم، فإنَّ الله تعالى جعل فيهم ومنهم آية بينة تدل على أن الجحود لا ينشأ عن نقص الدليل، بل يكون مع تضافر البينات، فتزيدهم الآيات كفرًا وعنادًا.

ص: 136

وإنَّ الله تعالى يأمرهم بيوم السبت لكي يكون لهم راحة واستجمامًا، وأن يبتعدوا فيه عن المادَّة ويعكفوا على أنفسهم يهذّبونها ويفطمونها عن دواعي المادة، فيذهب شرّهم المادي ورغبتهم في طلب المادة إلى أن يعملوا فيه شرهًا وطعمًا، فيمسخ الله تعالى نفوسهم قردة تنزو مثلها، وخنازير تطلب الخسائس طلبها.

"إنَّ الله تعالى يختبرهم في إيمانهم بأن يذبحوا بقرة، ولكنَّهم تأثرًا بالمصريين وما كانوا عليه من عبادة العجل، يتردَّدون في ذبح البقرة، فيجادلون في ذبحها متجاهلين أمرها،، ولو أتوا إلى أيّ بقرة فذبحوها لكان في ذلك الاستجابة الكاملة، ولكنهم يثيرون الريب حول الطلب، سألوا عن حقيقتها، وعن كونها صغيرة أو كبيرة، فأجيبوا، ثم سألوا عن لونها فأجيبوا، ثم سألوا عن كونها متخذة معلوفة للنماء والتوالد، أم هي ذلول عاملة، فذبحوها وما كادوا يفعلون تقليدًا للمصريين وتأثرًا فأفكارهم، وأوهامهم في دينهم".

هذه قصة بني إسرائيل في تلقيهم لأوامر الله تعالى، وما جاء القرآن خاصًّا بهم في عهد موسى عليه الصلاة والسلام فهو لمقاصد أخرى من أجزاء القصة كما ذكرنا في قصة موسى ذاته.

ص: 137

‌بنو إسرائيل والأرض المقدسة:

82-

لم يكن بنو إسرائيل في عهد موسى إلّا قومًا أذلَّهم الخضوع وضربت عليهم الذلة، وأمرضتهم الطاعة الذليلة التي كانت رقًّا أو ما يشبهه، وقد بدا ضعف نفوسهم في عهد موسى، فقد أراد أن يدخل بهم الأرض المقدسة، فضعفوا ووهنوا وتلمَّسوا لأنفهسم المعاذير، وما هي إلَّا معاذير المستكين المؤثر للاستكانة، والرضا من الحياة بأدناها.

طلب منهم موسى أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم أن يدخلوها، ولنسمع إلى كتاب الله تعالى يحكي حالهم من الجبن والخنوع والذل.

قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْم اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، يَا قَوْم ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ، قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي

ص: 137

وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 20-26] .

هذا نص القرآن الكريم في قصة جُبن اليهود وتخاذلهم على أن يدخلوا الأرض المقدَّسة التي كتب الله سبحانه وتعالى عليهم أن يدخلوها، ويجب أن ننبه هنا أن المراد أنَّ الله تعالى كتب عليهم أن يدخلوها، لا أنه كتبها لهم ملكًا دائمًا مستمرًّا باقيًا يطلبون بحقه، وأنَّ ذلك هو مفهوم الكتابة، ويستفاد من النص الكريم ذلك أنَّ النص الكريم ليس فيه أنه كتبها لهم، بل كتب فقط عليهم أن يدخلوها؛ إذ يقول سبحانه عن طلب موسى منهم الدخول:{يَا قَوْم ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ، فالكتابة التي فرضها الله تعالى هي الدخول وهو واجب وليس بحق، فلم يكتب لهم أرضًا، بل فرض عليهم أمرًا، بدليل عودة الضمير على الدخول المكتوب لا على الأرض.

وإن منطق الحوادث يوجب عليهم أن يدخلوها؛ ليقيموا فيها شعائر الموسوية؛ إذ إنهم خرجوا من مصر لعدم صلاحيتها لِأَنْ تقوم فيها شرائع موسى، كما لم تصلح مكة لِأَنْ تكون موطن الشرع الإسلامي إلّا عبد تحطيم الأوثان، وأن يمنع المشركون من دخولها؛ لأنهم نجس لا يدخلون المسجد الحرام بعد عامهم.

وإن دخولهم فيها كان لأجل إقامة التوراة فيها، وجعلها الحكم الذي لا ترد حكومته، وما كانت لذواتهم، فلم تكن لأنهم بنو إسرائيل، بحيث يكون الاستحقاق ذاتيًّا، أو ميراثًا يرثه الأخلاف عن الأسلاف، وقد انتهى عهد موسى، وانتهى شرعه، وحالت أحوالهم وتغيَّرت أمورهم، وليست الأرض ميراثًا يؤخذ، إنما الأمر هو الدخول لإقامة الشريعة الموسوية، وقد نُسِخَت بشريعة محمد، فصارت الخلافة النبوية إلى محمد خاتم النبيين، فقومه الذين يقيمون شرع الله هم أهلها، والذين يجب عليهم أن يدخلوها آمنين مطمئنين، فليست أرض الله ميراثًا يورَث للذوات، إنَّمَا هي مقام الشرع الناسخ لا المنسوخ.

ويلاحظ من بعد ذلك أمور ثلاثة قد أشارت إليها الآيات الكريمات:

أولها: إنَّ الاسترخاء والضعف النفسي قد أصابهم بسبب ترفهم أولًا، واستضعافهم ثانيًا، وطغيان فرعون في حكمهم ثالثًا، وبأنَّهم حرموا حب الفداء، وإذا حرم قوم حب الفداء هانت عليهم أنفسهم ورزقوا الوهن، وكذلك بنو إسرائيل، فقد خافوا من غير مخوف، وماتت فيهم النخوة، كما تدل الآيات الكريمات.

ص: 138

وثانيها: إنَّ ضعفهم أفقدهم قوة الإيمان، والشك في حكم الديَّان، حتى إنهم ليقولون لموسى عليه السلام: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. وذلك تهكُّم يدل على وَهَن إيمانهم، كما وهنت نفوسهم.

وثالثها: إنَّ الأمم لا تتربَّى إلَّا بتعوّد خشونة العيش، كما تعوَّدت نعومته، وأن تذوق جشبه كما ذاقت حلاوته، ولذلك بَيِّنَ الله سبحانه وتعالى أنه لا يمكن أن يدخلوا الأرض المقدَّسة التي كتب الله تعالى عليهم أن يدخلوها، فقال سبحانه:{فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} .

وهذا كما يبدو من الآية تحريم كوني، أي: إنَّه لا يمكن أن يستطيعوا الدخول إلى الأرض المقدسة مقاتلين مجاهدين إلَّا بعد أن يذهب عنهم ذل الوهن، ويأتي جيل جديد قد ذاق طعم الشدة، وعلم الحياة نضالًا، ولم يعلمها استكانة وضعفًا، والتقدير بالأربعين لا أحسب أنه يقصد به العدد، ولكن يقصد به الكثرة التي تنشئ جيلًا تربَّى في شظف العيش وصلابة الحياة وقسوتها.

ولقد أخذ هذه الحقيقة القرآنية ابن خلدون، وجعل أساس قوة الأمم شدة الحياة وصلابتها، فإنها إذا استرخت أدال الله منها بقوم أولي بأس شديد تربَّوا في البداوة، وذاقوا بأسها.

ص: 139

2-

‌ قصص القرآن لون من تصريف بيانه:

83-

ذكرنا أنَّ البيان القرآني فيه تصريف القول على ألوانٍ متعددة متباينة في حقيقتها متلاقية في غياتها، ولا يمكن أن يكون لكلام بشر مع سموِّ البلاغة وبلوغها المقام الذي يناصى في كل أصنافها، بل لا يمكن أن يبلغ الغاية في صنف واحد من أصنافها، وقد ذكرنا ما في القرآن من إطناب من غير تكرار، وذكرنا ما يتوهم فيه التكرار في القصص، وبيَّنَّا أنه لا تكرار يعد ترديدًا ولو على سبيل التوكيد، وما يتوهم فيه التكرار إنما هو تجديد المعنى لغاية أخرى ومقصد آخر، وكان الذكر لما يتوهم تكراره فيه كمال المعنى، ولا يمكن أن يستغنى القول عنه، إنما التكرار المردود يكون فيما لو حذف المتوهم تكراره ما نقصت الغاية، وما اختل بيان المقصد، وتكرار القرآن ليس على هذا، بل هو تكميل لا بُدَّ منه، وتتميم لا يستغنى عنه، وذلك يكون في القصص، وفي الاستدلال بآيات الله تعالى الكونية، على وحدة من خلق وكون وأبدع، وقد ضربنا على ذلك الأمثال.

والان نذكر القصص القرآني على أنه لون من تصريف البيان القرآني، وتغير أشكاله كما ذكر الله تعالى في القرآن:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} .

ص: 139

إن القصص القرآني فيه العبرة، وما ذكرت قصة إلّا كان معها عبرة أو عِبَر، وفيها المثلات لمن عصوا وتركوا أمر ربهم، وفيها بيان ما نزل بالأقوياء الذين غرهم الغرور، والجبابرة الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، والله من ورائهم محيط.

وإن القصص فيه إيناس صاحب الرسالة المحمدية بأخبار إخوانه من المصطفين الأخيار، وإثبات قوله، فقد كانت تلك الأخبار الصادقة ما كانت لتعليم إلا لمن شاهد، وما شاهد أحداثها وهو لا يزال في بطن الغيب، كما قال سبحانه وتعالى عقب قصة مريم:{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] وكما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام ووقائعها، قد قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 44-46] .

لم يكن محمد مشاهدًا الأحداث التي جاء القرآن الكريم بقصصها، وهي صادقة وثابتة في الصادق من أخبار النبيين في كتبهم التي يتداولها أهل الكتاب، ولم يتناولها التحريف.

ولم يكن بمكة مدرسة لاهوت، بل لم يكن بمكة يهود ولا نصارى إلا خمَّار ألحدوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منه كذبًا وبهتانًا، فقال الله تعالى ردًّا عليهم:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] .

وكانت مكة بلدًا أميًّا، ليس به علم، ولا رياسات، إلّا مباريات رياسية في البيان، وكان محمد صلى الله عليه وسلم أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، وقد قال الله تعاى وهو أصدق القائلين:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] .

لذلك نقول: إن القصص القرآني ذاته فيه إعجاز ذكره الكتاب جاء على لسان أمي لا يقرأ ولا يكتب؛ إذ هو النبي الأمي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.

ويتساءل أيّ تالٍ للقرآن: من أين جاء محمد بهذا القصص الحق، وهو لم يشاهد وقائعه، ولم يقرأها؛ لأنه لم يكن قارئًا؟ إنه من عند الله العزيز الحكيم علَّام الغيوب، وبذلك كان القصص الصادق من التحدي.

ص: 140

التصريف البياني في قصص القرآن:

ذكر الله تعالى الحقائق الإسلامية في القصص، فلم يكن عبرة فقط، بل كان بيانًا لحقائق الإسلام، فنجد فيه بيانًا لعقيدة التوحيد، والبرهان عليها جاء في سياق القصص عن النبيين السابقين، فقد رأيت في قصص سيدنا إبراهيم عليه السلام كيف كانت الدعوة إلى التوحيد، وكيف أبطل عبادة الوثان بأنها لا تضر ولا تنفع، وأنه جعلها جذاذًا إلا كبيرًا لهم، وأنهم أرادوا عقوبته بالحرق بالنار، فجعلها الله تعالى بردًا وسلامًا على إبراهيم.

واقرأ بعض القصص عن سيدنا نوح الأب الثاني للبشر، ترى الأدلة على التوحيد بأن نجد في بعضها أدلة التوحيد تساق للضالين، ويوجه أنظارهم إلى الكون وما فيه فقد قال تعالى:

{قَالَ يَا قَوْم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا، وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا، ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا، مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خََقَكُمْ أَطْوَارًا، أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا، وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا، لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 2: 20] .

ألم تر في هذه النصوص السامية تسلية واضحة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ فيها بيان ما لقيه نوح، وكيف كانت الأدلة القاطعة لا تزيدهم إلا نفورًا من الحق وفرارًا من أتباعه، وإصرارًا على الباطل، وفي كل ذلك عزاء للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لئلَّا تذهب نفسه حسرات على كفر الكافرين وجحودهم بعد الأدلة القاطعة.

ومع هذا العزاء الروحي، والعبرة التي تريح الدعاة إلى الحق، نجد في السياق البرهنة على التوحيد، وأن الله تعالى وحده هو الخالق، وأنه بالتالي المستحق للعبادة وحده، فلا معبود سواه.

وسوق الأدلة على التوحيد في سياق قصة يجعله يسري إلى النفس من غير مقاومة، وتكراره يجعله يخط في النفس خطوطًا، وتتعمق الخطوط فيكون الإيمان.

ص: 141

وإنك لترى الدعوة إلى التوحيد واضحة في قصة يوسف عليه السلام، فهو في السجن يدعو إلى التوحيد وعبادة الله وحده، ويجعل سلواه وهو في السجن الدعوة إلى الوحدانية، وسوق الأدلة، فالله تعالى يحكي عنه أنه يقول لصاحبيه في السجن:{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ، يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 37-40] .

انظر إلى الاستدلال القيم على أن الواحد الأحد خير من أرباب متفرقين، يتيه العقل فيهم، وأنهم لا حقائق لهم تتعلق بالألوهية، ثم يذكر ذلك عقب أن بين تأويل ما عجز عنه المئولون من رؤى، وقال: أنه قد علمه ربه.

ثم انظر إلى هذا القصص، وذكر التوحيد يجيء في أثناء السجن بسبب فرية نسائية افترينها عليه، ويجيء في وسط قصة نسوة المدينة أنه يكون طريفًا، فيكون له تأثيرًا أقوى وأشد.

84-

وليس القصص القرآني فيه إثبات أنَّ الله وحده هو المستحق للعبادة، وبطلان عبادة الأوثان التي هي أسماء سمَّوْها هم وآباؤهم، ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، بل فيها إثبات الوحدانية أمام الذين يدعون ألوهية المسيح عليه السلام.

واقرأ قصة عيسى عليه السلام، فإن فيها الدليل على أنه ليس إلّا عبدًا لله تعالى، ولقد قال سبحانه وتعالى في ذلك:{يَا أَهْل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا، لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 171، 172] .

ونرى من هذا أن ذكر قصة عيسى أو ذكر جزء منها اختص ببيان وحدانية الله وإثبات بطلان أنَّ الله تعالى ثالث ثلاثة، وساق الدليل، وهو أنَّ الله تعالى خالق كل شيء، وله ما في السماوات والأرض، وصلة كل مخلوق كمثيله وإن اختلف طريق غيره،

ص: 142

فصلة المسيح عليه السلام بالله من حيث الخلق والتكوين كصلته بأي مخلوق سواه، ولا يؤثر في هذه الصلة التكوينية أنه عبد ممتاز، وأنه رسول من رب العالمين، وإن كانت طريقة تكوينه أنه وُجِدَ من غير أب، فإن ذلك لا يجعله إلهًا أو ابن إله، كما قال تعالى في مقام آخر فيه إشارة إلى قصة عيسى؛ إذ قال الله تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] .

واقرأ قصة أخرى لسيدنا عيسى عليه السلام، فقد قال الله تعالى:{وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 71-76] .

وهنا نجد الرد على من يجعلون المسيح إلهًا، لقد نفى الدعوى من أصلها؛ إذ بَيِّنَ أن المسيح الأمين لم يكن يدَّعيها، ولا يمكن أن يدَّعيها، فقد كان هو داعيًا إلى التوحيد، نافيًا للشرك بربوبية الله، وأنه كسائر الناس مخلوق، وأن الله ربه كما هو رب الناس جميعًا، وبين سبحانه بطلان دعوى الألوهية له ولأمه بأنهما محتاجان، ويأكلان الطعام كسائر الناس، والله تعالى غنيّ لا يحتاج، وليست له صفة الحوادث من طعام وغذاء، وبيِّن ثالثًا أنه لا يضر ولا ينفع إلَّا بإذن من الله تعالى خالقه من غير أب، وأنه من بعد ذلك عبد لا يستنكف ولا يستكبر.

ونرى أن نفي التثليث وإثبات بطلانه بالدليل جاء في ضمن قصة، فكان تصريفًا في الاستدلال؛ إذ إن سوق الدليل في ضمن قصة يجعله أكثر سريانًا في النفس، وانسيابًا في أطوائها.

الحث على المعاملة الطيبة في القصص:

85-

وإنه مما جاء في القصص أنَّ دعوة النبيين -عليهم الصلاة وأتم السلام- جاءت للخير إلى حسن التعامل، وإصلاح الأرض، وأنَّ إصلاح الأعمال والنفوس ومنع الفساد في الأرض من أعظم المقاصد في الشرائع السماوية بعد عبادة الله تعالى والإيمان باليوم الآخر، وإذا كان ذلك في ضمن قصة استمكنت في النفس وتجهت إلى مداخلها من غير تعويق من ملاحاة جديدة، غير ما كان في عهد النبي الذي ذكرته القصة.

ص: 143

اقرأ قصة شعيب عليه السلام، فقد قال تعالى:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ، وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف: 85-87] .

أمَا ترى في هذا النص القرآني الذي تتضمَّنه قصة شعيب عليه السلام دعوة صريحة إلى ناحية علمية تتصل بالإصلاح الاجتماعي، ومنع الفساد في الأرض، والقيام بحق الأمانة في التعامل.

وفي موضع آخر من قصة شعيب نجده يكرر الدعوة، ثم يبين سبحانه كيف تقاوم دعوة الحق بالإصرار على الشر، وكيف كان الإصرار عليه، إلى أن يديل الله تعالى بما ينزل بالعصاة، ومما يؤدي إلى فساد أخلاق الأمة، لقد قال الله تعالى حكاية لقول شعيب:{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ، قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ، قَالَ يَا قَوْم أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 84-88] .

ونرى من هذه المجاوبة أنهم يصرون على ما هم عليه، ويعدون إرشادهم إلى الحق في المعاملة تدخلًا في شئونهم المالية، وكأنهم يظنون أن شئون المال لا صلة له بالتدين، كما يجري على ألسنة بعض الذين لا يريدون بالدين الحق وقارًا، ويبين سيدنا شعيب عليه السلام أنه إذ ينهاهم هو أول من يتمسَّك بألَّا يفعل ما نهى عنه، إذ يقول:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} وفي ذلك إشارة إلى أن من يدعو إلى أمر يهدمه إن خالفه في عمله، وأن الاستجابة إلى الداعي إلى الخير تقتضي أن يكون الداعي مستجيبًا له، وهكذا، فإنَّ الله تعالى يأخذ على بني إسرائيل، أنهم يأمرون الناس بالبرِّ وينسون أنفسهم، فقد قال تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] .

ص: 144

ميزان العدالة في الحكم:

86-

ويبين الله سبحانه وتعالى بطريق القصص القرآني -لأنه من تصريف البيان كما أشرنا- أنَّ مقياس الحكم العادل إدراك الحق، وألَّا يجعل القاضي أو الحاكم للهوى سلطانًا في الحكم، فإن كان الهوى كان الشطط في الحكم، ومظنَّة الوقوع في الظلم، وإن كان الحاكم لا بُدَّ أن يكون مدركًا للحق فلا بُدَّ من عنصر العلم وإبعاد الهوى.

واقرأ قصة داود عليه السلام الذي أعطاه الله الملك والحكمة، فاقرأ العبارات السامية التالية:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ، فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ، يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 21-26] .

هنا نجد القصة عن نبي الله داود عليه السلام تتضمَّن ثلاثة أمور في التنبيه على كل واحدة منها تنبيه إلى أمثل الطرق للوصول إلى العدل في الأحكام.

أولها: إنَّه سبق إلى الحكم من غير أن يستمع إلى كلام الخصم، فقضى لأحد الخصمين، قبل أن يستمع إلى كلام الآخر، فإن ذلك مدرجة الظلم، بل قد يكون ظلمًا.

ثانيها: إنَّه لم يكتف بالحكم في القضية المعروضة، بل عمَّم الحكم، والقضاء يكون في القضية المدروسة ولا يتجاوزها.

الأمر الثالث: وهو يفصل التفرقة بين الحكم الظالم والحكم العادل، أن الحكم العادل لا يكون بالهوى والشهوة، وأما الحكم الظالم فإنه يكون تحت سلطان الهوى والشهوة. وأن الملوك والحكام المستبدين يكون مصدر شرهم أهواؤهم، فهم يتبعون أهواءهم فيما يحكمون به، وما ينزلونه بالناس، فهم يسنون النظم تبعًا لأهوائهم ويطبقونها تبعًا لأهوائهم، ويجعلون شيعتهم تسارع إلى تنفيذ أهوائهم، ولا يفهمون المصلحة إلا تابعة لأهوائهم، فإذا نهى الله تعالى نبيه داود عن اتباع الهوى وهو خليفة

ص: 145

حاكم، فإنما نهاه عمَّا يؤدي إلى فساد الحكم، وبهذا يتبين أن حكم الهوى كان مصدر فساد الحكم في الماضي، كما هو مصدر الفساد في كل الأزمان، وذكر ذلك في قصة من قصص القرآن يزيد المبدأ تبينًا وتأكيدًا، وقد بيَّنَّا أن ذكر أيّ أمر في قصة يجعله يسري في النفوس، ويدخل إلى الضمائر إن كان فيها استعداد للحق.

ولا شكَّ أن هذا كله يدل على أن القرآن يصرف فيه سبحانه البيان تصريفًا ليكون أقرب إلى التأثير والدفع إلى العمل، وليس ذكر القصص للعبرة فقط، بل هو مرشد وهادٍ مع ذلك إلى أقوم السبيل، والله أعلم.

بيان بعض الأحكام بالقصص القرآني:

87-

من صور التصريف البياني بالقصص القرآني بيان بعض الأحكام الشرعية، فإنَّ ذلك يثبت هذه الأحكام ويدعمها؛ لأنها تكون أحكامًا متفقًا عليها في كل الشرائع السماوية، وبيان أنها غير قابلة للنسخ، وأنها مؤكدة ثابتة، وفي القصة تكون حكمة شرعيتها قائمة والغاية منها ثابتة، ولنذكر من قصة قابيل وهابيل ولدي آدم.

فقد قال الله تعالى فيها: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 27-31] .

هذه القصة تثبت أن الغيرة والحسد يؤديان إلى الاعتداء، وأن ذلك يحدث بين أقرب الناس بعضهم لبعض، وأنه لا علاج للحسد بإخراجه من النفوس، فهو فيها دفين، نعم إنه مرض، ولكنه مرض لا يمكن أن يكون منه شفاء، والناس ليسوا سواء فمنهم شقي وسعيد.

وإذا كان الأمر كذلك فلا علاج إلَّا ببتر من استكن في قلبه الحسد، وصار من شأنه التعدي استجابة له، والاعتبار في النظم لصلاح الجماعة لا لصلاح الآحاد فقط، ولذلك قال الله تعالى عقب ذكر قصة ولدى آدم:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32] .

ص: 146

وإنا لنرى هذا القصص المحكم قد ارتبط فيه الحكم بسببه، فهو في جزء من القصص ذكر سبحانه ما كان بين الأخ وأخيه من محاربته فطرة الأخوة الرابطة، وأنه حمل نفسه حملًا على ارتكاب جريمته؛ إذ هي مخالفة للطبائع السليمة، ولذلك قال سبحانه وتعالى:{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُه} حتى إذا تمَّت الجريمة رأى بشاعتها في جثة أخيه، فأراد أن يواريه فضَلَّ، حتى رأى غرابًا هو أحنّ على أخيه منه، وهو أعلم كيف يواري سوءة أخيه.

وما كانت أمور الناس لتترك فوضى، يجرم من يجرم ثم يندم، فكانت شريعة القصاص؛ لأن الاعتداء بالقتل اعتداء على حق الحياة في كل إنسان، ومن قتل نفسًا بغير حق فهو على استعداد لقتل غيرها، ففي عمله تعريض النفوس الإنسانية لاعتداء المعتدين المفسدين، ومن أحياها بالقصاص من القاتل، فكأنما أحيا الناس أجمعين، كما قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} [البقرة: 179] .

وإن هذا يدل على أن شريعة القصاص شريعة أزلية خالدة باقية، وأنها كانت في الشرائع السابقة، ولم تخل شريعة من شرائع النبيين الكرام منها، ولقد ذكرت بحكمتها ونتيجتها، وهي إحياء للأمة وإهمالها إماتة لها.

ولا شك أنَّ ذلك تصريف بياني قرآني في بيان الأحكام:

وقد جاءت الأحكام أكثر تفصيلًا في بيان القصاص في الأطراف مع النفس في قصص عن بني إسرائيل، والتوراة وما جاء فيها، ولنتل على القارئ الكريم بعض ما جاء في ذلك، وإن كنَّا سنتلو أكثر مما تلونا من الماضي، ولقد قال الله تعالى في وصف بعض بني إسرائيل في عصر النبي صلى الله عليه وسلم الذين أرادوا أن ينفروا من حكم التوارة في مجرم ارتكب جريمة، لاجئين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حاسبين أن عنده حكمًا أخفّ من حكم التوراة لهوًى في نفوسهم. قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ

ص: 147

مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَْ} [المائدة: 42-50] .

وترى من هذا النص الكريم بيانًا للأحكام الشرعية الخاصة بالقصاص في تفصيل محكم مستقر مقنع، فهو يجعل القصاص في الأطراف، كما هو ثابت في النفس، بل إنه يثبت القصاص في الجروح، ويوثق الأحكام بأنها نفذت في الإنجيل؛ إذ جاء الإنجيل مصدقًا لما بين يديه من التوراة، ويوثقها بأن القرآن مصدق لما جاء في التوراة، ولكن له هيمنة وسلطا، يبقي ما يبقي، وينسخ ما ينسخ، وما يثبت أنه نسخ من أحكامها فهو منسوخ؛ لأن له الهيمنة الكاملة.

وفي القصاص الشريعة باقية، وفي التوراة كما هو في القرآن جواز العفو عن القصاص؛ إذ يقول سبحانه:{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَه} ، والقصاص ثبت بالقرآن، فالله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 178، 179] .

وهكذا نجد ذكر الأحكام الثابتة التي لم يعترها تغيير ونسخ بطريق القصص نوع من تصريف البيان وتثبيت الأحكام.

ص: 148

‌أسلوب القصص في القرآن:

88-

قد ذكرنا في القول الأسبق ما يختص به أسلوب القرآن من صور بيانية في ألفاظه، فكل لفظ يعطي صورة بيانية يناسب المقام الذي ذكر فيه، ويتجمع من الأسلوب صورة بيانية تكون الصورة اللفظية أجزاء فيها، وإن كان لها صفة الاستقلال، ومن المجموع تتكون صور تصوّر المعاني، ويكون لها أطياف في اجتماعها وانفرادها.

وذلك ثابت في أسلوب القصص، كما هو ثابت في كل أساليب القرآن الكريم من غير تخصيص فيها، بل كلها درجة واحدة يعجز البشر عن أن يصلوا إليها، فكل لفظ له إشعاع نوراني يشع منه، وكل جملة ينبثق منها النور الإلهي الذي تنطفئ بجواره كل الأنوار.

ومع هذا فالقصص القرآني باعتباره قصصًا، فيه إخبار عن أمم ووقائع وأنبياء يجادلون أممهم وأشخاص يعاندونهم، وأن القصص يمتاز مع الصور البيانية التي تنبعث من الكلام مجردًا، يصور أخرى تصور الأشخاص والوقائع والمشاهد، فإذا ذكرت حال شخص صور تصويرًا واضحًا كأنك تراه وتشاهده، والعبارات تصور حاله من خوف، أو حنان، أو انزعاج أو جحود، وكأن المعاني صور واضحة في الشخص المتحدث عنه، ولو أن مصورًا متحركًا يصور الشخص في مشهد من مشاهد الذعر، ما كان أكثر تصويرًا من الألفاظ القرآني والأساليب في تصويرها.

ولنذكر في ذلك بعض ما تلونا من قبل، لنعيد تلاوة حا أم موسى وقد ولدت ولدها، وهي تعلم أن فرعون يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، وتضطرها الفطرة الملهمة التي كانت بمثابة وحي أو هي وحي لها أن تلقي ولدها في اليم؛ لأنه خير لها أن يلقى لقدر الله تعالى وقضائه، من أن يذبح بين يديها، وهذا ما نعيد تلاوته، وما أطيب القرآن في إعادة تلاوته:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ، وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 7-12] .

إن القصة ترينا صورة أم مضطربة منزعجة خائفة لما أثقلت ألقت حملها، فإذا أثقال جديدة، إنما تريد نجاته، فيعلوها الاضطراب والخوف والفزع، وإذ الإلهام يجيئها بإلقاه باليم مع إثلاج قلبها بألَّا تخاف وألَّا تحزن، ومَنَّ الله تعالى عليها بالاطمئنان بأنه سيعود إليهًا، وهكذا يكون الاطمئنان في موطن الخوف، والقرار في موطن الاضطراب، والسكون في موطن الهلع، يغيب عنها فلذة كبدها فيفرغ قلبها، ويغلب الفزع على الاطمئنان وهي تغالب حال الفزع بحال الاطمئنان إلى أن وعد الله تعالى بالاطمئنان، ويصطرع الأمران في نفسها، يغلب الإلهام فتطمئن، ويغلب الفزع القلبي

ص: 149

فتكاد تبدي أمرها وتظهر سرَّها، ولو علم به أعداؤه وأعداؤها أعداء الله تعالى؛ ولكنَّ الله تعالى يربط على قلبها بالصبر وهي تصبر، ولكنها لا تسكن بل تتحرك بعمل، فترسل أخته لتتقصى أخباره، وتتعرَّف أحواله، فترى المعجزة الكبرى؛ إذ يمتنع عن المراضع، حتى يعود إلى أمه وتأخذه أخته إلى الأم التي تضطرب بين اليأس والرجاء، بين الأمل الباسم والحرمان الدائم.

اقرأ النص القرآني، وتراه مصورًا لحال تلك الأم الرءوم، فهل تجد مصورًا متحركًا أو واقفًا يستطيع تصوير هذه الحال، ولكنه القصص القرآني المصور الذي نزل من عند الله تعالى.

89-

ولنعد إلى قصة موسى وقد تربَّى في قصر فرعون، حيث الترف والبطر، وفي جو الغطرسة والسلطان ومن يدَّعي لنفسه الألوهية، فهل شعر موسى بما يشعر به المترفون المسرفون الذين يستعبدون الناس، ولكنه في الوقت ذاته كان يعيش في أحضان قومه، حيث كان على كثب ممن يقتل فرعون أبناءهم ويستحي نساءهم، فهو البعيد عنهم بحسه القريب منهم بنفسه، يعيش معهم وإن جفاهم في المسكن والإقامة، ولذلك كان القريب في قصر فرعون المستأنس بمن يئويهم فرعون، فيعيش معهم.

ولقد بدا ذلك على أكمله يوم أن بلغ رشده،، واستطاع أن يخرج من محبس فرعون في النعم، ويلاقي الحياة التي يلاقيها قومه، ولقد قص الله سبحانه وتعالى قصصه بعد أن بلغ رشده، وصار رجلًا سويًّا، في أسلوب ينُمُّ على الرغبة في الجهاد وتحمل شدائد الحياة، فيقول سبحانه في أحسن قصص مصور:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص: 14، 15] .

خرج موسى من المحبس، ودخل المدينة، وأهلها لا يتوقعون أن يخرج رجل في ظل القصر، إلى حيث الشعب، ينازل من ينازل ويسالم من يسالم، إلى حيث الحياة اللاغبة العاملة، فكان ذلك مفاجأة، عبر عنها القرآن بقوله:{عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} ، وخرج ونفسه مملوءة غيظًا على الذين كانوا أداة في يد فرعون يسوم بهم الناس عذابًا، فوجد مصريًّا يقتل واحدًا من شيعته، فسارع إليه دفاعًا عن اليهودي المعتدى عليه، فاندفع فقتل المصري.

ولكنه قد استرجع ضميره الذي كان في غفوة بسبب العداوة المستحكمة بين العنصرين، وبسبب ما رأى من فرعون ومن معه من جند وأشياع، وأهل مصر صامتون كدأبهم عندما يرون ظلمًا عنيفًا صارخًا يقفون كالنظارة، لا يتحركون لظلم واقع، ولا لهم مستحكم مانع.

ص: 150

وتكررت المأساة بين اليهودي الذي استنصره بالأمس ومصري آخر، فيقوى صوت الضمير على استغاثة اليهودي، ويعلم أنه فرعوني ضالّ كثير الشكاس، وأن المصري مظلوم في معاملته، ولكنه مع ذلك تغالبه في نفسه مشاعر، فهَمَّ بأن يبطش بالذي هو عدوّ لهما، عندئذ نطق المصري لائمًا مذكِّرًا موسى بأنه يريد أن يكون جبارًا في الأرض، وما يريد أن يكون من المصلحين الذين يعلمون على الإصلاح بين المتخاصمين من غير إضافة اعتداء إلى اعتداء، ويقول له من عتب لائم:{إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص: 19] .

وموسى في نفس حائرة بين عزِّ الدنيا وقد تركه وراء ظهره، وجعل نداءه دبر أذنه، وبين الحق والعدل والإخلاص وهو إلى الثاني يميل، ومن الأول ينفر، وبينا هو على هذه الحال يتردّد بين ماضٍ مريح، وجديد يريد أن يخوض في شدائده؛ ليعيش كما يعيش قومه، فيشاركهم في ضرَّائهم وإذا النذير ينذره:{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20] ، قضي الأمر وانتهت الحيرة، واستقبل الحياة الجديدة بلأوائها وجهًا لوجه، ولنترك القول لكتاب الله تعالى يذكر لنا حاله من بعد ذلك الإنذار؛ إذ نجد التصوير الذي تعجز عنه كل أدوات التصوير الساكن والمتحرك، وهو يصوّر موسى قد أحس بخطر قوم فرعون، وفرعون وآل مصر يترقبونه، فالله يقول في كلام مصوّر للأرواح والأشباح:{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ، وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 21-24] .

تصوير للحيرة، قريب النعمة خائف يترقب المتتبع والمترصد، ويتوجه من ريف مصر وخضرته إلى لفح الصحراء وجدبها، ثم هو يحس بالحاجة وهو الذي كان يتناول ويرمي؛ وإذ لفحته الشمس أوى إلى الظلِّ، لا يرجو إلَّا الله، ويعلم أن الله تعالى لا يتخلَّى عنه.

وإني مهما أحاول من تصوير للقصة بعبارتي، فلن نصل إلى ما يقع في نفس القارئ إذا تلاها مجردة من غير تعليق عليها، إنها تصور ربيب النعمة في صورة كأنها المرئية، وكأنها مشاهدة محسوسة، وليس أخبارًا مكتوبة أو متلوة.

إنه حائر، فيفاجأ بإحدى المرأتين تأتيه تمشي على استحياء، وهي تدعوه إلى أبيها ليجزيه أجر ما سقى لهما، ويذهب الشاب القوي إلى الشيخ الضعيف، وهنا يرى

ص: 151

الشجرة الوارفة في وسط الصحراء، ويجد الحياة الزوجية وراحة الحياة بعد شقائها، ويذوق طعم الدنيا، ولم يكن في بيت فرعون يذوقها، ذلك أنَّ النعيم معنى نسبي لا يذوقه إلا من ذاق الألم في هذه الدنيا، والنعيم من غير ألم يرنقه يكون راحة عفنة، فموسى عليه السلام بعد أن نال عيشه بالكدِّ واللغوب، وعاش بين الرجاء والخوف أحسَّ بطعم الحياة ومعناها، وتأهَّب للرسالة؛ لأن الرسالة لا تكون إلَّا لمن اصطفاهم الله تعالى ممن ذاقوا طعم الحاجة وعزة الحق، ولم يترفوا بالنعيم، وكذلك أمر النبيين والصديقين، وكذلك كان تاريخ كل الأنبياء، وخصوصًا أولي العزم من الرسل.

هذا، وإنَّا نطالب القارئ أن يقرأ أيّ جزء من قصة موسى، فإنك تراه مصورًا للموقف الذي يعرض له أبدع تصوير؛ وكأنك تشاهد، ولا تسمع وتتلو، وإنه لهو القصص الحق.

90-

وإنك إذا قرأت مجادلة المشركين مع نبي من الأنبياء، كنوح وإبراهيم وعيسى وشعيب وهود، تحسّ بأنك تشاهد مشهدًا مرئيّا، لا أنك تستمع إلى كلام متلوّ، فتنتقل أنت وعقلك وجوارحك كلها إلى هذا المشهد الكريم الذي يصور عقلية الذين يجالدون، وما يبذله الرسول، وما يتحمّله في سبيل إقناعهم أو إلزامهم كلمة التقوى، ولا يريدونها، اقرأ مجادلة نوح عليه السلام لقومه، وهم يجادلون في الله، ونوح يريد أن يهديهم بأمر الله تعالى، واتل قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ، فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ، قَالَ يَا قَوْم أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ، وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ، وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِين} [هود: 25-33] .

هذا مشهد من مشاهد القول تجد فيه مناقشة قوية بين دعوة الحق، وجحود أهل الباطل، وتراه كأنَّه مصور أمام البصيرة، وترى فيه صاحب الحق يدلي بالبينات، والحق وحده أبلج، وترى فيه أهل الباطل يتخذون من الحس دليلًا على الحق، وحسهم

ص: 152

كاذب، فيستدلون على أنَّ الدعوة ليست دعوة حق بأنَّ أتباعها الفقراء الأرذلون في أعينهم الذين يزدرونهم، والنبي عليه السلام يجادلهم بالتي هي أحسن، وهو يسوق البينات، ولكنهم يتبرَّمون بدعوة الحق.

ولا شك أنَّ العبارات تدل على المعاني المقصودة فقط، بل وضعت الألفاظ ومعانيها وأطيافها في بيان مصوّر يسكن به الخيال والنفس، كأنَّه واقع محسوس لا قصص متلو فقط.

وبعد ذلك بَيِّنَ الله تعالى لنوح أنَّهم لا يؤمنون، ولم يبق إلَّا إنزال العقاب بهم، واقرأ صورة العقاب تراه قصصًا مجردًّا، ولكنَّه مشهد واضح بيِّن يصل إلى درجة المرئي للقارئ المتنبه، اقرأ قوله تعالى:{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ، وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُوَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ، وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ، قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ، وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ، قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 36-48] .

ذلك هو بعض قصص نوح عليه السلام من وقت أن يئس من إيمانهم وأخبره ربه العليم الحكيم أنَّه بلغ الحجة وحقق الرسالة، وأنَّه لن يؤمن أحد من قومه لم يكن قد آمن، وأن العقاب نازل لا محالة، وترى كل نص من نصوص هذا الجزء من القصة مصورًا بيانيًّا لما أنزله تعالى، فترى جزءًا يصور كيف أخذ نوح يبني سفينته، والقوم ينظرون إليه ساخرين غير عالمين بالعاقبة التي تنتظرهم، والغاية التي قدرها الله تعالى

ص: 153

من هذا البناء والخيال يرى الصورة من وراء العبارات كأنَّها بين يديه حقيقة بالعيان وليس خبرًا من الأخبار، وإن كان يذكر من أعلى صور القصص المصور. ثم ترى الإيذان بالابتعاد عن موطن الغرق، وقد فار التنور، وإنِّي قد أدرك من هذا أنها كانت تسير بالبخار إذا فار التنور فتحرَّكت بعد أن فار، والله تعالى أعلم بمراده، وإن كان اللفظ دالًّا، بل هو مصور لتنور فار فحرَّك ببخاره ما حرك من آلات تسير السفينة، وتجري بهم في موج كالجبال، والقارئ يرى في هذا صورًا تثير الخيال، وتجعل الخبر مرئيًا أو كالمرئي، وإن ذكر الموج في هذا المقام يصور كيف كان السيل عارمًا، وأنه لم يكن غيثًا، حتى لم يبق إلّا من خرج بالسفينة نجيا.

ثم نجد في ذلك القصص أمرًا معنويًّا مصورًا كأنه ملموس، وهو حنان الأب ورفقه بولده، فقد رأينا في النبي المجاهد عاطفة الأبوة تعلو؛ فينادي ابنه، وكأننا نسمع النداء في مشهد من مشاهد الأبوة، ثم نجد الابن وقد غرَّه غرور الصبا، والابتعاد عن التصديق، حتى حسب أنه بمنجاة من الغرق؛ إذ اعتصم بحبل آوى إليه، وحال بينه وبين أبيه الموج، فكان من المغرَقين، والأب تنفطر نفسه، فتغلبه شفقة الأبوة عن رؤية أمارات الموت، ويتَّجِه إلى ربه باكيًا حزينًا إذ نجا أهله إلّا ابنه فيقول، وكأنَّنا من فرط التصوير نسمع أنين الأب، بعد أن نجا كل من في السفينة، وقد استوت في طريقها وهلك ظالمون، يضرع إلى ربه يقول:{إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} ، وكان قد وعده ربه بأن ينجي أهله، فيقول: إن وعدك الحق، وأنت أحكم الحاكمين، وهنا نجد رب العالمين يبيِّن أنه داخل في عموم الكافرين؛ لأنه كفر، وأهلك هم الذين آمنوا، ولم يعارضوك، ويقول سبحانه:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} .

تعارض العطف مع الو اجب، فتحت قوة العاطفة الأبوية نطق بما نطق فنبهه الله تعالى إلى الواجب، ولم ينبه غافلًا، ولكنه نبَّه يقظًا مؤمنًا ضارعًا وإن كان قد ناجى ربه بصوت البشرية، فتاب و {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .

ص: 154

‌القصص الحق المصور في أهل الكهف:

91-

ومن أروع القصص القرآني المصوّر في صدقه، وسرد حقائقه قصة أهل الكهف التي هي آية وحدها في التصوير البياني القصصي الصادق، وهي في كل جزئية تصور الأمر كأنَّه مرئي بالحس، لا مذكور بالخبر وحده، واقرأ قوله تعالى:{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا، إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا، فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا، ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا، هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا، وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا، وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا، إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا، وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا، سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا، وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا، قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 9-26] .

هذه قصة أهل الكهف والرقيم، وهو الحجر الذي رقم عليه أنه رمز لمأواهم ليكونوا عبرة، وليكونوا دليلًا ناطقًا على الإيمان بالبعث والنشور، وإن الذين يجحدون بهما يرونهما عيانًا فيهم؛ إذ بعثهم الله سبحانه وتعالى، وقد حسبوا أنهم مضى عليهم يوم أو بعض يوم.

والقصة الكريمة كما ذكرها القرآن الكريم في قصصه الحق لها مشاهد تذكر كأنها ترى، وكأن الإنسان يعاين وقائعها، وفي أسلوب قرآني قصصي يؤخذ منه مغزى القصة في غير التباس، ولا ارتياب.

ص: 155

المشهد الأول: إبواء فتية آمنوا بربهم، وزادهم الله تعالى هدًى، وقد فرّوا من الوثنية إلى الوحدانية، ومن الوثنيين إلى جوار ربهم، وقد ربط الله على قلوبهم، فاستمسكوا بإيمانهم، واعتصموا بربهم، وكان الإيمان قد سَكن وعاء القلب، فربط الله تعالى بالصبر حتى لا يخرج من وعائه الذي استقرَّ فيه واطمأنَّ، فلا يتشعع أمام أي حادث، وإنَّ الإيمان إذ سكن واطمأنوا كانت رحمة الله تعالى أن ضرب على آذانهم، بمعنى: إنَّه خيَّم عليها فأصبحت لا تسمع لغو الحديث، وأنهم إذا آووا إلى الكهف قطعهم الله تعالى عن لغو الوثنية وظلم أهلها، فاجتمع لهم الإنزواء عن الناس والبعد عنهم بالحس، فلا يرون الناس ولا يسمعون عنهم، وساروا في غيبوبة كأنهم الموتى، وليسوا أمواتًا، وتحسبهم أيقاظًا وهم رقود، وكل ذلك في تصوير قصصي كأنَّ التالي للقرآن يراهم، وهم يهرعون إلى الكهب يأوون راجين الرحمة والرشاد، مبتعدين عن الآثام وما في الدنيا، وقد زادهم الله تعالى فجعلهم رقودًا، وهنا نجد الصورة واضحة أن ناسًا يظن أنهم أيقاظ وهم رقود، وقد بقوا على ذلك سنين عددًا تجاوزت ثلاثمائة.

والمشهد الثاني: بعثهم، وقد اختلف الناس في أمر المدة التي استمرّوها في الكهف، وقد مرَّت الأجيال، وهم يحسبون أنهم أيقاظ، فقد استمرّوا كما ذكر في القرآن الكريم ثلاثمائة سنة وزادوا تسعًا.

ويجيء بعد البعث الكلام في المدة التي مكثوها، والسبب في اختيار مأواهم، فقص الله خبرهم بالحق تفصيلًا بعد أن ذكره إجمالًا، لقد قاموا من سباتهم، وهم يرددون إيمانهم بالله تعالى، واعتراضهم على أقوامهم، ويحكون ما كان منهم مع أقوامهم {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} وأنَّ قومهم اعتزلوهم وهم لا يعبدون إلّا الله تعالى، ونرى الصورة القصصية واضحة بينة، هادية مرشدة تصور الملاحاة بينهم وبين أقوامهم، حتى اعتزلوهم معتصمين بربهم، مؤمنين به، وهذا المشهد كل أجزائه واضحة، حتى إنه يصور الكهف ومن فيه، وخرجوا منه في مشهد واضح بيِّن، هو كالعيان بتصوير القرآن الكريم.

والمشهد الثالث: منظرهم وهم رقود، وحال الكهف وصورته، فهم في فجوة منه يتَّجِهون فيه إلى الشمال، الشمس تخرج لهم من المشرق يمينًا، وتودِّع الكون في غربهم، فالشمس والهواء، يحيطان بهم، وذلك أصلح مكان؛ إذ يستقبل الشمس في غدوها طالعة، وفي غروبها رائحة والهواء من البحر يجيء إليهم، فينعشهم نسيمه العليل، فأسباب الحياة الطيبة قائمة ومهيأة لهم وهم رقود، وإن كان الرائي يحسبهم أيقاظًا، والوصف القصصي يصور المكان كأنَّ القارئ للقرآن يراه، وهو يتلو كتاب الله تعالى.

ص: 156

وإنهم في هذه المنامة يتقلبون كالأيقاظ الأحياء بإرادة الله تعالى وأمره الكوني {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} ، ولا يترك القرآن الكريم من الصورة المكانية شيئًا إلا بيَّنَه وصوره، فيذكرهم وكلبهم يحرسهم وهو بالوصيد، وهو فجوة بالجبل الذي فيه الكهف، فالتصوير القصصي كامل يرى فيه القارئ صورة للمكان، وكأنها مصورة بصورة باهرة، وليست كلامًا متلوًّا، ولكنه كلام الله تعالى العزيز الحكيم.

وإنَّ المكان فيه رهبة وحالهم فيه هيبة {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} .

المشهد الرابع الذي تصوره القصة، وقصص القرآن كله حق لا ريب فيه، وهو تيقظهم بعد الرقدة، وحالهم وقد رأوا الحياة اللاغبة التي كانوا عنها غافلين، وكانوا فيها راقدين، وأوّل سؤال توجّهوا به، سألوا به أنفسهم، كم لبثوا في منامهم، وقد سالهم هذا السؤال واحد منهم، فقالوا كأنهم مجمعون أنهم لبثوا يومًا أو بعض يوم، ولكنهم كشأنهم لم يتخبَّطوا، ولعلهم ظنّوا أن المدة أطول من ذلك، ولذلك قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم، وهنا نجدهم اتجهوا إلى الحياة يطلبون رزقهم، ومعهم نقود فضية قد ضربت منذ تسع وثلاثمائة سنة تكشِف للناس عن أمرهم، وكانوا ككل أهل الإيمان أهل تسامح، فقد طلبوا من مبعوثهم أن يتلطّف، وألَّا يشعر بهم أحدًا، حتى لا يكون منهم أذى، ويظهر أنهم بهذه النقود عثر الناس على أمرهم، وعرفوا حقيقتهم، وكان إلهام الله بذلك ليعرف الناس حقيقتهم، وتكون حياتهم في الكهف ورقدتهم فيه دليلًا محسوسًا على أنَّ وعد الله تعالى بالقيامة حق، ولذا قال سبحانه:{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} وهذه كلها مشاهد في القصة تعاين فيها أحداثها في قصص محكم.

ص: 157

‌التصريف في صور العبارات القرآنية:

92-

من أدل شيء على بلوغ القرآن أعلى درجات البلاغة تصريف المعاني والألفاظ في كل باب من أبواب القول، وقد أشرنا إلى ذلك في أول كلامنا في بيان تصريف الكلام القرآني، وتصريف القول يتناول الألفاظ، وتصريف الألفاظ يتضمن لا محالة تصريف المعاني؛ لأنه لا مرادف في القرآن، ولا يوجد أسلوب يؤدي معنًى يؤديه الأسلوب الآخر، وإن كان يبدو بادي الرأي أن المعنيين يتحدان في جوهر المعنى، ولكن عند التامل في الإشارات البيانية التي تشير إليها الألفاظ، والتي تطيف حولها وتشع منها، تجدها مختلفة، وإن كل تغيير في العبارات القرآنية عن أخواتها في مثل موضعها يحدث تغييرًا في المرامي، ولمح القول، حتى الوقوف والفواصل تؤدي باختلاف نغمها ما لا تؤديه مثيلاتها ممَّا هو في موضوعها، وإن النغمات القرآنية التي تتخالف أحيانًا تكون كل نغمة في مقامها تومئ بموسيقاها إلى إشارة لا تومئ إليها نغمة أخرى لآية في هذا الموضع نفسه.

ولنضرب في ذلك بعض الأمثال في الاختلاف في الأسلوب، والموضوع واحد، وتغيّر المعاني ورفقها، وكل فيما يناسبه.

ص: 157

‌الاستفهام والنفي:

93-

لا شكَّ أن النفي المجرَّد والنفي بطريق الاستفهام، كلاهما يدل على أصل النفي، ولكن النفي بطريق الاستفهام أقوى دلالة في معنى النفي؛ لأنَّ النفي بالاستفهام فيه معنى أنَّ المخاطب سبق إلى النفي، فكان النفي من القائل، والإقرار به من المخاطب، اقرأ قوله تعالى في ادّعاء المشركين أن الله تعالى حرَّم بعض الأطعمة، فنفى الله سبحانه وتعالى ذلك بقوله:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ، قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعامخ: 148-150] .

ألا ترى أن هذا الاستفهام للنفي؛ إذ المعنى الجملي: ما عندكم من علم بأن الله تعالى حرَّم عليكم، إن أنتم إلّا تخرصون، تتوهمون ما ليس له حقيقة واقعة.

ولا شك أن المجيء بصورة استفهام فيه مزيتان؛ إحداهما: تنبيه إلى أنه كان يجب عليهم قبل أن يعتقدوا أن يتعرَّفوا الدليل الذي يسوغ لهم العلم حتى لا يقولوا على الله ما لا يعلمون. والثانية: إنَّ في الاستفهام حملًا لهم على أن يقروا بالنفي، وفوق ذلك كله فإنَّ سياق الكلام فيه توبيخ لهم؛ لأنهم بنوا عقائدهم على أمور باطلة لا أساس لها من حق ولا علم، وأنَّ هذا نوع من الاستفهام الذي يراد به النفي يعبر عنه علماء البلاغة بأنه استفهام إنكاري؛ لإنكار وقوع موضع الإنكار، وهناك إنكار يقال له: إنكار الواقع، وهو يكون في معنى التوبيح على ما وقع على أنَّه لا أصل له.

اقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ، وهذا إنكار لما وقع منهم، وإنكار الواقع توبيخ؛ ذلك لأن المشركين كانوا يوجبون الطواف عراة، وكانوا يحرمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، والله سبحانه وتعالى نفى ذلك التحريم بهذه الصيغة {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي

ص: 158

أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} والنفي بصيغة هذا الاستفهام فيه مبالغة؛ لأنَّ فيه إشارة إلى أنَّه لا يسوغ لعاقل أن يكون منه ذلك التحريم؛ لأنه عمل غير معقول في ذاته؛ إذ المؤدَّى: لا أحد حرم زينة الله من لباس ساتر، ولا أحد يحرم طيبات الرزق التي لا خبث فيها من حيث الحقيقة، ولا من حيث المعنى، ما دام طريق الكسب طيبًا، وأنَّ الله لا يأمر إلّا بالقسط الذي يتفق مع الفطرة، ولذا قال تعالى من بعد ذلك:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] .

وقال سبحانه من قبل هذه الآيات: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ، فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 29-31] .

94-

وقد ذكر عبد القاهر في كتابه "دلائل الإعجاز" الحكمة في سبب تسمية الاستفهام بالإنكاري، سواء أكان لإنكار الوقوع بمعنى النفي، أم لإنكار الواقع بمعنى التوبيخ، فقال -رضي الله تعالى عنه:

"وأعلم أننا وإن كنا نفسِّر الاستفهام في مثل هذا الإنكار بالنفي، فإن الذي هو محض المعنى أنَّه ليتبين السامع حتى يرجع إلى نفسه، فيخجل ويرتدع، ويبين الجواب إما لأنه قد ادَّعى القدرة على ما فعل ما لا يقدر عليه، فإذا ثبت على دعواه قيل له: فافعل، فيفضحه ذلك، وإمَّا لأنه همَّ بأن يفعل ما لا يستصوب فعله، فإذا روجع فيه تنبه، وعرف الخطأ، وإما لأنه جوَّز وجود أمر لا يجوز مثله، فإذا ثبت على تجويزه وبّخ على تعنته، وقيل له: فأرناه في موضع وفي حال، وأقم شاهدًا على أنه كان في وقت. ولو كان يكون للإنكار، وكان المعنى فيه من بدء الأمر، لكان ينبغي ألا يجيء فيما يقوله عاقل: إنه يكون حتى ينكر عليه، كقولهم: أتصعد بي إلى السماء، أتستطيع أن تنقل الجبال، أإليّ رد ما قضي من سبيل".

ومؤدَّى هذا الكلام أنَّ الإنكار إذا كان نفيًا لوقوع أمر فمؤدَّاه أن الأمر لا يقع، ولا يعقل أن يقع، فهو نفي مؤكد؛ إذ هو ليس نفيًا للفعل فقط، بل هو نفي له مع بيان أنه لا ينبغي ولا يجوز أن يقع، وإذا كان الفعل قد وقع فهو توبيخ على الوقوع، واستنكار له، كما رأيت في قوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ، ويلاحظ أنَّ الإنكار سواء أكان إنكارًا للوقوع بمعنى النفي

ص: 159

أم إنكارًا للواقع بمعنى التوبيخ، فإنَّ فيه حمل الفاعل على الإقرار بالنفي أو إثبات ما أوجب التوبيخ.

95-

ومن الاستفهام في القرآن ما يكون لبيان الاستحالة، وهو يقارب في معناه نفي وإنكار الوقوع إلى حدِّ أنه يكون احتمالًا غير معقول، ومن ذلك قوله تعالى:{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} بمعنى: إنَّك تخلق فيهم بصرًا يبصرون به، وأن هذا فيه استفهام إنكاري، ويه استعارة تمثيلية، فقد مثّلت حالهم بحال الأصمِّ الذي لا يسمع، أو في آذانه وقر، وبحال من فقد البصر، وأن يطلب هدايتهم كمن يطلب السمع من الأصم، أو يطلب الإبصار ممن فقد البصر، فالاستفهام لاستحالة موضوع السؤال وأنه لا يقع.

ومن ذلك أيضًا الاستفهام الذي عبَّر به القرآن عن حال الجاحدين الذين يتوهمون أن الفقراء في الدنيا لا يمكن أن يكونوا هم أول المهتدين، متوهمين أنَّ الفضل بسعة الرزق وكثرة المال لا بالتقوى والمسارعة إلى الخير، فالله تعالى يصوّر حالهم بهذا الاستفهام، فيقول تبارك وتعالى:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الأنعام: 53] ، فالاستفهام على مقتضى نظرهم يوجب ألَّا يكون الله تعالى منَّ عليهم قبلهم، وذلك من فساد القياس؛ إذ قاسوا الفضل بمقياس المادة، ولم يقيسوه بمقياس الفضيلة والتقوى والمسارعة إلى الخير.

ومن الاستفهام الذي ينبئ عن استحالة الجواب قوله تعالى آمرًا نبيه:

{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71] فالاستفهام هنا واضح أنه ليان استحالة أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ما يدعون من دون الله تعالى، وأنَّ حالهم في عقيدتهم الباطلة، كحال من يسير في بيداء، وقد استهوته الشياطين الصارخة فاندفع إلى غير هدى حتى تاه في المهمه القفر، وله أصحاب ينادونه فلا يستجيب لهم؛ لأن الباطل قد ضرب على قلبه؛ ولأن استهواء الشياطين قد غلب عليه.

ومن قبيل الاستفهام الداخل على ما لا يجوز التغيير فيه ما جاء على لسان إبراهيم عليه السلام، وقومه يحاجُّونه يريدون أن يردّوه، فقد قال تعالى:{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي} [الأنعام: 80] .

ومن الاستفهام الذي يدل على استحالة موضوعه ما ذكره سبحانه وتعالى من أنه يوجِّه إلى السيد المسيح عيسى عليه السلام يوم القيامة؛ إذ يقول سبحانه: {وَإِذْ قَالَ اللَّه

ص: 160

يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 116-118] .

وهنا نجد تلك المجاوبة التي أعلمنا سبحانه وتعالى أنَّها ستكون بينه وبين المسيح عيسى ابن مريم -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، كان الاستفهام فيها لبيان استحالة أنَّ ابن مريم قال لهم: اعبدوني وأمي واتخذونا إلهين من دون الله، ولذلك جاءت الإجابة على السؤال باستحالة موضوعه، وأنَّه ما كان ولا يمكن أن يكون من عبد الله ورسوله عيسى عليه السلام.

96-

ومن الصيغ الاستفهامية تلك التي تجيء في القرآن الكريم ما يكون للإفحام والرد؛ كالرد بالصيغة الاستفهامية؛ إذ يقول سبحانه وتعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18] .

وإن ذلك الاستفهام مع دلالته على استنكار قولهم فيه دلالتان أخريان:

إحداهما: إعلامهم بأنَّه سيعذبهم بذنوبهم، وأنهم مأخوذون بما يقرفون من سيئات، وما يجترحون من مآثم ومظالم.

الثانية: الدلالة على أنَّ عمل الخير له ثوابه، وعمل السوء له عقابه، وأنَّ من يقول غير ذلك فهو مبطل، وما كان لهم أن يدعوا محبَّة الله، وأنَّهم منه بمنزلة الأبناء من الآباء، ومع ذلك يعصونه، وينشرون في الأرض الفساد.

فهذا استفهام مع ما فيه من إحكام واستنكار يتضمَّن معاني سامية، فيها التهديد لمن عصى، والتبشير لمن أطاع.

وهنا لون من ألوان الاستنكار تراه منصَّبًا على المساواة الظالمة بين الخير الأدنى، وما هو أعلى منه، كما في قوله تعالى:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19] .

ص: 161

لقد كانت قريش تتنافس على السقاية وسدانة البيت الحرام، وتتسابق إلى عمراته إن احتاج إلى عمارة، ويحسبون أنَّ ذلك يجعل لهم فضلًا على الناس ولو كانوا مشركين، وقد قرَّر سبحانه أنَّ الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والتقدم لفداء الحق ونصرته لا يساويه مجرَّد السقاية والسدانة والعمارة، ولو كان لبيت الله الحرام الذي هو مثابة للناس وأمن، فالإيمان والعمل الإيجابي لنفع الناس وحماية الحق والذود عنه هو في المكانة السامية، وقد أتى سبحانه بذلك في صيغة استفهام إنكاري، وهو منصَبٌّ على التسوية بين الأمرين، وهو استنكار فيه توبيخ، وفيه إبطال للباطل، وإحقاق للحق، وإعلاء لشأن الإيمان والجهاد، وأنَّه فوق كل شأن.

ومن الاستفهام الذي يحكي عن المشركين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ما يذكر على سبيل الاستغراب، وظنّ الاستحالة، ومن ذلك قوله تعالى:{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا، قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 49-51] .

ومثل ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد: 5] .

وإنَّ هذه الاستفهامات هي من قبيل الإنكار والاستغراب، فترى المشركين يعلنون إنكارهم للبعث، ويستغربون أن يكون، يسغربون البعث في ذاته، ويقرنون ذلك بحال الذين يموتون من بعشرة أجسامهم بعد أن يصيروا رفاتًا، ويضيفون إلى استغراب البعث في ذاته ما يقررونه في اعتقادهم من أحوالهم، يحسبون أنَّها تبرر الإنكار، أو تزيد الاستغراب، فيسألون من الذي يبعثهم من مراقدهم، ويوهم قولهم أن ذلك غريب.

وفي سورة الرعد في النص لاذي نقلناه يستغربون ويتعجبون، بين الله تعالى أن موضوع العجب هو عجبهم؛ لأن البعث فيه سر الوجود، إذ إنهم لم يخلقوا عبثًا، وإذا كان الابتداء ليس فيه عجب، فالإعادة ليست فيها عجب أيضًا، فالاستغراب موضوع استغرابهم هم.

وإنا نجد في كل الأمثلة التي ذكرناها في الاستفهام تصريفًا في القول يوجد جدة في كل جملة عن سابقتها، وإنَّه لو كان النفي أو الاستغراب والتعجب أو الاستنكار والتوبيخ بلغة واحدة ما كان التنويع في التعبير، الذي هو ميزة لكل كلام، فضلًا عن أبلغ كلام رأته الإنسانية؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا

ص: 162

من خلفه، وإنَّه بديع في نسقه، في أعلى درجات الإبداع، وإنه كما قال الكافر الذي سمعه يعلو، ولا يعلى عليه، وأنه ذو القطوف الدانية، والجمال دائمًا.

97-

ومن الاستفهام ما يكون تقريرًا للواقع، وذلك يكون في الحال التي تستوجب العجب، أو توجب الاستنكار؛ إذ يكون الواقع المقرر مستنكرًا؛ لأنه ليس من صنيع أهل الإيمان، ولا مما تستسيغه الفطرة السليمة، أو تستحسنه الأخلاق الحكيمة، اقرأ قوله تعالى:{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 1-7] .

وإنَّ هذا الاستفهام التقريري الذي يؤكد الرؤية العالمة من النبي صلى الله عليه وسلم، فإن معنى: أرأيت، لقد رأيت الذين يكذبون بالدين، وأن مجيء العبارة بطريق الاستفهام فيه تأكيد لمعنى الرؤية لأولئك الذين اتَّصفوا بهذه الصفات الغريبة التي تتماسلك فيها كل صفة مع أختها، كأنها ملازمة لها لا تفترق عنها، وكأنها منها، فالتكذيب بالدين هو صفة الجاحدين، لا يؤمنون بالحق ولا يهتدون بهديه، وأولئك دأبهم النفرة من الناس، وألَّا تكون فيهم رحمة بالضعيف، فهم يقهرون اليتيم ويذلونه ويرهقون، ويمنعون كل عون؛ إذ يمنعون الزكوات التي هي عون الأقوياء للضعفاء، وهم لا يتذكرون ربهم، ولا يدنون منه، حتى في الصلاة، وصلاتهم ويل عليهم، وليست قرية لهم، وهي محسوبة عليهم على أنَّها من السيئات، ولا تحسب لهم على أنها من القربات، وهم في أعمالهم يراءون، والرباء شرك خفي، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك.

وإن موضع الاستفهام هنا لا يغني عنه التقرير المجرد؛ لأن مؤدّى الاستفهام أنَّ المخاطب قد سُئلَ عن الرؤية مثلًا، فأاب عنها بالإيجاب، فكان تقرير الواقعة بإقرار من المسئول، فهو تقرير معه التصديق، وهو مع ذلك تنبيه إلى الصفات المرذولة التي اتصف بها أولئك الجاحدون بأصل الدين، من قهر اليتيم ومنع المسكين، والصلاة الساهية عن معنى القرب إلى الله تعالى، وهم يراءون الناس ويمنعون كل عون حقيقي.

ومن الاستفهام التقريري الذي يثير الانتباه إلى الحقائق التي يتضمَّنها قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ، قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 46، 47] .

إن هذه الآيات الكريمات فيها عدة استفهامات أولها تقريري، وهو تقرير الرؤية كأنهم سئلوا عنها، فأجابوا بالإيجاب، فكان التقرير مؤيدًا بالإقرار، وكان حكمًا مؤيدًا.

ص: 163

بالدليل، وهو الإقرار سلطان الأدلة، والاستفهام كان موضع الاستفهام الأول، وهو قوله تعالى:{إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} وهو استفهام في معنى النفي، فهو إنكاري، أي: إنَّه لا إله غير الله يأتيكم، فهو يتضمَّن مع النفي إقرارًا من السامعين بأنه لا إله غيره، وإثارة العجب ممن لا يقرون بهذه الحقيقة، فهي موضع البرهان، وقد تضمَّن النص الكريم استفهامًا ثالثًا لتوجيه النظر إلى ما يصرفه القرآن من أدلة مختلفة، وذلك الاستفهام توجيهي تنبيهي تقريري، وهو قوله تعالى:{انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} فقوله: {كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} فيه توجيه النظر إلى تصريفه للآيات، وجاء بصيغة الاستفهام لتصوير التصريف في الآيات التي أنزلها الله تعالى، أو كانت في الكون، وما كان ذلك التصور لها ليتحقق إذا لم تكن الدعوة إلى النظر، ثم الاستفهام الذي يأخذ النظر ليضعه على ذلك التصريف، ثم كان الاستفهام متضمنًا معنى الاستنكار لحالهم؛ إذ إنهم مع تصريف الآيات وجعلها في صورها جديدة تسترعي الالتفات والاتجاه إلى إدراكها والتنبه لها، ومع ذلك -لكثرة جحدوهم ولجاجة الباطل في نفوسهم- يعرضون، ولا تستولي على نفوسهم، كشأن الفكرة المجددة، فإنها تسترعي الأفهام وتأخذ بالألباب، ولكنهم عموا، فلا يجديهم تصريف، ولا يأخذ بألبابهم تجديد الأسلوب؛ لأنهم معرضون، إنك لا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين.

وفي النص استفهام تقريري على منهاج لا يعرف إلّا في القرآن، فإني لم أقرأ كثيرًا في غير القرآن ذلك المنهاج الاستفهامي؛ إذ يقول سبحانه:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 47] فالتعبير في الاستفهام -أرأيتكم- ليس مشهورًا في الأساليب العربية، ونجد هنا الخطاب تكرر فيه، فالتاء المفتوحة خطاب، والكاف خطاب، والتاء خطاب للمفرد، والكاف خطاب للجمع، والتاء متجهة إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم، والكاف متجهة إلى خطاب الجمع، فاجتمع خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وخطاب الجماعة، وذلك لأنَّ في الاستفهام تقريرًا لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم، وتقريرًا لرؤية كل المخاطبين بالقرآن الكريم، وكان لا بُدَّ لاجتماع الخطابين، خطاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليقرِّر الواقع وهو علمه عليه السلام، وتقرير الحقيقة الثابتة للناس أجمعين، وهي أنَّ عذاب الله الذي يجيء بغتة في خفاء أو جهرة في وضح النهار لا يهلك إلّا القوم الظالمون؛ فهو جاء لأجلهم منصبًّا عليهم، وهنا أمران يجب التنبيه إليهما.

أولهما: إنَّ الزمخشري ومن حاكاه كالبيضاوي وغيره قالوا: إنَّ الكاف حرف لتأكيد الخطاب لا موضع لها من الإعراب، فهي ليست ضميرًا، ولكنَّها من الحروف التي تبنى على غير محل من الإعراب، وحجتهم أنَّ رأى استوفت المفعولين من غير تقدير

ص: 164

الكاف في موضع الضمير، ونحن نميل إلى أنَّها ليست زائدة لتأكيد الكلام، وليست حرفًا، ولكنَّها اسم بمعنى أنفسكم، ويكون تأويل القول على هذا: أرأيت أنفسكم، وجمع ليشمل كل الناس وكل المخاطبين، وعلى هذا التأويل يكون المعنى: أرأيت أيها النبي الناس وقد صاروا عرضة لعذاب يعمّ الجميع أم يخص الظالمين الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الناس وظلموا العقل فضلّوا وأضلوا كثيرًا، وأفسدوا في الأرض والله لا يحب الفساد.

الأمر الثاني: إنَّ قوله تعالى: {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} فيه استفهام إنكاري بمعنى إنكار الوقوع، والمعنى: لا يهلك إلّا القوم الظالمون، واقتران الكلام بالوصف يدل على سبب استحقاق الهلاك وهو الظلم، فبظلم منهم هلكوا، وكان ذلك تأكيدًا للنفي بذكر السبب في أنهم اختصوا بالهلاك.

ومن هذا النوع في الاستفهام الذي اقترن بتاء الخطاب والكاف، وكان كلاهما بالمفرد، قوله تعالى:{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا، قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} [الإسراء: 62، 63] .

والله سبحانه وتعالى يحكي عن إبليس اللعين وهو يخاطب رب العالمين، والاستفهام لتقرير الواقع لا لنفيه، والكاف على قول الزمخشري هي تأكيد لمعنى التأكيد، ونحن نرجِّح ذلك؛ لأن التاء مفرد والكاف مفرد، وهو تأكيد لفظي يتوافق فيه المؤكِّد مع المؤكَّد في الإفراد والجمع، أمَّا الاستفهام السابق فمعنى التأكيد فيه بعيد، للتخالف في الإفراد والجمع، وهذا النوع من البيان لتصريف القول، وقد ذكر طبيعة إبليس الفاسدة بأنه سيجعل ذلك الذي كرَّمه تعالى عليه الهلاك لذريته إلا قليلًا، وهذا من غرور إبليس، ومن يسكن الشيطان قلوبهم، وهذا كقوله:{وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39، 40] .

ونلاحظ أنَّ دخول الاستفهام على رأي، مع وجود ضميري خطاب في جملة واحدة أو على قول الزمخشري: ضمير خطاب وحرف خطاب، هو استعمال قرآني، لا أعرف أنَّ العرب قد استعملوه كثيرًا قبل القرآن، وفيه من معاني الاستنكار أو التنبيه أو التعجب في أبلغ صور، وأنَّ هذا من سرِّ الإعجاز، ودليل على أن القرآن لم يكن علمه البياني عند العرب من قبله.

98-

والاستفهام أحيانًا يكون للتسوية بين أمرين، ويكون هذا لبيان وحدة النتيجة والغاية مثل قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] ، وإن أداة الاستفهام في هذا ليست للاستفهام الحقيقي،

ص: 165

ولا للإنكار ولا للتعجب، ولا لغير ذلك مما ذكرناه من مقاصد للاستفهام، وفي النص القرآني تأكيد لجحود الذين كفروا، والإشارة إلى أنهم سبقوا إلى الجحود، فالأدلة مهما تكن قوية لا تجد مكانًا فارغًا لتملأه، ولكنها تجد قلبًا مملوءًا جحودًا، فلا سبيل لأن يدخل الحق، ومن ذلك قوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21] .

فهنا كانت التسوية بين أمرين من حيث الانتهاء إلى نتيجة واحدة، فإن الأمر الذي لا يكون ثمَّة مفر منه، يست

وي فيه الصبر والجزع من حيث إن كليهما لا يدفع المحظور، وإن كان الصبر أجدى؛ لأنه يوجد في الجملة قرارًا ورضا وتقديرًا للأمر، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن صبرتم أجرتم، وإن جزعتم وزرتم".

وقد تكون ألف الاستفهام للترديد بين أمرين في ظاهر القول، وليست الغاية متحدة، والعقل يقرر صدق أحدهما في قوله تعالى:{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات: 27-29] فإن هذا الاستفهام ليس فيه تسوية بين أمرين في الحكم أو النتيجة والغاية، بل المعقول يثبت أحدهما وينقض الآخر بدليل من العقل والحس، فإنه لا شك أن الأشد خلقًا هو الأكبر حسًّا، والأعظم تأثيرًا، والأدق إحكامًا، وهو السماء بما يتصف فيها، وإذا كان سبحانه مالك السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من دابَّة، فهو على ما يشاء قدير.

ومؤدَّى هذا الكلام نفي سلبي وحكم إيجابي، فأمَّا النفي السلبي فهو أنَّ الإنسان ليس أشد خلقًا، وأما الحكم الإيجابي فهو بيان سلطان الله سبحانه وتعالى القاهر فوق كل شيء.

وهذا النوع من الترديد إنما يكون دائمًا لحمل المخاطب على الحكم الصحيح، فهو لا يدل على التسوية، بل يدل على التفرُّق في الحكم، ولينطقوا بالصواب أو ليلتزموا به إن لم ينطقوا، أو ليفحموا إن لم يسترشدوا وضلوا، وهو استدلال على الحكم، ومن ذلك النوع من الاستفهام قوله -تعالت كلماته:

{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ

ص: 166

شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 85-73] .

ونرى هذه الاستفهامات المتقابلة التي يجيء فيها بين الاستفهامين لفظ أم التي تدل على التعادل بالظاهر من اللفظ، ولكنَّها ليست متعادلة من درجة الحقيقة الثابتة، فهي مقابلة بين حق وباطل، للتنبيه على الحق بالدليل، والتنبيه بالاستفهام بطريق التقابل، فإذا الخالق هو الله سبحانه، فالفطرة والبداهة والحس تقرران الأول، فالحكم بلا ريب ينتهي بمقتضى التقابل هو أنَّ الخالق هو الله سبحانه، وكذلك الأمر في الزروع، وكذلك الأمر في الماء، وكذلك الأمر في النار.

فهو استفهام ليس على حقيقته، ولا للإنكار المجرد، ولكنه للتنبيه والاستدلال على الحق بالإشارة إلى البطلان الذي يكون في الجانب المقابل للحق، فإنه إذا بطل النقيض كان الحكم بصحة نفيضه، فإذا كان التردد بين كونهم الخالقين، والخالق هو الله، وتأكّد بالحسِّ بطلان وصفهم بالخلق، فقد ثبتت صفة الخلق لله تعالى، وبذلك يكون الاستفهام للتنبيه والاستدلال كقوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] .

ومن ذلك النَّوع ما حكاه الله تعالى عن سيدنا يوسف، وهو يقول لصاحبي السجن:{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] ، فإنَّ هذا التقابل بين باطل تثبت البداهة بطلانه، وإذا بطل أحد المتقابلين صدق الآخر، فكان الاستفهام للتنبيه إلى الحق مؤيدًا بالدليل القاطع.

99-

والاستفهام للتنبيه كثير في القرآن، وكذلك لإثارة العجب حول ما يدَّعون من ترهات وأباطيل، وبيان وجه غرابتها، ولا يمكن إحصاء ذلك، واستقراؤه وتتبعه، ولكن يمكن ضرب الأمثال، وما يذكر يكون شاهدًا على ما لم نرطب ألسنتنا بتلاوته، ولا أسماعنا بالاستماع له والإنصات والتدبر فيه.

اقرأ قوله تالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ، فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات: 24-29] إلى آخر القصة، وترى القصة ابتدأت بالاستفهام للتشويق وللتنبيه إلى الاستماع، وقد ابتدأت بعبارة فيها إجمال لتكون تمهيدًا لما يجيء بعد ذلك من التفصيل.

ص: 167

ومن الاستفهام الذي للتنبيه إلى قدرة الله تعالى، وهم لا ينكرون الجواب، فيكون الاستفهام للإقرار به وتقريره قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ، فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 31-36] .

ففي الآية الأولى كانت أربعة استفهامات عن الرزق من يرزقه، وعمَّن يملك السمع والأبصار فيسلبهما إن شاء أو يبقيهما، ويردهما إن سلبهما، وسألهم عمَّن يخرج الحي من الميت ومن يدبّر الأمر، فسيقولون الله في إجابة هذه الأسئلة، فجاء الاستفهام الأخير في هذه محرّضًا على التقوى؛ إذ إنَّ التقوى كانت من نتائج إقراراهم بالإجابة الصادقة عن هذه الأسئلة التقريرة التنبيهية؛ إذ إنَّ العبادة لا تكون إلا الخالق وحده، فالمعبود الذي يستحق أن يكون إلهًا هو الخالق النافع الضار.

ونرى أنَّ الأسئلة كانت إجاباتها بالإيجاب لا بالسلب، وبَيِّنَ سبحانه وتعالى ما ترتَّب على الإيجاب بإقرارهم الصريح، وهو أن تمتلئ قلوبهم بتقوى الله تعالى، فلا تعبد غيره.

وجاءت الآيات بعد ذلك أسئلة، الإجابة في بعضها بالسلب؛ لأنها خاصة بما يشركون بها عبادة الله سبحانه وتعالى من أوثان وغيرها.

الاستفهام الأول كان عن شركائهم هل يفعلون ما قرروا أنَّ الله يفعله، ولسان حالهم أن يجيبوا بالسلب؛ لأنهم يرون أنَّهم لا يضرون ولا ينفعون، وسألهم عمَّن يبدأ الخلق ثم يعيده، ولسان حالهم يقوله: الله.

وهكذا نرى أنَّ الاستفهام في كل هذه المقامات في القرآن كان لإثارة التنبيه إلى الحقائق، وإذا انتبهت العقول اتجهت إلى طلب الحق في غير عوج بل بطريق مستقيم.

وإنِّي أحسب أنَّه بعد أن نزل القرآن وأشرب الناس مناهجه ومسالكه، كان من أجود الطرق التعليمية إثارة الانتباه بالاستفهام تنبيهًا إلى ما يوجه إلى التلاميذ من علم، فكان استفهام القرآن موضحًا أقوم المسالك للتنبيه إلى الحقائق وإثارة الأفهام إليها، وتفتيح الذهن لتدخل عليه المعاني، والحقائق العلمية.

ص: 168

100-

وإن القرآن سلك في الاستفهام مسلكًا لم نره كثير الاستعمال عند العرب من قبل نزول القرآن، ولكنَّه شاع بعد نزوله من غير سموِّ إلى مسلك القرآن، وهو دخول أداة الاستفهام على حرف النفي، مثل قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 6-11] .

فأنت ترى من السياق القرآني أنَّ همزة الاستفهام دخلت على لم التي هي حرف نفي، فالاستفهام دخل على حرف نفي وجاء بينهما فاء هي للدلالة على أن السؤال مرتّب على ما كان قبله، وما قبله كان تعجبًا من أمر البعث؛ إذ قالوا:{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} وإنَّهم كذَّبوا بالحق لما جاءهم، فكانت الآيات التي وليت الاستفهام ردًّا على تكذيبهم، وفيها الدلالة على إثبات ما أنكروا، فالفاء للدلالة على ترتيب الاستفهام، لكنَّها أخَّرت عن أداة الاستفهام؛ لأنَّ الاستفهام له الصدارة، فهي مؤخرة عن تقديم في نسق الترتيب الفكري.

والاستفهام الداخل على النفي مؤدَّاه الحث على النظر؛ لأن الاستفهام عن نفي النظر وتقرير عدم النظر، فإذا كان الاستفهام ابتداءً يقرر أنهم لم ينظروا، وفي النظر تَعَرُّف لآات الله تعالى في الكون، فالاستفهام وحرف النفي يدلان على الإثبات، وهو هنا طلب النظر، فكأنَّ المعنى: على هذا المنطق المستقيم ثبت أنكم لم تنظروا، فالواجب أن تنظروا، فالاستفهام ابتداءً كما يبدو من سياق الكلام يقرر أنهم لم ينظروا؛ لأنَّ عدم النظر كان موضع الاستفهام، ومن المقررات البلاغية أن الاستفهام دائمًا يدخل على ما يكون موضع شك، ويقدّم فيه ما يكون موضع الشك، فإذا كان موضع وقوع الفعل كان الاستفهام مسلطًا على الفعل، مثل قول الموحديين للوثنين:{أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} [الأنعام: 71] فهنا نجد موضع الاستنكار هو ذات الفعل، فكان عقب أداة الاستفهام، وإذا كان الفعل قد وقع وموضع الشك هو الفاعل، فإنه يجيء وراء الاستفهام؛ كقوله تعالى حكاية عن قوم إبراهيم؛ إذ رأوا أصنامهم جذاذًا، قال الله تعالى عنهم أنهم قالوا له:{قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 62] فالفعل ثابت بالعيان أمامهم، ولكن الفاعل هو الذي يريدون البحث عنه ومعرفته.

وبهذا المنطق البياني نرى أنَّ الاستفهام في هذا النص "أفلم ينظروا" داخل على الفعل المنفي، فإذا كانت الهمزة للتنبيه أو التقرير أو التوبيخ، لأنهم لم ينظروا، وهو

ص: 169

الراجح في نظري، فيكون لإنكار الوقوع وإنكار الواقع، وإذا كانوا يوبخون لأنهم لم ينظروا، فالتوبيخ يكون دعوة للفعل، وحثًّا على النظر.

ومن الاستفهام الداخل على النفي قوله تعالى في قصة القرآن عن أنبائهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ، قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 9، 10] ونجد في الاستفهام الذي صدرت به الآية الكريمة أن همزة الاستفهام دخلت على "لم" النافية، فكان موضع الاستفهام عدم إتيان نبأ الذين من قبلهم، ولو سرنا على ما يقتضيه السياق اللفظي للنص السامي يكون الاستفهام عن عدم الوقوع، ومعناه: إنه لم يأتكم، وإذا كان الاستفهام للتقرير أو التنبيه فمؤدَّاه أنه لم يأتكم ذلك، وفي هذا تشويق لمعرفته، وتوجيه لطلبه، ولذلك جاء من بعد ذلك النبأ عن الرسل السابقين، ويكون في هذا تثبيت الخبر لمن يطلبه مصغيًا إلى حقائقه معتبرًا بعبره.

ولقد جرت بين كُتَّاب علم البلاغة كلمة: نفي النفي إثبات، ويطبقونه على استفهام يدخل على فعل منفي، فيكون الاستفهام داخلًا على منفي، والاستفهام نفي، فيكون نفيًا لنفي، ونفي النفي إثبات، وإنَّ ذلك يسير إذا كان الاستفهام للإنكار، إنكار الوقوع، فيكون إنكارًا للمنفي فيكون إثباتًا، وقد قلنا: إنه حتى في هذه الحال لا يخلو الاستفهام من تنبيه وإقرار بما جاء الاستفهام عنه، ولكن الاستفهام الداخل على النفي يتضمَّن الحثّ على طلب الأمر المنفي الذي دخل عليه الاستفهام كما رأيت في قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ} كما تلونا من قبل، وقد يكون إلى تلقي علم ما نفى في حيز الاستفهام كما رأيت في الآية السابقة.

وقد يتضمَّن الحثّ على العمل، والتحريض عليه إذا كان ذلك العمر غير محقق في الوجود، أو هناك شروع في تحقيقه، وذلك يكون غالبًا عند فنيّ الأمر المستقبل كما نرى في قوله تعالى:{أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 13-15] .

ونرى من ذلك أنَّ الاستفهام دخل على النفي، وهو عدم القتال أو عدم الأهبة له، والاستعداد للتقدم، فالمستفهم عنه عدم القتال والاستعداد له وقد وجدت أسبابه، وتعدّدت موجباته، فكان الاستنكار منصبًّا على النفي والاستنكار لحال مستمرة حث

ص: 170

على تغييرها، وإذا كان الاستنكار على ما وقع توبيخًا لمن أوقعه، فالاستنكار لأمر لم يقع بظاهر الحال واستصحابها تحريض على تغييرها، وتوجيه للإتيان بها.

وإنَّ الاستفهام الذي ينطبق عليه قول بعض الكتاب في علم البلاغة، وهو: نفي النفي إثبات، يكون في مثل قوله تعالى:{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 37-40] وترى من هذا أنَّ الاستفهام دخل على النفي فكان إنكاريًّا لنفي الوقوع، فنفى على زعمهم القائل أنَّه لم يك في نشأته من مني، أو كانوا عن ذلك في غفلة ساهين، وكانوا في حاجة إلى التذكير، والإحساس بمبدئهم، ليعرفوا منتهاهم، وإنَّ الذي أوجدهم من منيٍّ أشخاصًا ذكورًا وإناثًا قادر على إعادتهم، كما بدأهم يعودون.

فالاستنكار لجهلهم هذه الحقيقة، أو تجاهلهم، وكأنهم لا يعلمون، فاستنكر هذا عليهم فكان نفيًا مستنكرًا لحال التجاهل.

ولا شكَّ أن هذا فيه تنبيه، وفيه لوم على تجاهلهم تلك الحقيقة، وبيان أنه يجب عليهم أن يعرفوها، ليكونوا في تذكر دائمٍ بقدرة الله تعالى في تدرجهم في الوجود من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، ويعلموا بذلك قدرة الله تعالى على الإعادة.

ومن الاستفهام الداخل على النفي الذي هو من قبيل أن نفي النفي إثبات، التنبيه إلى أن النبي يصنع على عين الله تعالى، ويتولَّاه، وألا يكون في يأس من رحمة الله تعالى، ومن ذلك قوله تعالى:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: كلها] .

فإنَّ الاستفهام هنا لإنكار الوقوع، أي: لإنكار أنَّ الله تعالى لم يشرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم ليتلقَّى الوحي الذي أوحى به إليه، وإذا كان الإنكار نفيًا فالمؤدي للقول: قد شرحنا صدرك، وكان الاستفهام للنفي.

101-

وإننا في ختام هذا البحث من التصريف البياني في القرآن نقرر بالنسبة للاستفهام فيه، أنَّ الاستفهام باب من تصريف القول في القرآن، وفيه من أسرار الإعجاز ما فيه، فمن الاستفهام ما يكون بعبارات تتفق مع النسق العربي السليم، ولكنَّه لم يعرف بين البلغاء قبل القرآن، وإني أرى أن أكثر صيغ الاستفهام التي جاء بها القرآن غير مسبوقة قبله، وأنَّ الاستفهام كان يستعمل أحيانًا للتنبيه، وأحيانًا للاستدلال، وأحيانا للتعجّب، وأحيانًا ليوجه الأنظار إلى الكون وما فيه، وما يجري بين الناس، وأنَّ ذلك كله مما يدل على علوِّ القرآن على مستوى ما كان عليه أكبر البلغاء، وأقواهم سلطانًا في الأسلوب العربي.

ص: 171

‌الحقيقة والتشبيه والاستعارة في القرآن:

102-

هذا باب من أبواب تصريف القول في القرآن وضرب الأمثال به، والحقيقة في اصطلاحنا ليست مقابلة للمجاز بكل فروعه فقط، بل هي مقابلة للمجاز والتشبيه والاستعارة، وهي ضرب من ضروب المجاز، وإذا كان علماء البلاغة يعدُّون التشبيه من قبيل الحقيقة؛ إذ إن أساس الحقيقة في نظرهم أن يستعمل اللفظ فيما وضع له، والتشبيهات التي تكون بأدوات التشبيه الألفاظ فيه موضوعة في مواضعها، والمجاز الذي يقابل الحقيقة أنْ تكون الكلمة دالة على غير ما وضعت له؛ لعلاقة بين المعنى الأصلي والمعنى الذي استعملت فيه مع قرينة دالة على هذا وعدم إرادة المعنى الأصلي.

ذلك هو اصطلاح علماء البلاغة، ولا غبار عليه، ولكنَّا في مقام الإعجاز القرآني نذكر الحقيقة -غير المجاز، غير التشبيه، ونريد الحقيقة المجردة، أي: استعمال الألفاظ فيما وضعت له من غير ذكر مقابلة بين لفظ ولفظ عن طريق التشبيه الذي يجمل المعاني أو يقرّبها، أو يأتي بصورة بيانية تلتقي فيها الحقيقة مع إثارة خيال يكون كأطياف الصور.

فالحقيقة التي نطق عليها حقيقة ونحن نتكلَّم في القرآن هي ما تدل عليه الألفاظ في أصل وضعها من غير مجاز ولا استعانة بتشبيه، ولا مشاحة في الاصطلاح. ونتكلم هنا في الحقيقة والتشبيه، والاستعارة التي هي التشبيه من غير ذكر أداة التشبيه أو ما يدل عليه. وفي القرآن هذه الأمور كلها مع أنواع المجاز المرسل الذي لم تكن العلاقة فيه بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي المشابهة بينهما.

103-

إنَّ القرآن قد كان فيه التعبير بالحقيقة، وهنا نجد السكاكي يعتبر التعبير المجازي أبلغ من التعبير عن المدلولات بالألفاظ التي وضعت لها، وقد يكون ذلك في غير القرآن، ولكنه ليس على إطلاقه حتى في غير القرآن، أما القرآن فليس فيه جزء أبلغ من جزء ولا أبين، بل كل في موضعه وفي منهاجه، بلغ أقصى درجات البلاغة التي لا تسامي ولا تناهد، وليس في طاقة أحد من البشر أن يأتي بمثله.

ولا شك أنَّ بعض الموضوعات القرآنية لا يكون للمجاز أو للتشبيه فيها موضع، بل إن المجاز والتشبيه فيها يخلّ بالبلاغة فيها حتى في كلام الناس، وليس من النثر الفني فيها التشبيه إلا أن يكون للتقريب.

ص: 172

وإن الحقيقة تستعمل في كثير من مواضع القرآن كالأحكام الشرعية التكليفية؛ لأنَّ بيانها يحتاج إلى أن تكون الكلمة محدودة المعنى ليتمَّ القيام بموجبها، وتكون الطاعة محدودة المعالم، لا احتمال فيها؛ إذ إنَّ المطالبة يعمل توجب تعيينه بما لا يوجد فيه احتمال لمعنى غير المراد، ليتمَّ التكليف على بينة وعلم واضح بالمطلوب.

وكذلك القصص، فإن القصص ذكر لحقيقةٍ ما وقع لتكون به العظة الكاملة، بحيث يتجه التالي للقرآن إلى مغازي القصة، ومراميها من غير تزيد، كما رأينا في كثير من القصص القرآني فيما تلونا من قصص نوح وإبراهيم وموسى ويوسف من قبله، فإنك ترى فيه الحقائق مجردة إلا من بيان وجه العبرة، ولا تجد المجاز والتشبيه إلا قليلًا.

وكذلك الاستدلال على الوحدانية بالنظر في الكون وما اشتمل عليه، والنظر في الشمس والقمر والنجوم المسخرات وهكذا، مما يوجب الاتجاه مباشرة إلى الحقائق.

104-

وإن بلاغة الحقائق التي تذكر من غير استعانة بمجاز أو تشبيه لا تقل عن المواضع التي كان فيها تشبيه أو مجاز بالاستعارة أو غيرها، فإن ذلك يكون لمعان مقصودة، وغايات أخرى وراء فكرة البلاغة التي هي وصف عام للقرآن كله من غير تفاوت، لأنها تتعلق بكتاب الله العزيز الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، ولو كان معه الجن والإنس، كما قال تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] .

ويقول في ذلك الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن: "إن عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت، ولا يتباين، على ما يتصرف فيه من الوجوه التي يتصرف فيها من قصص، ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة وشيم رفيعة، وسير مأثورة، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها، وتجد كلام البليغ الكامل، والشاعر المفلق، والخطيب المصقع يختلف على حسب الأحوال".

وبعد أن يبين اختلاف البلغاء فيما يجددون من أبواب ثم يقصرون في غيرها فيقول: "وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه على حد واحد في حسن النظم وبديع التأليف والوصف لا تفاوت فيهن ولا انحطاط عن المنزلة العليا. ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا، وكذلك تأملنا ما ينصرف فيه من وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة فرأينا الإعجاز في جميعها على حدو احد لا يختلف، وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتًا وتبينًا، ويختلف اختلافًا كبيرًا، ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة، فرأيناه غير مختلف ولا

ص: 173

متفاوت، بل هو نهاية البلاغة، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر؛ لأنَّ الذي يقدرون عليه قد بيَّنَّا فيه التفاوت الكثير عند التكرار وعند تباين الوجوه".

ونرى من هذا أنَّ الإجماع على أنَّ القرآن كتاب الله لا تتفاوت عباراته1؛ لأنه من عند الله الذي لا تفاوت بين الأشياء عنده، ولا فرق في البلاغة بين ما كانت الحقائق فيه تذكرة مجرَّدة عن التشبيه والمجاز.

ولنذكر بعض آيات الأحكام التي تذكر الأحكام مجردة، اقرأ آية المحرمات، قال الله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء: 22-25] .

هذا آية من آيات الأحكام لم يستعمل فيها المجاز ولا التشبيه، ومع ذلك هي بالغة من البلاغة حدَّ الإعجاز القرآني، فالتآخي بين الألفاظ والمعاني ثابت، حتى إنَّ كل كلمة فيها حكم تومئ إلى التي تليها، مع بيان الحكمة الشرعية، والتعيل لبيان المحرمات التي حرمها، وكانت حلالًا في الجاهلية في زعمهم؛ كزواج من كانت زوجة لأصل من أصوله، وابتدأ بها سبحانه لِمَا لها من خطر وشأن، إذ يتبين تحريم ما أحلُّوا بزعمهم، وما يبتدأ به الكلام يكون قوي التأثير، وقد وصفه سبحانه بأنه فحش في الواقع؛ لأنه أمر غير مألوف في الطبائع السليمة، والأخلاق الكريمة، وأنه ممقوت عند الناس لا يفعله رجل يألفه الناس بل يمقتونه، ولذلك كان يسمَّى عند العرب "نكاح

1 الإعجاز: 5، 56.

ص: 174

المقت"، فمع أنَّ الجاهلية ما كانت تحرّمه بزعمها، كانت تكرهه وتمقته، ولا يفعله الكرام.

ولمَّا جاء النص الكريم بتحريم الأمهات وهنَّ الأصول من علٍ، استشرفت النفس لمعرفة حال البنات، أتحلّ أم تحرم، فجاء التحريم في وقت الاستشراف إليه والتطلع نحوه، فكان البيان وقت الحاجة إليه، وكذلك الأخوات وهنَّ أولاد الآباء والأمهات والعلاقة بهنَّ تلي العلاقة بالأولاد، ثم جاء من بعد أولاد الأبوين، وهنَّ الأخوات أولاد الأجداد، وهنَّ العمات ثم الخالات فكانت كل طائفة ممهدة لذكر التي تليها، تجذبها إليها بمقتضى تداعي المعاني، كل معنى يدعو أخاه، وكل واحدة تلتحم مع أختيها في تآلف لفظي، وتآخٍ معنوي.

ولقد كانت المرضع تعد أمًا كالأم النسبية؛ لأن هذه إذا كانت قد حملته في بطنها، وغذته من دمها جنينًا، فتلك قد وضعته في حجرها وغذته من لبنها رضيعًا وأنشزت عظامه، وأنبتت لحمه، كما كانت الأولى، فكان من تداعي المعاني أن يذكر في إيجاز غير مخلٍّ الأمهات الرضاعيات من أولادهن، ومن التقى معه على ثدي واحد.

كان من مقتضى التناسق المعنوي أن تذكر بعد صلات النسب الصلات السببية، وهي المصادرة، فابتدأ بأمهات الزوجات، ثم اتجه الذهن بعد تحريم أمهات نسائكم إلى الربائب؛ لأنه إذا ذكرت الأم تطلَّعت النفس إلى ذكر حكم البنت، فذكر بعد تحريم أمهات الزوجات ما يتعلق بتحريم بنات النساء وهنَّ الربائب، وذكر حكمة التحريم وهي أنَّهنَّ في حجره وكبناته.

وإذا ذكرت أمهات الزوجات وبناتهن، وزوجات الآباء، يكون لتتميم القول، ولما يستدعيه قانون تداعي المعاني أن تذكر زوجات الأبناء أهنّ حلال أم لا.

وهكذا نرى أن المعاني كل وا حدة تدعوها السابقة فتلاحقها في اتساق ونسق جامع.

وكل ذلك في نغم متآخٍ، وفي صورة بيانية من مجموع القول، فعندما تقرأ الآيات من أولها إلى آخرها تجد صورة بيانية لأسرة متكاملة، ليس فيها تقاطع، بل فيها تراحم وتواصل ومحبة ومودة، فما كان ذلك التحريم إلّا لتكون المودة هي الواصلة، فلا يفحش ابن مع أبيه، ولا يمقت ولد أباه، ولا يعتدي أب على ابن.

وإنَّ ما اختص به القرآن من تقابل بين الحقائق في البيان، وتوافق في العبارات من غير منافرة، ولا معاضلة، متحقق ثابت لا مجال لإنكاره، وما اختصت به العبارات من إشراق وضياء، تجده منيرًا حول الكلمات.

ص: 175

وإذا كنا قرأنا آيات الزواج وتكوين الأسرة، فلنقرأ حكم الله إذا تنافر ودها، وأصبح التفرق بينهما أمرًا لا بُدَّ منه:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} ، فقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا، فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا، ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا، أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى، لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 1-7] .

وترى من هذه النصوص القرآنية أنها تضمنت أحكامًا كثيرة، تضمنت أحكام الطلاق وأحكام العدة، وأحكام الرجعة، وأحوال المعتدات، وتضمنت بعض أحكام الرضاعة، وأحكام النفقات بين الزواج، وخروج المعتدات من بيوتهن.

وهنا نلاحظ ملاحظة نفسية قد نبَّه إليها القرآن الكريم في ألطف تعبير وأعطف نص، وكأنه بلسم لشفاء نفس مجروحة، قد أرثتها حرقة الألم بسبب الفراق، وذلك أنَّ الآيات موضوعها الطلاق، وهو لا يكون إلّا إذا تعذَّر الوفاق، فالنفوس تكون مضطربة، واليأس يكون مخيمًا، والعلاقات تكون في حال يائسة، ولذلك نجد فتح باب الأمل لتلك النفوس التي اعتراها يأس من الحياة الزوجية السليمة؛ إذ يقول سبحانه بعد وضع الحدود، وأن من يتعداها يظلم نفسه {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] ، ثم يبين سبحانه وتعالى العدة، ويبين أنها فيصل تفرقة أو عودة، وأنَّ المطلوب إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ويذكر أنَّ الأمر قد يكون في طيَّاته ما يخرج النفوس من مضطرب الخلاف إلى متسع الوفاق، فيقول سبحانه:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] من ذلك المزدحم الذي تعترك فيه الأحاسيس والمشاعر بين عشرة طيبة أو فرقة لا ظلم فيها، ويقول سبحانه وتعالى في ذلك المقام أيضًا:{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] وبعد أن يبين سبحانه وتعالى العدة للآيسة

ص: 176

من الحيض، ومن لم تره وهي ثلاثة أشهر، ثم يبين عدة الحامل بعد أن يبين عدة الحائل هنا، ويقول لنفوس محرجة آسفة حزينة عرفت الحاضر والماضي، قد فات إن خيرًا وإن شرًّا، وهي تجهل القابل، فهي تجهل ما يطويه، فيقول سبحانه:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] ، ويذكر سبحانه وتعالى وجوب النفقة في مواضع وجوبها، وأحوال وجوبها، والإرضاع ووجوبه، ثم يبين مقدار الواجب، على أن يكون على قدر طاقته، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] .

وهكذا نجد العبارات القرآنية السامية فيها طمأنة النفس على ما يطويه المستقبل، فيجعل لهم رجاء بمخرج يخرجهم، أو يجعل من أمره يسرًا، وإن هذا النوع من القول هو الذي يقال عندما تتأزم النفوس، وتقطّع العلاقات بعد ودٍّ كان دائمًا أو كان يرجى له الاستمرار، ويشترط لتحقيق ذلك الأمر الذي فرج الله به الكروب التقوى والعمل الصالح، وإن هذين إذا تحققا في تلك الحال طابت النفوس ورضيت بالواقع إن لم يكن منه مناص، وغيرته بالإيمان إن كان ثمَّة محل للتغيير.

وإن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ليعلم الذين يرون أسرة قد ضاقت صدور أهلها حرجًا، واستولى عليها من الحياة الزوجية الصالحة يأس وغلبت شدتها، وذهب رخاؤها أن يفتح باب الرجاء فيها بعد إغلاق الآمال، وأن يكون ميسرًا، ولا يكون معسرًا، وأن يكون مبشرًا، ولا يكون منفرًا.

وإن تلك النصوص القرآنية السامية تجد فيها البلاغة التي تصل إلى أعلى الدرجات في ذاتها لا في نسبتها، فابتدأ الله تعالى الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم خاطب المسلمين من بعد مواجهته، وخوطبوا بالجمع للإشارة إلى تكافل جمعهم، وتضافرهم وتعاونهم على البر والتقوى في المواطن الحرجة، والاستعانة بالمشورة والرأي، وقد أمر بالرفق بالمرأة، فلا يطلقها إلَّا وهي متصلة بحالة العدة، لكيلا يرهقها بإطالتها، فتكون بين اليأس والرجاء في قلق نفسي، وهكذا استمرَّت الأحكام الرفيقة تبين الآيات منها حكمًا بعد حكم.

وجمال التعبير يشرق دائمًا، وحلاوة النغم تنساب في النفس انسياب النمير العذب، كما تنطلق الأحكام إلى العقل والقلب في اتعاظ واعتبار واهتداء إلى الحق، وفي انسجام فكري.

وإذا كان سرد الأحكام وخصوصًا في موضع دقيق كأحكام الأسرة يكون بادي الرأي في كلام الناس جافًّا غير مشرق، فإن ذلك في كلام الناس، أمَّا في كلام الله تعالى فإنَّه مشرق طيب الأعراق، واضح القسمات في نغم هادئ يطب للقلوب جفاءها، فيذهب، وللنفوس فتنقى الشح، وهو عظة وهداية وتوجيه إلى العدل المطلق المنظم للأسرة في سلامتها وبقائها، وفي فصلها وانتهائها، وسبحان الله العليم الخبير.

ص: 177

‌التشبيه في القرآن:

105-

انتهينا إلى أن التشبيه في القرآن ليس هو مقياس البلاغة، لأن البلاغة القرآنية العالية كما تكون في حال التشبيه والاستعارة والمجاز، تكون أيضًا في الكلام الخالي من كل هذا، وأخص ما يكون ذلك في آيات الأحكام، وقد يكون في القصص والاستدلال، وغير ذلك مما نعرض له، وقد تلونا آيات من آيات الأحكام، وجدنا فيها النص الكريم في حقائقه، وفي بعده عن كل المحسنات البديعية أعلى من كل كلام، وهو بديع في ذاته من غير حاجة إلى البديع الصناعي، أو الاصطلاحي، فإنه فوق قدر البشر، وفوق ما يصطنعه البشر، وما يصطلح عليه العلماء، وإنه يتعلم منه، وإن كان لا يحاكي، ويؤخذ منه، وإن كان الوصول إلى مقامه غير ممكن.

لقد ذكر الرماني في رسالته "النكت في إعجاز القرآن": "التشبيه: هو العقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الاخر في حس أو عقل، وإن ذلك التعريف يضع المشبه والمشبه به في مرتبة واحدة، وإني لا أرى ذلك، ولا يراه علماء البلاغة الذين جاءوا بعد أبي الحسن الرماني المتوفى سنة 386هـ- فإنهم يعرفونه بأنه جعل أحد الشيئين في مقام الشيء الاخر لأمر مشترك بينهما. وهو في ثانيهما أقوى مظهرًا أو أبين مخبرًا، كما تقول على كالأسد في الشجاعة، فهو في الأسد أظهر، ولا يمكن أن يقال: "إن أحدهما يسد مسد الآخر، صورة ومعنى".

ولنترك التعريف مع رأينا فيه، ولننظر في قوله من بعد، فهو يقول:"وهذا الباب يتفاضل فيه الشعراء، وتظهر فيه بلاغة البلغاء، وهو على طبقات في الحسن، فبلاغة التشبيه الجمع بين شيئين بمعنى يجمعهما، والأظهر الذي يقع فيه البيان بالتشبيه على وجوه" ويذكر وجوه التشبيه وأنواعه فيقول في ذلك:

"منها إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة، ومنها إخراج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به عادة، ومنها إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة، ومنها إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما لا قوة من الصفة، فالول نحو تشبيه المعدوم بالغائب، والثاني تشبيه البعث بعد الموت بالاستيقاظ بعد النوم، والثالث تشبيه إعادة الأسجام بإعادة الكتاب، والرابع تشبيه ضياء النهار".

ولا شك أن هذه الوجوه لا تشمل كل أقسام المقسم، فهن التشبيهات ما ليس بوجه من هذه الوجوه، كتشبيه غير الواضح بالواضح، كما ترى ذلك في كثر من

ص: 178

الآيات القرآنية، وكالتشبيه الذي يقصد به بيان ما أكنَّه سبحانه، وما خلق وما دبَّر فهو تقريب بالمغيب عنه إلى المعلوم لنا، وما عند الله أعظم وأكبر، وقد يكون التشبيه لتقريب المعنى الكلي من المعنى الجزئي، أو لتصوير المعني الكلي في بعض جزئياته؛ كقوله تعالى:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] فإنه كان عقد المشابهة بين المعنى الكلي وهو المعنى الجامع الذي يوضح به الحقائق بالأمثال التي ضربها وبينها للناس، ومن ذلك الأمثال التي تضرب لتقريب أصل الخق والتكوين من عقول الملكفين، وهكذا. وقد يكون هذا يتضمنه مطوى كلامه، ولكنه غير بيَّن.

ولقد قسَّم أبو الحسن الرماني التشبيه بالنسبة للغرض منه إلى قسمين: فيقول: التشبيه على وجهين: تشبيه بلاغة وتشبيه حقيقة، فتشبيه البلاغة كتشبيه أعمال الكفَّار بالسراب، وتشبيه الحقيقة نحو: هذا الدينار كهذا الدينار، فخذ أيهما شئت".

ونحن نقول: إن ذلك التقسيم يجوز أن يكون بالنسبة لكلام الناس، أمَّا القرآن الكريم فإن كل تشبيهاته فيها البلاغة وفيها الحقيقة، والمثل الذي ذكره وإن كان في أعلى درجات البلاغة هو الحقيقة، فإن التشبيه صادق في الواقع؛ لأن أعمال الذين كفروا هي السراب الذي له واقع، ولكنَّه وهم يسيطر بأبصار ضالّ، فكما أنه لا جدوى منه، والمتعلق به لا يتعلق بأمر واقع، فكذلك إذا رأوا أن أعمالهم فيها خير يعود عليهم فهم واهمون، والصفة المشتركة في التشبيهين هي أن الوهم وهو ما ليس واقعًا، وتصوروه على أنه واقع، فقد تصوروا أن أعمالهم حسنة؛ إذ زينت لهم أمرًا فظنّوه أمرًا حسنًا، كمن يرى السراب فيحسبه ماء وهو ليس بماء.

ولذلك نقول: إنَّ الوجهين محققان في كتاب الله تعالى، ففي التشبيه القرآني الحقيقة الصادقة، والبلاغة القائمة المعجزة، وقد أتى بالأمثلة على وجه التشبيه التي ذكرها، وتبعه الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن، فلا ضير علينا إذا تابعناه، كما تابعه من كان عصره على مقربة من عصره.

106-

وقد ذكر الرماني، وتبعه الباقلاني مثلًا للتشبيه الذي شبه فيه ما لا يقع عليه الحس بما يقع بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39] .

هذا ما ساقه الرماني من الآية، ولنتمّه ببيان ما فيها من تشبيه، فقد قال تعالى بعد ذلك:{وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 39، 40] .

ص: 179

وقد علق الرماني على التشبيه الأول في الآية الأولى، فقال:"وهذا بيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسّة إلى ما تقع عليه الحاسة، وإن اجتمعا في بطلان التوهم مع شدة الحاجة وعظم الفاقة، ولو قيل: يحسبه الرائي ماء ثم يظهر أنه كان على خلاف ما قد رأى لكان بليغًا، وأبلغ منه لفظ القرآن؛ لأنَّ الظمآن أشدُّ عليه حرصًا، وتعلق قلبه به، ثم بعد هذه الأمنية حصل على الحساب الذي يصيره إلى عذاب الأبد، نعوذ بالله من هذا الحال، وتشبيه أعمال الكفار بالسراب من حسن التشبيه، فكيف إذا تضمن ذلك حسن النظم وعذوبة اللفظ، وكثرة الفائدة، وصحة الدلالة".

ولم يبين لنا الرماني لماذا كان تعبير القرآن في التشبيه حيث يرى السراب، أبلغ من أن يقال يحسبه الرائي ماء، لم يبين بوضوح أوجه ذلك، ونرى أنَّ قول القائل يحسبه الرائي ماء يفسد التشبيه ولا يفيد الحاجة؛ لأن النص فيه ما يفيد الرغبة في طلب الماء وشدة الحاجة إليه، وذلك محقق في المشبه؛ إذ إن الذين كفروا بآيات الله في وقت حاجتهم إلى عمل صالح يظنون أن عملهم هذا منه وهم محتاجون إلى ما يتقدمون به إلى ربهم من عمل صالح، كالظمآن يطلب الماء.

وأن التشبيه يدل على حيرة الكافرين حتى يتوهموا ما لا يقبل الوقوع واقعًا، وقد أكَّد حيرتهم ما جاء بعد ذلك؛ إذ يقول سبحانه وتعالى:{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] .

فإذا كان التشبيه الأول شبه حالهم بحال من يتوهمون في عملهم خيرًا، فيكونون كالظمآن يحسب السراب ماء لحيرتهم، واضطرابهم وحاجتهم إلى الماء، فالمثل الثاني يصور حيرتهم، بسبب أنهم في ظلام دامس، فقد شبه سبحانه وتعالى حالهم من حيث الحيرة والتباس الأمور عليهم، وانقطاع المل وأنَّهم يظنّون الخير حيث لا مظنَّة، أعمالهم بظلمة حالكة فوقها ظلمة مثلها، وفوق هذه الظلمات سحاب يوجد غمَّة، فليست أعمالهم خيرًا ولكنها شرٌّ عظيم عليهم، وهم يضاعفون من الظلمات بتوالي أعمال الشر فيهم، وسيهم في طريق الغي الذي لا حدَّ له، وقد تكاتف عليهم سوء ما فعلوا.

وخلاصة ما يستنبط من التشبيهين أنهم في حيرة يطلبون ما ينجيهم فلا يجدونه، وإذا توهموه في أمر زال الوهم بالحقيقة المبصرة، وأنهم بسوء أعمالهم في ظلمات بعضها فوق بعض، وهي في نفوسهم، وما يحيط بهم ظلمة داكنة لا يجدون بصيصًا من الأمل يفتحون أعينهم لرؤيته.

والتشبيهان يعطيان صورتين من البيان تدلان على كمال الحيرة وكمال الظلمة، فالمثل الأول يعطي صورة عطشان يطلب الماء، فيتوهمه في سراب فيجري وراءه

ص: 180

عطشان صاديًا، حتى إذا أجهدته المشقة وبعد الشقة لا يجد شيئًا، والثاني يعطي صورة لشخص كانت عليه الظلمات توضع واحدة فوق واحدة. وإذا كانت فيها فرجة يرجو منها الرؤية لا يصل إليه النور للسحاب الذي كأنه الغمة، ومن تشبيه الأمر غير المحسوس بالأمر المحسوس، كالمثل السابق في قوله:{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18] .

ويقول الرماني في التعليق على التشبيه: "فهذا بيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة، فقد اجتمع المشبه والمشبَّه به في الهلاك وعدم الانتفاع، والعجز من الاستدراك لما فات، وفي ذلك الحسرة العظيمة والموعظة البليغة" هذا كلام الرماني وهو صدق، وإني أذوق من التشبيه شيئًا بيانيًّا آخر، ذلك أن أولئك الكافرين كانوا يحسبون أن أعمالهم لها أثر في الوجود في زعمهم، ويتوهمون وقوع ذلك وأنهم قدموا، ولكنهم يفاجئون بربح شديدة في يوم عاصف تبدد ما كانوا عليه من أحلام، كانوا يتوهمون أنَّ ما لهم في الدنيا ينفعهم، فلمَّا جاء يوم القيامة بددت أحلامهم، فتقدموا عاطلين في حلبة العمل الطيب، وكان ذلك هو الضلال البعيد، لأنهم زعموا باطلًا، ثم رأوا الحقيقة عيانًا، وفي ضمن القول عبَّر عن عملهم بأنه سراب، أي: إنه شيء ليست له قيمة ذاتية بل هو هباء في ذاته.

107-

وقد جاء الرماني بمثل فيه تشبيه ما لم تجر به العادة بما تجري به العادة، وهو قوله تعالى في توثيق الميثاق على بني إسرائيل:{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171]، ويقول في ذلك الرماني:"وهذا بيان قد أخرج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به العادة، وقد اجتمعا في معنى الارتفاع في الصورة، وفيه أعظ الآيات لمن فكّر في مقدورات الله تعالى عند مشاهدته لذلك أو علمه به، ليطلب الخبر من قبله، ونيل المنافع بطاعته".

هذا ما ذكره الرماني في معنى التشبيه، وهو تشبيه ما لم تجر به العادة، إلى ما جرت به العادة، كأنَّ التشبيه كان لغرض تقريب المعنى، وتصوير الغريب كأنه قريب، وذلك في تشبيه الجبل مرتفعًا كأنه ظلة، وهذا المعنى في ذاته صحيح، ولكنه فيما أعتقد لا يصور معنى التشبيه من كل الوجوه؛ لأن رفع الجبل كان لتوثيق الميثاق عليهم، وحملهم على الأخذ به، وإثبات قدرة الله تعالى، وإلقاء المهابة في قلوبهم، فالتشبيه بالظلة للدلالة على الإحاطة، وتصويره لهم كأنه نازل بهم واقع عليهم، ليعرفوا أنَّ ميثاق الله له رهبته، وأن عليهم طاعته، ولذلك قال سبحانه بعد أن روا الجبل مرفوعًا

ص: 181

عليهم وأنه محيط بهم {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} -أي: بعزم شديد، {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .

ومن هذا النوع الذي ذكره الرماني قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] .

وقد أخرج الرماني التشبيه كالآية السابقة في نظره، فقال:"قد أخرج ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة، وقد اجتمع المشبه والمشبه به في الزينة والبهجة، ثم الهلاك بعده، وفي ذلك العبرة لمن اعتبر، والموعظة لمن تفكر في أن كل فانٍ حقير وإن طالت مدته، وصغير وإن كبر قدره".

وما ذكره الرماني حق في إيجاره، ولكنه ناقص، ونوضحه بعض التوضيح فنقول: إن التشبيه تصوير للحياة، فإن مثلها في بهجتها ومسراتها وهناءتها والسعادة فيها مهما تبلغ من المظهر البهي، والزينة الباهرة ليس لها بقاء، وإنما مآلها إلى الفناء، كمثل الماء ينزل من السماء فينبت النبات الذي يأكل منه الناس مستمتعين، والأنعام والدواب، وأنه إذ يبلغ أقصى زخرفه ونضرته ومتعته، وامتلاء أهل الأرض بالغرور، وظنَّوا أن كل شيء في قبضة أيديهم جاءهم أمر الله، فصار النبات هشيمًا، والإنسان رميمًا، كأن لم يغن أحد بالأمس.

وإن ما ذكره الرماني صادق في إيجازه، ولكنه لا يصور الصورة التي يدل عليها التشبيه، وهو يريك الحياة كالعروس في جلوتها، ثم كالهشيم في صغاره.

ومن التشبيهات التي ساقها الرماني قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ، تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القم: 19، 20] .

ويقول الرماني في بيان وجه التشبيه: "وهذا بيان قد أخرج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به عادة، وقد اجتمعا في قلع الريح لهما وإهلاكه إياهما، وفي ذلك توحد الآية الدالة على عظم القدرة، والتخويف من تعجيل العقوبة".

وإن هذا القدر الذي ذكره الرماني متحقق، ولكن لا يمكن أن يكون وجه التشبيه هو تشبيه ما لم تجر العادة به بما جرت به العادة فقط، إنما الألفاظ والأسلوب، وما يثيره من صور بيانية تعلو به عن أن يكون لمجرد إثبات ما لا تجري به العادة إلى ما تجري، إنما المقصود من التشبيه فيما نحسب تصوير عذاب الله تعالى، فالله تعالى

ص: 182

أرسل عليهم ريحًا شديدة البرد، في يوم كله بأس وشدة، وهو كالنحس عليهم، طويل في آلامه، ومستمر فيها ولو كان الزمن قصيرًا، ثم يصور الله تعالى نزع المشركين من غرورهم واعتزازهم بمالهم وطغوائهم، وينزعون بعنف شديد لا يقوون فيه على الامتناع ولا الإصرار على البقاء، كما تنزع مؤخرات وجذور نخل غاصت في أعماق الأرض.

هذا بريق التشبيه المرعد الذي يصور ما ينزل بالمشركين الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد.

ومن التشبيهات التي ذكرها الرماني على أنها تقرب ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة، قوله -تعالت كلماته:{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37] .

وقال في التشبيه: قد أخرج ما لم تجر به عادة إلى ما قد جرت به عادة، وقد اجتمعا في الحمرة وفي لين الجواهر السيالة، وفي ذلك الدلائل على عظم الشأن ونفوذ السلطان لتنصرَّف الهمم إلى ما هناك بالأمل.

وإنَّ تصوير التشبيه وقصره على ذلك الوجه، وهو تشبيه ما لم تجر به عادة إلى ما يجري به عادة، ربما يكون غير مصور لمعنى التشبيه، وما يثير من صور.

إن التشبيه تصوير لما يقع إذ تقوم القيامة، فالسماء ذلك البناء الذي تجري فيه الكواكب والنجوم، كل في مساره، وهي البناء الذي بناه الله تعالى شامخًا عظيمًا ذا بروج صار وردة كالدهان.

ومن ذلك تصويره للدنيا إذ تقوم القيامة، فتكون السماء لينة كالورد الذي يشبه الدهن مبالغة في ليونته التي تصل إلى حد السيولة.

108-

ويسوق الرماني أمثلة يتبين فيها تشبيه ما لم يعلم إلا بالنظر بما يعلم بالبداهة من غير محاولة نظر واستدلال، ومن ذلك قوله تعالى:{وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21]، ويقول في التشبيه هنا:"قد أخرج ما لا يعلم بالبداهية إلى ما يعلم، وفي ذلك البيان العجيب بما قدر تقرر في النفس من الأمور، والتشويق إلى الجنة بحسن الصفة مع مالها من السعة وقد اجتمعا في العظم".

وإنا نجد الآية الكريمة في تشبيهها ليست من قبيل تشبيه ما لا يعلم بالبداهة بما يعلم بالبداهة، فإننا نرى أن كليهما لا يعلم بمجرد البداهة، بل يعلم بالنقل المصدق، فهما سواء في صلتهما بالعلم الضروري، وإنَّما إذا قيل: إنَّ المراد تصوير المعقول بما يتصور أن يكون مشهودًا محسوسًا، والجميع بإخبار الله تعالى لا بمجرد النظر، سواء كان الأمر ضروريًّا أم نظريًّا، وإنا إذا تلونا ما قبل هذا النص وما بعده وهو قوله تعالى:

ص: 183

{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21] .

ونرى من هذا أنَّ المراد السعة في النعمة، وأن السعة في النعمة كالسعة في المكان، وهي تدل عليه، والمراد من الكلام كله الحث على طلب مغفرة الله تعالى، وأن الكلام كله يصور الجنة بأنها خير من الوجود كله، وأنها أوسع، وأنه إذا كانت النار تسع كل المجرمين؛ لأن لها سبعة أبواب لكل باب جزء مقسوم، فالجنة تسع المتقين الأبرار؛ لأنها واسعة عريضة كعرض السماء والأرض.

ومن التشبيه الذي ذكره الرماني على أنه تشبيه ما لا يعلم بالبداهة إلى ما يعلم بها قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]، ثم قال: "وهذا تشبيه قد أخرج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة، وقد اجتمعا في الجهل بما حملا، وفي ذلك العيب لمن ضيع العلم بالاتكال على حفظ الرواية من غير، ولسنا نرى في الكلام ما يدل على أن المشبه لا يعلم بالبداهة، والمشبه به يعلم بالبداهة.

إن الذي نراه ليس علم الرواية وعلم الدراية، وإنما الذي تتجه إليه الآية الكريمة في صدرها ونهايتها، وهو تشبيه علم لا يقرنه العمل، بعدم العلم، فهم يحملون علمًا لا ينتفعون به عملًا، بل يعملون بنقيضه، يحملون علم الهداية ولا يهتدون، كمثل الحمار يحمل أسفارًا.

وكان تشبيههم بالحمار الذي يحمل أسفارًا وهو غير صالح للانتفاع، وفي التعبير القرآني إشارة بيانية تبيّن أن العمل هو ثمر العلم، ولا يقال أنَّه قد نال من أخذه من غير عمل، وذلك قوله تعالى:{حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} أنَّ الله حملهم التوارة علمًا لأجل العمل، فعلموها ولم يعملوا بها، فكانوا غير حاملين.

109-

وقد ساق الرماني من تشبيهات القرآن تشبيهات فيها المشبه يكون أضعف صفة من المشبه به فيلحق به؛ لأنه أقوى صفة منها، ومن ذلك قوله تعالى:{وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الرحمن: 24]، ويقول في ذلك:"فهذا تشبيه قد أخرج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة فيها، وقد اجتمعا في العظم، إلا أن الجبال أعظم، وفي ذلك العبرة من جهة القدرة فيما سخر من الفلك الجارية مع عظمها، وما في ذلك من الانتفاع بها، وقطع الأقطار البعيدة فيها"، وإن ذلك الكلام حق، فإنَّه إذا كان الجامع بين المشبه والمشبه به القوة، فالجبل أقوى، وإذا كان الظهور فالجبل أظهر، ولكن يلاحظ أنَّ المقصود من التشبيه لا يعني به الرماني كثيرًا، بل تكون عنايته بالأوصاف الظاهرة، أو المقاصد القريبة. وأن المقصود في هذا السياق هو بيان سر الله

ص: 184

تعالى في خلقه وتخيره للإنسان، فإنه إذا كانت الجبال والأوهاد وجدها الإنسان كذلك، وهي رواسي الأرض، وبها ثباتها، فإن الجواري وهنَّ السفن التي تقارب في علوِّها وفي قوتها وأثقالها الجبال تجري على الماء وهو يحملها مع أنه سائل لا صلابة فيه، وتجري فيه، وتنقلهم إلى بلد لم يكونوا واصلين إليه بغيرها، فقدرة الله تعالى فيها أظهر؛ لأنها منشأة ترى نشأتها، وهي تجري بأمر الله تعالى ولا يجرونها.

ويضرب الرماني مثلًا فيما يجري في المعنويات. ومن ذلك قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 19] . ثم يقول: "وفي هذا إنكار لأن تجعل حرمة السقاية والعمارة كحرمة من آمن بالله وكحرمة الجهاد، وهو بيان عجيب، وقد كشفه التشبيه بالإيمان الباطل والقياس، وفي ذلك الدلالة على تعظيم حال المؤمن بالإيمان، وأنَّه لا يساويه مخلوق على صفته في القياس، ومثله قوله تعالى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21] .

ونجد الرماني في المثال يأتي بالتشبيه منفيًّا مستنكرًا، كما أتى به محققًا موجهًا، فإنَّ الاستفهام هنا لإنكار الواقع، فهُم قد آثروا أن يكونوا عامرين للبيت، قائمين بالسقاية والرفادة، وتنافسوا على ذلك زاعمين أنّ فيه الخير كله، وأنه قد يغنيهم عن الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله، بل يزعمون أنهم بدانة البيت الحرام، والقيام على السقاية والرفادة أفضل ممن آمن بالله وجاهد في سبيه، والحقيقة أنهما لا يستويان، فالإنكار للمشابهة والتساوي بينهما فضلًا عن اعتبار السقاية والعمارة أفضل وأشرف. والله سبحانه وتعالى أعلم.

هذا ما ساقه الرماني من وجوه التشبيه، وقد نقلناها، كما نقلها الباقلاني؛ لأنها وجوه لها اعتبارها؛ ولأن فيها ضبطًا لأقسام التشبيهات القرآنية، وإن كانت غير شاملة لكل الأقسام، بل إنها ذات وجوه شتى.

ولكنه لم يتعرض إلا قليلًا لأغراض التشبيهات ومراميها، وما تصوره من صور بيانية، وما تنتجه من بسط للمعاني النفسية، وتوجيه للحقائق الكونية والروحية، ووصف للملائكة الأطهار، والآدميين الأخيار.

ولنضرب بعض أمثلة القرآن الكريم التي تجعل فيها المعاني كأنها صور محسوسة لافتة للعقول إلى الكون وما فيه، أقرأ قوله تعالى في تشبيه المنافقين وترددهم بين الحق والباطل، وظهور ضوء الحق، وعمي بصائرهم عنه، فقد قال تعالى:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] ، وترى هنا تشبيه حال المنافق المضطرب بين

ص: 185

الحق والباطل، ولكن يريد الحق تابعًا لهواه، فهو يطلبه ليستضيء بنوره، ولكن ما أن يبدو النور حتى يصاب بالعمى بسبب الهوى الذي يسيطر على قلبه، فيضيء النور ما حوله، ولا يستضيء به، وهو الذي استوقد النار، ثم ينتهي أن يصبر كالصمّ الذين لا يسمعون؛ لأنه لا يستمع لنداء الحق، ويصير كالبكم؛ لأنه لا ينطق بالحق الذي يجب عليه أن ينطق به، وكالأعمى الذي لا يميز بين الأشياء؛ لأنه قد طمس الله تعالى على بصيرته فأصبح لا يميز بين باطل استهواه لفساد قلبه، وحق قامت البينات عليه، وفي الحكم عليهم بالصم والبكم والعمي تشبيهات فردية، وهي تقوم على التشبيه.

والتشبيه في هذا النص تشبيه حالٍ بحال، والآية صريحة في ذلك؛ لأنَّ الله تعالى يقول:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} ، أي: حالهم كحال الذي استوقد نارًا، فهو تشبيه تمثيلي شبهت حال المنافقين، وأكثرهم من اليهود في كونهم كانوا يتطلعون إلى نبي قد حان حينه، وأدركهم إبانه، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلمَّا بدا الضوء أضاء من حولهم، ولم يستضيئوا به، فلم يهتدوا بقولٍ سمعوه، ولا نطقوا بحق عرفوه، ولا استرعتهم بينات رأوها فكانوا صمًّا بكمًا عميًا.

وقد ضرب سبحانه وتعالى في السياق القرآني مثلًا بتشبيه آخر، بمثل جانبًا من جوابنهم، فقال بعد التشبيه الأول:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ، يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 19، 20] .

وفي هذا المثل شبه سبحانه وتعالى حالهم بأمرين: كل واحد منهما تشبيه قائم بذاته، أولهما: إنَّه سبحانه وتعالى شبه حالهم بحال قوم أصابهم مطر شديد ينصب عليهم انصبابًا، صحبه غمام بعد غمام فيه ظلمة بعد ظلمة وفيه رعد وبرق، وفيه الإنذار بالعذاب الشديد، فهم في خوف ووجل يحسبون كل صيحة فيها الموت، ويجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت، وفي هذا تصوير لنفس منافقة، فهي نفس تائهة فارغة دائمًا لا تستقر على أمر، ولا تطمئن على قرار، فهم في اضطراب؛ لأنهم لا يؤمنون بشيء، والإيمان هو المطمئِن دائمًا، ألا بذكر الله تطمئن القلوب، وإذا كان التشبيه السابق يصور حالهم في طلب الدليل وعدم الأخذ به لغلبة الهوى، وسيطرة الشهوة، والجحود الموروث، فهذا التشبيه يصور حالهم من هلع مستمر، وخوف من غير مخوف، ولذلك يقول بعض علماء النفس: إنَّ النفاق منشؤه ضعف في النفوس.

والتشبيه الثاني متفرع عن التشبيه الأول، وإن كان يصلح تشبيهًا قائمًا بذاته، وهو ما أومأ الله تعالى إليه بقوله:{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} ، وإن هذا تتميم للأول،

ص: 186

وهو أيضًا قائم بذاته، فإنه إذا كان الرعد يجعلون أصابعهم في آذانهم به، فالبرق الذي يصحب الصيب شديد مفزع له بريق يكاد يخطف أبصارهم، ولكن كان هو تشبيهًا لحالهم، وهي أنَّ المنافق متردد دائمًا، فالبريق يضيء لهم فيمشون فيه، ولكن سرعان ما تظلم عليهم نفوسهم فيقيمون حيث هم من نفاق، ويختم الله تعالى النص القرآني في هذا التشبيه المحكم ببيان قدرة الله تعالى وسيطرته عليهم، وأنَّه سبحانه لو شاء لأفقدهم سمعهم وبصرهم حقيقة، كما فقدوا سماع الحق استماع إنصات، وإدراكه إدراك طالب للحقيقة.

والتشبيه في هذا المثل كسابقه تشبيه تمثيلي، إنَّه شبَّه حالهم في ضعف نفوسهم والبلبال المسيطر عليهم واضطراب أحوالهم بحال قوم أصابهم مطر لم يكن غيثًا منقذًا، بل مرهبًا ومفزعًا، فكانوا في خوف واضطراب من غمام مظلم، وريح عاصف، ورعد قاصف، وبريق خاطف، وصاروا يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت، فهو تصوير لضعفهم، وفي التشبيه الثاني الذي هو فرغ بالنسبة لما قبله، تصوير لفزعهم من البرق، وتصوير لكون أسباب الهداية بين أيديهم، وهي في ذاتها مضيئة، ولكنها تظلم عليهم فيقيمون على نفاقهم، ويستمرون في غيهم، والله قاهر فوقهم، لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم.

110-

وقبل أن نغادر الكلام في التشبيه إلى الاستعارة، وهي لون من ألوانه لا بُدَّ أن نشير إلى أمور ثلاثة:

أولها: إن التشبيه بلا شك من أسرار الإعجاز، ويعده الباقلاني من أسباب الإعجاز، ولكن بعد الكلام في القرآن من غير مجاز ولا تشبيه بأيّ لون من ألوانه معجزًا بلغ ذروة البلاغة من غير أن تعرف سببًا واضحًا يدرس على أساسه، وتتعرف اسرار البلاغة فيه من إشعاعه، وليس معنى ذلك أنَّ الإعجاز ليس بيانيًّا، بل هو بياني، ويبدو ذلك في تساوق المعاني، وأخذ الألفاظ بعضها بحجز بعض في إحكام قول ونغم ورنين يكون أحيانًا شديدًا يصك آذان المنذرين، وأحيانًا كأنه نسيم عليل يحيي النفوس ويشفي أسقام القلوب، وأحيانًا يكون وصفًا عميقًا لخواطر النفوس، وما يستكن في القلوب، وهذه هي البلاغة في القرآن التي تعلو أن توضيحها الأفهام كما يرى ضوء الشمس ولا يعرف كنهه، وكما تحس بالحرارة الدافئة، ولا تعرف ماهيتها، والله على كل شيء قدير.

الأمر الثاني: إنَّ تشبيهات القرآن أيًّا كان وجهها صور بيانية، تتضح منها الحقائق الظاهرة، والمعاني العاطفة، كأنها أمور محسوسة مرئية، فإذا كان التشبيه يأمر محسوس كانت الصورة البيانية كأنها مرئية واضحة، فالتشبيه الأول من تشبيهات المنافقين تقرؤه كأنَّك ترى رأي العين رجلًا استوقد نارًا، والسين والتاء للطلب، وهما يدلان على أنه

ص: 187

بذل مجهود في طلب الضوء، وعالج الأمور في طلب الوقود، حتى وصل إليه بجهد ومشقة، ولكن ما إن أضاء حتى ثبت أنه لم يكن في الضوء فائدة له، فلم ير النور الذي طلبه، وأصمّ أذنه عن الحق، وانقبض لسانه فلم ينطق بحق، والبيان القرآن الكريم صور ذلك كأنك تراه لا تقرؤه، تعالت كلمات الله.

والتشبيه بما تضمَّن من تشبيه في آخره يريك صورة الضعف وما يحدثه النفاق في النفوس من ضعف يجعلها تطير حول كل مطار، ولا تطمئن على قرار، فهي تسير برعونة نحو المطامع، وتستخذي وتذل أمام المفازع، وقد شبههم بقوم نزل عليهم مطر ينصب انصبابًا، والظلمات قد صارت كسقف مرفوع فوقهم، والرعد بهزيمه يزعجهم، والبرق يخطف أبصارهم، وذلك تصوير كأنه المرئي، وتبين لمعنى الخوف والاضطراب الذي يسكن قلوبهم، ويجعلهم بين خوف يؤرقهم، ومطامع تحركهم، والشر يحوط بهم في كل أحوالهم.

الأمر الثالث: الذي نجده في تشبيهات القرآن أننَّا نجده يقرب المعاني، ويأخذ من التشبيهات الأدلة المفرقة بين الحق والباطل، اقرأ قوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 75، 76] .

ونرى أن التشبيه الأول من قبيل التمثيل، وهو تشبيه حال من يعبد الأصنام إذ يسوي بينها وبين الخلاق العليم -بحال من يجعل العبد الملوك الذي لا يقدر على شيء بحال من رزقه الله تعالى رزقًا حسنًا، وهما لا يستويان حالًا وشأنًا، النتيجة لا يستوي صنم لا يقدر على شيء بالله تعالى الذي يملك الوجود كله، وهو على كل شيء قدير.

وفي التشبيه الثاني كان التشبيه بين حال المشركين في تسويتهم بين الله القادر، والحجر الذي لا يضر ولا ينفع، وحال من يسوي بين رجل أبكم وهو كَلٌّ، وبين رجل ينطق بالحكم ويقيم العدل لا يستويان، فلا تصح عبادة الأوثان وتسويتها بالله.

وإن الله سبحانه وتعالى يقرّب الحقائق بين قوم حسيين بالمحسوسات، يضرب الأمثال بالتشبيهات لتقريب الحقائق، وتوضيح الأدلة بما يقربها، ولو كان ذلك بالأشياء التي يستحقرها المشركون، وهي في ذاتها ليست بحقيرة ولكنها جليلة، لأنها من خلق الله تعالى، ولقد قال الله تعالى في ذلك:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً {فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] .

وبعد: فإنَّ القرآن غذاء الأرواح، ومائدة الله للنفوس مختلف ألوانها، وكلها طيب الثمرات، نفعنا الله به وجعله درعنا في الأحداث التي تتنزل بنا، نأوي عنده ونركن إليه، ولا نعشو إلا إلى ضوئه.

ص: 188

‌الاستعارة:

111-

الاستعارة ضرب من ضروب التشبيه، وتكون العلاقة بين المعنى الأصلي للفظ بالوضع الأصلي والمعنى في الاستعمال المجازي المشابهة، فإذا قال القائل عن رجل شجاع معبرًا عنه بكلمة الأسد، أو قال عن رجل خطيب شجاع أنه على ابن أبي طالب، فإن العلاقة تكون في الأول الشجاعة التي يضرب بالأسد المثل فيها، وفي الثاني الشجاعة والخطابة.

وعلى ذلك يكون بين التشبيه والاستعارة اتصال، وإن شئت فقل: إنها طريق من طرق التشبيه، أو هي تشبيه فيه مبالغة، فإن المشبه يدّعي فيها أنه فرد من أفراد المشبه به، ولذلك لا بُدَّ فيها من أمرين: أولهما: ألَّا تكون ثمَّة أداة تشبيه كالكاف أو الاستعمال أو أن يكون المشبه محمولًا عليه والمشبه محمولًا مثلًا، وألا يكون المشبه مذكورًا بأي صورة من الصور، وثانيهما: أن يكون اللفظ الدال على المشبه به لفظًا عامًّا كاسم جنس، لكن يدخل المشبه في عموم أفراده بمظهر اللفظز، كأن يقول: تقدم للأعداء أسد له لبد، فانتقم الله تعالى به منهم، فإن قرينة القول تدل على أنه إنسان، وكأنك ادَّعيت أنَّ من أفراد الأسد ذلك الرجل الشجاع الذي أطلقت عليه اسم الأسد.

وقد عرَّف أبو الحسن الرماني الاستعارة، فيقال: وهي تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة، وهذا التعريف هو في معنى ما ذكرنا، غير أنَّه أشار إلى أن الاستعارة نقل اللفظ من المعنى الذي وضع له إلى معنى آخر لعلاقة المشابهة بين المعنيين، وهو في المعنى ادّعاء أنَّ لفظ المشبه به اتسع حتى صار عامًّا، فدخل في عمومه المشبه، ويفرق بين المعنى بالوضع الأول والمعنى بالوضع الثاني بالقرينة، فهي مانعة من إرادة المعنى بالوضع الأصلي.

والاستعارات في ألفاظ القرآن كثيرة، منها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا

ص: 189

تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] .

فالتعبير بأمّ الكتاب تعبير مجازي بالاستعارة؛ لأنَّ الأم هي الأصل وهي التي تقوم على أولادها، ويرجعون إليها في غذائهم وعواطفهم، فتشبهت بها الآيات المحكمات التي هي أصل الدين ومرجعه، وإذا كانت متشابهات، فهي تفسير بالرجوع إلى هذا الأصل، وهو المحكمات.

ومثل ذلك قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] ، والتعبير مجازي بالاستعارة، والمراد بالأم الأصل، وهو الشريعة المتفقة في كل الديانات، فينسخ الله تعالى ويثبت، ولكن أصل هذه الشرائع لا يتغير، وهو الذي بينه الله تعالى في قوله:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13] .

ومن الاستعارة في الأفعال قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ} [التوبة: 111] . فقد شبه سبحانه وتعالى تقديم المؤمنين أنفسهم رجاء ما عنده من نعيم مقيم ورضوان من الله أكبر، شبَّه ذلك بمبايعة بينهم وبين ربهم لكمال الالتزام عليهم، ورجاء ما طلبوه من رضوان ونعيم مقيم، وهي استعارة تمثيلية، والاستعارة التمثيلية فيها تشبه حال بحال، لا تشبيه ألفاظ مفردة بمثلها، وإن المشبه محذوف، ولذا تحقق كونها استعارة.

ومن الاستعارة التعبير عن النفاق بالمرض، وإن ذلك كثير في القرآن، ومنه قوله تعالى في وصف المنافقين:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقوله تعالى:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124، 125] .

وفي الآيتين الكريمتين نجده سبحانه وتعالى عبَّر عن النفاق بالمرض، وذلك للمشابهة بين مرض الأجساد والنفاق، فهو يفسد القلوب، والعقول والمدارك، كما يفسد المرض الأجساد ويضعف الحركات وقد يشلها، ومعه الوهن دائمًا.

ومن الاستعارات القرآنية التي تعلو إلى أسمى مراتب البلاغة، ولا يصل إليها بيان إنساني، إنما هو بيان القرآن فقط، قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً

ص: 190

مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] .

ففي هذا النص السامي تلاقينا عدة استعارات تبلغ أعلى درجات السمو البياني، ولنأت من آخر النص الكريم، فآخره كأوله من اجتذاب النفوس والعقول والمشاعر إلى معانيه ومبانيه، أضاف اللباس إلى الجوع، وفي ذلك تشبيه بالجوع من إضافة المشبه به على سبيل الاستعارة، فالجوع القائم المستمكن الذي يعم فيه القل ويكثر العدم، والخوف الذي يفزع النفوس، ويذهب بالاطمئنان، ويلقي بالاضطراب شبه باللباس السابغ؛ لأن اللباس يعم ويكسو الجسم كله، وكذلك الجوع إذا عمّ، والخوف إذا طمّ، فإنه لا يبقى في الجماعة أحدًا لم ينله؛ لأن الأزمات الجائحة، والخوف من عدو داهم لا ينجو منه أحد، فكان التعبير عن هذه الحالة باللباس، وفوق ذلكم فإن اللباس يلتصق بالجسم ويلازمه ولا يفارقه، وكذلك الجوع والهم والغم والخوف، وفي ذلك تصوير للأمة أو المدينة إذا عمَّها البؤس والشقاء وداهمها الخوف من كل ما يحيط بها.

وهناك استعارة أخرى، وهي قوله تعالى:{فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ} فإن اللباس يلبس ولا يذاق، ولكن لباس الجوع والخوف؛ لأنه يتصل بالنفس، وبالنعمة تزول بعد أن كفروا بها، عبر عنه بالذوق، فشبه حال النزول بحال الإذاقة، للنزول الذي ترتب عليه أن أحسّوا بمرارة المذاق بعد أن كانوا في بحبوحة العيش، فكان التعبير بأذاق أنسب لهذا المعنى.

وهناك استعارة تمثيلية ثبتت من مجموع العبارات، وهي تشبيه حال جماعة من الناس كانت مؤمنة مرزوقة، فلما كفرت بالنعم فلم تقم بحقها، ولم تؤد الطاعات، ولم تنته عن المنهيات بحال قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها واسعًا من كل مكان فجحدت نعمة الله تعالى فضاق زرقها، وبدلت من الأمن خوفًا، ومن الرعد جوعًا.

112-

ومن الأمثلة التي ساقها الرماني للاستعارة قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]، يقول في التعليق على هذا النص الكريم: أصل الاشتعال للنار وهو في هذا النص أبلغ، وحقيقته كثرة شيب الرأس، إلّا أن الكثرة لما كانت تتزايد تزايدًا سريعًا، صارت في الانتشار والإسراع كاشتعال النار، وله موقع ف البلاغة عجيب، وذلك أنه انتشر في الرأس انتشارًا لا يتلافى كاشتعال النار.

وإنَّ هذا التعبير لم يكن معروفًا عند العرب، وذلك أنه شبه انتشار الشيب باشتعال النار، للسرعة وللبياض وللملازمة؛ ولأنه ينتهي بتدمير ما تتصل به، وتجعل حطامه ترابًا.

ص: 191

ويسوق الرماني من أمثلة الاستعارة قوله تعالى: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37]، ويقول الرماني في ذلك:"نسلخ مستعار، وحقيقته يخرج منها النهار، والاستعارة أبلغ؛ لأن السلخ إخراج الشيء مما لابسه، وعسر انتزاعه منه لالتصاقه به، فكذلك لباس الليل".

هذا ما قاله الرماني، ولكي نتصور الاستعارة وما تضفيه من معانٍ على الحقيقة المجردة نقول: إنَّ مفردات الراغب الأصفهاني جاء فيها من مادة سلخ، السلخ نزع جلد الحيوان، وقال تعالى:{نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} أي: ننزعه، ومؤدَّى هذا الكلام أن المسلوخ المنزوع هو النهار، وأنَّ الجسم الذي انسلخ منه هو الليل، ولذلك قال تعالى كنتيجة للسلخ:{فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} ، أي: إنا لنزع كانت نتيجته أن صار الناس في ليل مظلم، ويكون معنى الاستعارة أنَّ القرآن الكريم شبه فيه النهار بالنسبة لليل بإهاب من النور أحاط بالليل إحاطة الإهاب بالشاة مثلًا، فلما نزع كان الليل، والجامع بين السلخ والنزع، وهو الرفع لشيء ملازم محتك، ولا شكَّ أن الاستعارة أبلغ كما ذكر الرماني، ولكن ما وجه البلاغة المفضلة، نقول فيما نحسب أن الاستعارة تدل على أن الذي أحاط هو النهار، ونسلخ لا تدل على أيهما هو المحيط بالآخر، ولكن المسلوخ هو النهار، إن هذا يدل على أن النور بالنسبة للكرة الأرضية عارض من نور الشمس، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى الشمس فقال:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 38، 39] .

ومن الاستعارات الواردة في القرآن التعبير عن العلم والإيمان بالنور وعن الكفر والعناد بالظلمات، مثل قوله في أول سورة إبراهيم:{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ، وقد قال في ذلك الرماني:"كل ما جاء ذكره من الظلمات إلى النور فهو مستعار، وحقيقته من الجهل إلى العلم، والاستعارة أبلغ، لما فيه من البيان بالإخراج إلى ما يدرك بالأبصار".

وإن الظلمات ليست الجهل فقط، بل هي تشمل الجهل والكفر والجحود والعصبية الجاهلية وكل ما يسيطر على الأنفس من غير سلطان من الحق ولا العقل، ولا الاتجاه إلى الحق في طريق مستقيم لا التواء فيه، ولذلك عبَّر عن الباطل بالظلمات؛ لأن له أسبابًا متكاثفة بعضها فوق بعض والنور واحد، وهو الحق وطلبه والإذعان له.

وإن الإخراج من الظلمات إلى النور نقول أنه استعارتان، إن جلعنا الاستعارة في معنى الظلمة، فاستعير لفظ الظلمة وهي حسية للجهل والكفر وتحكم الهوى والجحود؛ لأن هذه يحدث منها ضلال في طلب الحق، كما يحدث الضلال من السير

ص: 192

في الظلام، فكان وجه الشبه الضلال في كلٍّ، والإيمان مع الإذعان له يبعد عن الضلال بالنور إذ يبعد عن الضلال، كما يبعد النور عن السير في الطريق الضال، ويهدي إلى الطريق المستقيم، أو نقول: إن القرآن الكريم يشبِّه حال الضالين الذين يطلبون الحق ويجدون الهداية ويأخذون بها، ومع رسولهم الكتاب المبين الذي يهدي، بحال أولئك الذين يكونون في ظلام دامس لا يهتدون معه، ويخرجون من الظلمة الحالكة إلى النور، فهو تشبيه حال بحال بجامع الحيرة ثم الاهتداء في كلٍّ.

113-

ويذكر الرماني من الاستعارة البيانية قوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41]، ويقول في ذلك الرماني: "العقيم مستعار للريح، وحقيقته ريح ليس بها سحاب غيث، والاستعارة أبلغ؛ لأن حال العقيم أظهر من حال الريح التي لا تأتي بمطر؛ لأن ما يقع لأجل حال منافية أوكد مما يقع في حال منافية وأظهر، والمعنى: إنَّ الاستعارة هنا في لفظ عقيم؛ لأنَّ العقيم لا يرجى معها خير قط ولا تنتج؛ لأن العقم حال تمنع الإنتاج، فعدم إنتاج الريح بماء ذكر سببه، وهي أنها ليست منتجة بذاتها كحال العقيم التي لا تحمل ولا تلد، والوصف بالعقم مناسب لأنهم توقعوا أن يكون غيثًا، فكان فيها الهلاك، ولقد بيِّنَ الله تعالى معنى عقمها في آية أخرى، فقال تعالت كلماته:{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 24، 25] .

وهكذا نجد الاستعارات البيانيية في القرآن كثيرًا؛ وذلك لأسباب كثيرة نذكر منها ثلاثة:

أولها: إنَّ اللغة العربية لا تتسع للمعاني النفسية السامية في القرآن، فإنه علم تدل على حقائقه ألفاظ ذات دلالة معينة، وكانت بلغة العرب الذين لم يصلوا هم ولا غيرهم إلى الحقائق العلمية والنفسية التي يتصدى القرآن الكريم لبيانها، وكشف عيون الحقائق فيها، فكان لا بُدَّ من الاستعانة بالاستعارة من الألفاظ التي وضعت للمعاني الحسية لتكشف بها العلوم النفسية والاجتماعية والعقلية، ولتقرب المعاني إلى ذهن الأعراب، ومن هم أعلى منهم إدراكًا؛ لأنه الكتاب المبين، وليخرج الأميين إلى حيث العلم وإلى الكتاب الذي علم الإنسان ما لم يعلم.

ثانيها: إنّ القرآن الكريم فيه الأخبار عن الأمور المغيبة التي وقعت في الماضي، والأمور القابلة، وخصوصًا ما يكون في الجنة من نعيم وفي النار من عذاب أليم، فنعيم الجنة فيه فاكهة ونخل ورمان، وفيها أنهار من عسل مصفى، وفيها أنها من خمر لذة للشاربيين، وهكذا، ولكن أهي من نوع خمر الدنيا، وفاكهتها؟ لقد ورد عن ابن عباس

ص: 193

أنها ليست كخمر الدنيا، وما يذكر فيها ليس من نوع ما في الدنيا، ولا من جنسه، ولقد قال عليه الصلاة والسلام: $"فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".

ونحن نؤمن أولًا بأنَّ نعيم الجنة حسي وعذاب النار حسي، ونؤمن ثانيًا بأنَّ كل ذلك ليس من جنس ما هو في الدنيا، بل هو أعلى وأعظم، فكأن الألفاظ التي تقال عن ذلك مستعارة من ألفاظ الدنيا، ليمكن تقريبها إلى النفوس والأشخاص الذين لا يرون إلا المحسوس.

ثالثها: إنَّ الاستعارة تثير صورًا بيانية في الألفاظ والمعاني كالتشبيه؛ لأنها تربط بين المعاني بعضها مع بعض، وفيها نقل ألفاظ الناس من معان إلى القريب منها المتناسب معها، فوق ما يثيره من أخيلة تحلق بالتالي للقرآن في أجواء من البيان، اقرأ قوله تعالى في تصوير حال من اعتراه الندم، ولا يجد مخلصًا إلا أن يعترف قوله:{وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 149] .

فالتعبير في قوله تعالى: {سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} هو استعارة في الدلالة على الندم؛ لأن النادم يحس بالسقوط، ويحس بأنه هبط، فشبه القرآن حالهم في أن الندم برح بهم بمن سقط في يده، وهو دال على سقوطه فيما لا يليق، فشبه المعنى الخاص بالندم من ألم، ومن ظهور للخطأ، أو الإحساس بالخطيئة بمن سقط في يده دليل إثمه، ولا يجد مناصًا من التخلص من جرمه، وأنَّ الصورة البيانية التي تصورها كلمة سقط، وتبين حالهم لا يقوم مقامها كلمة ندموا.

ولقد صوَّر سبحانه وتعالى حال أهل الكهف في أنهم لا يسمعون.

فقال تبارك وتعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف: 11] .

فإن كلمة ضرب تدل على أن الله تعالى منع السماع، كأنه غلق عليهم باب السمع، وضرب عليه، فلا يفتح سنين عددًا، وذلك يصور حالهم من أنهم لا يسمعون ما يجرى، والناس يسحبونهم أيقاظًا يحسون بما يحس غيرهم، ولقد بيِّن الرماني معنى الاستعارة هنا، فقال: حقيقة معناه، منعناهم الإحساس بآذانهم من غير صمم، والاستعارة أبلغ؛ لأنه كالضرب على الكتاب فلا يقرأ، كذلك المنع من الإحساس فلا يحس، وإنما دلَّ على الإحساس بالضرب على الآذان دون الضرب على الأبصار، لأنه أدلّ على المراد من حيث كان قد يضرب على الأبصار من غير ذهاب للبصر فلا يبطل الإدراك رأسًا، وذلك بتغميض الأجفان، وليس كذلك منع الأسماع من غير صمم في الآذان؛ لأنه إذا ضرب عليها دلَّ على عدم الإحساس من كل جارحة يصح بها الإدراك ولأنَّ الآذان كانت طريقهم إلى الانتباه، فلما ضربوا عليها لم يكن سبيل الله.

ومؤدَّى هذا الكلام أنَّ الضرب على الآذان يفيد فقد الإحساس المطلق بعمل الله، وهو غير الضرب على الأبصار؛ لأن عدم الإبصار لا يقتضي فقد الإحساس؛ إذ قد يكون غير مبصر بإغماض، ولكن الإسماع لا يفقده مع بقاء الآلة سليمة إلا بفقد الإحساس، فإذا كان الله تعالى قد ضرب على آذانهم مع بقاء الآذان سليمة، فإن ذلك لا يكون إلا بفقد الإحساس، والله على كل شيء قدير.

ص: 194

‌المجاز والكناية:

114-

المجاز يعم الاستعارة وغيرها من أنواع المجاز؛ إذ إنَّ المجاز معناه أن ينقل اللفظ من دلالته على المعنى الذي وضع له إلى معنى آخر، ولعلاقه بينهما، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي، مثل قوله تعالى:{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 17، 18] .

فإن المكان لا يدّعي إنما يدعي من يحلون في هذا المكان، والقرينة الاستحالة، والعلاقة هي المحلية، أطلق المحل وأريد الحال، ومثل قوله تعالى:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ} [البقرة: 19] .

والآذان لا تدخلها كل الأصابع، وإنما أريد بعضها، والعلاقة هي الجزئية أطلق اسم الكل وأريد الجزء، وهكذا.

وتختص الاستعارة من بين أنواع المجاز بأنها مجاز علاقته المشابهة بين المعنى الأصلي والمعنى الذي نقل اللفظ إليه، وقد كان التقسيم المنطقي يوجب أن نتكلم في استعارات القرآن بعد الكلام في المجاز ذاته؛ لأنَّ الكلام في العام يسبق الكلام في الخاص؛ إذ إن العام جزء من الخاص، والخاص جزئي والعام كلي، ومن المقررات المنطقية أن كل عام جزء لجزئيه، ويضربون ذلك مثلًا بالحيوان والإنسان، فالإنسان حيوان ناطق، فيتكون من جزءين؛ جزء هو الحيوانية، والثاني النطق بمعنى العقل والإدراك، ووزن الأمور، فالحيوان وهو الكلي جزء من الإنسان، وهو النوع الجزئي.

ولكن عدلنا عن منطق التقسيم في التصنيف إلى تقديم الجزئي على الكلي أو إلى تقديم الاستعارة على عموم المجاز؛ لأن الاستعارة من حيث إنَّ العلاقة فيها المشابهة كانت ضربًا من ضروب التشبيه، دخل فيه المشبه في عموم المشبه به، فكانت المناسبة بينها وبين ما سبقها من تشبيه أقوى من دخولها في عموم المجاز.

ص: 195

وقدمنا الاستعارة لأنها أشهر وأكثر في القرآن، وأكثر تصويرًا لمعاني البيان، والصور البيانية القرآنية فيها أوضح، وقد ضربنا على ذلك الأمثال، وقصر عبد القاهر في كتابه "دلائل الإعجاز" القول على الاستعارة وما يتبعها من تمثيل وضرب للأمثال، فقد قال -رضي الله تبارك وتعالى عنه:

"وأنا أقتصر هنا على ذكر ما هو أشهر منه -أي: من المجاز- وأظهر، والاسم والشهرة لشيئين الاستعارة والتمثيل، وإنما يكون التمثيل مجازًا إذا جاء على حد الاستعارة".

فالاستعارة أن تريد تشبيه الشيء بالشيء، فتدع أن تفصح بالتشبيه وتظهره وتجيء إلى اسم المشبه به فتعتبره المشبه وتجريه عليه، تريد أن تقول: رأيت رجلًا هو كالأسد في شجاعته وقوة بأسه سواء، فتدع ذلك وتقول: رأيت أسدًا.

وأما التمثيل الذي يكون مجازًا لمجيئك به على حد الاستعارة فمثاله قوله في الرجل يتردَّد في الشيء بين فعله وتركه: أراك تقدّم رجلًا وتؤخِّر أخرى، فالأصل في هذا أراك في ترددك كمن يقدّم رجلًا ويؤخر أخرى، ثم اختصر الكلام، وجعل كأنه يقدم رجلًا ويؤخّر أخرى على الحقيقة.

وكذلك نقول للرجل يعمل في غير معمل: أراك تنفخ في غير فحم، وتخط على الماء، فتجعله في ظاهر الأمر كأنه يخط، والمعنى على أنّك في فعلك كمن يفعل ذلك، ويقول في الرجل يعمل الحيلة حتى يميل صاحبه إلى الشيء قد كان يأباه، ويمتنع منه: ما زال يفتل له في الذروة والغارب، حتى بلغ منه ما أراد، فتجعله بظاهر اللفظ كأنَّه كان من فتل ذروة وغارب، والمعنى على أنه لم يزل يرفق بصاحبه رفقًا يشبّه حاله فيه حال الرجل يجيء إلى البعير الصعب فيحكه، ويفتل الشعر في ذروته وغاربه حتى يسكن ويستأنس، وهو في المعنى مثل الرجل يقول: فلان يقرد فلانًا، يعني به أنه يتلطف له فعل الرجل ينزع القراد من البعير ليلذ لذلك، فيسكن ويثبت في مكانه، حتى يتمكن من أخذه، وهكذا كل كلام رأيتهم قد نحوا فيه هذا التمثيل، ثم لم يفصحوا بذلك، وأخرجوا مخرجه، وإن لم يريدوا تمثيلًا.

وإنَّ الأمثال كلها من قبيل التمثيل، وهو من باب الاستعارة، كما قال عبد القاهر ذلك؛ لأنَّ الاستعارة ذات شعبتين، إحداهما أن تكون في تشبيه شيء بشيء، من غير أداة كتشبيه الرجل بالأسد، وتشبيه حال بحال، وهو التمثيل، وهاتان الشعبتان تجريان في التشبيه الذي يكون بأداة التشبيه، كما تكونان في الاستعارة؛ إذ إنهما متلاقيان في المعنى والاختلاف في طريق الأداء.

ص: 196

ومن الاستعارة التمثيلية ظهرت الأمثال التي تعد من جوامع الكلم، فهي ليست إلا تشبيه حال بحال، فهي تشبيه حال مضربها بحال موردها، تقول العرب:"الصيف ضعيف اللبن" فموردها أنَّ شيخًا طلب يد فتاة فردتها لكبر سنّه، وكان الزمان صيفًا، ثم احتاجت من بعد إلى قدر من اللبن عنده، فقال لها:"الصيف ضيعت اللبن" فصار مثلًا يضرب لمن يرفض أمرًا، ثم يجيء يطلب شيئًا ما كان يحتاج إليه لو لم يرفض.

وهكذا، والأمثال من أبلغ كلام العرب؛ لأنها تؤدي معانيها في أوجز لفظ، وأروع خيال.

115-

وإن عبد القاهر يعد طرق التعبير ثلاثة، الحقيقة، ويدخل فيها التشبيه على طريق علماء البلاغة، وقد بيَّنَّا من قبل أننا نعد الحقيقة ما لا يدخل في عمومها التشبيه، ولا مشاحة في الاصطلاح، والاختلاف لفظي.

والثاني من طرق البيان المجاز، وقد أشرنا إلى القول فيه.

والثالث من الطرق الكناية: ويعرف عبد القاهر الكناية بأنها: "أن يريد المتكلم إتيان معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود، فيؤتى به إليه، ويجعله دليلًا عليه، مثال ذلك قولهم طويل النجاد، "أي: طويل علاقة السيف" يريدون طويل القامة، وكثير الرماد يعنون كثير القرى، وفي المرأة نثوم الضحى، والمراد أنّها مترفة مخدومة، لها من يكفيها أمرها، فقد أرادوا في هذا كله -كما ترى- معنى، ثم لم يذكروه بلفظه الخاص به، ولكنهم توصلوا إليه بذكر معنى آخر، من شأنه أن يردفه في الوجود، وأن يكون إذا كان، أفلا ترى أنَّ القامة إذا طالت طال النجاد، وإذا كثر القرى كثر رماد القدر، وإذا كانت المرأة مترفة لها من يكفيها أمرها، ردف ذلك أن تنام إلى الضحى".

ويلاحظ في الكناية أنه لا مجاز في المعنى، واللفظ على ظاهره بادي الرأي، ولكن لا يراد ذلك الظاهر، وإنما يراد لازمه وسماه عبد القادر ردافه.

أي: إنه يفهم تبعًا له، واللزوم ليس هو اللزوم العقلي دائمًا، بل قد يكون في بعض الأحوال لزومًا عاديًّا يجوز أن يختلف، فمثلًا طويل النجاد يلزم عقلًا أن يكون طويل القامة، ولكن كثير الرماد لا يلزم لزومًا عقليًّا أن يكون كثير نار القدر، فقد يكون وقود النار لغير القدر، ونئوم الضحى قد تكون لأنها مترفة عندها من يقوم بحاجتها، وقد يكون ذلك كسلًا أو مرضَا. إلى آخره، ولكن الكثير في العادة أن يكون ذلك عن ترف.

وقد ذكرنا في الماضي مكان المجاز، بكل صوره في دلائل الإعجاز، وقد ذكر عبد القاهر مكان الكناية في الكلام البليغ فقال رضي الله عنه: "قد أجمع الجميع على أن الكناية أبلغ من الإفصاح، والتعريض أوقع من التصريح، إلَّا أن ذلك وإن كان

ص: 197

معلومًا على الجملة، فإنه لا تطمئن نفس العاقل في كل ما يطلب به العلم حتى يبلغ فيه غايته، وحتى يغلغل الفكر في زواياه، وحتى لا يبقى موقع شبهة، ولا مكان مسألة".

116-

هذا، وإن هذه الطرق البيانية من تشبيه واستعارة وسائر أنواع المجاز، والكناية ليست في ذاتها، بحيث إذا وجدت في أيّ قول كان بليغًا، إنما البلاغة لا بُدَّ أن تكون متحققة ابتداءً في مادة الكلام وفي موضعه، وفي صوره البيانية، وإن هذه طرق تكون جزءًا من بلاغة الكلام البليغ، وليست هي الخاصة التي تجلعه بليغًا، ولو لم يكن ذا موضوع، أو كان موضوعه من سفساف القول ومبتذلها، إنما قد تكون مع أخوات لها في مثل جمالها، وجلال موضوعها".

وقد ذكرنا ذلك في ماضي قولنا في الاستعارة في قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} ، فإنا نجد بلا ريب جمالًا واضحًا في تشبيه شيوع الشيب في الرأس باشتعال النار، ولكن في الحقيقة لا نجد الجمال في هذه الاستعارة وحدها، بل فيها وما معها من نظم، وتآخٍ في الكلمات، وقد بيِّنَ ذلك عبد القاهر في "دلائل الإعجاز"، فقال في بيان أنَّ الجمال والجلال إنما يكون في مجموع القول لا للاستعارة وحدها: "إنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة، ولم ينسبوا الشرف إلّا إليها ولم يروا للمزية موجبًا سواها، هكذا نرى الأمر في ظاهر كلامهم، وليس الأمر على ذلك، ولا هذا الشرف العظيم، ولا هذه المزية الجليلة، ولا هذه الروعة التي تدخل على النفوس لمجرد الاستعارة، ولكن لأن يسلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء، وهو لما هو من سببه، فيرفع به ما يسند إليه، ويؤتى بالذي هو الفعل له من المعنى منصوبًا بعده مبينًا أن ذلك الإسناد، وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل الثاني، ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة؛ كقولهم: طاب زيد نفسًا، وقرَّ عمرو عينًا، وتصبب عرقًا، وكرم أصلًا، وحسن وجهًا، وأشباه ذلك مما نجد الفعل فيه منقولًا إلى ما ذلك الشيء من سببه1، وذلك أنَّ نعلم أن اشتعل للشيب في المعنى، وإن كان هو للرأس في اللفظ، كما أن طاب للنفس، وقر للعين، وتصبب للعرق، وإذا أسند إلى ما أسند إليه كان لأنه سلك فيه هذا المسلك، وتوخّى به هذا المذهب، وإن تدع هذا الطريق فيه وتأخذ اللفظ فتسنده إلى الشيب صريحًا، فنقول: اشتعل شيب الرأس، والشيب في الرأس، ثم ننظر هل ذلك

1 يريد عبد القاهر أن يقول: إنَّ الجمال في "اشتعل الرأس شيبًا" ليس في الاستعارة فقط، إنما هو ابتداء في التمييز المحول من الفاعل، فقد ذكر الفعل غير مسند لفاعله، بل أسند لما هو في موضع الفاعل، ثم ذكر بعد ذلك الفاعل الحقيقي وهو الشيب على أنه تميز، وفي التعبير بالتمييز يدل الفاعل إشارة إلى سبب إسناد الفعل، وسبب ذكر الاشتعال.

ص: 198

الحسن، وهل ترى الروعة التي كنت تراها؟ فإن قلت: فما السبب في أنه كان "اشتعل" إذا استعير للشيب على هذ الوجه كان له الفضل، ولم تأت بالمزية من الوجه الآخر، فما وجه هذه البينونة؟ إنَّ السبب أنه يفيد مع لمعان الشيب في الرأس -الذي هو أصل المعنى- الشمول، وأنه قد شاع فيه، وأخذه من كل نواحيه، وأنه قد استقرَّ به وعمَّ جملته، حتى لم يبق من السواد شيء، أو لم يبق منه إلّا ما لا يعتد به، وهذا ما لا يكون إذا قيل: اشتعل شيب الرأس، أو الشيب في الرأس، بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة".

وقد أجاد عبد القاهر في بيان وجه البلاغة في الاستعارة مع أردافها من مجموع الكلام، وإذا كانت هي في ذاتها تجمل القول، فإن سرَّ الإعجاز فيها وفي مجموع العبارات.

وقد ضرب الإمام عبد القاهر مثلًا آخر مقاربًا لقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} وهو قوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} [القمر: 12] فقال -رضى الله تبارك وتعالى عنه- في بيان أنَّ التمييز بعد التعميم ولو من غير استعارة بلاغة معجزة.

"ونظير هذا في التنزيل قوله عز وجل: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} التفجير للعيون في المعنى واقع على الأرض في اللفظ كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس، وقد حصل بذلك من معنى الشمول ههنا، وذلك أنه قد أفاد أنَّ الأرض قد صارت كلها عيونًا وأن الماء قد كان يفور من كل مكان منها، ولو أجرى اللفظ على ظاهره فقيل، وفجرنا عيون الأرض، أو العيون في الأرض، لم يفد ذلك ولم يدل عليه، ولكن المفهوم منه أن الماء قد فار من عيون متفرقة في الأرض، وانبجس من أماكن منها".

وهكذا يتبين من ذلك الكلام القيم أننا إن كنا قد ذكرنا التشبيه والمجاز والكناية فليس الإعجاز لها وحدها، بل لها مع مجموع الألفاظ والأسلوب وتناسق العبارات، فمن كل ذلك يتكون إعجاز الذكر الحكيم.

ص: 199

‌الكنايات في القرآن:

117-

قد تكلما في التشبيه والاستعارات، وسائر أوجه المجاز بكلام مجمل، واقتبسنا شواهد من القرآن وإن لم تكن كثيرة فإنها منيرة، وإن لم يكن فيها استقراء ففيها غناء.

ولكن لم نتعرض للكنايات في القرآن بقدر كافٍ إذا كانت الكنايات كما تدل عبارات اللغويين وعلماء البلاغة هي الدلالة على اللازم، وعادة أو عقلًا بذكر الملزوم، فكثرة الرماد كما مثلوا يلزمها كثيرة الضيفان، وطول النجاد يلزمه طول القامة، فإن الكنايات في القرآن كثيرة، ولكنها تمتاز بإرادة اللازم والملزوم، وفي ذلك كثرة المعاني مع إيجاز الألفاظ، ولنضرب على ذلك بعض الأمثال نقتبسها من كتاب الله سبحانه وتعالى، يقول الله تعالى في وصف المتقين:

{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] .

هذا وصف حسي لمشيتهم ولقائهم، يمشون غير مسرعين، ولا متباهين، بل يمشون مشيًا هينًا لا سرعة فيه ولا إبطاء، وإذا خاطبهم الحمقى لا يمارونهم ولا يجادلون، فإن المراء يخل بالوقار، وملاحاة السفهاء ليست من دأب العقلاء. هذا هو الظاهر وهو المراد، ولكن المقصود مع هذا هو وصفهم بتقوى الله وخوفه، والاطمئنان إلى عفوه، فيلتقي الخوف بتكبير الذنوب، مع الرجاء في العفو والغفران.

والمعاني الثانية ملازمة للأولى، فكان المراد ابتداء هو اللازم والملزوم في ذاته، ولكن السياق كان للثاني.

ومن الإشارات الكنائية التي أريد فيها اللازم، وذكر الملزوم كان للدلالة عليه قوله تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] فإن ذلك الكلام السامي فيه حكم على أولياء الله المخلصين له سبحانه بأنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وذلك مراد لا ريب فيه، وذلك يلازمه أن يكونوا قريبين من ربهم، قد أخلصوا له، واستحقوا رضوانه، ومن يكون قريبًا من حبيبه، لا يخافه في مستقبل ولا يحزن فيه على ماض وقع منه، لأن المحبة تجعله قريب الرجاء في الغفران، والطمع في الرحمة، وقد بيِّنَ سبحانه الطريق لمحبة الله تعالى ونيل رضوانه، وهو التقوى، فقال تعالت كلماته:{الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ} [يونس: 63، 64] .

ومن كلام الله تعالى في التنزيل ما جاء عن وصية لقمان لابنه إذا قال تعالت كلماته:

{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ، يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 16-19] .

ص: 200

وإن هنا عبارتين ساميتين فيهما كناية واضحة، وقد علمت أنَّ كنايات القرآن تدل على اللازم والملزوم، ويقصد بالعبارة الأولى قوله تعالى:{إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} إنَّه يراد بها ما تحويه الألفاظ الظاهرة من معانٍ عالية، وفيها إثبات قدرة الله تعالى بإخراج حبة الخردل من صخرة، أو في السماوات أو في الأرض، هذا هو ما تدل عليه الألفاظ، وهناك اللازم لهذا، وهو إثبات علم الله الذي لا يخفى عليه خافية، وإثبات قدرة الله تعالى الذي لا يعجز عن شيء في السماء ولا في اللأرض، ولازم لهذا اللازم، وهو البعث والنشور؛ لأنه إذا كان سبحانه وتعالى قادرًا على أن يأتي بالحبة من الصخرة أو من أيِّ جزء في السماء أو الأرض، فهو قادر على إعادة ما خلق، ويتلاقى ذلك القول الحكيم مع قوله تعالى:{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا، يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 50-52] .

العبارة السامية الثانية حكايته تعالى لقول لقمان: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ}

إلى قوله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 18، 19] فإن هذه الأوامر يراد منها ما يدل عليه ظاهر الألفاظ من أنه لا يصعِّر خدَّه للناس، بأن يميله عن شكله، فلا يقبل عليه بكل وجهه، ومن أنه يقصد في مشيه فلا يتباطأ ولا يسرع، بل يسير بتؤدة واطمئنان، ومن أنه يغضض من صوته، فلا يتعالى ويتكلم صياحًا، ويراد أيضًا معنى لازم لها وهو التضامن والاتصال بالناس برفق ومودة من غير كبرياء، وألَّا يغمط الناس حقوقهم، وألَّا يبطر نعمة الله تعالى، وألا يدلي نفسه بغرور؛ لأن الغرور مطية الشيطان، والسبيل إلى العصيان.

118-

هذا، وإن الكنايات فيها الإشارة البيانية التي تكون لوازم للعبارات، ولقد قسَّم علماء الأصول دلالة الألفاظ القرآنية إلى دلالة العبارات، سواء أكانت هذه العبارات تدل بالدلالة الحقيقية من غير تشبيه أو دلالة فيها تشبيه أو فيها مجاز، بالاستعارة، أو غيرها من أنواع المجاز، وبجوار ذلك دلالة الإشارات، وهي دلالة اللوازم، وإنه كلما كانت دلالة اللوازم كانت البلاغة.

ولنقبض قبضة من الآيات التي قال الفقهاء: إن فيها دلالة على الأحكام بالإشارة، أي بالكناية أو بدلالة الملزوم على اللازم، وهي تفهم كنتيجة لازمة للعبارة، وقد قالوا في تعريفها: إنَّ الدلالة بالإشارة هي ما يدل عليه اللفظ بغير العبارة التي تدل عليها الألفاظ، ولكنه يكون نتيجة لازمة لما تدل عليه ألفاظ العبارة، ومن ذلك قوله

ص: 201

تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] .

وإن عبارة النص تفيد طلب العدالة مع اليتامى، وإفادة إباحة تعدد الزوجات مثنى وثلاث ورباع، وإباحة الدخول بملك اليمين، هذه أحكام علمت من العبارة نفسها.

وهناك أحكام أخرى فهمت من لوازم العبارة، وهي الدلالة بالإشارة التي هي ضرب من ضروب الكناية: الأوّل وجوب العدل مع الزوجة، وأن الرجل لا يحل له أن يتزوج إذا لم يعدل مع الزوجة ولو واحدة، إذا تأكد أنه لا يعدل، والثاني الذي يدل عليه لازم الآيات أنَّ المساواة بين الأزواج في الأمور الظاهرة كالطعام والمسكن، والكسوة والمبيت إذا عدَّد الأزواج واجبة، وتدل بالَّلازم أن عليه نفقة زوجته، وأنه لا يتزوَّج إلَّا إذا كان قادرًا على إعالة زوجته.

وذكروا من الآيات التي تدل بلازم المعنى فيها آية المداينة، فقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] .

وإن الأحكام التي وردت بهذا النص كثيرة لا نريد أن نحصيها، ولكن ورد فيها أحكام ليست من النص، ولكنها لازمة للنص، منها: أنَّ المكتوب يكون حجة على من أملاه وخصوصًا أنه موثق بالشهادة، وهو حجة لمن أثبت الاستدلال بالكتابة في المرافعات، ويفيد باللزوم بأن السفيه أو الضعيف الذي له ولي مال تكون عبارة الولي المالي عبارته، ويلتزم بما تثبته.

ويفيد ثالثًا بأن شهادة المرأة لا تسمع وحدها، بل تسمع مع أختها التي تشهد معها؛ لأن الله تعالى يقول:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} وذلك يقتضي أن تحضرا معًا لتسترشد كل واحدة بالأخرى إن ضلَّت، وذلك فهم من مقتضى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى؛ لأنه لا يمكن أن يكون ذلك إلَّا إذا اجتمعتا في

ص: 202

الأداء، وسمعت كل واحدة كلام الأخرى، وذلك بخلاف شهادة الرجل، فإنه لا بُدَّ أن يسمع كل واحد منهما منفردًا، لكيلا يومئ أحدهما إلى الآخر.

ومن النصوص التي تدل بإشارتها وعبارتها قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَاّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233] .

قد فهمت الأحكام التي ذكرتها الآية الكريمة بالنص، وفهم بالإشارة معانٍ أخرى تلازم ما نص عليه كنتيجة له، وما نص عليه في العبارة هو ملزوم، والثاني لازم له.

ومن ذلك أولًا: أنَّ المولود ينسب إلى أبيه لا إلى أمه؛ لأنَّه المولود له، فاللام تفيد ذلك الاختصاص.

وتفيد ثانيًا: أن المولود لأبيه له عليه شبه ملكية، فمال الولد لأبيه عليه نوع ملك، فالولد كسب أبيه، ولقد صرَّح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: $"أنت ومالك لأبيك".

ويفيد ثالثًا: أنَّ الأب لا يشاركه في نفقة ولده أحد، وأن الولد لا يشاركه في نفقة أبيه أحد.

ويفيد رابعًا: أنَّ الأصل في الإرضاع أن يكون على الأم، ويجوز الاسترضاع باتفاقهما، وأن أجرة الرضاعة تكون على الأب.

وتفيد خامسًا: أن فصل الولد الذي لا إرادة له على الأم في رضاعته يكون عن تراضٍ منهما وتشاور.

وهكذا نجد أسرار البيان القرآني تتكشف عن طريق هذه اللوازم التي تجيء تبعًا للمنطوق، وتتفاوت فيها الأحكام من غير أن تكلف الألفاظ من المعاني اللازمة ما لا تطيق بتكليف التأويل، وتجيء الأسرار القرآنية العالية التي لا تكون إلّا لكلام الله سبحانه وتعالى.

ومن الآيات القرآنية التي تدل فيها العبارات على معانٍ من الألفاظ ثم تجيء لازمًا لها عن طريق الإشارة كما يعتبر الأصوليون، أو الكنايات كما يعتبر علماء البلاغة، قوله تعالى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] فإنَّ هذا النص الكريم أفاد بالعبارة أن الحكم الإسلامي وإدارة الدولة الإسلامية في اقتصادها ونظمها وإدارتها تقوم على الشورى، وهذا ما تفيد الآية بالنص.

ص: 203

وتفيد مع ذلك بطريق الإشارة، والنتائج التي تكون ثمرة لهذا النص أو طريقًا لتنفيذها:

أولًا: إنه لا بُدَّ أن يكون اختيار الحاكم أو الخليفة برضا المسلمين، فلا تصح الخلافة إلا باختيار المسلمين ورضاهم، ولذلك كانت البيعة في الإسلام.

وتفيد ثانيًا: أنه لا ينفذ حكم أو قانون إلَّا إذا أقرَّته جماعة المسلمين، أو الصفة المختارة منهم.

وتفيد ثالثًا: أنه لا بُدَّ من وجود جماعة مختارة من الشعب اختيارًا أساسه الحرية والرضا، يكون عملها مراقبة الحكام، والنظر بعين فاحصة في أعمالهم، وألَّا يسن قانون إلّا برأيهم، فكل هذه لوازم لتحقيق معنى الشورى وتنفيذه.

وتفيد رابعًا: أنَّ الأعمال الفنية كقيادة الحرب والصناعة تكون تحت رقابة على القائمين بها من صفوة مختارة منهم، يكون عملها التوجيه.

وهكذا تثبت هذه الأمور كنتائج لتنفيذ الأمر بالشورى.

وإنَّ دلالة العبارات التي يمكن معرفتها بالسنة واللغة هي المفاتيح لما تومئ إليه، فلا يمكن أن تعرف أسرار القرآن الكريم إلا إذا عرفت المعاني الأولى، وإن معرفة ما تومئ إليه ألفاظ القرآن من إشارات لا يكون إلّا بعد الدخول إلى الساحة العليا، والارتفاع بالعقل إلى المدركات الإنسانية، ولذلك يقول الغزالي رضي الله عنه:"إن معرفة السنة واللغة هي المفتاح الذي يدخل منه العالم إلى علوم القرآن، وفيه علم كل شيء يتعلّق بالشرائع والنفس الإنسانية وعلاج أدوائها، واليوم الآخر، وما أخبرنا به العزيز الحكيم علام الغيوب".

ص: 204

‌نظم القرآن وفواصله

4-

نظم القرآن وفواصه:

119-

تكلمنا في ماضي قولنا في وصف عام لبلاغة القرآن، وتكلمنا في ألفاظه، وبيَّنَّا بشواهد الآيات أن كلَّ كلمة لها صورة بيانية في السياق الذي سيقت له، ثم تكلمنا عن الأسلوب، وذكرنا مستشهدين بالآيات البينات أنَّ كل كلمة لقف مع أختها، ويتكوّن من مجموع الكلمات المتلائمة المتآخية صورة كاملة للبيان تعطيك صورة بيانية، كل كلمة تعطيك جزءًا منها، مع كونها في ذاتها صورة بيانية وحدها، وضربنا لك الأمثال.

ثم تكلمهنا من بعد على تصريف البيان القرآني، فبيَّنَّا كيف كان التصرف في الاستدلال على وحدانية الديان، وبطلان عبادة الأوثان، وكيف كان التنويع في البراهين التي يسوقها، والتي تعلو في دقة الحكم على الأدلة الخطابية، وتعلو في النسق البياني والنغم الموسيقي عن البرهان المنطقي، مع اشتمالها على أدق معناه، وإن غاير الأشكال.

ص: 204

وذكرنا الاستدلال على الوحدانية في سياق القصص والعبرة، ثم بيَّنَّا من بعد ذلك تصريف القول بطريق القصص، والتصوير القصصي للوقائع، حتى كأنك ترى المشاهد؛ لأنك تقرأ القصص.

ثم تكلمنا في الاستفهام القرآني، وخضنا في التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية والإشارة البيانية لمن يغوص في علوم القرآن الكريم، ويتعرَّف أسرار الحقائق التي اشتمل عليها، سواء أكانت حقائق كونية أو نفسية، أم كانت تتعلق بنواميس الاجتماع وتربية المجتمعات.

ذكرنا ذلك في إجمالٍ يشير ولا يحيط، ويوجز ولا يفصل.

ولكن مع ذلك نرى للقرآن صورة هي في الإعجاز أبعد مما سبق، ذلك أنك إذا قرأت القرآن مرتلًا، أو كاشفًا بالصوت مع الترتيل تحسّ بأنه ليس من الكلام الذي سمعته وتسمعه وتقرؤه، وأنك تميّز بذوقك القرآن عند سماعه من غيره، فله نظم يعلو عن كلام البشر، وله نغم أعلى من أن تسميه موسيقى، يذوقه كل فاهم، وإن كان لا يستطيع وصفه ولا تعريفه، ولا بيان سره، كما يذوق الذائق طعامًا طيبًا، ولا يعرف اسمه ولا أرضه ولا سر طيبه، ولكنه يحكم بطيبه وإن كان تفصيل السبب لا يعرف.

وليس ما نقوله هو من قبيل ما فنَّدناه من قبل، وهو ما سمِّي بالصرفة، فإن الصرفة على قول الذين يزعمونها: عجز عن المحكاة أو المشابهة بصرف الله تعالى. إنما الذي نقوله هو أنَّ الإعجاز من خصائص القرآن البيانية وغيرها، وإن كانت البيانية أظهرها، وهي التي يتحدى الله تعالى بها العرب أن يأتوا بمثلها ولو مفتريات، فالنظم والنغم والفواصل وما يشبه الموسيقى، وإن كان أعلى أوصاف ذاتية، ولعلنا نتنزل بالقرآن إن سمينا ما نذكر موسيقى، فروعة القرآن أعلى، وذلك سبب من أسباب العجز، وهو غير الصرفة.

لقد وجدنا للقرآن حلاوة في الألفاظ والأسلوب والفواصل، وغير الفواصل، ليست في غيره، وهذا ما سيمناه النظم تقريبًا للفهم، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى، وهو ما وصفه الوليد بن المغيرة بقوله:

"إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر".

120-

وبعد هذه التقدمة التي نمهِّد بها للقول، نقول: إن نظم القرآن ليس من أي نوع من أنواع من النظم الذي عند أهل البيان، فليس نثرًا مرسلًا، وليس نثرًا مصنوعًا، وليس نثرًا فيه ازدواج، كما أنه ليس نثرًا مسجوعًا، وليس فيه فواصل تشبه السجع، ولكنه شيء غير هذا، وغير ذلك.

ص: 205

ويقول الباقلاني في كتابه "إعجاز القرآن" عن بديع نظمه: إنه بديع النظم عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحدِّ الذي يعلم عجز الخلق عنه والذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة، ونحن نفصِّل ذلك بعض التفصيل، ونكشف الجملة التي أطلقوها، ثم يتكَّلم عن الإعجاز في النظم فيقول:

"فالذي يشتمل عليه بديع نظمه وجوه:

منها ما يرجع إلى الجملة، وذلك أنَّ نظم القرآن على تصرف وجوهه، وتباين مذاهبه، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به، ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد، وذلك أنَّ الطرق التي يتقيّد بها الكلام البديع المنظوم تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفَّى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالًا، فنطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع، وترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلًا في وزنه، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل فيه، ولا يتصنَّع له، وقد علمنا أنَّ القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق، ويبقى علينا أن نبيِّن أنه ليس من باب السجع، ولا فيه شيء منه، وكذلك ليس من قبيل الشعر؛ لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجّع، ومنهم من يدَّعي أن فيه شعرًا كثيرًا، والكلام عليهم يذكر بعد هذا الوضع.

فهذا إذا تأمّله المتأمل تبيّن له بخروجه عن أصناف كلامهم وأساليب خطابهم أنه خارج عن العادة وأنه معجز، وهذه خصوصيات ترجع إلى القرآن وتميز حاصل في جميعه.

وإنَّ الباقلاني لا يكتفي بذكر ما بيّن أنَّ القرآن ليس على الصفة التي امتاز بها بليغ الكلام عند العرب، بل هو أعلى من ذلك، يأتي بأبلغ الشعر وأبينه، وأجود الخطب وأوقعها، ثم يأتي بأكمل الكتب، ولا يكتفي بذكر كلام البلغاء، بل بكلام صاحب جوامع الكلم وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقرّر أنه وإن كان فوق أيِّ كلام للبشر، دون كتاب الله المعجز بكل ما اشتمل عليه، وبكل ما فيه من لفظ ونغم وأسلوب.

ويذكر رضي الله عنه وجهًا آخر من وجوه الإعجاز في نظم القرآن وأسلوبه، فيقول:

"ومنها أنه ليس للعرب كلام يشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا الطول وعلى هذا القدر، وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات محدودة، وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة -قليلة أو كثيرة، يقع فيها ما

ص: 206

نبينه بعد هذا من اختلال، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف، ويشملها ما نبديه من التعمل والتكلُّف والتجوّز والتعسُّف، وقد كان القرآن على طوله متناسبًا في الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به، فقال -عز من قائل:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]، وقوله تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فأخبر سبحانه أن كلام الآدمي إن امتدَّ وقع التفاوت، وبان الاختلال.

وهذا المعنى هو غير المعنى الأوّل الذي بدأنا ذكره، فتأمَّل تعرف الفضل.

وفي ذلك معنى ثالث، وهو أنَّ عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف فيها من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف وتعليم، وأخلاق كريمة وشيم رفيعة، وسير مأثورة، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها، وتجد كلام البليغ الكامل، والشاعر المفلق، والخطيب المصقع، يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور".

ثم يقول رضي الله عنه: "وقد تأمَّلنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد واحد في حسن النظم، وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت فيه، ولا انحطاط عن المنزلة العليا، ولا إسفاف فيه إلى المرتبة الدنيا، وكذلك قد تأملنا ما تنصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف، وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتًا بينًا، ويختلف اختلافًا كبيرًا، ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت، بل هو نهاية البلاغة، وغاية البراعة، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه"1.

ويذكر الباقلاني أن من دلائل الإعجاز تفاوت كلام البلغاء في الوصل والفصل والانتقال من معنى إلى غيره، وتقريب المعاني وتبعيدها، وأن القرآن ليس فيه ذلك النقص الذي يعرو كلام البشر، ويختلف قوة وضعفًا في ضم المعاني وتفرقها، والقرآن فيذلك النمط المتسق الذي لا يجارى.

121-

هذه أمور تقريبية تقرِّب معنى الإعجاز ولا تحدُّه، وتذكر بعض الأسباب ولا تنقصاها، إنه ككل الأمور التي نحسّ بها ولا نستطيع تعرف دقائق أسراراها، فهو كتاب الله الذي يعلم السرّ وأخفى، ولكنَّا نقر بالعجز عن الإتيان بمثله لأننا ندرك علوه،

1 إعجاز القرآن للباقلاني.

ص: 207

ولا نعرف الأسباب التي علت به، وليس هذا من الصرفة كما ذكرنا، إنما الصرفة أن نعرف قدره وقدرتنا على مثله، ولكن ننصرف عن ذلك.

وإنَّ القرآن ليس من قبيل ما اصطلح عليه الناس في علوم البلاغة، فليس نثرًا مرسلًا كما ذكرنا؛ لأنَّ النثر المرسل ليس له نغم مؤتلف، وهو في قدرة كل إنسان بليغ، وقد تلونا عليك بعض الآيات في الأحكام الشرعية، فرأينا ائتلافًا في النغم، وروعة في البيان، لا تجعلانها كلامًا مرسلًا كسائر الكلام، فإنك واجد التآخي بين الألفاظ والتناسق في الأسلوب، والمعاني التي تتداعى ويأخذ بعضها بحجز بعض، وكل كلمة تومئ إلى أختها.

ولنضرب مثلًا من الكلام الذي ليس فيه ما يشبه السجع ولا القافية ولا الازدواج ولا الشعر، اقرأ قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 95-98] .

إنك واجد في كل كلمة مع أختها إشراقًا، وصورًا بيانية، لقد ذكر سبحانه كيف يخلق الحب فيكون زرعًا، إذا أتى حصاده أكل منه الإنسان والحيوان، وازيّنت به الأرض، وأتت من كل زوج، وغير ذلك من الصور والأحياء، ثم التعبير بفالق النوى، وكيف يخرج من النوى الدوحة الباسقة الوارفة الظلال، والأشجار الدانية القطوف، واليانعة الثمار، ثم كيف يعطر الوجود بالرياحين والزهور من هذه النواة اليابسة، وكيف يخرِج سبحانه وتعالى من التراب أحياء، ومن الحب الجامد والنواة الصلبة غصونًا حية، وزروعًا رطبة، وكيف تدور الحياة إلى موت، فيخرج الميت من الحي وإن ذلك مرئيّ، وإنما ينبت الزرع ويخضرّ، ويستوي على سوقه بعد أن يخرج شطأه، ثم يصير حطامًا.

ثم بَيِّنَ سبحانه أنَّ الذي فعل ذلك هو سبحانه في إشارات بيانية فيها استعلاء، وفيها توجيه بأبلغ ما يكون التوجيه، ثم كان الختام باستفهام إنكاري وتعجب؛ لأنَّ الأمر يستدعي التعجب في ذاته، ثم ختم الكلام بختام فيه رنات قوية لائمة في معناها، ومنبهة للعقول في نغمها وفي موسيقاها، ثم جاء بعد البيان عن الأرض وما فيها من زرع وضرع، وباسقات -إلى السماء، وما فيها من بروج وأفلاك ونجوم وشمس وقمر،

ص: 208

وما يصدر عنها من نور وضياء، وكان الانتقال من الأرض إلى السماء بتقريب في الألفاظ والمعاني، فعبَّر سبحانه عن خروج النهار من الليل بالفجر الصادق الذي يشق الظلام، فقال سبحانه:{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} ، وفي ذلك مقاربة في التعبير بين فلق الحجب والنوى، وشق النور في الظلام، ثم جعل من بعد ذلك نتيجة لهذا الإصباح أنَّ كان الليل سكنًا، ووجه الأنظار إلى الشمس والقمر، فجعلهما سبيلًا لحسبان الأيام والليالي والشهور، ثم ختم النصَّ بما يفيد أنَّ ذلك كله من حكمة الله تعالى العلي القدير، وهنا نجد المعنى واللفظ يختمان بختام من القول يدل على انتهاء هذا الجزء، ومثله في ذلك -ولكلام الله تعالى المثل الأعلى- كمثل من يصور أجزاء كل جزء منه ناطق وحده متميز بوجوده مع الاتصال الوثيق بما يليه، وقد كانا على مقربة بعضهما من بعض في نسق بياني، لا هو من السجع، ولا من الإرسال ولا الشعر، ولكنه فوق ذلك، وفيه مزايا كل واحد من هذه الأقسام مع الزيادة التي تجعل الكلام لا يطاول بيانًا.

وقد ذكر من بعد ذلك زينة السماء إذ قد زينت بالنجوم كالمصابيح للأرض يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، وفي ذلك إشارة واضحة إلى بيان نعم الله تعالى في اليابس والماء، ففي الأرض زروع وثمار وحيوان قد سُخِّرَت لبني الإنسان، ومن البحر تستخرج حلية، وتأكل منه لحمًا طريًا، وفي السماء يهتدي بالنجوم في دجنة الليل، ويسير في البحر بالجوار المنشئات كأنها الأعلام.

وختمت الآية الكريمة بما يدل على أن إدراك هذه النعم يحتاج إلى علم وإيمان بالحق، ولا حياة لعلم بغير إيمان بالحق، ولا حياة لإيمان من غير علم، فهما متلازمان.

ثم بين سبحانه خلق الإنسان وهو كونٌ قائم بذاته في إدراكه ببصر وبصيرة، وفي أصل نشأته ما يساوي أصل الوجود كله، ولذلك قال سبحانه وتعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 21، 22] .

وإن الله ختم الآية الكريمة بما يناسب خلق الإنسان الدقيق الذي لا يدركه إلا نافذ البصيرة، فقال سبحانه:{قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} فالفقه هو العلم الدقيق العميق الذي يشق الظلام حتى يصل إلى الحقيقة.

وإننا نجد من هذا أن القرآن لا يمكن أن يوصف بأنه نثر، ولا بأنه مزدوج له فواصل، ولا بأنه سجع له قواف، ولا بأنه شعر، فليس له أوزان ولا قواف، بل هو ذو نظم اختص به من كل الكلام.

ص: 209

ولو حاولنا أن نعرف سرَّ ذلك النغم وتلك الموسيقى، وذلك التآخي لعجزنا أن نعرفه على وجه التحقيق، إنما نعرف تأثيره في نفوسنا إذا تهدَّت ووصلت إلى ذوق الأسلوب، وذلك أمر يدرك لذوي الألباب، ولا يعرف سره.

وإن النظم القرآني في تأليفه كله له رنين الموسيقى، لقد جرى العرب كتابًا وشعراء وخطباء على أن يجدوا النغم في فاصلة سجع أو قافية شعر، لكن نظم القرآن ونغمه ينبعث من كلماته وحروفه وأسلوبه، فحروفه متآخية في كلماته، لها موسيقى ونغم تهتز لها المشاعر، وتسكن عندها، وتطمئن النفوس، والكلمات في تآخيها في العبارات تنتج موسيقى ونغمًا يختص به القرآن وحده، وإنّ أيَّ كلام مهما يكن علو صاحبه في البيان لا بُدّ أن يكون متخلفًا عن القرآن، لا يمكن أن يلحق به؛ لأنَّه كلام الله تعالى وفوق طاقة البشر.

ويعجبني ما كتبه في هذا الكاتب المؤمن مصطفى صادق الرافعي إذ يقول: "كان العرب يترسَّلون في منطقهم كما اتفق لهم، لا يراعون أكثر من تكييف الصوت دون تكييف الحروف التي هي مادة الصوت إلى أن يتَّفق من هذا قطع في كلامهم تفي بطبيعة الغرض الذي تكون فيه، أو بما تعمل لها المتكلم على نمط من النظم الموسيقى إن لم يكن في الغاية، ففيه قرب من هذه الغاية.

فلما قرئ عليهم القرآن رأوا حروفه في كلماته، وكلماته في جمله ألحانًا لغوية رائعة، كأنَّها لائتلافها وتناسبها قطعة احدة، قراءتها هي توقيعها، فلم يفتهم هذا المعنى، وأنه أمر لا قِبَل لهم به، وكان ذلك أبين في عجزهم، حتى إنَّ من عارضه منهم كمسيلمة جنح في خرافاته إلى ما حسبه نظمًا موسيقيًّا، وطوى عمَّا وراء ذلك من التصرُّف في اللغة وأساليبها ومحاسنها ودقائق التركيب البياني، كأنما فطن إلى أن الصدمة الأولى للنفس العربية إنما هي في أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عداها، وليس يتفق ذلك في شيء من كلام العرب إلَّا أن يكون وزنًا من الشعر أو السجع".

ص: 210

‌التلاؤم:

122-

إن المعنى الذي ذكره المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي هو ما سماه الرماني بالتلاؤم، أي: تكون نغمات الحروف متلائمة بعضها مع بعض في الكلمة، والكلمات يتألف نغمها بعضها مع بعض في الجمل، والجمل يتألف بعضها مع بعض في القول كله، كما نرى في القرآن الكريم، فإنَّ الآية تتضافر ألفاظها في نغم هادئ إن كانت الآية في تبشير، أو داعية إلى التأمل والتفكير إن كانت في عظة، وتتلاءم نغماتها قوية إذا كانت في إنذار، أو في وصف عذاب، اقرأ قوله تعالى:{الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ، فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ، وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ، وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ، فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 1-10] .

إنك ترى في هذه الآيات الكريمات، وهي إنذار بما يكون يوم القيامة، وما يستقبل الذين طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، من عذاب شديد يترقبهم -ترى في النغم قوة شديدة قارعة لأسماع الذين يشركون، ويكفرون بالله تعالى، ويفسدون ويعتدون، ويظلمون، ويشترك في نغمة الترهيب الألفاظ بحروفها، والجمل بكلماتها، والخواتم بشدة جرسها، وقرع الأسماع بها.

ثم اقرأ في سورة الضحى نغمات الرحمة الواسعة، إذ يقول سبحانه:

{وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى كلها] .

وانظر إلى الآيات الداعية إلى التأمّل في الكون، وما فيه من أمور هادية تجد فيها النغمات الهادئة اللافتة الموجّهة من غير قرع للأسماع، بل بتوجيه للأفهام، اقرأ في سورة الغاشية.

{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 17-29] .

وإنك ترى في هذا النص المبين أنه قد اجتمع التأمل ذو النغمة الهادئة الموجهة من غير عنف، في جرس يسترعي الأسماع ويصرف الأنظار، واجتمع الإنذار الشديد القوي، ولم يكن ثمة تنافر بين الإنذار الشديد، والتأمل السديد، بل كان الانتقال من مقام إلى مقام لا يبدو فيه التباين، وإن كان المقام الثاني إنذارًا؛ ذلك لأن الإنذار كالثمرة للتوجيه بالنسبة لمن لم تهده الآيات، وتوجهه النظرات إلى الكون وما فيه.

وإنك إذ تنظر في وصف الجحيم تجده في نغمٍ كأنما يخرج منه ريح السموم، وإن وصف الجنة تجد في نغمه أصواتًا حلوة كأنها روح وريحان لأنها جنة، واقرأ بعض السورة التي تلونا منها آنفًا، وصفًا للجحيم ووصفًا للنعيم، فإنك واجد لا محالة الفرق

ص: 211

في النغم، اقرأ قوله تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً، تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ، لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ، لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً، فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ، فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 1-16] .

تجد في هذه النصوص وصفين لأمرين متباينين، أولهما وصف الجحيم وأصلها وتجد فيه الألفاظ والمعاني والنغم كله يلقي بالألم في النفس والخوف من العذاب الشديد، والمصير العتيد. والثاني وصف النعيم وأهله، وترى فيها الراحة، والاطمئنان والقرار والسعادة، ويشترك في هذا ألفاظ وجمل ومعان، ونغم حتى كأنك ترى لا تسمع.

123-

وإن كان الكلام الذي يتسم بالبلاغة لا بُدَّ أن يكون فيه التلاؤم، والتلاؤم ضد التنافر، وعرَّفه الرماني، فقال: "التلاؤم نقيض التنافر، وهو تعديل الحروف في التأليف، والتأليف متنافر، ومتلائم في الطبقة الوسطى، ومتلائم في الطبقة العليا، ثم يضرب الأمثلة على التنافر الذي هو ضد التلاؤم، ثم يذكر أنَّ التلاؤم الذي يكون في الدرجة الوسطى هو التلاؤم الذي يكون في كلام البلغاء وأهل الفصاحة من الناس، أمَّا التلاؤم في الطبقة العليا فإنه لا يكون إلَّا في القرآن الكريم، ويقول في ذلك رضي الله عنه:

"والمتلائم في الطبقة العليا في القرآن كله، وذلك بيّن لمن تأمَّله، والفرق بينه وبين غيره من الكلام في تلاؤم الحروف على نحو الفرق بين المتنافر والمتلائم في الطبقة الوسطى، وبعض الناس أشد إحساسًا بذلك وفطنة له من بعض، كما أن بعضهم أشد إحساسًا بتمييز الموزون في الشعر من المكسور، واختلاف الناس في ذلك من جهة الطباع كاختلافهم في الصور والأخلاق، والسبب في ذلك تعديل الحروف في التأليف، فكلما كان أعدل كان أشد تلاؤمًا".

ويستفاد من هذا الكلام أنَّه يرجع السبب في علوِّ التلاؤم في القرآن كله إلى التعديل بين الحروف بأن تكون الحروف متلاقية في النطق، فليس فيها تباعد في المخارج شديد، بحيث يصعب الانتقال من مخرج إلى مخرج، ولا التقارب اشديد الذي يجعل بعض الحروف يندغم في بعض.

وإنَّ ذلك ينطبق على النطق، فالتعديل في المخارج بالبعد عن الاختلاف الشديد أو القرب الشديد، إنما هو يتعلق بالنطق، وإنك بلا ريب تجد ألفاظ القرآن الكريم وجمله بعيدة عن هذا كل البعد، بل إنه المثل الأعلى في ذلك.

ص: 212

وإن التلاؤم في ألفاظ القرآن الكريم وجمله وآياته ومواضع الوقف فيه ليس في المخارج فقط، بل هو فيما هو أعلى من ذلك، إنما هو في النغم، وجرس القول وموسيقاه، فلا تجد حرفًا ينشز في موسيقاه عن أخيه، ولا الكلمة عن أختها، ولا الجملة عن لاحقتها، والآية كلها تكون مؤتلفة النغم في الغرض الذي سيقت له، فإن كان إنذارًا كان النغم إرعادًا، وإن كان تبشيرًا كان نسيمًا، وإن كان عظة كان تنبيهًا، وإن كان تفكيرًا كان توجيهًا لافتًا عمَّا سواه، وهكذا.

وقد قال الرماني: "والتلاؤم في التعديل من غير بعد شديد أو قرب شديد، وذلك يظهر بسهولته على اللسان، وحسنه في الأسماع، وتقبله في الطباع، فإذا انضاف إلى ذلك حسن البيان في صحة البرهان في أعلى الطبقات ظهر الإعجاز للجيد الطباع البصير بجواهر الكلام، كما تظهر له أعلى طبقات الشعر من أدناها إذا تفاوت ما بينها، وقد عمَّ التحدي للجميع لرفع الإشكال، وجاء على الاعتبار بأنه لا تقع المعارضة لأجل الإعجاز، فقال عز وجل:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]، ثم قال سبحانه:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] ، فقطع بأنهم لن يفعلوا، وقال تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] ولما تعللوا بالعلم والمعاني التي فيه، قال عز من قائل:{فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] فقد قامت الحجة على العربي والعجمي.

وإن هذا يدل على أن العجز لم يكن لأجل المعاني فقط، وإن كانت معجزة في ذاتها، ولكن التحدي كان بالألفاظ والأساليب، لأنَّهم أمة بليغة ولكنها أمية.

وقد أدركوا من أول الأمر ما في الألفاظ من جمال، وما في تأليف القول من نسق وانسجام، وما في جرسها من نغم، ولما تورط بعض منهم في أإن يحاكوا القرآن، لم يكن اتجاهم إلّا إلى النَّغم أرادوا محاكاته في نغمه فجاء كلامهم غثًا، ليس فيه نغم ولكن فيه ما يدل على إدراك سقيم.

ص: 213

‌الفواصل:

124-

يعرِّف الرماني الفواصل بأنها: حروف متشابكة في المقاطع توجب حسن إفهام المعاني، ويقول:"الفواصل بلاغة والاسجاع عيب؛ وذلك أن الفواصل تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها، وهو قلب ما توجبه الحكمة في الدلالة؛ إذ كان الغرض الذي هو حكمة إنما هو الإبانة عن المعاني التي إليها الحاجة ماسة، فإذا كانت المشاكلة مواصلة إليه فهو بلاغة، وإذا كانت المشاكلة على خلاف ذلك فهو عيب ولكنه، لأنَّه تكلف من غير الوجه الذي توجبه الحكمة، ومثله مثل من رصَّع تاجًا ثم ألبسه زنجيَّا ساقطًا، أو نظم قلادة ثم ألبسها كلبًا، وقبح ذلك وعيبه بين لمن له أدنى فهم، فمن ذلك ما يحكي عن بعض الكهان: "والأرض والسماء، والغراب الواقعة بنقعاء، لقد نقر المجد إلى العشراء"، وهكذا نجد الرماني يفرّق بين السجع والفاصلة، بأن الفاصلة بلاغة، وأن السجع عيب، وأن الفواصل الألفاظ فيها تتبع المعاني، والأسجاع الألفاظ فيها مقصودة، والمعاني تابعة، ويظهر أنه لم يكن بين يديه إلا سجع الكهان، ولكن أكل السجع كذلك، وألَّا يوجد سجع يزيد المعاني قوة، وتكون فيه المعاني هو المتبوزعة، وليست تابعة، وأنَّ السجع يزيد المعاني ويعطيها قوة ويسهل قبولها، ويكون بابًا من أبواب تأكيدها.

ولذلك خالف الرماني في ذلك كلام الذين كتبوا البلاغة من بعد، وقبل أن نخوض فيما قالوه، نقرِّر أنَّ الفرق هو بين الفواصل والسجع، إنَّ الفواصل معناها أن تكون مقاطع الكلام متقاربة في الحروف كالنون والميم في قوله تعالى:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِك يَوْمِ الدِّينِ} ، وأما السجع فهو أن تكون المقاطع متحدة في الحروف، ونلاحظ أن الرماني متأثر في فكرة السجع بسجع الكهَّان الذي قصد به اتحاد الحروف من غير نظر إلى المعنى، ومن غير أن تكون المعاني في ذاتها ذات قيمة، بل لا يقصدون إلا إلى رصّ الكلمات متحرين اتحاد المقاطع.

وإنه عند التحقيق نجد أنَّ الفواصل أعمّ من السجع، فهي إما سجع تتحد فيه حروف المقاطع، أو مجرَّد فواصل تتقارب فيها حروف المقاطع، وذلك رأى ابن سنان في كتابه "سر الفصاحة"1 فهو يقول: الفواصل على ضربين: ضرب يكون سجعًا، وهو ما تماثلت فيه حروفه في المقاطع، وضرب لا يكون سجعًا، وهو ما تقابلت حروفه في المقاطع ولم تتماثل، ولا يخلو كل واحد من هذين القسمين من أنه يأتي سهلًا طوعًا وتابعًا للمعاني، وبالضدِّ من ذلك حين يكون متكلفًا يتبعه المعنى، فإن كان من القسم الأول فهو المحمود الدالّ على الفصاحة، وحسن البيان، وإن كان الثاني فهو مذموم.

وإن هذا الكلام معناه أنه ليس في كل فاصلة تكون الألفاظ تابعة للمعاني، فيكون الحسن والإفصاح والإحسان، وليس في كل سجع تكون المعاني تابعة للألفاظ، فيكون التكلّف، بل التعميم بالحسن في غير السجع، والقبح في السجع هو الخطأ، ولا شك أن فواصل القرآن كلها من البليغ الذي تكون فيه الألفاظ تابعة للمعاني.

وأنه بلا ريب في القرآن مقاطع تتحد فيها الحروف، ومقاطع أيضًا لا تتحد فيها الحروف، ولكن تتقارب، ومن المقاطع التي تتحد فيها الحروف قوله تعالى في سورة.

1 سر الفصاحة ص156.

ص: 214

الغاشية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً، تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ، لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ، لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً، فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ، فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 1-16] .

ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَالطُّورِ، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ، مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 1-8] .

ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا، إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 1-8] .

وهكذا نجد اتحاد حروف المقطع في مقطعين أو أكثر، ثم تتغير إلى اتجاه المقاطع في حرف آخر، ومن القرآن ما تتقارب فيه المقاطع، مثل قوله تعالى:{ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ، قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ، بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 1-6] .

إننا لا نجد المقاطع متحدة الحروف، ولكن نجد أمورًا ثلاثة:

أولها: تقارب مخارج الحروف في المقاطع، فالدال والباء، والظاء مخارجها واحدة، والنطق فيها متقارب، ولا نفرة بينها.

ثانيها: وجود حرف المد قبل الحرف الأخير من كل مقطع، وهو حرف الياء في خمسة منها، وواحد بالواو، والوزن في الخمس الأول منها هو وزن فعيل.

وبهذين الأمرين كان التقارب في المقاطع، تقاربًا بينا يجعل نسق القول واحدًا، ولو لم تتحد المقاطع.

والأمر الثالث: هو اتحاد النغم والموسيقى في كل المقاطع، فهي كلها مؤتلفة في حروفها وألفاظها، وجملة ومقاطعها، حتى كونت صورة بيانية تجعل كلام الله العزيز فوق كل منال.

ص: 215

وقد يكون الكلام في القرآن خاليًا من المقاطع في بعض الآيات، ولا ينزل في نغمه وموسيقاه عن سمته ومستواه الأعلى، ومن ذلك قوله تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] .

ومن ذلك كثير من آيات الأحكام مثل آية المواريث، فالله تعالى يقول:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 11-13] .

وإننا لا نجد في هذا الكلام إلّا مقطعين لا يعدَّان فواصل متقاربة، ولا فواصل متحدة في آخرها بحروفها، إنما هو كلام الله المنثور من غير إرسال، بل النغم متآخ، والمعاني متلاقية، والألفاظ متجانسة، ومتلائمة مع بيان للأحكام ميسرًا سهلًا، فلم ينزل ذكر الأرقام بمرتبة الكلام عن حد التلاؤم والتآخي.

ص: 216

‌أفي القرآن سجع

؟:

125-

الأمر الذي لا مراء فيه أن القرآن الكريم فيه فواصل قد تتحد فيها حروف المقاطع أحيانًا، وقد تلونا فيما مضى من القول آيات بينات فيها من المقاطع متحدة الحروف، فهل تعد هذه سجعًا؟ اختلفت في ذلك عبارات كتاب البلاغة في القديم.

ونجد الرماني يحكم بأن القرآن فيه فواصل ليست من السجع، وبذلك يعلو القرآن في نظره عن أن يكون سجعًا، ويقاربه في ذلك الرأي أو يوافقه الباقلاني في كتابه "دلائل الإعجاز"، وسنعود إلى الاستدلال لذلك الرأي إن شاء الله تعالى.

ولكن الآن نتكلّم في وجهة نظر الذين أثبتوا أن القرآن فيه سجع وإن كان أعلى مما يستطيعه الناس أو يزاولون.

ومن هؤلاء أبو هلال العسكري في كتابه "الصناعتين" فهو يقول:

"وجميع ما في القرآن مما يجري على القرآن من التسجيع والازدواج مخالف في تمكين المعنى وصفاء اللفظ، وتضمّن التلاوة، لما يجري مجراه من كلام الخلق، ألا ترى قوله عز اسمه:{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات: 1-5] .

قد بان عن جميع أقسامهم الجارية هذا المجرى من مثل قول الكاهن: "والسماء والأرض، والقرض والفرض، والغمر والبرض"، ومثل هذا من السجع مذموم، لما فيه من التتكلف والتعسف، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله:"أندى من لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، فمثل ذلك يطل: "أسجعًا كسجع الكهان" لأنَّ التكلف في سجعهم فاش"، ولو كرهه عليه الصلاة والسلام لكونه سجعًا لقال: أسجعًا ثم سكت، وكيف يذمّه ويكرهه، وإذا سلم من التكلف، ويرئ من التعسف لم يكن في جميع صنوف الكلام أحسن منه، وقد جرى عليه من كلامه عليه السلام".

ونرى من هذا أن أبا هلال العسكري يخالف الرماني في أنَّ السجع كله مذموم، بل منه المذموم الذي يظهر فيه التكلف، ويرهق الألفاظ والمعاني، حتى يحاول القائل أن يكون كلامه رضًا غير متماسك بملاط من المعاني.

ويرى أنّه لا مانع من أن يوصف القرآن بأن فيه سجعًا، ولكنه سجع في أعلى مراتب الكلام، بحيث لا يمكن أن يجاريه أحد، ولا يصل إلى علوه أحد من الخلق.

وابن سنان في كتابه "سر البلاغة" يسمِّي ما فيه المقاطع متحدة سجعًا، ولكن في درجة العلوِّ القرآني الذي لا يستطيع أحد أن ينهد في كلامه إليه.

ويسوق نصوصًا قرآنية بعدها من السجع منه ما تلونا، ومنه قوله تعالى:{وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر: 1- 12] .

ويقول ابن سنان: إنَّ نغم السجع كان مقصودًا، فقد حذفت الياء في يسر، وحذفت الواو، وذلك صحيح في اللغة، ويقول: قصد إليه طلبًا للموافقة في الفواصل.

ص: 217

ويستدل أيضًا بقوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1، 2] .

ويتكلم ابن سنان في البواعث التي بعثت الذين ينكرون أنَّ يكون في القرآن سجع، فيحمد تلك البواعث مع الإصرار على المخالفة فيقول: وأظنّ أن الذي دعا أصحابنا إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل، ولم يسموا ما تماثلت حروفه سجعًا، رغبة في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عن الكهنة وغيرهم، وهذا غرض في التسمية قريب، فأمَّا الحقيقة فما ذكرناه؛ لأنه لا فرق بين مشاركة بعض القرآن لغيره في كونه مسجوعًا، وبين مشاركة جميعه في كونه عرضًا وصوتًا وكلامًا عربيًّا مؤلفًا، وهذا مما لا يخفى فيحتاج إلى زيادة في البيان، ولا فرق بين الفواصل التي تتماثل حروفها في المقاطع وبين السجع.

ويقول فارضًا اعتراضًا، ورادًا عليه، فإذا قال قائل:"إذا كان عندكم أن السجع محمود، فهلَّا ورد القرآن كله مسجوعًا، وما الوجه في ورود بعضه غير مسجوع؟ قيل: إن القرآن أنزل بلغة العرب وعلى عرفهم وعادتهم، وكان الفصيح من كلامهم لا يكون كله مسجوعًا لما في ذلك من أمارات التكلف والاستكراه والتصنع، ولا سيما فيما يطول من الكلام، فلم يرد مسجوعًا جريًا على عرفهم في الطبقة العالية من الكلام، ولم يخل من السجع؛ لأنه يحسن في بعض الكلام على الصفة التي قدمناها، وعليها ورد في فصيح كلامهم، فلم يجز أن يكون عاليًا في الفصاحة، وقد أخلَّ فيه شرط من شروطها، وهذا هو السبب، فأورد القرآن مسجوعًا وغير مسجوع".

ونحن لا نفرض احتمال التكلف في القرآن قط؛ لأنه من عند الله تعالى، ولكن نقول: هكذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون هكذا كتابه، وإذا أردنا أن نلتمس حكمة لذلك، فهي فيما قال سبحانه:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الكهف: 54] فتصريف القول في القرآن كان من جماله الذي يعلو على كل البشر بأن يكون تصريف القول فيه بسجع أحيانًا إن ارتضينا مذهب السجع، أو الفواصل المتقاربة حروفها في المقاطع أحيانًا أو إطلاق الألفاظ في القرآن من غير مقاطع، مع ملاحظة أنَّ ذلك كله في أعلى درجات البلاغة التي لا يصل إليها أحد من البشر.

وابن الأثير في كتابه المثل السائر يستنكر قول الذين يذمون السجع، ويستنكر قول الذين لا يسمون ما في القرآن من اتحاد المقاطع في الحروف سجعًا، ويقول في ذلك:

"وقد ذمَّه بعض أصحابنا من أرباب هذه الصناعة، ولا أرى لذلك وجهًا سوى عجزهم أن يأتوا به، وإلَّا فلو كان مذمومًا لما ورد في القرآن الكريم، فإنه قد أتى منه.

ص: 218

بالكثير، حتى إنه ليؤتي بالسورة جميعها مسجوعة كسورة الرحمن، وسورة القمر وغيرهما، وبالجملة فلم يخل منه سورة".

وترى أنه يستحسن السجع، ويرمي الذين لا يستحسنونه بأنهم لا يجيدونه، ونقول: إنه لا يمكن أن يكون حسنًا في كل الأحوال، فمثلًا بيان الأحكام الشرعية في أي كلام بليغ لا يصح أن يكون سجعًا، ولكل مقام مقال كما يذكر علماء البلاغة.

وخلاصة ما يقرره المثبتون للسجع في القرآن أنهم يعتمدون على ما يتلونه من اتحاد الحروف في مقاطع القرآن، ويقررون مع ذلك أن سجع القرآن أعلى من كلام البشر، فليس على شاكلة مثله في كلام الناس؛ لأنه أعلى من كلام الناس.

126-

من هذه النقول التي نقلناها نجد الذين يقررون أن في القرآن سجعًا يعتمدون:

أولًا: على نصوص القرآن التي ثبت فيها أنّ الفواصل المتحدة في الحروف كثيرة في القرآن.

وثانيًا: على أن السجع ليس عيبًا في القول، ولكنه من محسِّنات القول، وقد وقع كثيرًا في كلام العرب الجيد، وأنه لم يكن سجع الكهان هو السائد فقط، بل كان من بلغاء العرب من اتجه إلى السجع البليغ، فقد روي عن أبي طالب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسيف بن ذي يزن:

"أنبتك الله منبتًا طابت أرومته، وعزت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه، ونبت زرعه في أكرم موطن، وأطيب معدن".

وإن الذين نفوا السجع من القرآن قالوا: إنه مذموم، وعلى رأسهم الرماني، وجاء من بعده أبو بكر الباقلاني، فنهج ذلك المنهج وسار على ذلك الخط، ونسبه إلى الأشاعرة، فقال:

"ذهب أصحابنا كلهم إلى نفي السجع في القرآن، وذكره الشيخ أبو الحسن الأشعري في غير موضع من كتبه".

وإذا كان الذين ردوا على الرماني قد بيَّنوا أنَّ السجع ليس مذمومًا على إطلاقه، إنما المذموم منه سجع الكهان، وما كان فيه اللفظ هو المقصود، والمعنى تابع له.

وقد أنكر الباقلاني أن يكون في القرآن سجع، وما ادّعوه من سجع فيه وساقوه هو وَهْمٌ لا أساس له فقال:

"والذين يقدرون أنه سجع هو وهم؛ لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع، وإن لم يكن سجعًا؛ لأنَّ ما يكون به الكلام سجعًا يختص ببعض الوجوه دون بعض،

ص: 219

لأنَّ السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع، وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن؛ لأن اللفظ لا يقع فيه تابعًا للمعنى، وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون السجع منتظمًا دون اللفظ، ومتى ارتبط المعنى بالسجع كانت إفادة السجع كإفاد غيره، ومتى انتظم المعنى نفسه دون السجع كان مستجلبًا لتحسين الكلام دون ضجيج".

وإننا هنا نجد افتراقًا بين الباقلاني وابن الأثير وابن سنان وأبي هلال العسكري في تعريف السجع، فأولئك يعتبرون السجع ما اتحدت فيه ألفاظ المقاطع، سواء أكان المعنى هو المقصود، وجاء الاتحاد تحسينًا للقول، أم كان المقصد هو اللفظ واتحاد ألفاظ المقاطع هو المقصود، وفي الأول يكون السجع محمودًا، وفي الثاني لا يكون لائقًا بمقام القرآن الكريم.

أما الباقلاني وسائر الأشاعرة، ومن سلك طريقتهم، فإنهم لا يذكرون السجع إلإ في الصورة التي يكون فيها اللفظ مقدمًا على المعنى.

وإن الذي دفع الباقلاني إلى هذا هو تشبيه السجع بالشعر، فالشعر تقصد فيه القوافي والمقاطع المتحدة في الألفاظ ثم تكيف المعاني على الألفاظ ليستقيم المقطع، كما تستقيم القافية، وإذا كان الشعر منفيًّا في القرآن بالاتفاق، فكذلك السجع الذي ينهج منهجه، ويتبع طريقته، وتجيء المعاني تابعة للألفاظ مكيفة بكيفها، مأخوذة بطريقها، وإنَّ الله تعالى عندما استنكر أن يكون قول شاعر ولا كاهن، أدخل السجع في النفي، وهو السجع الذي يكون فيه المقصد الأول للفظ.

وإنه إذا كانت الفكرة نفيًا أو إثباتًا قائمة على الاختلاف في الاصطلاح فإنه قد زال الخلاف؛ إذ لا مشاحة في الاصطلاح.

وبذلك ننتهي إلى الاتفاق على أنَّ القرآن فيه فواصل تتحد فيها المقاطع ولعلوها وسموها في البلاغة كانت المعاني هي المقصد الأول، وجاءت الألفاظ بجمالها وإشراقها وحسن نغمها، ورنة موسيقاها، تابعة لذلك، وقد يكون اتحاد المقاطع في الحروف من مظاهر الجمال وحسن النغم، وانسجام الموسيقي، وفي ذلك قوة التأثير، بما لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله.

وعلى ذلك نقول: إنَّ من يفسِّر السجع بأن الاتحاد في حروف المقاطع من غير أن يكون المعنى تابعًا للفظ يحكم بأن القرآن الكريم فيه سجع فوق قدرة البشر أن يأتوا بمثله، ومن يقول: إنّ السجع كالشعر يكون المعنى فيه تابعًا للقافية والأوزان يكون القرآن الكريم منزَّهًا عنه.

ص: 220

ونحن نميل إلى أن اتحاد المقاطع في القرآن لا يعد سجعًا؛ لأننا نرى السجاعين يتجهون إلى الألفاظ أولًا، وقد يكون سهلًا وحلوًا، ولكن الاتجاه فيه أولًا إلى الألفاظ، وذلك غير لائق بالنسبة للقرآن.

127-

وبذلك يكون الحكم في أمرٍ اتفق الطرفان المتخاصمان فيه على تقديس القرآن الكريم، وتنزيهه عن أن يكون مشابهًا لكلام الناس، وإن كان من جنسه، ومكونًا من حروفه.

ونختم الكلام بكلام لكاتبين مؤمنين، قال أحدهما في وصف ألفاظ القرآن ونظمه، وقال الثاني في فواصله ومقاطعه، أما الأول فالباقلاني، فقد قال:

"إن القرآن سهل سبيله، فهو خارج عن الوحشي المستكره، والغريب المستنكر، وعن الصنعة المتكلفة، وجعله قريبًا إلى الأفهام، يبادر معناه لفظه إلى القلب، ويساوق المغزى منه عبارته إلى النفس، وهو مع ذلك ممتنع المطلب عسير المتناول غير مطمع مع قربيه في نفسه، ولا موهم مع دونوه في موضعه أن يقدر عليه، أو أن يظفر به، فأمَّا الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل، والقول المسفسف فلا يصح أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة، فيطلب فيه، ولكنه أوضح مناره، وقرب منهاجه، وسهل سبيله، وجعله في ذلك متشابهًا متماثلًا، وبين مع ذلك إعجازه فيهم".

أما الثاني فهو الكاتب المؤمن مصطفى صادق الرافعي رحمه الله ورضي عنه- فهو يقول في فواصل القرآن ومقاطعه:

ما هذه الفواصل التي تنتهي إليها آيات القرآن؟ ما هي إلَّا صورة تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى، وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقًا عجيبًا، يلائم الصوت والوجه الذي يساق إليه بما ليس وراءه في العجب مذهب، وتراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم، وهما الحرفان الطبيعيان في الموسيقى نفسها، أو بالمد، وهو كذلك طبيعي في القرآن. قال بعض العلماء: كثير في القرآن ختم الفواصل بحروف المد واللين، والياء والنون، وحكمة وجودها التمكين من التطريق بذلك، كما قال سيبويه: أنهم -أي: العرب- إذا ترنَّموا يلحقون الألف والياء والنون لأنهم أرادوا مدَّ الصوت، ويتركون ذلك إذا لم يترنموا، وجاء ذلك في القرآن على أسهل موقف وأعذب مقطع.

فإذا لم تنته بواحدة من هذه "بالميم والنون والمد" كأن انتهت بسكون حرف من الحروف الأخرى كان ذلك متابعة لصوت الجملة، وتقطيع كلماتها، ومناسبته للون المنطق بما هو أشبه وأليق بموضعه، وعلى أن ذلك لا يكون أكثر ما أنت واجده إلا في

ص: 221

الجمل القصار، ولا يكون إلَّا بحرف قوي يستتبع القلقلة أو الصفير أو نحوهما مما هو صروف أخرى من النظم الموسيقي.

وهذه هي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة، وأثرها طبيعي في كل نفس تفهمه، وكل نفس لا تفهمه، ثم لا يجد من النصوص على أي حال إلا الإقرار والاستجابة، ولو نزل القرآن بغيرها لكان ضربًا من الكلام البليغ الذي يطمع فيه أو في أكثره، ولما وجد أثر يتعدى أهل هذه اللغة العربية إلى أهل اللغات الأخرى، ولكنه انفرد بهذا الوجه المعجز، فتألفت كلماته من حروف لو سقط واحد منها أو أبدل بغيره، أو أقحم معه حرف آخر، لكان ذلك خللًا بيِّنًا، أو ضعفًا ظاهرًا في نسق الوزن، وجرس النغمة، وفي حس السمع وذوق اللسان، وفي انسجام العبارة، وبراعة المخرج، وتساند الحروف، وإفضاء بعضها إلى بعض، ولرأيت لذلك هجنة في السمع كالذي تنكره من كل مرئي لم تقع أجزاؤه على ترتيبها، ولم تتفق على طبقاتها، وخرج بعضها طولًا وبعضها عرضًا، وذهب ما بقي منها إلى جهات متناكرة".

وإن هذا الكلام يفيد فائدتين:

إحداهما: أنَّ موسيقى القرآن الكريم ونغماته هي التي استرعت أسماع العرب، واستهوت نفوسهم، ورأوا لها حلاوة، وعليها طلاوة ليست من الشعر، وإن علت على أعلى ما فيه، وليست من نوع كلامهم البليغ، وإن كانت من جنس كلامهم، وإن ذلك التأليف في النغم والجرس مع علوِّ المغزى والمعنى وإحكام التعبير ودقة الإحكام لا يمكن أن يصل إليه أحد.

وقد يقول قائل: هل هذه الأنغام المؤتلفة مقصودة في ذاتها، وهي الإعجاز؟

فنقول: إننا مهما نحاول في رد الإعجاز إلى أسباب لا نجد سببًا واحدًا بذاته هو الذي اختص بالإعجاز، بل تضافرت في ذلك الأسباب، وكل واحد منها يصلح سببًا قائمًا بذاته، ولكن نؤكد أن جرس المقاطع والحروف والكلمات والجمل، والفوزاصل، وأبعادها، كل هذا فيه إعجاز للعرب عن أن يأتوا بمثلها.

وإنَّ الدليل على أنَّ جرس الآيات القرآنية بما حوت من حروف وكلمات هو من الإعجاز أنَّ الله تعالى أمر بترتيل القرآن لا بمجرد القراءة، فقد قال تعالى:{وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} ، وبين سبحانه أن ترتيل القرآن بتعليم من الله تعالى، فقد قال تعالت كلماته:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32] .

فالله تعالى علَّم نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو-صلى الله عليه وسلم علَّم أمته ذلك الترتيل، وليس الترتيل مجرَّد القراءة، إنما الترتيل قراءة منغمة تنغيمًا يظهر التناسق في الحروف والجمل والآيات ويكشف معانيها، ونغماتها، وتلك هي موسيقى القرآن.

الفائدة الثانية التي يفيدها: أنَّ إعجاز القرآن لغير العرب هو بنغمه وجرسه الموسيقي، فإنَّ الموسيقى لغة الإنسانية، وتهتز لها كل القلوب، ونحن نوافقه في اتجاهه إلى أن القرآن معجز العرب وغيرهم، ولكن لا نقصر إعجاز غير العرب على الموسيقى وحدها، بل نقول: إن ذات العبارات، وشرائعه، والعلم المبثوث فيه، وكونه من أمي لا يقرأ ولا يكتب، وقد نشأ في بلد أمي ليس فيه معهد ولا مدرسة، هذا كله فيه الدلالة على أنه من عند الله تعالى.

ص: 222

‌الإيجاز والإطناب في القرآن:

128-

إن القسمة العقلية للكلام كثرة وقلة بالنسبة لمعناه تحصره في أربعة أقسام:

أولها: الإيجاز بأن تكون الألفاظ قليلة والمعاني كثيرة.

وثانيها: التقصير بأن تكون الألفاظ غير كافية للدلالة على المعاني.

ورابعها: التطويل، وهو أن تكون الألفاظ كثيرة وفيها ما لا حاجة إليه. وهذه الأقسام الأربعة من الناحية البلاغية متقابلة، فالإيجاز والتقصير متقابلان، وأولهما باب من أبواب البلاغة، وثانيهما عيّ في القول، ونقص في البيان، والإطناب والتطويل متقابلان، وأولهما بلاغة وحسن أداء، وثانيهما عيّ وعيب في البيان، يدفع إلى الملل والسآمة، حتى يتبرم به السامع.

وقد ذكر الرماني هذه الأقسام المتقابلة، كل ما يقابله، فقال: "والإيجاز بلاغة والتقصير عيّ، كما أنَّ الإطناب بلاغة والتطويل عي، والإيجاز لا إخلال فيه بالمعنى المدلول عليه، وليس كذلك التقصير، لأنه لابد فيه من الإخلال، فأما الإطناب فإنما يكون في تفصيل المعنى، وما يتعلق به في المواضع التي يحسن فيها ذكر التفصيل، فإنَّ لكل واحد من الإيجاز والإطناب موضعًا، يكون به أولى من الآخر، لأنَّ الحاجة إليه أشد، والاهتمام به أعظم، فأما التطويل فعيب وعيّ؛ لأنه تكلف فيه الكثير فيما يكفي منه القليل، فكان كالسالك طريقًا بعيدًا، جهلًا من بالطريق القريب، وأمَّا الإطناب فليس كذلك؛ لأنه كمن سلك طريقًا بعيدًا لما فيه من النزهة الكثيرة،

ص: 223

والفوائد العظيمة، فيحصل في الطريق على غرضه من الفائدة، على نحو ما يحصل له بالغرض المطلوب.

وإنه يستفاد من هذا الكلام أنَّ الإطناب هو في زيادة المعاني، لا في زيادة الألفاظ، فإنَّ اللفظ إذا زاد لا يكون الكلام من الإطناب البليغ المستحسن إلَّا إذا زادت معه المعاني، وذلك يكون بتفصيل القول لا بإجماله، اقرأ قوله تعالى:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى} [طه: 17، 18] إننا نرى هنا إطنابًا حلوًا تترطب به الألسنة والأسماع، كان الإيجاز أن يقول هي عصاي. وبقية المعاني تفهم، ولكن محبَّة موسى لربه، ورغبته في أن يطيل المحادثة، صرَّح بما يفهم ضمنًا، وبما يعلمه الله تعالى من غير بيان.

واقرأ مرة أخرى ما قاله موسى عليه السلام عندما كلفه ربه أن يقوم بحق الرسالة، فقد قال راغبًا في حديثه مع ربه:{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا، إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا، قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى، وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى، إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي، إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى، وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 25- 41] .

وهنا نجد في هذا الكلام إطنابًا في خطاب كليم الله تعالى لربه، فهو لا يكتفي بالملزوم حتى ينطق باللازم؛ لأن الخطاب محبَّب إلى نفسه؛ لأنه يخاطب ربه فيسهب في القول من غير تزيد.

ثم تجد بعد ذلك في كلامه إيجازًا غير مخل، قد حذف منه ما صرح به في آيات آخر من قصة سيدنا موسى مع فرعون، فذكر أن أخته قالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم، ولم تذكر أنه حرم عليه المراضع، وقد عرف هذا من الآيات الأخرى، وفهم من هذه الآية؛ إذ إنه لا يمكن أن يكونوا في حاجة إلى من يكفله لهم، إلَّا إذا احتاجوا إلى ذلك، وحذف من قبل كلام امرأة فرعون، وقد فهم ضمنًا من قوله تعالى:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} .

ص: 224

وذكر هنا قتله نفسًا، وطوى ذكر ما كان منه عندما بلغ رشده، ورؤيته رجلًا من شيعته يستغيثه فأغاثه، وقتل الذي هو من عدوه، ثم طوى سبحانه وتعالى خبر الائتمار به ليقتله المتآمرون، ثم خروجه والتقاؤه بابنتي شعيب وسقيه لهما، ومجيء إحداهما تمشي على استحياء، ثم زواجه على أن يكون المهر عمله ثماني حجج أو عشرًا، ثم إيناسه بالنار، ثم مكالمة الله تعالى، وقد ذكر كله في قوله تعالى:{فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى، وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 40، 41] .

وهكذا نجد أن الإطناب لا يكون بكثرة الألفاظ فقط، بل بكثرتها مع كثرة المعنى، والإيجاز لا يكون بكثرة المعاني فقط، بل لا بُدَّ أن يكون في الألفاظ دلالة واضحة على المعاني الكثيرة، أو أن تكون هذه المعاني ذكرت في مقام آخر من القرآن، فإن القرآن الكريم كل كامل لا تنقص معانيه، ولا تستغلق على قارئيه، وقد يحذف القول في مكان؛ لأنَّه يفهم بدلالة الأولى في مكان آخر.

وبين أيدينا في هذا الباب آيات في الميراث.

لقد قال تعالى في ميراث الأولاد: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] .

ونرى هنا أنَّ النص الكريم ذكر أن ميراث الواحدة إذا انفردت النصف، وميراث الأكثر من اثنتين الثلثان، ولم يذكر الميراث إذا كانتا اثنتين فقط، ولم تزيدا عن اثنتين، أيكون النصف أم يكون الثلثين؟

لقد تبين ذلك في ميراث الأخوات، فقد قال تعالى:{يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا ُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} [النساء: 176] .

وهنا نجد الإيجاز المحكم، فنجد في الآية الأولى يحذف ما يفهم بالأولى من الآية الثانية، ويحذف من الثانية كذلك، فقد ذكرت الآية حكم ما فوق الاثنتين، ولم تذكر حكم الاثنتين، وهو ما بين في الآية الأخرى؛ لأنها ذكرت أن ميراث البنتين هو الثلثان، وإذا كانت البنت أقرب إلى الميت من الأخت فيكون ميراث البنتين بدلالة الأولى؛ لأنه إذا كانت الأختان وهما أبعد تأخذان الثلثين، فأولى أن تأخذهما البنتان الاثنتان؛ لأنهما أقرب، فلا يمكن أن يكون نصيبهن أقل من الثلثين.

والآية الأولى نصَّت على أنَّ الأكثر من بنتين تأخذان الثلثين، فلا زيادة عن الثلثين، فالأولى بألَّا يزيد عن الثلثين نصيب الأكثر من أختين؛ لأن الأكثر من اثنتين من ذوي القرابة القريبة لا يزيد عن الثلثين، فأولى ألَّا تزيد عن ذلك ذوات القرابة الأبعد.

ص: 225

وأمثال ذلك كثير في القرآن، ومنه قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وهذه حال المطلقة الحامل، وذلك إيجاز لا تفصيل فيه، وبينت حال الحامل، في قوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] .

129-

وإنَّ الأمر الذي يجب أن نعرفه ونؤمن به ونؤكده، وهو الذي يليق ببلاغة القرآن التي لا تسامى، ولا تناهد، وتتحدَّى بها الأجيال كلها -في كل اللغات- أن الإيجاز ليس فيه قصور في الألفاظ تكون على قدر المعاني مع كثرتها، فهي واضحة الدلالة، كما أنَّ المعاني وفيرة غزيرة مغدقة.

وإنَّ الإطناب كذلك، فإنَّ المعاني تكون كثيرة، والألفاظ على قدرها لا زيادة فيها بحيث لا يمكن الاستغناء عن عضها والاكتفاء ببعضها، بل إنك لو أردت حذف كلمة، بل حرف من كلمة لأحسست بأنك قطعت جزءًا من الصورة البيانية، فلا تكون الصورة كاملة بدونها، بل تحس بفراغ في مكانها لا بُدَّ أن يملأ.

وإذا كان الإطناب مع كثرة الألفاظ على قدر المعاني؛ بحيث لا يُسْتََغْنَى بكلمة عن كلمة، والإيجاز كذلك، فما الفرق إذن بينهما، ولم يكن ثمة حاجة لأن يقسم بيان القرآن إلى إيجاز وإطناب، وقد اتفق علماء البلاغة على أن في القرآن الكريم النوعين.

وإننا نقول في الجواب: إن الإيجاز والإطناب طريقان للبيان، كل منهما واف في موضعه، يؤدي الغرض الأول في موضعه، وهما يتباينان لا يجمعهما إلا البلاغة البينة الواضحة، وكل له مقامه.

ولنوضِّح الفرق بينهما في الحقيقة، ثم نوضِّح الفرق بينهما في مواضعهما من القرآن الكريم.

فالفرق بينهما في الحقيقة أنَّ الإيجاز يكون بحذف كلمة دلَّت القرائن عليها مع الوفاء في حذفها، كالوفاء في ذكرها، والبلاغة تكون في الحذف في مقام البيان إن كانت الدلالة قائمة، والقرائن مثبتة، ويكون في الحذف فائدة لا توجد مع ذكر المحذوف؛ كقول الله تعالى عن قول إخوة يوسف لأبيهم:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 82] .

وإن القرية وهي مجموع المساكن والطرقات لا تسأل إنما يسأل من فيها، بل يسأل بعض من فيها، وذلك دليل على أنَّ المسئول هو البعض، فهنا إيجاز بالحذف،

ص: 226

ولا نقص بذلك الحذف، بل فيه زيادة معنى، وهو أنَّ الأمر شائع عام للجميع، وكأن كل من في القرية يعرف حتى البنيان، والمساكن والأسواق، أي: ذلك أمر معروف، لا موضع للكذب فيه.

وحقيقة الإطناب أنَّ المعاني تكون والألفاظ على قدر واحد في الكثرة، والألفاظ بناء متكامل لا ينقص منه لبنة، ولكن الإطناب يكون متجهًا إلى تفصيل الألفاظ في الدلالة، فلا يستغنى بلازم عن ملزوم، ولا بملزوم عن لازم، ولا بعامٍّ عن خاص، ولا بخاصٍّ عن عام، ولا بدلالة الأولى عن نص اللفظ، ولا بالإشارة عن العبارة، بل كل ما يقتضيه المقام يجيء في وضوح كامل، لا يكتفي فيه بالتضمن، ولا بالإشارة ولا بالالتزم. ومثال ذلك في الحسيات، وإن كان لكلام الله تعالى المثل الأعلى، أن تطلب من شخص وصف قصر، فيصف أبعاده، طوله وعرضه، وارتفاعه وزيناته، ثم يصف الغرفات غرفة غرفة، ودعائم بناء القصر، ويسترسل في وصف كأنك تراه، وهذا إطناب يكون له مقامه إذا كان لمن يريد شرائه أو سكناه.

وقد يقول في وصفه أحيانًا أنه على أكمل صورة لتصور المترفين طلاء وحلية.

ولا شك أن الأول إطناب لا زيادة فيه ما دام غير قاصد إلَّا لبيان ما فيه، والثاني إيجاز لا قصور فيه.

ولنضرب لذلك مثلًا سورة الطلاق التي بينت وقت الطلاق، وما يكون بعده، وما يجب للمطلقة، وما يجب على المطلق، مع الإيجاز في بعض الأحكام التي تشمل حال الطلاق وغيره.

قال الله تعالى: {يَا أَُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا، فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا، ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا، أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ

ص: 227

أُخْرَى، لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَاّ مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 1-7] .

وإنك ترى في هذا النص الكريم المعاني الكثيرة، فهي تكاد تشتمل على أحكام المطلقات، وفيها إشارة إلى بعض أحكام عدة المتوفَّى عنهنَّ أزواجهن.

وإن الألفاظ ليست قليلة، ومن المؤكد أنه لا زيادة فيها، بل تخلل الإيجاز بعضها.

وإن أكثر آيات الأحكام فيها ذلك الإطناب الذي لا تزيد فيه الألفاظ عن المعاني، لأنَّها تتعرض لما يكلف الله تعالى عباده، ولا بُدَّ أن يكون ذلك واضحًا للمكلف كل الوضوح حتى لا يكون في ذلك موضع إبهام تكون فيه معذرة للمكلف، بل إنه بيان الله تعالى الشامل الذي لا إيهام فيه، ولا مظنَّة لإبهام، اقرأ قوله تعالى في تحريم الخمر، إذ أطنب سبحانه فقد قال -تعالت كلماته:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْ وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 90-93] .

وإننا نرى القرآن الكريم يأتي بالإطناب الذي لا زيادة فيه في آيات الأحكام كما أشرنا بذلك، وتلونا من كتاب الله تعالى، فإنك لا تجد أن حكمًا أصليًّا يأتي به القرآن يكتفي فيه بالإشارة عن العبارة، وباللازم عن الملزوم، بل كل ذلك صريح في القرآن الكريم، ولكنَّ الفقهاء في استنباطهم كانوا يأخذون أحكامًا من إشارات العبارات وكناياتها، كما رأينا فيما استنبطوه من قوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} فإنهم فهموا منه أن الولد لأبيه، وأن له حق التربية، وأخذ الفقهاء من إشارات العبارات كثيرًا في أبواب الفقه، وعد ذلك من بلاغة القرآن الكريم.

وإن أخذ الأحكام بطريق الإشارة دون العبارة لا يمنع أنه لم يكتف بذكر الملزوم في بيان الحكم الأصلي، وإن ذلك ثمرات الحكم الأصلي فهمت منه، وأما الأصل فلم يفهم إلا بالعبارة الواضحة.

هذا، ومن مواضع الإطناب الواضح في القرآن الكريم القصص القرآني في مواضع العبرة، وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم ببيان ما نزل بالأنبياء السابقين، وما لاقوا من أقوامهم،

ص: 228

فإن الإطناب في ذلك يزيد قلب النبي صلى الله عليه وسلم تثبيتًا وأنسًا، وأن القصص فوق ذلك يكون مشتملًا على مناقشة الأنبياء السابقين لأقوامهم، وأدلة التوحيد التي جاءت على ألسنتهم، وفيه بيان أحوال السابقين، وما كان يسيطر عليهم وعلى بيئاتهم.

وإنه من مواضع الإطناب الذي لا يكفي فيه الإيجاز بطلان عبادة الأوثان، ومجادلة المشركين، وردّ مطالبهم من معجزات غير القرآن، وبينات تثبيت الرسالة سواء، فإنَّ القرآن مشتمل على الكثير منه.

ومن مواضع الإطناب مناقشة أهل الكتاب، وبيان إنكارهم، وإثبات ماضيهم الذي امتد في حاضرهم.

130-

ويجب أن ننبه هنا إلى أن التكرار ليس من الإطناب، وهو من الحشو إذا كان في سياق واحد، فالسياق الواحد لا يتكرر فيه المعنى، ولا يتكرر فيه اللفظ، وإذا بدا للقارئ الذي لا يمحّص المعاني والحقائق أنَّ في الكلام القرآن تكرارًا للمعنى، فإنَّ ذلك عند ذوي الفهم السليم تفكير سقيم؛ لأن تكرار المعنى له وصف آخر يؤدي فكرة جديدة، ومن ذلك قوله تعالى في وصف ميثاق بني إسرائيل الذي أخذ عليهم وأقروا به ثم أعرضوا عنه، فقد قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَاّ قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 83، 84] .

ولقد ادَّعى بعض الناس أن في الكلام تكرارًا في المعنى في موضعين، وإن كان اللفظ لا يتكرر، ففي الأول يقول تعالى:{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} فيدَّعي بعض الناس أنَّ في النص الكريم تكرارًا؛ لأن التولي هو الإعراض، فما معنى وأنتم معرضون إلَّا أن يكون تكرارًا، وإن النظر العميق يثبت أولًا أن التولي هو الانصراف والبعد بالجسم، والإعراض هو الانصراف بالقلب، فأشبه هذا بقوله تعالى:{أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء: 83] وفي هذا تصوير حسي للإعراض، فهو لم يعرض بالقلب بعدم الإذعان، بل قرن المعنى النفسي بالمظهر الحسي، كذلك هنا قرن الإعراض النفسي بالمعنى الحسي لتصوير الإعراض، وجعل الحق وراءهم حسيًّا، ثم قوله تعالى:{وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} حال وفيه معنى توليتم إن

ص: 229

كانت بمعنى الإعراض عامَّة؛ وذلك لأنَّ هذه الجملة حالية، أي: إنَّ الإعراض النفسي عن الحق، وجحودهم حال مستمرة من أحوالهم، فالحق لا يصل إلى قلوبهم.

والثاني وهو قوله تعالى: {أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} فإن الذين يدعون التكرار في المعنى يقولون أن اشهادة هنا هي الإقرار إلا أن يكون تكرار؟

ونقول في الإجابة عن ذلك أن ذكر {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} بعد الإقرار ليس تكرارًا؛ لأن الشهادة هنا ليس معناها الإقرار؛ لأنَّ الإقرار قد يكون عن أمر مغيب، وإنما معناها الحضور والرؤية، والمعنى على ذلك أنكم حضرتم الميثاق وأقررتم على ما فيه، فهو إقرار موثَّق لا تستطيعون أن تدعوا الغفلة إذ هو قول وحضور، فعن أيهما تغفلون.

ومن الآيات القرآنية التي يدّعي فيها التكرار بادي الرأي قوله تعالى في قصة صالح عليه السلام مع قومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74] .

وقد قالوا أن هنا تكرارًا في المعنى؛ لأن العثى هو الفساد، فمعنى لا تعثوا لا تفسدوا، فكلمة مفسدين تكون تأكيدًا للمعنى، والجواب عن ذلك أنه لا تكرار؛ لأن النبي الأمين نهى عن الفساد، وعن القصد إليه، فكلمة مفسدين تدل مع لا تعثوا على عدم القصد إليه، ومن جهة أخرى فيها إيماء إلى أن الإفساد وصف لهم، فعليهم أن يتخلّوا عن الوصف، وهي كذلك تدل على شناعة حالهم، وفساد جمعهم؛ إذ إنه فساد لا صلاح معه، فهل يقال بعد هذا أنَّ ثمة تكرارًا في المعاني في أيِّ جملة من آيات كتاب الله تعالى.

وأنه لا يوجد تكرار لفظي في جملة واحدة، ولا في موضع واحد.

وقد ادَّعى بعض العلماء التكرار في مواضع في القرآن، وعلله بما لا ينتنافى مع إعجاز القرآن الكريم، بل إنَّه من دلائل الإعجاز؛ إذ إن تكرار المعنى الواحد بعبرات مختلفة في مواضع مختلفة مع جمال الألفاظ والجمل في مواضعها المخلتفة، كأن يكرر المعنى في قصة في سور مختلفة، وكل عبارة معجزة في ذاتها، ويتحدَّى بها في نغمها وموسيقاها وألفاظها وجملها، وعجز العرب عن أن يأتوا بأي عبارة منها دليل على كمال الإعجاز في جملته وفي أجزائه.

ونحن نرى أنَّه لا تكرار في عبارات القرآن بمعنى أن يكرر المعنى من غير حاجة إليه، بل ذكرنا أنه إذا تكرَّر لفظ أو معنى، فإنما يكون ذلك لمناسبة جديدة، ويكون عدم ذكر ما يدّعي فيه التكرار إخلالًا، وذلكم مستحيل على كتاب الله تعالى.

وقد ضربنا على ذلك الأمثلة من قصص القرآن، ومن أنواع الاستفهام، وذلك في صدر كلامنا في تصريف القول في القرآن.

ص: 230

‌أقسام الإيجاز:

131-

يقسم الرماني الإيجاز إلى قسمين: إيجاز حذف، وإيجاز قصر، فيقول رضي الله عنه:"الإيجاز على وجهين: حذف وقصر، والحذف إسقاط كلمة للاجتزاء فيها بدلالة غيرها من الحال أو فحوى الكلام، والقصر بنية الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف، فمن الحذف: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ومنه {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} ومنه {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} ومنه حذف الأجوبة، وهو أبلغ من الذكر، وما جاء منه في القرآن كثرة كقوله -جلَّ ثناؤه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} ومنه قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] ، كأنه قيل حصلوا على النعيم، وإنّما صار الحذف في مثل هذا أبلغ من الذكر؛ لأن النفس فيه تذهب كل مذهب، ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان، فحذف الجواب في قولك: "لو رأيت عليًا بين الصفين" أبلغ من الذكر لما بيناه".

هذا كلام الرماني في الإيجاز بالحذف، ونلاحظ في ذلك أمرين:

أولهما: أن الإيجاز هنا نسبي في جزء من الكلام، فقد يكون الكلام في مقام الإطناب، ولكن في جزء منه يكون الحذف، وذلك موجود في بعض ما ذكره من أمثلة من ذلك قوله تعالى في آية البر، فإنها مطنبة بالنسبة لبيان المتسحقين للبر، فقد قال تعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] .

ونرى من هذا أنَّ مجموع الآية في بيانها لا يُعَدّ من قبيل الإيجاز، بل هو إطناب على المعنى الذي بيناه في الإطناب.

ولكن ذلك لا يمنع أن في جزء من الآية الكريمة إيجازًا، وعلى ذلك نقول: إن الإيجاز هنا نسبي أو جزئي.

ص: 231

ثانيهما: إن الحذف في ذاته بلاغة؛ إذ إنه يعطي الكلام قوة، ويثير الخيال ليتصور المحذوف أعلى من المبين، وقد بيِّنَ ذلك في حذف الجواب في قوله تعالى:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] .

ومن ذلك في معناه الذي يريده قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165] فإنَّ جواب لو محذوف يلقي الرهبة في النفوس، وتذهب فيه العقول كل مذهب وتقدير، ولم يذكر البلاغة في إيجاز الحذف في مثل قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وفي مثل قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة: 189]، وقد تظهر بلاغة الحذف في قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ؛ إذ إن في ذلك إشارة إلى شيوع القول فيها، وأن القرية كلها تكلمت، ومثل ذلك قوله تعالى:{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} ، أما قوله تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} ، فإن فيه تزكية للمتقين بجعلهم البر ذاته، وأن نفسوهم علت وزكت قلوبهم حتى صارت هي، وفي ذلك فوق هذا تصوير للمعنى قائمًا بالذين يتصفون، فيكمون محسوسًا معلومًا فيهم.

132-

ويعدُّ الرماني إيجاز القصر الذي عرفه بأنه بناء الكلام على تقليل الألفاظ، وبعده أغمض من إيجاز الحذف؛ لأن الحذف فيه غامض يحتاج إلى العلم بالمواضع التي يطبق فيها، ويقول: فمن ذلك قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ومنه قوله تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون: 4] ومنه قوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح: 21] ومنه {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23] وقوله تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23]، ومنه {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] وهذا الضرب من الإيجاز في القرآن كثير.

وهو المثل الكامل لجوامع الكلم، وجلَّ كلام الله تعالى عن أن يكون له مثيل، ونلاحظ أنَّ الأمثلة التي ساقها تتصل بكلام قبلها، فليست منقطعة، فهي إمَّا أن تكون حكمة أو أعلى من حكمة أو قضية مستقلة مؤيدة للحكم الذي سبقها، مبينة حكمته، كقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فهي ختام آية القصاص، التي يقول الله تعالى فيها:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 178، 179] .

ص: 232

وترى من هذا أنَّ الآية الكريمة تتميم لآية قبلها؛ لأنها بيان للحكمة والمصلحة الكاملة في القصاص؛ ليقدموا عليه غير نافرين؛ لأنه اتقاء لشر مستطير، وإذا كان القصاص في ذاته أمرًا لا تقبل عليه النفوس؛ لأنه قتل أو قطع، فالمصلحة أعظم من المضرة، ولا شك أن الألفاظ قصيرة، والمعاني التي تنطوى تحتها كثيرة، وخصوصًا أنَّ تنكير كلمة "حياة" يدل على تعظيم هذه الحياة التي تترتب على تنفيذ القصاص؛ لأنها تكون حياة آمنة سعيدة لا مزعجات فيها، وخصوصًا إذا كان مع حق القصاص حق العفوِ من المجنيّ عليه، فإنه يربِّي التواد، ويحلّ المحبة والمودة محل البغض والعداوة.

والآية الثانية التي ساقها الرماني هي {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} ، ونلاحظ أن الرماني قطعها عن سابقها ولاحقها من لفظ؛ إذ الآية هي قوله تعالى:{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس: 23] .

ولا شك أن الجملة التي اختاروها من الآية الكريمة فيها إيجاز القصر الذي يعد من أعلى جوامع الكلم، ولكن يقطعها عمَّا قبلها وما بعدها، وما جاءت فيه من أن الظاللمين يدعون الله تعالى ضارعين فيحال فزعهم وخوفهم حتى إذا آمنوا بغوا وطغوا وفي قطع الكلمات عن أخواتها قطع للمعنى عمَّا يكنها ويظلها.

وقوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] ، هي في عمومها وشمولها فيها إيجاز قصر، يمكن أن تكون مثلًا عاليًا يستشهد به في القول، ويصدق على كل خب لئيم، ولكنه قطع الكلام عما قبله وما بعده، فالآية الكريمة بهذا النص السامي {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} ، وكنا نود أن يأتي بالمثل الطيب في بيئته من كلمات سابقة له ولاحقة.

وقوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} ، هو كلام محكم بلغ أعلى ما تصل إليه بلاغة القول، وهي آية مستقلة، ولكنها متممة لما قبلها. فهي متممة العطف على قوله تعالى:{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الفتح: 20، 21] .

وقوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23] هي حكمة عالية في ذاتها، ولكنها مسبوقة ولها لاحق بها يحدها، فهي جزء من قوله تعالى: {إِنْ

ص: 233

هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] وإنَّ إخراجها عمَّا قبلها وما بعدها يكون إخراجًا لها عمَّا يحدد أطرافها.

وقوله تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون: 4] وصف كامل لكل جماعة يغلب عليها الخور والجبن، ولكنها وصف للمنافقين، وإخراجها عما جاءت فيه يعمم معناها، وهي مخصوصة في السياق.

133-

وننتهي من هذه النظرات إلى الكلمات السامية، نجدها في ألفاظها ذات عموم، ولكن لها في حيزها خصوص مثل قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} فهي في حيزها ذات عموم؛ لأنَّ كونها حكمة لأحكام مقررة يجعل لها عمومًا، ولا يقيدها حيزه؛ لأنها منطلقة، وكذلك مثل قوله تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا} [الطلاق: 7] أما الآيات الكريمات الأخرى، فإنها إذا ذكرت منفردة عن أخواتها كانت مثلًا من جوامع الكلم وكان لها العموم، وإذا أخذت مع أخواتها قيدت.

وعلى أيّ حال فإنَّ إيجاز الحذف فيها ثابت، ولا مانع من استعمالها كأعلى مثل سائر، والله أعلم.

وإن الإيجاز بغير حذف كلمات كثيرة في القرآن لا تكاد تخلو منه سورة، بل جزء من السورة، بل صفحة من صفحاته النورانية، وقد قلبنا بعض صفحات في القرآن فوجدنا العبارات الآتية، وكلها فيها إيجاز قصر، ومن ذلك:

1-

قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] فإن هذا النص له معان كثيرة شاملة يطبق في كل أمر يحبه الإنسان وعاقبته وبيئة، أو لا يدري عاقبته، ولا ما يترتب عليه، ومثل ذلك قوله تعالى:{فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] .

2-

ومنه قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251] فإنَّ هذا النص الكريم يشير إلى المعركة الدائمة بين الخير والشر، والحق والباطل، والفضيلة والرذيلة، وأنّ سيطرة الرذيلة والشر والباطل فساد في الأرض ومقاومة الخير للشر دفع للفساد، وفيه إشارة إلى أنَّ مقاومة الشر بسلاحه من غير انحدار إلى الرذيلة رحمة بالناس، فدفع الشر رحمة ورد الاعتداء، وفي هذه الآية إشارة إلى نظرية الحرب الفاضلة والسلم الفاضلة.

ص: 234

3-

وقوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] فإن هذه الآية تبين وحدة الأمة الإسلامية مع غيرها بأوجز عبارة، فتشمل الوحدة الأبيض والأسود، والأحمر والأصفر، والبادي والحضري، وسكان الوبر، وسكان المدن، لا تفرقهم الألوان ولا الأسنة، وأنَّ التقوى يجب أن تكون لباسهم وشعارهم، وهي التي تعلى، ومثل ذلك قوله تعالى في إيجاز:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] .

4-

ومنها قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] فهي في إيجازها اعتذار عمَّا كان من امرأة العزيز ليوسف عليه السلام، وإنها لأحداث كثيرة فوق ما فيه من دلالة على معان نفسية تكوهن في الوجدان الذي تحكمه شهوات، الضمير اللائم المحاسب الذي يصوره قول الله تعالى:{النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} .

5-

ومنها قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] فإنَّ هذا النص السامي بكلماته القليلة الموجزة فيه تصوير لحال المشركين الذين ألزمتهم الحجة ولكن لم يذعنوا عصبية وعنادًا، ومحافظة على سيطرتهم الغاشمة.

6-

ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95] وفي هذا النص إيجاز فيه ألفاظ قليلة ومعانٍ كثيرة بمقدار جرائم المشركين في الاستهزاء بالنبي وأصحابه، ومضايقتهم في العبادة، ومنه الطواف بالبيت، فقد كانوا كلما لقوهم سخروا منهم، فمعنى كفيناك المستهزئين: عاقبناهم على ما فعلوا في الماضي، وخضدنا شوكتهم في الحاضر، وشغلناهم في القابل، وسلط الله الحق على باطلهم إلى آخر ما نالهم في الدنيا من خزي وما نالهم في الآخرة من عذاب.

7-

ومنها قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] فإنَّ هذا النص قليل الألفاظ فيه معان كثيرة؛ لأنه سبحانه يشير إلى أن هلاك الأمم إنما يكون إذا شاع الفساد بين آحادها، وإنما يشيع الفساد ممن غلبت أهواؤهم وسيطرت عليهم شهواتهم، وأن ذلك من الذين نشئوا مترفين لا يرون حق الحياة خالصًا إلّا لهم، فيعمّ الفساد في الأرض، وتنقطع الأمة وتتنابز، وكل ذلك من سيطرة المترفين.

ومن ذلك قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]، أي: إنَّه مجزي بعمله إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، ومثله قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [النجم: 39، 40] ومثل قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] .

ص: 235

134-

وإن العرب كانوا يميلون إلى الإيجاز في القول، ويعدون الإيجاز بلاغة؛ وذلك لأنَّهم لم يكونوا أهل قراءة وكتابة، بل كانوا أهل بيان باللسان، وقد صقلت بذلك كلماتهم وهذبت عباراتهم، وقد قال الجاحظ:"إن الإيجاز في القرآن كان عند محاجّة العرب الأميين الذين يفهمون القول بالكلمات المشيرة غير المفصلة، والتفصيل من شأن من يعتمد على الكتاب دون اللسان".

ولقد كانوا يتبارون في الكلام الذي تدل ألفاظه على معانٍ كثيرة، وكانوا يعدون من أبلغ كلامهم قول بعض العرب:"القتل أنفى للقتل" أي: من يريد القتل إذا علم أنه سيقتل فإنه لا يقتل، ولا شك أن ذلك حق، وقد اتجه كثيرون من الأدباء والمفسرين إلى الموازنة بين ما يدَّعونه أبلغ قولهم، وقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} والموضوع أيهما أبلغ وأجمل أداء، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى.

وقد عقد الرماني في رسالته موازنة بين الجملتين، وإن كانت الموازنة ليست بين متماثلين، بل ليست بين متقاربين، وإن كان الموضوع متقاربًا فقال:

وقد استحسن الناس من الإيجاز قولهم: "القتل أنفى للقتل"، وبينه وبين لفظ القرآن تفاوت في البلاغة والإيجاز، وذلك يظهر من أربعة أوجه: أنه أكثر في الفائدة، وأوجز في العبارة، وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة، وأحسن تأليفًا بالحروف المتلائمة، أمَّا الكثرة في الفائدة ففيه كل ما في قولهم:"القتل أنفى للقتل" وزيادة معانٍ حسنة منها إبانة العدل لذكره القصاص، ومنها إبانة القرب المرغوب فيه لذكره الحياة، ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة لحكم الله تعالى، وأما الإيجاز في العبارة فإنَّ الذي هو نظير القتل أنفى للقتل "القصاص حياة" والأول أربعة عشر حرفًا والثاني عشرة أحرف، وإنما بعده عن الكلفة بالتكرار الذي فيه مشقة على النفس، فإن في قولهم:"القتل أنفى للقتل" تكرارًا غيره أبلغ منه، ومتى كان التكرار فهو مقصر في باب البلاغة عن أعلى طبقة، وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة فهو مدرك بالحسِّ وموجود في اللفظ، فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة، وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة، فاجتماع هذه الأمور التي ذكرناها صار أبلغ وأحسن وإن كان الأول بليغًا حسنًا".

وهناك وجه لم يذكره الرماني، وهو أنَّ كلمة العرب مقصورة على القتل، أما كلمة الله تعالى فإنها تشتمل القتل والاعتداء على الأطراف، فتشمل النفس بالنفس والعين بالعين، والأنف بالأنف والأذن بالأذن، والسن بالسن، بل تشمل أيضًا الجروح، فمعناها أشمل، وأمر آخر لم يذكره الرماني، وهو أنَّ كلمة القرآن إيجابية وسلبية معًا، فهي إيجابية في أنها تبين أن ثمة حياة رافهة هادية أمينة بالقصاص، وفيها معنى النفي،

ص: 236

وهو ألَّا يكون اعتداء بأي نوع، أما كلمة العرب فلا تتجاوز المنع، وهو أن القتل يمنع القتل.

وأيضًا فإنَّ كلمة القصاص فيها معنى المساواة بين الجناية وعقوبتها، "والقتل أنفى للقتل" لا تستدعي بظاهر لفظها أن يكون القتل بالمساواة، بل لا تمنع أن يكون القتل اعتداء، والنص القرآني السامي الذي لا يسامي فوق كل ما يدخل من معانٍ على كلمة القتل أنفى للقتل.

هذا ما بدا لنا من زيادة كلمة القرآن من معانٍ على كلمة العرب، ولنعد من بعد إلى ما قاله الرماني في هذا المقام فهو يقول:

"وظهور إعجازه في الأمور التي نبينها يكون بإجماع أمور يظهر بها للنفس أن الكلام من البلاغة في أعلى طبقة، لإيجازه وحسن رونقه، وعذوبة لفظه، وصحة معناه، كقول علي رضي الله عنه: قيمة كل امرئ فيما يحسنه، فهذا كلام عجيب، يغني ظهور حسنه عن وصفه، فمثل هذه الشذرات لا يظهر بها حكم، فإذا انتظم الكلام، حتى يكون كأقصر سورة أو أطول آية ظهر حكم الإعجاز، كما وقع التحدي في قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} ، فبان الإعجاز عند ظهور مقدار السورة".

ومؤدَّى هذا الكلام أنَّ الإعجاز القرآني ربما لا يبدو في الكلمة أو الجملة مقطعة مقطوعة من سابقتها ولاحقتها، ولو كانت الجملة إيجازًا إنما يبدو في السورة أو الطائفة من القرآن، ونحن نخالف الرماني في ذلك، فإن كلمات القرآن مع أخواتها لها إشعاع من المعاني يثير الخيال، والمتأمّل في معانيها ما دامت الجملة مستقلة في دلالتها، تأتي بمعان مفيدة، مثل قوله تعالى:{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] وكقوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس: 1-3] فكل جملة من هذه الجمل لا يستطيع أحد أن يأتي بمثلها.

ولقد ختم الرماني كلامه في الإيجاز بذكر فضله وخواصه، فقال -رضي الله تعالى عنه:

"وإذا عرفت الإيجاز ومراتبه، وتأمّلت ما جاء في القرآن منه عرفت فضيلته على سائر الكلام، وهو علوه على غيره من سائر الكلام، وعلوّه على غيره من أنواع البيان، والإيجاز تهذيب الكلام بما يحسن به البيان، والإيجاز تصفية الألفاظ من الكدر، وتخليصها من الدرن، والإيجاز البيان عن المعنى بأقل ما يمكن من الألفاظ، والإيجاز إظهار المعنى الكثير باللفظ اليسير، والإيجاز والإكثار إنما هما في المعنى الواحد، وذلك ظاهر في جملة العدد وتفصيله كقوله القاتل: إنَّ عنده خمسة وثلاثة واثنين في موضع عشرة، وقد يطول الكلام في البيان عن المعاني المختلفة وهو مع ذلك في نهاية

ص: 237

الإيجاز. وإذا كان الأطناب في منزلة الأمر بحسن أكثر منها، فالإطناب حينئذ إيجاز كصفة ما يستحقه الله تعالى من الشكر على نعمه فإطناب فيه إيجاز".

وإن الرماني يتجه بهذا إلى معان ثلاثة:

أولها: أنه يصف الإيجاز بأن فيه تصفية للألفاظ من الكدرة ودرن القول وحشوه. وأنه البيان عن المعنى بأقل ألفاظ، وأن المعنى الكثير يكون في أقل مقدار من وحشوه، وأن المتكلم أو الكاتب يجهد فكره عند الاتجاه إلى الإيجاز ليأتي بأوجز لفظ يحمل أكبر معنى، وقد قال إمام من أئمة عصرنا في البيان في كتاب أرسله إلى صديق له وأطنب فيه "اعذرني في هذا الإطناب فإنه ليس عندي وقت للإيجاز" لأنه بالنسبة للبشر جميعًا ليس سهلًا، لأن الإطناب فإنه إرسال الحقائق أرسال، أما الإيجاز، فإنه جمع للحقائق في أقل الألفاظ وأجملها، وأبعدها عن الكدر والدرن.

ثانيها: أن الإطناب نسبي، فإنه إذا كان المعنى كثيرًا واللفظ كثيرًا، فإنه يكون إطنابًا، وإذا كان المعنى الكثير يمكن أن تكون ألفاظه أكثر فإن ذلك يكون إيجازًا مسببًا.

ثالثهما: أن كل ألفاظ ذات معان كثيرة، وقد وضعت على قدرها، فإن كان الواضح قلة الألفاظ مع كثرة المعنى كان الإيجاز، وإن كان الواضح الكثرة في اللفظ والمعنى من غير تزيد، بل لمقصد، فهو إطناب.

والقرآن في حالى الإيجاز والإطناب محكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

ص: 238

‌طوال السور وقصارها:

135-

ونحن نتكلم في الإيجاز والإطناب لا بد أن نمس موضوع السور الطوال والسور القصار. لقد علمت مما قدمناه جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإعادة جمع ما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في مصحف جامع، وما أعاد به عثمان جمع ما جمع أبو بكر وعمر. ونشر نسخ مما جمع في الأقاليم للمسلمين.

وقد قررنا في ذلك أن الإجماع أن السور رتبت بوحي إلهي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن قرأه على جبريل عليه السلام بذلك الترتيب وذلك موضع إجماع، بل موضع تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ترتيب السور في المصحف العثماني كان بهذا الترتيب الذي نقرؤه.

وأن هذا الترتيب في آيات السورة الواحدة لم يكن على حسب النزول، بل كان كما ذكرنا بالوحي فكانت الآية إذا نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام لكتابه وصحابته: ضعوها في موضع كذا من سورة كذا، وكذلك لم يكن ترتيب السور

ص: 238

فيما بينها تابعًا لنزول الوحي، بل كان بوحي توجيهي لوضع السور في أماكنها، فإذا كانت السور الطوال في هذه المواضع من القرآن، والسور القصار في هذا الموضع من الطرف الأخير فيه، فإنَّ ذلك بتوجيه من الله سبحانه وتعالى.

وكان من المستحسن أن نتكلم في هذا لا في مقدار البلاغة فيها، فالجميع سواء، ولكن من حيث الحكمة إن أمكن أن يؤدي تطاولنا إلى معنى ندركه، فكتاب الله فوق طاقتنا في إدراك مراميه كلها؛ لأنها إرادة الله تعالى، وهي لا تقبل التعليل؛ لأنه لا يسأل عمَّا يفعل، وعباده هم الذين يسألون.

ولكن مع ذلك نحاول أن نتعرَّف حكمة الله تعالى أو ما نراه من أواصف للسور الطوال وأخواتها القصار.

إننا نجد في قصار السور وصفين:

أحدهما: إنَّ نظم السور القصار كله يكاد يكون على نسق واحد مؤتلف النغم متآخي الألفاظ متلائم في نظمه، اقرأ قوله تعالى:{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا، وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا، وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا، كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا، إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا، فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا، وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 1-15] .

وإنك لترى النغم متحدًا، والفواصل متحدة، والتلاؤم بين ألفاظها منهاجه واحد، وكأنها لقصرها لا تتغير فيها الأنغام ولا مقاطع الكلام.

الثاني: من الأوصاف الواضحة في السور القصار إيجاز القصر، فتجد القصة من قصص القرآن تذكر في كلمات جامعة، ويبعد فيها الأسلوب عن الإطناب في القصة لحالها في مواضع من القرآن الكريم، وكلها معجز ببيانه وبلاغته.

اقرأ قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ، فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 1-16] .

ص: 239

وترى من هذا كيف كان الإيجاز المعجز، لقد أشار سبحانه وتعالى إلى قصة عاد وثمود وفرعون، وقد وصف طغيانهم كما وصف قوتهم في صنائعم، وصلابة أرضهم، وكل ذلك في إيجاز.

والسور القصيرة كلها في موضوع واحد، كما ترى قوله تعالى:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: كلها] .

وكما في سورة الفيل في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل: 1-4] .

وكسورة قريش: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: كلها] .

وإننا نرى أنَّ الجزء الأخير في ترتيب القرآن الكريم الذي اختص باشتماله على قصار السور، والذي يسهل حفظه على الناشئين الذين لا يريدون جمع القرآن في صدورهم، قد اشتمل على بيان العقيدة الإسلامية، وعلى معاندة قريش، وعلى جهود النبي صلى الله عليه وسلم، وما لاقاه من عنت في قومه، وعلى المبادئ الاجتماعية، وفيه إجمال كامل لقصص القرآن الكريم.

هذا شأن قصار السور، وهي جزء من ثلاثين من القرآن الكريم، أمَّا الطوال والمتوسط والأقرب إلى الطول والأقرب إلى القصر فهو يشمل نحو تسعة وعشرين جزءًا من ثلاثين جزءًا من القرآن.

وإن السور المدنية أكثرها ليس من القصار، وهو يشتمل على الأحكام التفصيلية للتكليفات الشرعية، فسورة البقرة والنساء والمائدة فيها كثير من الأحكام الفقهية سواء أكانت في الأسرة أم في المعاملات المالية، أم في الزواجر الاجتماعية، أم في العلامات الدولية، وأحكام الجهاد، وفيها كل ما يتَّصل بالسلوك الإنساني الذي فرضه القرآن الكريم، وبعض التكليفات المتعلقة بالأسرة، أو المعاملات المالية، جاء في السور التي بين القصر والطول؛ كسورة الممتحنة وكسورة الطلاق.

وإنَّ السور الطويلة أو القريبة منها مع أنَّها ليست مرتَّبة على حسب النزول بالوحي، بل هي كما ذكرنا مرتبة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي عن ربه؛ لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يأمر بوضع الآية عند نزول الوحي في موضعها من السورة التي أمر بوضعها فيها.

ص: 240

ومع هذا الترتيب الموحى به الذي لم يكن على حسب النزول نجد السورة كلها مترابطة الأجزاء متصلة، يأخذ بعضها بحجز بعض في نسق بياني رائع، وكل آية مرتبطة برباط معنوي وبياني، فالآية تتبع ما قبلها، لا في الموضوع، ولكن في نظام يشبه تداعي المعاني، فالآيات تثير في النفس المؤمنة المتبعة خواطر تجيء التي تليها لإشباعها، وكأنها تجيء في وقت الحاجة إليها، فيكون التناسق القرآني في الألفاظ والأنغام الفواصل والمعاني. وكل ذلك من أسرار الإعجاز الذي لا يمكن أن يكون إلَّا إذا كان القرآن كله من عند الله العزيز الحكيم القادر على كل شيء، الذي اختار القرآن معجزة صفيه خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.

القصار وتيسير الحفظ:

136-

يأمرنا الله تعالى بأن نحفظ ما تيسر من القرآن؛ لأنه سبحانه وتعالى قال: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} وأنه سهل سبحانه وتعالى علينا أن نحفظ المتيسر حفظه من القرآن، فكانت تلك السور القصار الموجزة في ألفاظها الغزيرة المعاني في مرادها، وهذا المعنى ذكره المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رضي الله عنه في كتابه "إعجاز القرآن"، ولنترك الكلمة له فقد قال: "إن لهذه السور القصار لأمرًا، وإن لها في القرآن لحكمة، ومن أعجب ما ينتهي إليه التأمل حتى لا يقع من النفس إلَّا موقع الأدلة الإلهية المعجزة، فهي لم تنزل متتابعة في نسق واحد على هذا الترتيب الذي نراه في المصحف؛ إذ لم يكن أول ما نزول من القرآن ولا آخره:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثم هي -أي القصار من السور- بجملتها وعلى إحصائها لا تبلغ من القرآن أكثر من جزء، والقرآن كله ثلاثون جزءًا، وهو يتسع من بعدها قليلًا قليلًا، حتى ينتهي إلى الطول، فقد علم الله أنَّ كتابه سيثبت الدهر كله على هذا الترتيب المتداول، فيسّره للحفظ بأسباب كثيرة أظهرها في المنفعة، وأولها في المنزلة، هذه السور التي تخرج من الكلمات إلى الآيات القليلة، والتي هي مع ذلك أكثر ما تجيء آياتها على فاصلة واحدة أو فواصل قيلة، لا يضيق بها نفس الطفل الصغير، وهي تتماسك في ذاكرته بهذه الفواصل التي تأتي على حرف واحد أو حرفين، أو حروف قليلة متقاربة، فلا يستظهر الطفل بعض هذه السور حتى يلتئم نظم القرآن على لسانه ويثبت أثره في نفسه، فلا يكون بعد إلَّا أن يمر فيه مرا، وهو كلما تقدم وجده أسهل عليه، ووجد له خصائص تعينه على الحفظ وعلى إثبات ما يحفظ، فهذا معنى قوله تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] وهي لعمر الله رحمة وأيّ رحمة.

وإذا أردت أن تبلغ عجبًا من هذا فتأمَّل آخر سورة في القرآن وأول ما يحفظه الأطفال -أي: بعد الفاتحة- وهي سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، وانظر كيف جاءت

ص: 241

في نظمها، وكيف تكرَّرت الفاصلة، وهي لفظ الناس، وكيف لا ترى في فواصلها، إلا هذا الحرف "السين" الذي هو أشد الحروف صفيرًا، وأطربها موقعًا من سمع الطفل الصغير، وأبعثها لنشاطه واجتماعه، وكيف يناسب مقاطع السورة عند النطق تردد النفس في أصغر طفل يقوى على الكلام، حتى كأنَّها تجري معه، وكأنها فصلت على مقداره، وكيف تطابق هذا الأمر كله من جميع جهاته في أحرفها ونظمها ومعانيها، ثم انظر كيف يجيء ما فوقها على الوجه الذي أشرنا إليه، وكيف تمَّت الحكمة على هذا الترتيب العجيب.

وهذه السور القصار لو لم تكن في القرآن كلها أو بعضها ما نقضت شيئًا من خصائصه في الإيجاز، ولكن عسى أن يكون الأمر في حفظه على غير ما ترى إذا هي لم تكن فيه، فتبارك الله سبحانه {مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} .

ويضاف إلى هذه الحكمة فائدة أخرى، وهي تيسير القرآن، وأداء الصلاة على العامة، فإنهم لولا هذه السور الصغار لتركوا الصلاة جميعًا، وأنه لا تصح الصلاة -أي كاملة- إلا بآيات مع الفاتحة، وقد أعانت الصغار ويسرت عليهم فكانت على قلتها معجزة اجتماعية كبرى" انتهى كلام الرافعي.

137-

وإذا كانت ثمَّة سور طوال وأخرى قصار، فإنه يجب علينا أن نلتفت إلى أن هناك آيات تطول وآيات تقصر، مع أنَّ الإيجاز والإطناب يكون في طوال الآيات وقصير، ففي أثناء الآية الطويلة تقرأ قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وهي كلمات ذات معانٍ غزيرة، فيها حكمة شرع الله وغايته، وتكليفاته، وأنها تتجه إلى التيسير ولا تتجه إلى التعسير.

وأكثر الآيات الطوال تكون في الأحكام التكليفية التي تحتاج إلى التوضيح، ولا يكتفي فيها بالإجمال بدل التفصيل؛ كآية المحرمات في قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ.....} إلى قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] .

ومثل ذلك آية المداينة، وهي أطول آية في القرآن، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً

ص: 242

تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] .

وقريب منها في الطول آية المحرَّمات كما أشرنا، ومثلهما آيات المواريث، ومن الآيات الطوال المبينة للأحكام التكليفية آيات الصوم. اقرأ قوله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ، أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [القرة: 185-187] .

وترى أن الآيات الأخيرة فيها بيان جزء من أحكام الصوم، ولا تعد قصيرة، بل طويلة، ومن الآيات الطويلة بعض آيات القصص، ومن ذلك قوله تعالى في قصة بني إسرائيل:{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] .

وإنا إذ نقول أن بعض الآيات فيها طول، وبعض الآيات الكريمات فيها قصر، ليس معناه أنَّ ما فيه طول هو من قبيل التطويل في الكلام، بل هو من قبيل الإطناب الذي لا تجد فيه كلمة زائدة، ولا تجد فيه عبارة ليس ثمة حاجة إليها، بل إن الآية التي يكون فيها تطويل قد تجيء في جملة ما هو من قبيل إيجاز القصر مثل قوله تعالى في ثناء آية الصوم الطويلة:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} كما ذكرنا آنفًا.

وليس المراد بالطويل، أن تكون الألفاظ أكثر من المعاني، بل المراد ما لا يتجاوز حد الإطناب البليغ المستحسن، فالمعاني مع الألفاظ متكافئة، وربما كان فيها إيجاز لا

ص: 243

إطناب فيها فضلًا عن التطويل، والطول للآية يعطيها ألفاظًا كثيرة ومعاني كثيرة، ربما تكون أكثر من الألفاظ.

وإنَّ الطول لا يبعد عن حلاوة النغم، وجمال النسق، وحسن النظم، وحلاوته، ومن الآيات ما يكون قصيرًا كما ذكرنا، والفواصل متآخية، والمعاني متكاملة. اقرأ قوله تعالى:{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى، قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى، قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ، فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي، قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} [طه: 83-87] .

وترى أن هذه الآيات بعضها قصار، والأخير كان منها طويلًا نسبيًّا؛ لأن فيها عتابًا، وطبيعة العتاب لا يكون قصيرًا، ولا يكون بالإشارة.

واقرأ قوله تعالى في هذه السورة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا، فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا، لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا، يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا، يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا، وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 105- 111] .

وإننا نجد في الظاهرة القرآنية العالية أنَّ الآيات القصار تختص عن غيرها بأنَّ لها خاصة وهي الاعتبار والوقوف عند فواصلها المقاربة غير المتباعدة، فتكون وقفة يقضي السكون عندها، فالجواب عن حال الجبال وهي أوتاد الأرض وبها تتماسك بأمر الله تعالى، بأنَّ الله تعالى ينسفها نسفًا، وفي هذه الوقفة الصامتة بتدبر أمر الله في نسف الجبال، ليس بها علوّ بتضاريس، ولا انخفاض بجوار علوّ، وهكذا تتبع الآيات القصير، والوقوف عند آخر كل آية، وكأن الله سبحانه وتعالى يدعوك إلى أن تقف لتتدبر وتتفكر، وتعرف مآلك، وأنه لا غرابة في أن تعاد الأجسام يوم البعث والنشور.

وإن الآيات الطوال تكون في موضوع يحتاج إلى التدبر في أوله وآخره، وأخذه جميعًا، كما رأينا في آيات الأحكام، وفي بعض القصص الذي يكون التدبر في مجموعه لا في آحاده، وفيه يتلاحق آخره بأوله، كما رأينا في النعم التي أفاض الله بها على بني إسرائيل، وكيف لاقوها بالكفران والعتو عتوًا كبيرًا.

ص: 244

وقد رأينا في الآيات القصار أنَّ كل آية تصلح وحدها لِأَنْ تكون موضع تدبر، بل يلزم فيها التدبر وإن كانت متصلة بما بعدها وثيقة الاتصال.

ولنتل عليك بعض الآيات القصار، من ذلك قوله تعالى في سورة ص:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ، إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ، وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ، وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ، اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ، وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ، وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ، فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ} [ص: 12-25] .

وهنا نجد الآيات كلها تتلاقى في العبرة وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار النبيين، وما كان من أقوامهم معهم، وذكرت بعض قصة داود عليه السلام، وما يتعلق بحكمه، ومتاعبه من الخصوم، ثم حكمه وخطئه فيه.

هذا كله معنى متلاحق الأجزاء بعضه يتمم بعضه، ويتكوّن من الجميع صورة بيانية تستولي على لب الناظر إليها، والمتفهِّم لمعناها، ولكن في الآيات القصار أجزاء كاملة في ذاتها، وأن تكون من مجموعها كل كامل غير منقطع، فاقرأ من قصة داود عليه السلام أول ما أورد، تجد قوله تعالى:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} فهذه صورة كاملة لنبي من أنبياء الله تعالى، آتاه الله تعالى السلطان القويّ المؤيد الثابت القائم على الحق، وتلك وحدها صورة بيانية تستدعي التدبر فيها، وجاء بها القرآن الكريم مفصولة في الفاصلة عمَّا وراءها؛ لأنها وحدها يجب تدبرها؛ لاجتماع الدنيا والدين في رسول رب العالمين، فلا يحسبنَّ أحد أن الزهد في الفقر والحاجة، إنما الزهد في العفة؛ حيث تكون القدرة، ثم جاءت الآية التي تليها مبينة مقدار قوته تعالى:{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} فهي له خاضعة، ثم الطير محشورة، وهكذا كانت الفواصل معلنة أن ما قبلها يدعو إلى تدبره والتفكير فيه.

ص: 245

وقد تكون في الآيات القصار آية بين كل آية، وأخرى تدعو إلى التفكير بصراحة، كما دعت فواصل الآيات إلى التدبر في ميزات الفاصلة، اقرأ قوله تعالى في سورة الرحمن:

{الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآَنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ، وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ، وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ، فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ، وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 1-21] .

هذه نصوص قرآنية من الآيات القصار تجد كل آية منها تدعو إلى التدبر والتفكير فيما تدعو إليه وما تدل عليه، وقد كانت الفاصلة منبّهة إلى الترويّ في معناه، والتدبر في مغزاه، وهي متضامنة مع سابقتها ولاحقتها لتأتي بمعنى كلي جامع، وصورة بيانية رائعة.

وهكذا تكون آيات القرآن وألفاظه وجمله، وكله إعجاز في إعجاز، تدل على أنه من اللطيف الخبير العزيز الحكيم السميع البصير.

ص: 246

‌الإعجاز بذكر الغيب:

138-

هذا باب من أبواب الإعجاز، فيه جزء من القصص، والجزء الثاني من الأخبار التي يتحدَّث القرآن فيها عن المستقبل، فالغيب المذكور في القرآن نوعان، أحدهما غيب مضى، وهو جزء القصص، والثاني عن أمور تقع في المستقبل وكلاهما إعجاز مع البلاغة والبيان، ومع العلوم القرآنية، والأحكام التي اشتمل عليها القرآن الكريم.

ووجه الإعجاز في الماضي وقصصه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نشأ أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، ولم تكن نشأته بين أهل الكتاب، حتى يعلم بالتلقين علمهم، وكان قومه أميين لا يسود فيهم علم من أيّ طريق كان إلَّا أن يكون علم الفطرة والبيان، وإرهاف أحاسيسهم بالشعر والكلام البليغ، وتذوق الكلمات، والمعاني.

ولم يكن عندهم مدرسة يتعلّمون فيها، ولا علماء يتلقون عليهم، وكانوا منزوين بشركهم عن أهل الكتاب، والمعرفة في أيِّ باب من أبوابها، وكانت رحلة الصيف

ص: 246

والشتاء إلى الشام واليمن تجاريتين، لا تتصلان بالعلم في أيِّ باب من أبوابه، ولا منزع من منازعه.

وجاء القرآن الكريم في ذلك الوسط الأمي يذكر لهم أخبار الأنبياء السابقين وأحوال أممهم معهم، وما حلَّ بالذين كفروا وضلوا، وهم يرون هذه الآثار في الأمم التي تصاقبهم.

جاء القرآن الكريم بتفصيله الصادق المحكم عن أخبار هؤلاء النبيين، وقد وافق كثير منهم الصادق عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وما اختلفوا فيه عمَّا جاء في القرآن، فإنَّ الفحص الدقيق يثبت تحريفه، وصدق القرآن الكريم، فيما حكاه الله، فإنه علام الغيوب الذي أحاط بكل شيء علمًا.

ولقد ذكر القرآن ذلك الوجه من الإعجاز، فقد قال تعالى بعد ذكر قصة مريم وكفالة نبي الله تعالى زكريا لها:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] . فإن هذا النص يشير إلى الدلالة على أنَّ القرآن من عند الله، وعلى أنَّ ذلك النوع من العلم ما كان عند العرب، وليس لهم به دراية.

وإنه لم تذكر قصة مريم البتول في التوراة، ولا الإنجيل، ولا رسائل الرسل قط، والقرآن الكريم وحده هو الذي بيِّن اصطفاءها، وفضلها على نساء العالمين.

ويقول الله تعالى بعد قصة نوح عليه السلام: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] .

وفي هذه الآية والتي قبلها إشارة واضحة إلى أنَّ هذا النوع من العلم ما كان معروفًا عندهم وما كانوا يتذاكرون به.

وقد قال تعالى في ذلك أيضًا: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102] فذكر القرآن أدق الأخبار، وما لا يعلمه أحد إلَّا الله تعالى.

وكان ذلك القصص الحكيم إخبارًا بالغيب الذي لا يعلمه إلَّا علَّام الغيوب دليلًا على أنه من عند الله العزيز الحكيم، وموافقته للصحيح من أخبار النبيين دليل على أن القرآن من عند الله وأنه ليس حديثًا مفترى، وليس أساطير الأولين اكتتبها ولا يمكن أن تملى عليه، ولا يوجد من يمليها عليه، وإذا كانوا قد ادَّعَوْا أنه تلقاها من بعض الناس في مكة، فهو لم يثبت اتصاله به، ولسانه أعجمي، وهذا كتاب عربي مبين، وفوق ذلك ففي القرآن من صادق الأخبار ما لم يكن في كتب أهل الكتاب المسطورة، ولا يأتيه الباطل فيما يقول.

ص: 247

139-

هذه الأخبار عن الماضي يشتمل عليها القرآن الكريم، وهي فيما احتوت دليل قاطع على أنَّ القرآن من عند الله؛ إذ جاء بها أمي لا يقرأ ولا يكتب، كما قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] .

وأمَّا الإخبار عن أمور وقعت في المستقبل كما أخبر القرآن الكريم، وما كان لأحد أن يعلمها إلَّا من قِبَل العليم الحكيم اللطيف الخبير، الذي لا يغيب عن علمه شيء في السماء ولا في الأرض فهو كثير.

ومن ذلك إخبار القرآن عن هزيمة الفرس بعد غلبهم، فقد قال سبحانه:{الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1-4] .

وقد حدث ما أخبر به القرآن، فقد دارت رحا الحرب من بعد ذلك وهزم الفرس في بضع سنين، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ممن حضر هذه الحرب، وعرف سبب الغلب، وما يتوقع من بعده، وقد تفاءل المشركون من هزية الروم وهم أهل كتاب، وعلو الفرس وهم أهل شرك، وحسبوا من ذلك أن دعوة محمد مآله الخسران، وشأنهم في ذلك هو شان الذين يبنون علمهم غلى الأوهام، وتخيل ما يحبون.

ومن ذلك أيضًا ما كان قبيل غزوة بدر الكبرى؛ إذ يقول -سبحنه وتعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7] لقد خرجت قريش بعيرها التي كانت فيها ثروة قريش كلها، وأراد المؤمنون أن يترصَّدوها مضايقة للكفار، وأن يأخذوها نظير ما أخرجوا المؤمنين من ديارهم وأموالهم، ولكنَّ أبا سفيان التوى عن طريق يثرب، ونجا بالعير، وكان قد طلب إلى قريش أن ترسل جيشًا يحمي عيرها، ويغزو موطن الخطر، فكانت المعركة، فهم أرادوا ابتداءً العير، وليست ذات الشوكة، وأراد الله تعالى الجيش، وكان ذات الشوكة.

وما كانوا يتوقّعون النصر على المشركين، ولكنها حرب الفداء للعقيدة، لا ينظر فيها إلى الاستيلاء، بل ينظر فيها إلى الاستشهاد، ولكن الله تعالى أخبرهم بالنتيجة قبل وقوعها، فقال -تعالت قدرته:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] فكان هذا إخبارًا بمغيب لم يكن إلّا في علم الله تعالى.

ومن ذلك إخباره عن اليهود بقوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة: 96] .

ويقول تعالى عن المشركين أنَّهم عاجزون عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، وقوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24] .

وهكذا تجد في القرآن أخبارًا عن أمور قابلة وتقع كما أخبر، وصدق في ذلك كله، وذلك لا يكون إلَّا من عند الله، ولا يمكن أن يكون بالتقدير الشخصي أو الحدسي، فإن ذلك يصدق أحيانًا ويكذب أحيانًا، والأمر هنا كله صدق لا تخلف فيه، وكان دليلًا على أنه من عند الله الحليم الخبير اللطيف البصير، أودعه كتابه الكريم.

ص: 248

6-

‌ جدل القرآن واستدلاله:

140-

القرآن كل ما فيه معجز، فإيجازه معجز، وإطنابه معجز، وألفاظه معجزة، وأساليبه معجزة، ونغماته ونظمه وفواصله، كل هذا معجز، واستدلاله وجدله وبيانه لا يصل إلى درجته نوع من الكلام، وقد ساق الإمام الباقلاني طائفة من خطب العرب، وأهل اللسن، وأهل الإيمان، طائفة من أبلغها وأقواها، ووازن بينها وبين إلزام القرآن وإقناعه واستدلاله، فوجد أن الموازنة غير لائقه بذات القرآن، والفرق بين القرآن وكلام أعلى أئمة البيان يجعل الموازنة غير مستقيمة، والفرق بينها وبين القرآن هو كالفرق بين الخالق والخلوق؛ لأنه فرق بين كلام الخالق وكلام المخلوق.

ولعله من الخير أن ننقل تلك الخطبة التي اعتبرها الباقلاني من أعلى ما عرف من بليغ القول، وهي رثاء علي بن أبي طالب -كرَّم الله وجه- لخليفة رسول الله أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه:

"لما قبض أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- ارتجَّت المدينة بالبكاء كيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء عليّ باكيًا متوجعًا، وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة.

رحمك الله أبا بكر، كنت إلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنسه وثقته، وموضع سره، كنت أول القوم إسلامًا، وأخلصهم إيمانًا، وأشدهم يقينًا، وأخوفهم لله، أعظمهم عناء في دين الله، وأحوطهم على رسول الله، وأثبتهم على الإسلام، وأيمنهم على أصحابه، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم سننًا وهديًا، ورحمة وفضلًا، وأشرفهم منزلة، وأكرمهم عليه، وأوثقهم عنده.

فجزاك الله عن الإسلام ورسوله خيرًا، كنت عنده بمنزلة السمع والبصر، صدَّقت رسول الله حين كذَّبه الناس، فسماك في تنزيله صديقًا، فقال:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ}

ص: 249

وآسيته حين بخلوا، وقمت معه عند المطاردة حين قعدوا، وصحبته في الشدائد أكرم الصحبة، ثاني اثنين، وصاحبه في الغار، والمنزل عليه السكينة والوقار، ورفيقه في الهجرة، وخليفته في دين الله وفي أمته أحسن الخلافة حين ارتدَّ الناس، فنهضت حين وهن أصحابك، وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، وقمت بالأمر حين فشلوا، ونطقت حين تعتوا1 ومضيت بنور إذا وقفوا، واتبعوك فهدوا، وكنت أصوبهم منطقًا، وأطولهم صمتًا، أكثرهم رأيًا، وأشجعهم نفسًا، وأعرفهم بالأمور، وأشرفهم عملًا، كنت للدين يعسوبًا2. أولًا حين نفر عنه الناس، وأخيرًا حين قفلوا3. وكنت للمؤمنين أبًا رحيمًا؛ إذ صاروا عليك عيالًا، فحملك أثقال ما ضفعوا عنه، ورعيت ما أهملوا، وحفظت ما أضاعوا، شمرت إذا خننعوا، وعلوت إذ هلعوا، وصبرت إذ جزعوا، وأدركت أوتار ما طلبوا، وراجعوا رشدهم برأيك فظفروا، ونالوا بك ما لم يحسبوا.

وكنت كما -قال رسول الله- آمن الناس عليه في صحبتك، وذات يدك، وكنت كما قال ضعيفًا بدنك، قويًّا في أمر الله، متواضعًا في نفسك، عظيمًا عند الله، جليلًا في أعين الناس، كبيرًا في أنفسهم.

لم يكن لأحد فيك مغمز، ولا لأحد مطمع، ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قويّ عزيز حتى تأخذ له حقه، والقوي العزيز ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق، القريب والبعيد عنك سواء، أقرب الناس إليك أطوعهم لله، شأنك الحق والصدق، والرفق، وقولك حكم وحتم، وأمرك حلم وحزم، ورأيك علم وعزم، فأبلغت وقد نهج السبيل، وسهل العسير، وأطفأت النيران، واعتدك بك الدين، وقوي الإيمان، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون، وأتعبت من بعدك إتعابًا شديدًا، وفزت بالخير فوزًا عظيمًا، فجللت عن البكاء، وعظمت رزيتك في السماء، وهدت مصيبتك الأنام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاءه، وسلمنا له أمره، فوالله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثلك أبدًا، فألحقك الله تعالى بنبيه، ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك.

وسكت الناس، حتى انقضى كلامه، ثم بكوا حتى علت أصواتهم.

141-

هذه خطبة من عيون البيان العربي، بل لعلها أبلغ خطبة بعد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إن وضعناها بجواز القرآن أَفََلَت، كما تختفي النجوم إذا طعلت

1 التعتعة في الكلام: التردد من حصر الوعي.

2 اليعسوب: الرئيس المقدَّم.

3 رجعوا.

ص: 250

الشمس، وأصبحت لا تساوي بجوار القرآن شيئًا، وإن الذين يسيئون إلى كل كلام بليغ مهما تكن درجته هم الذين يضعونه بجوار القرآن، وأنَّى يكون كلام بجوار كلام خالق البشر، وأنَّى يكون كلام ابن الأرض بجوار كلام الله في اللوح المحفوظ.

وإننا مهما نحاول تعارف أسرار البلاغة في القرآن فلن نصل إلى كلام محكم، كمن يحاول معرفة الروح، فهي من أمر الله تعالى، نعرف مظاهر الحياة منها ولكن لا نعرف كنهها، فنحن نعلم علوّ القرآن وإعجازه وامتيازه، وأنه لا يحاكى، ولكن لا نستطيع أن نعرف سرّ هذه الروعة التي يحسها كل قارئ مدرك.

ولعلَّ من التوفيق للباقلاني أن جاء بأبلغ كلام ووضعه بجوار كلامه سبحانه، فبدا بجواره هزيلًا، مهما تكن درجته في البيان، وذلك أمر ظاهر، لم يجئ الإعجاز بصرف، ولكن بإدراك المقام البلاغي للقرآن، وإن لم يعرف السر كاملًا.

ونعود إلى ذات الخطبقة نجدها صادقة كل الصدق في وصف أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها وصلت إلى أقصى الغاية في مناقبه، وفي مقامه من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي مواقفه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومواقفه إذ انتقل عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، فقد أنقذ الإسلام عند الصدمة الأولى، وهي حالة الردة.

والخطبة العلوية هذه فيها وصف الحاكم العادل، كيف يكون رحيمًا برعيته، مصدر أمن لا مصدر إزعاج، متطامنًا لهم، قريبًا من أنفسهم، لا يطمع القوي في حيفه، ولا ييئس الضعيف من عدله.

وقد ذكرنا هذه الخطبة أيضًا لنشير إلى الينابيع البيانية التي استقى منها القول في إعجاز القرآن، وهو أساس لكل كلام محكم.

ومن معرفة بلاغة القول أن نعرف المواضع التي بنى عليها الاستدلال، ونحن هنا نريد ابتداء أن نعرف المنهاج القرآني للاستدلال، والأصول التي بنى عليها استدلاله في نظرنا القصير، وإن كان في كل ما يتعلق بالبيان عن المثيل، ولا يمكن أن يكون له مثيل.

142-

وإن رجال البيان في بيان مناهج الخطب واستدلالها يتكلَّمون في الينابيع التي يستقي منها الخطيب أدلته أو براهينه، ونحن مع إقرارنا بأن منهاج القرآن أعلى من الخطابة، كما هو أعلى من الشعر والسجع، نرى أن نستعير من علماء البلاغة كلامًا في مصادر الاستدلال، ونريد أن نتعرَّف المصادر الذاتية التي بنى القرآن الكريم استدلاله عليها، وإن كان مقامه أعلى وأعظم، وهو معجز في ذاته، وليس ككلام البشر، وإن بنى على حروف البشر وألفاظهم، ومن جنس كلامهم.

ويقولون: إن الاستدلال الذي يستمد من مصادر ذاتية، أي: تؤخذ من ذات الموضوع، وهي أشبه بالبرهان المنطقي، وإن كانت أعلى، وهي ستة مواضع أو ينابيع:

ص: 251

أولها التعريف أي: معرفة الماهية، وثانيها التجزئة بذكر أجزاء الموضوع، وثالثها التعميم ثم التخصيص، ورابعها العلة والمعلول، وخامسها المقابلة، وسادسها التشبيه وضرب الأمثال.

1-

الاستدلال بالتعريف:

143-

الاستدلال بالتعريف بأن يؤخذ من ماهية موضوع القول دليل الدعوى بأن يؤخذ مثلًا من حقيقة الأصنام دليل على أنها لا تصلح أن تكون معبودًأ، ومن بيان صفات الله تعالى دليل على أن يكون وحده المستحق للعبادة، وإذا كان موضوع القول هو الذات العلية تقدَّست أسماء الله، فإنه يكون الاستدلال على ألوهيته سبحانه، ببيان صفاته، وخلقه للكون صغيره وكبيره ولا تعترف الذات العلية إلا بصفاتها، ومن ذلك قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 95-100] .

ونجد في هذا الكلام إثباتًا لوحدانيته سبحانه وتعالى، وأنه وحده المعبود بحق، وأنه لا إله إلا هو، وكان طريق الإثبات هو بيان خلقه وتنوعه، أنَّه وحده الخالق لكل شيء، وإذا كان الله تعالى هو الخالق وحده فهو الإله وحده، وكان التعريف بالله تعالى هو السبيل لإثبات الربوبية له سبحانه، وقد عرّف سبحانه وتعالى بصفاته واثره سبحانه في الوجود؛ لأن الله تعالى لا يعرف إلّا بصفاته وآثاره في الخلق والتكوين؛ لأن معرفة حقيقة ذاته سبحانه وتعالى غير ممكنة في هذه الدنيا، وأن الذي نعرفه أنه سبحانه وتعالى منزَّه عن مشابهة الحوادث، فليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

ومما يدل على عظمة الخالق واستحقاقه للعبودية، وقدرته على البعث والنشور، التعريف بالمخلوق، وخصوصًا الإنسان، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ

ص: 252

الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ، وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون: 12-17] .

ومن هذا نرى أنَّ التعريف بالإنسان من خلقه ابتداء دليل على بعثه انتهاء، ألم تر أنَّ الله سبحانه وتعالى ذكر أنه خلقه علقة ومن العلقة مضغة ومن المضغة عظامًا ثم كساها لحمًا، ثم أماتها، ومن الطبيعي أن يكون قادرًا على الإحياء؛ لأن الإنشاء على غير الله أصعب من الإعادة، ولا صعوبة على الله تعالى في إنشاء ولا إعادة.

ومن تعريف بعض المحرمات يستبين تحريمها، والأمر القاطع بالتحريم، ومن ذلك قوله تعالى في تحريم الخمر:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 90-92] .

ونرى من هذا أنَّ التحريم الثابت بالنصِّ ذكر أوصاف الخمر وبيان ذاتها وما يترتب عليها؛ لمعرفة حكمة تحريمها، فذكر تعريفها بالحدِّ والرسم، أما التعريف بالحد فبيان ذاتها بأنها مع أخواتها من الميسر، والذبح على النصب، هو التعريف بالحد، وهو ذكر الذات، بذكر جنسها وفصلها، وأما ذكر هذا التعريف بالرسم، فهو ذكر ما يترتب على الشرب من وقوع الداوة والبغضاء والصد عن الصلاة وعن ذكر الله تعالى، فهي لهو لتزجية الفراغ بما فيها الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، والأنغمار في اللهو الفاسد.

2-

الاستدلال بالتجزئة:

144-

إن تذكر أجزاء الموضوع وبتتبعها يكون إثبات الدعوى، ومن ذلك أن المقرر الثابت بالبديهة الذي لا مجال للريب فيه الحكم بأن الأثر يدل على المؤثر، وأن الكون يدل على خالقه، وأنَّ القوى البشرية والعقول المستقيمة تقر بأن الخالق لهذا الكون صغيره وكبيرة قوة واحدة، وهي قوة الله سبحانه وتعالى.

وقد كان القرآن يذكر ذلك في آياته الحكيمة أحيانًا مجزءًا وأحيانًا غير مجزء، ومن الاستدلال بالتجربة قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، أَمَّنْ جَعَلَ

ص: 253

الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 59-64] .

ونرى من هذا كيف كانت التجزئة في مادة الاستدلال، وإن لم تكن الأجزاء كلها مستوفاة، وإنه من منهاج الاستدلال يتبيِّن أن لك جزء يصلح وحده دليلًا على أن الله وحده هو المنشئ للكون، والمدبِّر له، والقائم على كل شيء، ولذلك قرن السياق في كل جزء نفى أن يكون إله غير الله معه سبحانه وتعالى عما يشكرون.

ومن التجزئة أيضًا في الاستدلال قوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ، أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَاْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 29-35] .

ونجد هنا في هذه الآية الكريمة تجزئة في الاستدلال بحيث يعتبر كل جزء دليلًا قائمًا بذاته، ومن مجموعه دليل كليّ على أنَّ كل صغير أو كبير من خلق الله تعالى، وأنها دليل على وجوده سبحانه وتعالى.

3-

التعميم ثم التخصيص:

145-

التعميم أن تذكر قضية عامة، وتؤدّي إلى إثبات الدعوى بإجمالها، ثم يتعرَّض المستدل إلى جزئيات القضية، فيبرهن على أنَّ كل جزء منها يؤدي إلى إثبات الدعوى المطلوب إثباتها، أو أنها في مجموعها تؤدي إلى إثبات الدعوى.

ومما سبق ذكره يتبين صدق الدعاوي العامة التي هي صلب الدين وهي التوحيد، وأنه تجب إطاعة الرسول، وأنه لا خضوع إلا لله سبحانه، ومن ذلك قوله تعالى في المجاوبة بين موسى وفرعون: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى، قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى، قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا

ص: 254

يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى، كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى، مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 49-55] .

ونرى من هذه القضية العامَّة الكاملة التي تذكر بجوار الله سبحانه وتعالى، وهي التي بها يعرف الله سبحانه وتعالى الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه وهو الهادي، فقال سبحانه كلمة جامعة كاشفة لمعنى الربوبية، ومع الربوبية العبادة، وكمال الألوهية، فقال الله تعالى على لسان موسى:{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ، فهو سبحانه وتعالى مانح كل شيء في هذا الكون الوجود، وهو مانح الهداية لمن اهتدى.

ثم أخذ القرآن الكريم بعد هذا التعميم الجامع بين جزئيات داخلة في هذا، وذكر من بعد هذه الجزئيات ما ينبه فرعون وأهل مصر وهم أهل زرع وضرع وختم النص الكريم بما يناسبهم، وهو نعمة للجميع:{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} .

4-

العلة والمعلول:

146-

أساس الاستدلال الربط بين القضايا التي تصوّر أجزاء الحقائق في هذا الوجود، بأن يكون وجود بعض الأشياء علة لوجود شيء آخر، وبمقدار قوة الارتباط تكون قوة الاستدلال، وذلك بأن يكون أحدهما علة للآخر، وإذا وجدت العلة كان المعلول ثمرة لوجودها، وهما متلازمان من الناحية العقلية، أو على حسب مجرى الأمور، وإا ذكر المعلول كان كاشفًا لعلته؛ لأن ذكر النتائج مع إحدى المقدمتين لدليل يدل على المقدمة الثانية، ولأن المقدمات تطوى فيها، فإذا ذكر تحريم الخمر، وحاول العقل أن يتعرّف سبب التحريم يستطيع تكشفه من أوصاف الخمر، فإذا عرف الوصف المناسب للتحريم استيقن أنه السبب، وهو يكون وصفًا لا يشاركها فيه غيره من المباحات، وفي القرآن كثير، يكون فيه التعليل جزءًا من الدليل الذي يسوقه القرآن الكريم بتنزيل من العزيز الحكيم، ولنتل آية إباحة القتال، فإن فيها السبب الذي يبرره، والدليل الذي يوجبه، اتل قوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 190-193] .

ص: 255

وإننا نجد في سياق هذا النص القرآني الكريم أنَّ السبب الذي برّر أمر الله تعالى بالقتال أمران: أحدهما الاعتداء، وثانيهما فتنة المؤمنين في دينهم، فإذا زال الأمران لا يكون ثمَّة مبرر للقتال، ثم هذا الاعتداء، وتلك الفتنة دليل الوجوب، وكذلك نجد الأمر في الإذن بالقتال؛ إذ كان دليله هو الاعتداء، ولذلك قال الله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 39: 41] .

ونرى في هذه الآيات الكريمة أنَّ العلة الموجبة هي الاعتداء وإخراج المؤمنين مفتونين في أنفسهم وأموالهم، ثم قامت المعلولات الغائبة المترتبة على السكوت، وعدم دفع المعتدين أن يعمّ الفساد ويسود الشرّ، فلولا هذا الدفاع لفسدت الأرض، ولهدمت المعابد، ولم تقم الشعائر، فاتخذ من هذه النتائج المترتبة على ترك المشركين يعيثون مبررة لمقاومتهم، وموجبة لحربهم، فكان هذا من قبيل الاستدلال بالنتائج وهي الغايات الواقعية دليلًا على الوجوب، وإن هذه الآيات الكريمات صور سامية لما سنَّه الإسلام من سنة تتفق مع الطبيعة الإنسانية، وهي إزالة الشر بالعقاب الشديد ومقاومته؛ لأن الفضيلة في الإسلام ليست سلبية، ولكنها إيجابية. بيِّنَ سبحانه على السبيل الإيجابي لردِّ الرذيلة ودفع شرها ومقاومته، فكان الاعتداء على الفضيلة سببًا موجبًا للتال، والقتال في سبيلها جهاد مثوب.

5-

المقابلة:

147-

إن المقابلة بين شيئين أو أمرين، أو شخصين تكون ليعرف أيهما المؤثر في عمل معين، وإذا ثبت أنَّ التأثير لواحد منهما كان له فضل التقديم على غيره، وقد كان ذلك النوع من ينابيع الاستدلال كثيرًا في القرآن الكريم؛ لأنَّ المشركين كانوا يعبدون أحجارًا يصنعونها أو مخلوقات لله تعالى خلقها، وكانوا يعتقدون أن لها تأثيرًا في الإيجاد، أو في الشر يمنع، أو الخير يجلب، فكانت المقابلة بين الذات العلية وبين ما ابتدعوا من عبادة الأوثان ينبوعًا للاستدلال على بطلان ما زعموا، ومن ذلك قوله تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 17، 18] .

ص: 256

هذا هو النص الكريم، وفيه مقابلة بين المعبود بحقٍّ وهو الله سبحانه وتعالى خالق السماوات، وهم يؤمنون بأنَّ الله وحده خالق السماوات والأرض:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وهم يعلمون أن الأحجار التي يعبدونها صنعت بأيديهم ولم تخلق شيئًا، فالقرآن من هذه المقابلة يأتي بدليل يلزمهم ويفحمهم أو يقنعهم إن استقامت القلوب، وإن الدليل بالتقابل يصح أن يكون عندما ادعيت الألوهية للخالق جلت قدرته مع المخلوق المصنوع بأيدي العباد، وبالمقابلة بينهما نجد الخالق يحتاج إليه كل ما في الوجود، والمصنوع بأيدي العباد لا ينفع ولا يضر، فالله وحده هو الإله الحق الذي لا يعبد سواه؛ لأنه لا يحتاج لأحد ويحتاج إليه كل أحد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4] .

ومن المقابلة التي كانت ينبوعًا للاستدلال قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16] .

وأن هذا الاستدلال قائم على المقابلة، فكانت المقابلة من لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ومن هو القهار القادر على كل شيء وهو الواحد الأحد الذي لا يشبهه أحد، وكأن المقابلة بين الأعمى والبصير، ويشمل الأعمى من لا يدرك الحقائق، والبصير من يدركها، وبين الظلمة التي تعتم النفس، والنور الذي يشرق به القلب، ومن يخلق ومن لا يخلق، وهذه المقابلات ينابيع الإدراك الموجه المسترشد، والظلام المعتم المحير.

وإن هذه المقابلات تصلح دليلًا مثبتًا في عدة دعاوى، ويكون ف المقابلات الحكم الفصل الهادي المرشد.

ففي الدعوى الأولى ادِّعَاء المساواة بين من يملك كل شيء ومن لا يملك لنفسه النفع والضر، والحكم الذي ينتجه الدليل أنهما ليسا متساويين، وإذا كانت دعوى المساواة في الألوهية باطلة، فالحكم بالنفي، والإله هو الله وحده الذي يملك كل شيء، وفي الدعوى الثانية نفي التسوية بين من أدرك الحق واهتدى، ومن ضلَّ وغوى، والأخير كالأعمى، والأول كالبصير، فأيهما يهتدي إلى الطريق السوي، ولا شك أن الحكم أن الخير في المبصر المهتدي، وليس في الضال المرتدي، فالفضل لأهل التقوى ولو كانوا ضعفاء يستضعفهم الناس.

ص: 257

وفي الدعوى الثالثة ادِّعاء الاشتراك في الخلق والتكوين بالزعم لا بالحقيقة، وهذه باطلة، بل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار، وبذلك يتحقق الحكم فيما هو صادق واقع، لا فيما هو مزعوم مختلق.

ومن المقابلات القرآنية التي دلَّت على البعث، وكان فيها رد على أوهام للكافرين في قوله تعالى:{َوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأحقاف: 33، 34] .

ونرى هنا استدلالًا على أنَّ البعث ممكن في ذاته، والتصديق به واجب؛ لأن الله تعالى أخبر به على لسان نبيه الكريم وفي كتابه المكنون؛ إذ جاء به القرآن الكريم، ودعا إليه محمد الأمين.

وكان الاستدلال بطريق المقابلة، وكانت المقابلة بين إنشاء الأحياء ابتداء والخلق والتكوين من غير سابق، وأنَّ القدرة فيه كانت، ولم يعي بخلقهنّ، وبين الإعادة للأجسام التي خلقت ثم صارت رميمًا، وأنه إذا كانت قد وجدت، فالثانية قد وجدت وهي تجيء إذ أخبر بها العزيز الحميد، القادر على كل شيء.

وأن بهذه المقابلة بين الإنشاء والإعادة، وبين الخلق من غير أصل سابق والإعادة ينتهي به ذو العقل الرشيد إلى الحكم بأن البعث ممكن في ذاته، وأنَّه واجب الاعتقاد؛ لأنَّ الله تعالى أخبر به، {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5] .

ومن الآيات الدالة على أن الله تعالى خلق كل شيء، واعتمدت الدلالة فيها على المقابلة قوله تعالى:{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 57-74] .

ص: 258

ونجد من هذه المقابلات بين إنشاء الخالق وعجز الإنسان ما يدل على أنه هو الذي خلق فهدى، وأنه العليم بما خلق، وأنه بهذا المستحق للعبادة وحده، وأنه ليس كمثله شيء وأنه الواحد الأحد.

6-

الاستدلال بالتشبيه والأمثال:

148-

من ينابيع الاستدلال في القرآن التي تثبت قدرة الله تعالى، وصدق ما يطلب الدين الحق، وما أتى به القرآن -التشبيه وضرب الأمثال، وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم أنه يضرب الأمثال ويبيِّن الحقائق عن طريقه، وضرب الأمثال باب من أبواب التشبهي، وهي تضرب كما ذكرنا في باب التشبيه للغائب لتقريب الحقائق ولتشبيه الغائب غير المحسوس بما يقربه من القريب المحسوس، ولتوضيح المعاني الكليّة بالمشاهد الجزئية، وللاستدلال بحال الحاضر على الغائب.

ومن ذلك قوله تعالى الذي ذكر فيه أنَّ المثل يكون لبيان الحقائق، سواء أكان بالصغير أم كان بالكبير، فقد قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] .

وفي هذا النص يثبت الله تعالى أنه سبحانه يقرّب الحقائق الثابتة بالأمثال، ويأتي بالدليل من بيان الأشياء، واستخراج خواصها، والإثبات بالأدلة عن طريقها، وأن الناس في تلقي هذه الأدلة فريقان: فريق آتاه الله قلبًا نيّرًا يصغي إلى الحق ويأخذ به، ومنهم من أصاب العناد قلبه، فإذا قوي الدليل فإنه يزيد إصرارًا وإمعانًا في الضلال، فيوغل فيه، وهذا معنى قوله تعالى:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} .

فهذا النص يفيد أنَّ الله تعالى في القرآن الكريم يتخذ من الأمثال تبيينًا للحقائق، وتثبيتًا، وإقامة للدليل بها.

واقرأ قوله تعالى في بيان عجز الأصنام ومن يعبدونها العجز المطلق وقدرته تعالى على كل شيء، فقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ، مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73، 74] .

انظر إلى الديل القاطع الذي يثبت بطلان الوثنية، ويقيم الدليل على الوحدانية، فإن الأوثان ومن يتبعونها ولو تضافرت كل القوى معها لا يمكن أن يخلقوا ذبابًا

ص: 259

ذلك الطير الضعيف أو تلك الحشرة الضئيلة التي يستحقرونها، ولو أنَّ الذباب سلب منهم شيئًا، ولو اجتمعوا مع أوثانهم على أن يستردوه ما استطعوا إلى ذلك سبيلًا، وهم والذباب سواء في الضعف وإن بدوا أقوياء، وهذا أضعف خلق الله تعالى في زعمهم، فكيف يكون للذين يدعونهم آلهة قوة أمام الله، وكيف يعبدونهم معه، وهم لا وجود لهم ولمن يعبدونهم بجواره سبحانه وتعالى علوًّا كبيرًا، فهذا المثل سيق مساق الاستدلال وكان دليلًا قويًّا، إن كانوا طلاب حق يلتمسون الدليل عليه، وإن كانا طلاب باطل ضلوا السبيل، لا يزيدهم الدليل إلَّا كفرًا.

ومن الأمثلة الموضحة التي تثبت كمال سلطان الله وأنه وحده القادر وبطلان غرور الإنسان إزاء قدرة الله تعالى قوله سبحانه: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا، فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا، وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا، هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف: 32-44] .

وهذا المثل الواقعي التصويري فيه دليل على إثبات حقيقتين، أولاهما: أنَّ المغترّ دائمًا يدلي به غروره إلى أنه يحكم على المستقبل بما هو عليه في الحال القائمة، والقوة الموهومة، فذو الجنة والنفر ظنّ أن الحاضر ينبئ عن المستقبل، وغره بالله الغرور، وتعالى من غير علوّ، وتسامى من غير سموّ، واستقوى من غير قوة، فجاء المستقبل وخيب الأمل وكشف الحقيقة.

الحقيقة الثانية: إثبات أنَّ الولاية والنصرة لله سبحانه وتعالى، وأنه وحده المالك للأمور كلها في ماضيها ومستقبلها وشاهدها، وغائبها.

فكان المثل دليلًا على وباء الغرور، وأن الأمر لله وحده.

ص: 260

ومن الأمثال الموجّهة إلى الحقائق الخلقية والدينية قوله تعالى في سورة القلم: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} [القلم: 17- 23] .

سيقت قصة أصحاب الجنة الدنيوية، وهي قصة واقعية تصويرية، وهي دليل مثبت؛ أولًا: لأنّ الزكاة تطهر المال وتحميه؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فهي للمال نظافة ونماء، وهم قد أقسموا ليصرمنَّها مصبحين، وأن لا يدخلنَّها اليوم عليهم مسكين، وتثبت ثانيًا: أن العاقبة الحسية تؤثر في النفس إن كان فيها قابلية للهداية، وهؤلاء إذا كانت قد ضاعت منهم الثمرات، فقد عادت إليهم بأعظم العظات، فما كسبوه من عظة أكثر مما فقدوه من ثمرة، وثمرات القلوب أطيب من ثمرات تشتهي الأبدان طعمها، وهي دليل على أنَّ الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن الأقدار تحت سلطانه، ويجريها كما يحب وكما يشاء.

ومن الأمثلة التي تساق مساق الدليل قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 75، 76] .

والآيات قبل ضرب هذين المثلين كانت في الأمر بعبادة الله تعالى وحده والإخبار عن عبادة المشركين من لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا؛ إذ يقول سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} ، فجاء سبحانه وتعالى بهذين المثلين، وهما يبطلان عقيدة الشرك وزعم المشركين بأمثلة تقع في الحياة، والحكم فيها من البدهيات التي لا ينكرها عاقل، ولا يختلف فيها فكر عن فكر، وكل مثل من المثلين دليل قائم بذاته على بطلان الوثنية؛ إذ فيه تسوية بين من لا يقع بينهما التساوي.

أمَّا أولهما فقد ضرب برجلين أحدهما عبد مملوك لا يقدر على شيء؛ لأنه مملوك لغيره، فهو ليس له مال، فهل يستوي هذا مع رجل مرزوق من الله تعالى رزقًا

ص: 261

حسنًا، إن التسوية غير معقولة بين من له مال يعطي منه غيره، أو ينفق منه في الخير سرًّا وجهرًا، وبين المملوك الذي لا مال له، إذا كانت التسوية غير معقولة، فتسوية أولئك المشركين بين الأحجار التي لا تضرّ ولا تنفع في عبادتها مع الله تعالى الرزاق ذي القوة المتين، المالك لكل شيء، الذي له ملك السماوات والأرض، أبعد عن كل معقول، وذلك برهان على بطلان الشرك كله، سواء أكان إشراك حيوان أو إنسان أم كان إشراك حجر.

وثاني المثلين أنَّ الله يضرب مثلًا برجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء، وهو كَلٌّ على مالكه أو ذي قرابة له يتولَّى أمره، ولا يتجه إلى جهة ويأتي فيها بخير، بل إن الطرقات مسدودة أمامه من جوارحه المئوفة الناقصة، فهل يستوي مع رجل موهوب في عقله وخلقه، وكيانه الإنساني والنفسي، يسلك الصراط المستقيم، يأمر بالعدل، ولا يحيد عن سبيله، فهما إذن بالبداهة لا يستويان.

وإذا كان هذان الرجلان لا يستويان بداهة، فأولى ألَّا تتساوى في العبادة الأحجار مع خالق الكون، وهادي الخلق، ومانح النعم ومجريها رب العالمين.

ومن الأمثلة التي تدل على أنّ العبادة الخالصة لا تكون إلَّا لله تعالى وحده، وأنها بغير ذلك لا تكون عبادة، قوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] إنَّ هذا المثل التصويري فيه دلالة على صدق التوحيد وفساد الشرك، فإنه سبحانه وتعالى جعل الفرق بين التوحيد والشرك كالفرق بين رجل مملوك لعدة أشخاص هم مختلفون فيه، كلّ يريد أن يختص بأكبر حظ منه، وأن يكلّف أقل قدر فيه، وهو في ذاته ضائع بينهم نفسيًّا وماديًّا لا يدري أيهم يطالبه بحقه، فهو ضائع لا محالة وهو لا يحس بأمن في هذه الملكية المتنازعة، وذلك مثل من يعبد آلهة مختلفة تكون نفسه حائة بائرة غير مستقرة ولا مطمئنة، فليست كحالها، مع رجل سلمًا خالصًا لرجل لا يشاكسه أحد فيه، وهو مستقرّ يعرف من يخدمه ومن يعتمد عليه، ومن فوض أمره إليه، وذلك مثل من يعبد الله تعالى وحده، فإن من يعبد الله وحده تطمئن نفسه، ويجد المأوى، ويجد الملجأ والملاذ، وذلك مثل تهتدي به النفوس الشاردة.

ومن الأمثال التي ساقها القرآن الكريم للاستدلال بها على البعث والنشور، والإماتة الإحياء قوله تعالى:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259] .

إن هذه القصة واقعية، وليس في سياق القول ما يدل على أنها تصويرية، والأصل أن تكون حقيقة، فلا بُدَّ أن أجزاءها قصة واقعة، وليست مجرد مثل تصويري، وهذه القصة معها دليل واقعي على البعث والنشور، وأنَّه في قدرة الله تعالى إعادة الموتى، فمن أنشأ الكون يحيي الموتى، وأننا سنموت كما ننام، ونبعث كما نستيقظ، فهو مثل وقاعي لبيان -كيف يحيي الله الموتى، فقد مات الرجل مائة عام، ثم أحياه الله، ورأى طعامه لم يتغير، ورأى حماره حيّ حسب أنه نام يومًا أو بعض يوم، والله على كل شيء قدير.

ص: 262

‌أسلوب جدل القرآن:

149-

ذكرنا فيما أسلفنا من قول بعض ما سلكه القرآن، وما يعمد إليه من استدلال وما يتخذه من ينابيع، وقد كانت لإثبات الحقائق في العقيدة والأحكام وما يقربها به إلى العقول حتى لا يكون موضع ارتياب لمرتاب، يزيل الريب بالحقائق، ويبدد الأوهام بالأدلة التي تنبه إلى حقائق الوجود.

وما كان ذلك للجدل من المخالفين من مشركين وأهل كتاب فقط، بل كان لإثبات الحقائق في ذاتها، من غير محاجة مع منكر، ولا مجادلة مع جاحد، والآن نتكلم في جدله مع المجادلين، وقطعه الطريق على الجاحدين.

وقبل ذلك نتكلم في مقام الاستدلال القرآني، سواء أكان في مقام تثبيت وبيان، أم في مقام جدل مع قوم خصمين.

ولقد لاحظنا في أدلة القرآن أنها قريبة التناول في الإدراك لكل الناس، يفهمها الخاصة ويفهمها العامة، وأنَّ تفاوت الفهم بمقدار الإدراك، وسعة الأفق، وهي واضحة للجميع، ولقد قرَّر بذلك ابن رشد الفيلسوف الفقيه في كتابه فصل المقال، فقد قسَّم الطرق لإثبات صدق القضايا والتصديق بها إلى عامَّة لأكثر الناس؛ بحيث يكون التصديق بها من كل الناس ما داموا قد سلمت عقولهم من الآفات، ومنها ما هي خاصة بأقل الناس وهي البرهانية، وجعل الأدلة التي تعم الناس الأدلة الخطابية وتقوم على إثبات الحق بأدلة قطعية، أو أدلة ظنيَّة، ولكن بكثير منها ومقارنتها، وإثارة الخيال يجعل السامعين يقتنعون ويجزمون. وإذا كانت الأدلة في ذاتها مجردة عمَّا أحيط بها من عرض، وأسلوب بياني، وإلقاء مؤثر، وإثارة للأخيلة الموجهة، تكون ظنية، ولكن آثارها قطعية كما نرى في آثار البلغاء من الخطباء، والخطابية أعمّ أنواع الاستدلال في البيان، وأكثرها إنتاجًا، ودونها في العموم الجدلية، وهي ما يكون الاستدلال فيها مأخوذًا مما يسوقه الخصم من الحجج، وهي تعتمد على قوة الاستدلال على الخصم، ولأن الفلج على الخصوم لا يكون أمرًا مستورًا، بل يكون أمرًا له صفة الشياع بين

ص: 263

الناس، ولأنه مأخوذ بحجج المخالف كان مع عمومه وشيوعه أقل من الاستدلال الخطابي الذي يقوم على إثبات الحقائق من غير تقيد بحجة خصم.

والحجة الخاصة بأقل الناس عند ابن رشد ما يلزم فيه المتكلم بالأقيسة البرهانية؛ ذلك لأنَّ هذه الأقيسة مجردة خالية من كل تحسين، وليست متجهة إلى الإقناع وطرائقه من مشاركة وجدانية، ومن إثارة المشاعر، ومن اتجاه إلى ما يأمنون من أمور، وأن التجرُّد كله لا يكون إلّا للخاصة الذين يتجهون إلى الحقائق خلوًا من أي تأثير.

ويقول ابن رشد بعد أن أشار إلى الأدلة الخطابية والجدلية والبرهان: ولأنَّ أكثر الشرع مقصوده الأول العناية بالأكثر من غير إغفال لتنبيه الخاصة، كانت أكثر الطرق المصرّح بها في الشريعة الإسلامية على أربعة أصناف:

أن تكون -مع أنها مشتركة- خاصة بالأمرين جميعًا، أعني: أن تكون في التصور والتصديق يقينية مع أنها خطابية أو جدلية، وهذه المقاييس هي المقاييس التي عرض لمقدماتها مع كونها مشهورة ومظنونة، أن تكون يقينية وعرض لنتائجها إن قصدت أنفسها دون مثالاتها، وهذا الصنف من الأقوال الشرعية ليس له تأويل، والجاحد لها أو المتأوّل لها كافر، والصنف الثاني أن تكون المقدمات مع كونها مشهورة أو مظنونة يقينية، وتكون النتائج مثالات للأمور التي قصد إنتاجها، وهذا يتطرق إليه التأويل، والثالث عكس هذا وهو أن تكون النتائج هي المور التي قصد إنتاجها نفسها، وتكون المقدمات مشهورة أو مظنونة من غير أن تعرض لها أن تكون يقينية، وهذا ايضًا لا يتطرق إليها تأويل، أعني: نتائجها، وقد يتطرق لمقدماته. والرابع أن تكون مقدماته مشهورة أو مظنونة من غير أن تعرض لها أن تكون يقينية حملها، وتكون نتائجه مثالات لما قصد إنتاجه، وهذه فرض الخواص فيها التأويل، وفرض الجمهور على ظاهرها، وبالجملة فكل ما يتطرق إليه من هذا التأويل لا يدرك إلّا بالبرهان ففرض فيه، وهو ذلك التأويل، وفرض الجمهور هو جماعها على ظاهرها في الوجهين جميعًا، أعني: في التصوير والتصديق إذا كان ليس في طباعهم أكثر من ذلك، وقد يعرض للنظار في الشريعة تأويلات من قبل الطرق المشتركة بعضها على بعض في التصديق.

وإنَّ كلام ابن رشد هو في مقام الأدلة القرآنية من حيث التصور المنطقي والتصديق وما يترتب على قوة الاستدلال من حيث قبول الحكم الشرعي أو الاعتقادي للتأويل، ومن حيث قبول الاعتقاد للظر أو عدم قبوله.

وخلاصة ما قاله بإيضاح أنَّ المقدمات إذا قامت على المشهور أو المظنون، ولكن يتضافر أنواع الاستدلال، وتكاثر الطرق، صارت يقينية من حيث التيجة، والنتيجة تثبت حقيقة ثابتة ليس لها مثيل، فإن النتيجة لا يصح إنكارها، ومنكرها كافر،

ص: 264

ومحاولة تأويلها كفر، وإذا كانت المقدمات مظنونة أو مشهورة وليس لها مرادفات ترفعها إلى درجة اليقين، والنتيجة ليست يقينية، فالتأويل يجري في النتيجة والمقدمة إذا كان له مسوغ أو تعارضت طرائق الاستدلال.

وإذا كانت المقدمات مشهورة أو مظنونة، ولكنَّه يتضافر الأدلة تنتج يقينيًّا، والنتيجة تحتمل عدة صور متشابهة، فإن التأويل لا يدخل في المقدمات، ولكن يدخل في النتائج.

وقد تكون المقدمات مظنونة أو مشهورة ولا يقين فيها، ولكنها تنتج نتيجة واحدة لا مثنوية فيها، فإنها لا تقبل التأويل في النتيجة، وتقبل التأويل في المقدمات.

150-

هذه كلمات ابن رشد، وذلك: إن كانت في ذاتها غير بينة واضحة المقصد، ولكن يثار هنا قول، وهو: أيصح أن نقول أن أدلة القرآن خطابية أو جدلية أو برهانية، إننا لا نستطيع أن نقول أنها خطابية كما قد يشير إلى ذلك ابن رشد.

وقبل أن نقطع في ذلك برأي نذكر تعريف الأدلة الخطابية، كما في "الشفاء" لابن سينا، يقول ابن سينا:"إن الحكماء قد أدخلوا الخطابة والشعر في أقسام المنطق، لأن المقصود من المنطق أن يتوصل إلى التصديق، فإن أوقع التصديق يقينًا فهو البرهان، وإن أوقع ظنًّا أو محمولًا على الظنِّ فهو الخطابة، أما الشعر فلا يوقع تصديقًا، لكنَّه لإفادة التخييل الجاري مجرى التصديق، ومن حيث إنه يؤثر في النفس قبضًا أو بسطًا، عدَّ في الموصل إلى التصديق".

والتخييل عنده كما عرفه إذعان للتعجب والالتذاذ تفعله صور الكلام.

ونراه من هذا يضع المنطق والخطابة والشعر في ثلاث مراتب، فالأول يتجه إلى التعيين، وهو أعلى مراتب التصديق، والخطابة تصل إلى مرتبة الظن الغالب، والاتجاه إليها لا يوصل إلا إلى ذلك، والشعر يتجه إلى إثارة الخيال والإعجاب والالتذاذ بصورة الكلام، ولا يؤدِّي في ذاته إلى تصديق إلَّا إذا تضمَّن ما يشبه المنطق، أو يشبه الخطابة، فإنه يؤدي إلى يقين أو إلى ظن.

ولا بُدَّ لنا من أن نذكر أمرين ثابتين:

أولهما: إنَّ الخطابة في أقيستها لا تعتمد إلَّا على الظن، ولا تنتج إلّا الظن، ولكن يجب أن نعلم أن من الحقائق التي تجيء على ألسنة المتكلمين والتي تجري في الأسلوب الخطابي ما هو يقين ينتج قطعًا، ولا ينقص القطعية فيها أنها خلت من صور الأقيسة والأشكال البرهانية، فليست العبرة في اليقين بالشكل، إنما العبرة بالحقيقة أهي مقطوع بها أم غير مقطوع، والشكل البرهاني لا يمنحها يقينًا، كما أن عدم التمسك به لا ينقص يقينها.

ص: 265

وإن كثيرًا من الأدلة الخطابية تعتمد على أقوى المقدمات إلزامًا وأشدَّها إفحامًا، وإن المنطق مميز لباطل القول، وليس موجدًا لليقين بذاته، فإنّ الأشكال المنطقية أخص خواصها أنَّها تكشف زور الباطل.

وقد يكون الكلام الخطابي مجملًا بالأشكال المنطقية في مقام الردِّ على حجج الخصوم، وكشف زيفها، وبيان وجه البطلان فيها، وكثيرًا ما تستخدم الخطب التي تقوم على المحاجّة، والجدال والبراهين والقيسة المنطقية لبيان وجه البطلان في كلام الخصم.

الأمر الثاني: إنه لا ينطبق ما يقال في الخطابة والجدل من أنهما يقومان على الأدلة الظنية على القرآن.

ونحن نميل إلى أن الاستدلال القرآني له طريق قائم بذاته، وإذا نظرت إليه وجدت فيه ما امتازت به الأدلة البرهانية من يقين لأمرية فيه، وما امتازت به الأدلة الخطابية من إثارة للإقناع، وما امتازت به كل خواص البيان العالي، مع أنه لا يسامي، وهو معجز لكل الناس عربهم وعجمهم.

أسلوب القرآن في الاستدلال والجدل:

151-

إنَّ القرآن خاطب الناس جميعًا في أجيال مختلفة، وأقوام تباينت مشاربهم، ومن أجل أن نعرف بلاغة القرآن في الاستدلال والجدل يجب أن نشير بكلمات موجزات إلى أصناف الناس.

إن طبائع الناس متفاوتة، ومشاربهم مختلفة، وأهواءهم متنازعة، ومسالكهم في طلب الحق متعددة.

أ- فمنهم من يصدق بالبرهان، ولا يرضيه إلَّا قياس تامّ أو ما يجري مجراه، وهؤلاء هم من غلبت عليهم الدرسات العقلية والنزعات الفلسفية، وكان لهم من أوقاتهم ما أرجوه في دراسات واسعة النطاق، وعلوم سيطرت عليهم، فسادهم التأمل الفلسفي، والمنزع العلمي، والمستقرئ لأحوال الأمم المتتبع لشئون الاجتماع يجد أن هذا الصنف قلة في الناس، وعددهم محدود بالنسبة لغيرهم؛ إذ إنَّ أكثر من في الأرض دق انصرف إلى المهن من زراعة وصناعة، فما كان له وقت يزجيه في تلك التأملات، ولهاذ أمر الله تعالى نبيه أن يدعو إليه بالحكمة في قوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] .

ب- من الناس من غلب عليه مذهب ديني أو غير ديني قد استأثر بلبه، وسد مسام الإدراك، إذا استولت عليه نحلة مذهبية فتعصب لها، والتعصب يعمي ويصم،

ص: 266

ويجعل النفس لا تستسيغ الحق إلا بمعالجات عسيرة، وإن الإقناع بذلك لا يكون إلَّا بالطب لأدواء النفوس، وأدواء النفوس أعسر علاجًا، وأعزّ دواء من علاج الأجسام.

وهؤلاء لا بُدَّ لهم من طريق جدلية تزيل ما لبس الحق عليهم، ويتخذ بها قوة مما يعتقدون؛ إذ يلزمهم بما عندهم، ويفحصهم بما بين أيديهم، ويتخذ مما يعرفون وسيلة لإلزامهم بما يرفضون.

وهذا الصنف من الناس، وإن كان أكثر عددًا من الأول، ليس هو الجمهور الأعظم ولا الكثرة الغالبة بين الناس، ولعله الذي أمرنا الله تعالى بألَّا نجادله إلا بالتي هي أحسن، وذلك في قوله تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] .

ج- أما الجمهور الأعظم من الناس فليسوا هؤلاء ولا أولئك، بل هو في تفكيره أقرب إلى الفطرة، فيه سلامتها، وفيه سذاجتها، وفيه إخلاصها وبراءتها، وهو لا يخاطب بتفكير الفلاسفة، ولا يخاطب بما يخاطب به المتفكرون تفكرًا علميًّا، بل يليق به ما التقى فيه الحق مع مخاطبة الوجدان، وما اختلطت فيه اليقينية بما يجعل الأهواء تابعة لها، والميول خاضعة لمنهاجها، وما التقت فيه سلاسة البيان وبلاغته بقوة الحق، وليس بما يختص به أهل المنطق، ولا ما عليه أهل العلوم الكونية، إنما يخاطب الجمهور الأعظم بالحق، بما يغذى الفطرة، وبما يثيرها ويوجهها إلى السبيل الأقوم.

والقرآن الكريم نزل بتلك الشرعية الشريعة الأبدية التي جاءت للكافة، وبعث بها النبي صلى الله عليه وسلم للناس جميعًا بشيرًا ونذيرًا، فلا تقتصر دعوته على قبيل، ولا على جيل، بل هي لكل الأجيال والقبائل والأقوام، والألوان، إلى أن يرث الله تعالى الأرض، ومن عليها.

152-

لذلك وجب أن يكون القرآن وهو الحجة الكبرى فيه من الأدلة والمناهج ما يقنع الناس جميعًا على اختلاف أصنافهم وتباين أفهامهم، وتفاوت مداركهم، ووجب أن يكون أسلوبه الفكري والبياني بحيث لا يعلو على مدارك طائفة بعد بيان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين تلقوا من النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- علم القرآن وبيانه، ويجد العلماء فيه غذاء نفسيًّا واعتقاديًّا وخلقيًّا وصلاحًا إنسانيًّا، بل يصل الجميع إليه، يجد فيه المثقف بغيته، والفيلسوف طلبته، والعامة من الشعوب دواء نفوسهم، وشفاء قلوبهم، والحق المبين الهادي لهم الذي يأخذ بايديهم إلى العزة والرفعة.

وكذلك سلك القرآن الكريم. فالمتدبر لآياته، والمفكر في منهاجه، يجد فيها ما يعمل الجاهل، وينبه الغافل، ويرضي نهمة العالم، اقرأ قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ

ص: 267

كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30] اقرأ هذا وارجع البصر فيها كرتين، ألَا ترى فيها توجيه الأذهان إلى عظيم قدرة الله تعالى وقوة سلطانه على الوجود كله، وبيِّن سبحانه كيف اخترع وأبدع على غير مثال سبق، ويثبت بذلك أنه وحده الأحق بالعبادة، وأن القارئ للقرآن من دهماء الناس يرى فيها علمًا بما لم يكن يعلم، قد أدركه بأسهل بيان وأبلغه، ويرى فيها العالم الفيلسوف الباحث في نشأة الكون دقة العلم وإحكامه، وموافقة ما وصل إليه العقل البشري لما جاء بذلك النص الكريم مع سمو البيان وعلوّ الدليل، فتبارك الذي أنزل القرآن.

واقرأ قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 12-16] إلى آخر الآيات الكريمات.

ثم تدبَّر هذه الآيات البينات تجد أنَّ الأمي يستفيد منها علمًا غزيرًا فوق أنه يعرف منها أن الله سبحانه وتعالى سيبعث الناس يوم القيامة، فيزداد إيمانًا، كما علم ما لم يكن يعلم، ويقرؤها العالم بدقائق تكوين الإنسان والدارس للحيوان جرثومة فجنينًا، فحيوانًا على ظهر الأرض حيًّا، فيرى فيها دقة العلم والتكوين، وصدق الحكاية، حتى لقد قرأها بعض كبار الأطباء في أوربا فاعتقد أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أعظم طبيب رأته الأجيال السابقة، فلمَّا علم أنه كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب آمن بأنَّ هذا من علم الله تعالى بارئ النسم.

وهكذا يرى القارئ لكتاب الله تعالى وما فيه من أدلة أنه قريب من الأمي يفهمه ويعرفه، ويعلم منه علم ما لم يكن علم، يدرك منه ما يناسب معرفته، ويسمو إليه إدراكه، وما يدركه من صدق يقيني لا شبهة فيه.

ويرى فيه العالم الباحث حقائق صادقة ما وصل إيها البحث العلمي الحديث إلَّا بعد تجارب، ومجهودات عقلية، ولما ازداد المتأمل المتبصر في الآيات التي تتعلق بالكون ازداد استبصارًا، ورأى علمًا أسمى مما يدركه الإنسان بتجاربه، وأعلى مما يهتدي إليه الإنسان بعقله المجرد.

ص: 268

‌مسلك القرآن في سوق الأدلة:

153-

قد شرحنا من قبل الأدلة الخطابية والبرهانية والجدلية، وقد أشرنا إلى أن أسلوب القرآن فوق هذا، والآن نوضح ما أشرنا إليه من قبل، فنذكر بالعبارة الواضحة ما ذكرناه بالإشارة اللائحة.

إن أسلوب القرآن أسمى من الخطابة، وأسمى من منطق أرسطو، ومن لف لفه، تراه قد اعتمد في مسالكه على الأمر المحسوس أو الأمور البدهية التي لا يمترى فيها عاقل، وليس فيه قيد من قيود الأشكال المنطقية، من غير أن يخلّ بدقة التصوير، وقوة الاستدلال، وصدق كل ما اشتمل عليه من مقدمات ونتائج مع أحكام العقل.

وإنك لترى بعض أوصاف الأسلوب الخطابي قد أتى فيها بالمثل الكامل فيه، وهو أعلى من أن يوصف بأنه جاء على منهاج من مناهج الخطابة، وفيه تصريف القول الذي يلقي بجدة في نفس القارئ والسامع، فتصريف فنون القول من إيجاز غير مخل، وحذف كلمات أعلن الأسلوب وجودها، وغزارة في المعاني مع قلة في الألفاظ وإطناب مبين، بحيث لو حذفت كلمة لاختلَّ بنيان القول؛ إذ إن الكلام القرآني بعضه مع بعض كالبنيان النوراني المرصوص، ولكل كلمة إشعاع مشرق فيه بحيث لو لم تكن، يكون جزءًا ناقصًا من الأطياف للآيات القرآنية.

ثم من قصص حوى أقوى الأدلة في ذات القصة وما حوت، وفي الأدلة التي سيقت في بيان الأنبياء السابقين لرسالاتهم، ومجادلة المخالفين والمناوئين.

ومهما يكن من قول في استدلالات القرآن الكريم، فإن له مناهج في الاستدلال تعلو على براهين المناطقة، والأخيلة المثيرة للإقناع، والأدلة الخطابية.

154-

ونستطيع أن نذكر بعض مناحي القرآن في الاستدلال من غير إحصاء، بل نذكر بعضها، وبعضها ينبئ عن غيره.

ومن ذلك الأقيسة الإضمارية، وهي الأقيسة التي تحذف فيها إحدى المقدمات، مع وجود ما ينبئ عن المحذوف، فهو محذوف معلوم مطوى في الكلام منوي فيه. وهذا الحذف يكثر في الاستدلال الخطابي، بل يقول ابن سينا في "الشفاء":"الخطابة معلولة على الضمير والتمثيل، والضمير هو القياس الإضماري، والتمثيل هو إلحاق أمر يأمر لجامع بينهما"، ويسمَّى في عرف الفقهاء قياسًا فقهيًّا، بينما هو في عرف المناطقة تمثيل؛ لأنَّ فيه مشابهة بين أمرين.

وقد يقول قائل: إنك قررت أن القرآن أعلى في إقناعه واستدلاله من الخطابة والمنطق والشعر، ومع ذلك تقرر أنه ينهج منهاج الخطابة في الاستدلال!.

ص: 269

ونقول في الإجابة عن ذلك: إننا نعلو بمنهاج القرآن عن الخطابة، وإن كان يسلك بعض مناهج الخطابة في الاستدلال، وعلوّ القرآن في هذه الحال بأسلوبه أولًا، فهو كيفما كان من نوع الكلام المعجز، وثانيًا: القرآن يعلو عن الخطابة في أن كل مقدماته ونتائجه يقينية، ولا ينبع شيء منها إلّا من اليقين، وقد لام على مخالفيه أنهم يتبعون الظن، وإن هم إلَّا يخرصون.

ونعود من بعد ذلك إلى الاعتراض الذي يرد على الخاطر، وإن كان لا يرد في الموضوع، فنقول: إنَّ الناظر المستقرئ لأدلة القرآن يرى أكثرها قد حذفت فيه إحدى المقدمات، ولقد قال الغزالي بحق:

إن القرآن مبناه الحذف والإيجاز "أي: في شكل الأقيسة" واقرأ قوله تعالى يرد على النصارى الذين يزعمون أنَّ عيسى ابن الله؛ لأنه خلق من غير أب: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 59، 60] .

ولا شكَّ أن المثل الذي ساقه الغزالي، واضح فيه حذف إحدى المقدمات، وواضح المقايسة بين خلق آدم عليه السلام وخلق عيسى عليه السلام، وأنه إذا كان الخلق من غير أب مبررًا لاتخاذ عيسى إلهًا، فأولى أن يكون الخلق من غير أب ولا أم مبررًا لاتخاذ آدم إلهًا، ولا أحد يقول ذلك.

وإننا نجد أنه قد حذفت مقدمة وبقيت واحدة، وكأن سياق الدليل لو في غير كلام الله تعالى يكون هكذا: إن آدم خلق من غير أب ولا أم، وعيسى خلق من غير أب، فلو كان عيسى إلهًا بسبب ذلك لكان آدم أولى، لكن آدم ليس ابنًا ولا إلهًا باعترافكم، فعيسى أيضًا ليس ابنًا ولا إلهًا.

وإن الحذف قد صيَّر في الكلام طلاوة، وأكسبه رونقًا، وجعل الجملة مثلًا مأثورًا، يعطي حجة في الرد على النصارى، ويذكر الجميع بأنَّ آدم والناس جميعًا ينتهون إليه، وإنما خلق من تراب، فلا عزة إلا لله تعالى.

155-

وقد يساق الدليل في قصة، وقد ذكرنا من قبل مقام القصص القرآن في هذا المقام، ونقول: إنَّ القرآن اتخذ القصص سبيلًا للإقناع والتأثير، وضمن القصة الأدلة على بطلان ما يعتقد المشركون وغيرهم، وقد يكون موضوع القصة رسولًا يعرفونه ويجلونه؛ إذ يدعي المجادلون أنهم يحاكونه ويتبعونه، فيجيء الدليل على لسانه، فيكون ذلك أكثر اجتذابًا لأفهامهم وأقوى تأثيرًا، وقد يكون مفحمًا ملزمًا إن كانوا يجادلون غير طالبين للحق.

ص: 270

وانظر إلى قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقصته مع قومه -وقد ذكرناهما في موضوع القصص، فإنك ترى في القصتين أدلة التوحيد واضحة قوية تثبت بطلان عبادة الأوثان، ولإبراهيم من بين الرسل مكانته عند العرب؛ إذ هو شرفهم ومحتدهم الذي إليه ينتسبون، وقد كانوا يزعمون أنهم على ملته، فإذا جاءهم الخبر بتوحيده ومحاربته للأوثان، وسبق لهم ما كان يحتج به على قومه، كان ذلك مؤثرًا أيّ تأثير في قلوبهم.

ومجيء الدليل على لسان رسول يقرّ بفضله المخالفون كإبراهيم عند العرب، وموسى عند بني إسرائيل، يعطي الدليل قوة فوق قوته الذاتية، إذ تكون الحجة قد أقيمت عليهم من جهتين، من جهة قوة الدليل الذاتية، ومن جهة أن الذي قاله رسول أمين يعرفونه، فيكون هذا قوة إضافية، وفوق ذلك فيه إلزام وإفحام؛ إذ إنهم يدعون أنهم أتباعه.

وقد يجيء الدليل أحيانًا في قصص القرآن على لسان حيوان في قصة، فيكون ذلك غرابة تستعري الذهن، وتثير الانتباه وتملأ النفس إيمانًا بالحقيقة، كما جاء على لسان الهدهد في سورة النمل؛ إذ يقول الله سبحانه وتعالى حاكيًا عن سيدنا سليمان عليه السلام:{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ، أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا ُعْلِنُونَ، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 20-26] .

وترى من هذا أنَّ دليل التوحيد جاء على لسان الهدهد في أوجز عبارة، وأوضح إشارة، ألا تراه ينبه إلى بطلان عبادة الشمس من دون الله؛ لأنها لا تؤثر في الإبداع والإنسان بذاتها، وبيَّنَ أن ذلك الضلال للفطرة، إنما هو من تزيين الشيطان الفاسد الأفكار، وجعلهم يبتعدون عن حكم الفطرة الإنسانية، وهو أن يسجدوا لله تعالى الذي يخرج المخبوء من البذور والنوى، وكل أسباب الوجود، وهي مختفية عن الشمس وضوئها، فإذا كان لها تأثير ظاهري في الظاهر الذي خرج من الخبء، فما يكون تأثيرها فيما هو خبء، لا تأثير لها فيه لا ظاهرًا ولا خفيًّا.

قياس الخلف:

156-

قياس الخلف هو إثبات الأمر ببطلان نقيضه؛ وذلك لأنَّ النقيضين، لا يجتمعان، ولا يخلو المحل من أحدهما، كالمقابلة بين العدم والوجود، والمقابلة

ص: 271

بين نفي أمر معين في مكان معين وزمان معين، وإثباته في هذه الحال، فإن انتفى بالدليل كان ذلك حكمًا بوجود نقيضه.

فدليل الخلف أن يبطل النقيض فيثبت الحق، وأنَّ القرآن الكريم يتَّجه في استدلاله إلى إبطال ما عليه المشركون، فيبطل عبادة الأوثان، فيثبت التوحيد.

ومن ذلك الاستدلال على التوحيد قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22] ، هنا نجد الاستدلال القرآني اتجه إلى إثبات الوحدانية بدليل قياس الخلف، وتقرير الدليل من غير أن تتسامى إلى مقام البيان القرآني، كما يسوقه علماء الكلام، هكذا: لو كان في السماوات والأرض إله غير الله لتنازعت الإرادتان بين سلب وإيجاب، وإن هذا التنازع يؤدي إلى فسادهما لتخالف الإرادتين، ولكنهما صالحان غير فاسدين، فبطل ما يؤدي إلى الفساد، فكانت الوحدانية، فسبحان الله رب العرش عما يصفون. ويسمى علماء الكلام هذا الدليل دليل التمانع، أي: امتنعت الوثنية لامتناع الفساد، فكانت الوحدانية.

ومن القياس الذي يعتبر قياس الخلف قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91]، أي: وإنَّ ذلك باطل، فما يؤدي إليه باطل، وبذلك ثبت التوحيد.

ومن قياس الخلف قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42] ، وهذا أيضًا من قبيل فرض التمانع الذي يؤدي إلى الفساد، ولا فساد، فيبطل ما يؤدي إليه.

ومن قياس الخلف في إثبات أن القرآن من عند الله سبحانه وتعالى قوله تعالت كلماته: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وإذا ثبت أنه ليس فيه اختلاف، ولا تضارب في مقرراته ولا عباراته، فإنه يثبت النقيض، وهو أنه من عند الله تعالى.

ونرى أنه في كل هذه الآيات البينات كان إثبات المطلوب بإبطال نقيضه، وقد أشرنا إلى ذلك في كل آية مما تلونا.

ثم إنَّك ترى مع هذا القياس الذي واجه المخاطبين بإبطال ما يدعون ليثبت ما يدعوهم إليه الرسول، معنى ساميًا قويًّا، وهو مهاجمة المخالفين بإبطال ما عندهم، وأنه ليس من القول الذي يقام له دليل، وإن ذلك يوهنهم وينهنه من قوتهم، ولذلك كانوا يشكون من النبي؛ لأنه يسفه أحلامهم، ويصغّر من أصنامهم.

ص: 272

ومع هذا القياس نجد الإضمار للمقدمات، وإبراز أوضحها الذي يومئ إلى ما وراءها، فما يضمره من المقدمات هو المختفي المعلوم، والظاهر المكتوم.

السبر والتقسيم:

157-

السبر والتقسيم باب من أبواب الاستدلال الكاشف للحقيقة، الهادي إليها، وهو أيضًا من أبواب الجدل، يتخذه المجادل سبيلًا لإبطال دعوى من يجادله، بأن يذكر أقسام الموضوع الذي يجادل فيه، ويبين أنه ليس في أحد هذه الأقسام خاصة تسوغ قبول الدعوى فيه، فيبطل دعوى الخصم.

وقد ذكر السيوطي أنَّ من أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 143-144] .

ويبيِّن السيوطي وجه الاستدلال فقال: "إن الكفار لما حرموا ذكور الأنعام تارة، وإناثها أخرى، ردَّ الله تعالى عليهم ذلك بطريق السبر والتقسيم، فذكر تعالى: أن الله خلق الخلق مما ذكر زوجين، ذكر وأنثى، ثم جاء تحريم ما ذكرتم عندكم. ما علته؟ لا يخلو إمَّا أن يكون من جهة الذكورة أو الأنوثة، أو اشتمال الرحم الشامل لهما، أولا يدري له علة، وهو التعبدي، بأن يأخذ ذلك عن الله تعالى، والأخذ عن الله تعالى إمَّا بوحي وإرسال رسول أو سماع كلامه ومشاهدة تلقي ذلك عنه، وهو معنى قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} ، فهذه وجوه التحريم، ثم لا تخرج عن واحدة منها، والأول يلزم عليه أن يكون جميع الذكور حرامًا، والثاني يلزم عليه أن يكون جميع الإناث حرامًا، والثالث يلزم عليه تحريم الصنفن معًا، فبطل ما فعلوه من تحريم بعض في حالة، وبعض في حالة؛ لأنَّ العلة على ما ذكر تقتضي إطلاق التحريم والأخذ عن الله بلا واسطة "وحي" باطل، ولم يدعوه، وبواسطة رسول كذلك؛ لأنه لم يأت إليهم رسول قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا بطل جميع ذلك ثبت المدعي وهو أن ما قالوه افتراء على الله تعالى وضلال"1.

1 الإتقان في علوم القرآن.

ص: 273

خلاصة الاستدلال على بطلان ما ادعوا من تحريم السائبة والوصيلة، وبعض الماعز والبقر، أنَّ الله تعالى العلي الحكيم ينبههم إلى أنَّ التحريم يكون لوصف ذاتي في هذه المحرمات، أو لتحريم بوحي أو رسول، ثم أخذ يبيِّن سبحانه أنَّه لا يوجد وصف ذاته في هذه الأشياء التي يحرمونها، فذكر سبحانه أنَّ السبب في التحريم إما أن يكون في الذكورة وحدها، أو الأنوثة وحدها، أو فيهما معًا، ولا جائز أن تكون في الأنوثة وحدها؛ لأنكم حرمتم ذكورًا؛ ولأنَّ مقتضى العموم أن تحرم كل أنثى، وكذلك الأمر في الذكورة؛ لأن ذلك يوجب تحريم كل الذكور، وكذلك إذا وصف التحريم ذاتيًّا اختصصتم بالتحريم بعضها دون كلها.

وإذا لم يكن ثمَّة وصف ذاتي اقتضى التحريم، فهل كان نص من رسول، أو وحي، أو من أين جاءكم العلم، لا شيء من هذا، وهذا الجزء الأخير كقوله تعالى في آخر سورة الأنعام:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ تَخْرُصُونَ} [[الأنعام: 148] .

التمثيل:

158-

التمثيل: أن يقيس المستدلُّ الأمر الذي يدَّعيه على أمر معروف عند من يخاطبه، أو على أمر بدهي لا تنكره العقول، وتقرّ به الأفهام، ويبين الجهة الجامعة بينهما، وأنَّ القرآن الكريم قد سلك هذا المسلك على أدقِّ وجه وأحكمه مقربًا ما بين الحقائق القرآنية، والبدائة العقلية، وكثير من استدلالت البعث فيها تقريب وتمثيل البعث وقدرة الله تعالى عليه بما يرون من إنشاء ذلك الكون البديع، وما خلق به الإنسان وبيان أطواره من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات.

اقرأ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 5-7] .

ونرى من هذا عقد المشابهة بين ابتداء الخلق وإعادته التي لخَّصها الله سبحانه وتعالى في قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} ، وفي هذه الآيات الكريمات بَيِّنَ -سبحانه وتعالى

ص: 274

كيف ابتدأ خلق الإنسان من طين، ثم جاءته الأطوار المختلفة حتى آل إلى القبر ثم كيف خلق الأحياء في الأرض من نبات وحيوان واهتزن وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج، وأنَّ كل ذلك دليل على قدرة المنشئ علَّام الغيوب، بديع السماوات والأرض، وأنه على ما يشاء قدير.

وإنَّ هذا النسق البياني قرب فيه البعيد، وسهل على الأفهام دخوله، والله على كل شيء قدير.

واقرأ في هذا النوع من الاستدلال قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 78-81] .

وتجد في الآيات الكريمات عقد المشابهة بين ابتداء الخلق وإعادته في أبلغ تعبير وأسلم تقرير، وإنَّ في هذه الأمثلة وغيرها مما اشتمل عليه القرآن الكريم قياس ما في الغيب على المشاهد، وقياس ما بينه الله تعالى، وأوجب الإيمان به على ما هو واقع مرئي مشاهد، فيه الدلالة الكاملة على قدرة الله تعالى، وأنَّه المالك لما هو واقع والقادر على ما لم يقع الآن، وسيقع كما وعد، ووعده لا يتخلف.

159-

هذا، ويلاحظ القارئ للقرآن التالي لآياته، المتبصر في عبره وعظاته، والدارس لأدلته، أنَّ جدل القرآن لا يتجه إلى مجرد الإفحام والإلزام، بل يتجه في الكثير الغالب إلى إرشاد القارئين والمدركين، والأخذ بأيديهم إلى الحق، وتوجيه النظر إلى الحقائق، وما في الكون من دلائل على القدرة، كما ترى في قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 6-11] .

فترى في هذه الآيات أنَّ البيان فيها ليس مجرد إفحام الوثنيين ومنكري التوحيد، بل فيه توجيه إلى الكون، وما فيه من دلائل القدرة، وعجائب الصنع وما فيه من سماء زينت ببروجها ونجومها، والأرض وما فيها من رواسي: كأنها تمسكها أن تميد، وما فيها من نبات يحصد في إبانه، وجنات تونع وتثمر في وقتها.

ص: 275

واقرأ قوله تعالى في سورة الرحمن: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآَنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ، وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ، وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ، فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ، وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . إلى آخر السورة الكريمة. وفي هذا ترى الاستدلال القوي متجهًا إلى الإرشاد إلى ما في الكون، وما أنعم الله به على الإنسان من علم بما لم يكن يعلم، وما علمه من الشمس والقمر، وما علمه من معاملات كريمة، وتعاون إنساني مبني على الفضيلة، وعلمه كيف خلق الإنسان، وهكذا من استدلال حكيم، وإرشاد وتوجيه وتعلم.

وإنَّه إذا اتجه القرآن الكريم إلى الإلزوام والإفحام لا يلبث أن يأخذ بيد المعاند إلى الحقيقه يبينها واضحة جلية لا ريب فيها، كما ترى في قوله تعالى رادًّا على المشركين طلبهم أن يكون الرسول ملكًا:

{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8، 9] .

فإنك ترى أنَّ في ذلك إفحامًا لهم من ناحيتين: الناحية الأولى: أنَّهم لو أجيبوا إلى ما يطلبون لقضي عليهم ما هدَّدهم الله تعالى به، ولا ينظرون، والثانية: أنه لا يزول اللبس الذي يلبسون به الحق بالباطل؛ لأنه لو جعله الله تعالى ملكًا لجلعه في صورة رجل، وبذلك يجيء الالتباس الذي لبس به عليهم.

ومن الاستدلال المفحم الهادي قوله تعالى في الردِّ على اليهود ووصفهم: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 183] .

وكما ترى في قوله تعالى ردًّا على الذين ينكرون الرسالات الإلهية، فقد قال تعالت كلماته:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} [الأنعام: 91] ويظهر أن الذين قالوا هذا القول من اليهود، قالوه لينكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي هذه الآيات التي تلوناها ترى الإلزام المفحم، والحجة البالغة، والفيصل الفارق بين الحق والباطل، قد أدحضت به حجة الخصوم وأرشدوا إلى المحجة،

ص: 276

ووضعت الصور والأعلام، ليسيروا على الجادة بعد أن بددت الظلمات، وأذهب ضوء الحق ظلام ما موّه به الخصوم، فمن أبى واستكبر بعد ذلك فهو من الأخسرين، بعد أن أزيلت من أمامه غياهب الباطل.

160-

وعند توجيه الله تعالى نظر المجادل إلى الحقائق من غير اتجاه إلى إلزام من أول الأمر، أو بعد إلزامه وإفهامه يكون تصريف البيان، ومناحي التأثير، وتكون العبارات التي تخاطب العقل والوجدان، وتمسّ مواطن الإحساس، وتتنوع المناهج وتتضافر المعاني، وللألفاظ جدتها وطلاوتها، ومع التكرار أحيانًا تزداد الفائدة، وتكثر الثمرات، وتنوع الأساليب من استفهام إلى تعجب إلى تهديد إلى أخبار، ويختلف الاتجاه إلى مواضع الاستدلال وينابيعه.

أ- فمرَّة يكون الاستدلال بردِّ المسائل إلى أمور بدهية معروفة، كما أشرنا، أو حقائق مشهورة مألوفة يخرّ المجادل أمامها صاغرًا كما ترى من إبطال قول من زعم أن لله سبحانه وتعالى ولدًا؛ إذ يقول سبحانه وتعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 101-103] .

ألا ترى أن الاستدلال القرآني اتَّجَه إلى بطلان مدعاهم إلى أمر معروف مشهور مألوف لا يماري فيه أحد، وهو أنَّه لو كان له ولد لكان له صاحبة، ولم يدع أحد أن لله تعالى صاحبة، فبطل أن يكون له ولد، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.

ب- وأحيانًا يوجّه نظر الناس إلى المخلوقات، وإلى ما في الكون مما يدل على قدرة الصانع، وعلم المبدع، انظر إلى قوله تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 163، 164] .

وهكذا، وارجع إلى ما قدمنا من مصادر الاستدلال في القرآن الكريم.

ويلاحظ أنَّ القرآن الكريم في الجدال الذي يلزم الخصوم، ويفحمهم، يجيء إلى الإفحام من أقرب الطرق، وأقواها إلزامًا، ومن ذلك ما حكاه الله تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام في مجادلة مدَّعي الألوهية، فقد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي

ص: 277

يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] .

وإن وسائل أخذ الخصم بأقرب طريق للإفحام والإلزام كثيرة.

أ- منها التحدِّي، كما تحدَّى الله تعالى كفَّار قريش بأن يأتوا بعشر سور من مثله مفتريات، وكما تحدَّى إبراهيم الملك الوثني.

ب- ومنها أخذ الخصم بموجب كلامه، وإثبات أنه عليه وليس له، ومن ذلك قوله تعالى في شأن المنافقين؛ إذ يقول سبحانه وتعالى عنهم:{لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] فسلم لهم أنَّ الأعز يخرج الأذل، ولكن من هو الأعز؟ لله العزوة ولرسوله وللمؤمنين.

ج- ومنها مجاراة الخصم فيما يقول، ثم التعقيق عليه بما يقلب عليه نتائج قوله، ومن ذلك قوله تعالى حاكيًا عن الرسل مع أقوامهم:{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إبراهيم: 10، 11] .

فترى من هذا النص السامي أن الرسل سلَّموا بالمقدمة التي بنى عليها الأقوام رفضهم، ولكنَّهم نقضوا النتيجة بقولهم:{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} فكأنهم قالوا لهم: ما قلتموه من أننا بشر حق، ولكن ما تريدون أن تبنوا عليه من إثبات أننا لسنا أنبياء باطل؛ لأنَّ الله يمنُّ على من يشاء من عباده، وهو قد مَنَّ علينا، وقدمنا لكم السلطان، أي: الدليل، ولا سلطان لنا إلا ما يأذن الله تعالى.

161-

هذه قبسة من نور الذكر الحكيم الذي أضاء الله تعالى به الخليقة لتهتدي الأجيال بهديه، وتسير على ضوئه، وتعشو إليه إذا أظلمت وعمتها الجهالات وتاه الناس في مثارات الشيطان.

وما أردنا بذلك البيان إحصاء لطرق الاستدلال في القرآن، ولا استقصاء لمسالكه في جدله، فدون ذلك تنفق القوى، وينبت الظهر، ويقصر الشأو، ولكن أردنا أن يرى الدارس للقرآن الكريم أمثالًا عن طرق جدل القرآن واستدلالاته، وكيف كانت أعلى من المنطق في دقّته، وإن لم تتقيد بأساليب المناطقة، ولا بأشكال أدلتهم، ففي أدلة القرآن التقديم والتأخير، والإيجاز والإطناب تبعًا لروعة البيان ونسقه وجماله، وليس تبعًا

ص: 278

لأشكال البرهان، وكانت مع ذلك أعلى من الخطابة، وإن كان بيانه المثل الأعلى الذي لا يستطيع أن يجاريه الخطباء.

لو أنَّ المتكلمين الذين عنوا بإثبات العقائد والجدل فيها سلكوا مسلك القرآن، وساروا في سمته لكان عملهم أكثر فائدة، وأدنى جني، وأينع ثمارًا، ولكنهم سلكوا مسلك المنطق وقيوده، والبرهان وأشكاله، فكان علمهم للخاصة من غير أن يفيد العامة، فإنَّ العامة يدركون دقائق القرآن على قدر عقولهم، ولا يدركون شيئًا من أشكال الأقيسة.

وقد وازن الغزالي في كتابه "إلجام العوام عن علم الكلام" بين أدلة القرآن وطريقة المتكلمين، فقال رضي الله عنه: أدلة القرآن مثل الغذاء، ينتفع به كل إنسان، وأدلة المتكلمين مثل الدواء ينتفع به آحاد الناس، ويستضرّ به الأكثرون، بل إنَّ أدلة القرآن كالماء الذي ينتفع به الصبي الرضيع والرجل القوي، وسائر الأدلة كالأطعمة التي ينتفع بها الأقوياء مرة، ويمرضون بها أخرى، ولا ينتفه بها الصبيان أصلًا.

وفي الحقِّ أن الناس لو شغلوا بدراسة القرآن، وما فيه من استدلال لينهجوا على نهجه، ويسيروا في طريقه، لكان لهم من ذلك علم كثير، فإن القرآن قد اشتمل على مناهد في الاستدلال والجدل والتأثير تتكشَّف عن أدقِّ نواميس النفس الإنسانية. وتبيِّن شيئًا كثيرًا من أحوال الجماعات النفسية والفكرية، وفيها الطب لأدوائها، والعلاج الناجع لأمراضها، والدواء الشافي لعللها وأسقامها.

وفي مناهجه البيانية المثل الأعلى للكلام النافذ إلى القلوب والحجج الدامغة. ويعتبر ذلك بأثره في المشركين وأثره في المسلمين الأولين.

وقد ذكرنا فيما مضَى من قولنا أنَّ كل من كان يسمعه من المشركين يناله منه قبس يهتدي به إن آمن، وإن استمرَّ على جحوده أطفأ الله النور في قلبه، وطمس الله على بصيرته، وكان على ريب في الأمر، وتردَّد، فكان كل من داناه منهم من نوره قلبه، ونال أثره وجدانه، حتى لقد تناهى زعماؤهم عن سماعه، لمَّا رأوه من أثره في قلب كل من سمعه.

وقد كان من أثر القرآن في المؤمنين الأولين أنَّ عكفوا عليه يرتلونه، ويتفهمونه، ويتعرَّفون معانيه ومراميه، وجعلوه معلمهم الأول، ومرجعهم إذا اختلفوا، ومنهل عقائدهم، ويأخذون منه ما يقوي إيمانهم، ويدفع الشبهات عنهم ويثبت يقينهم، ولم يعرفوا حجة مع السنة سواه، ولا محجة غير طريقه وهديه، بل يجادلون، وعن هديه يصدرون، فاستقام أمرهم، وحكموا بعدله العالمين.

ص: 279

‌علم الكتاب:

162-

قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] فقد جعل الله سبحانه وتعالى من عنده علم الكتاب وهو القرآن الكريم الذي نزل على رسوله الأمين شهادته بجوار شهادة الله سبحانه وتعالى، وأيّ شرف أعظم من شرف علم الكتاب بعد هذا، وأيّ مقام أعلى من مقام علم الكتاب الكريم، إنه إذًا مقام عظيم، وهو مشتق من ذات العليم، ولا بُدَّ لهذا أن يكون علم الكتاب خطيرًا عظيمًا، وأن يكون كبيرًا عزيزًا، وأن يكون واسعًا بمقدار ما تتسِّع له طاقة البشر من علوم، وأن العلماء الذين تقترن شهادتهم بشهادة الله تعالى والملائكة هم العلماء بالكتاب المذكورون، الفاهمون لمراميه ومغازيه، العاملون به، فقد قال الله تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] فأولوا العلم الذين تقترن شهادتهم بشهادة الله والملائكة هم أولوا العلم بالكتاب، وأولوا العلم بالكتاب هم العلماء الذين ذكر الله سبحانه وتعالى أنه لا يخشى الله غيرهم؛ إذ قال سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] .

هذه مكانة العلم القرآني كما صرَّحت العبارات السامية عن الله سبحانه وتعالى، فما هذا العلم الذي يعلو بصاحبه لى هذا المقام الأسمى، والمنزلة العليا؟

نجيب عنه بجوابين: أحدهما فيه إجمال، والثاني فيه بعض التفصيل.

أما أولهما: فنقول: إنه علم النبوة، أي: علم الرسائل الإلهية، فإنَّ القرآن الكريم اشتمل فيما اشتمل عليه لبّ الرسالة الإلهية وهو التوحيد، وقد قال تعالى في ذلك:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13] ، وإنَّ القرآن ذكر كل الرسالات التي سبقته، وما لم يذكره بالبيان ذكره بالإشارة الواضحة، فقال تعالى:{مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] ، وما لم يذكر قصصه مطوي في ذكر من قصّ، فالرسالة الإلهية واحدة، والحق واحد، والدعوة إليه واحدة.

ولقد صرَّح النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ من يحفظ القرآن يحفظ النبوة بين جنبيه، فقال عليه الصلاة والسلام فيما يروي عنه الحسن البصري:"من أخذ ثلث القرآن وعمل به فقد أخذ ثلث النبوة، ومن أخذ نصف القرآن وعمل به فقد أخذ نصف النبوة، ومن أخذ القرآن كله فقد أخذ النبوة كلها"، ويروى عن عبد الله بن عمر أنه قال:"من حفظ القرآن فقد حفظ النبوة بين جنبيه"، فالقرآن فيه قبسة علم من الله تعالى.

ص: 280

ولقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله، والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة من تمسك به، ونجاة من اتبعه، ولا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن رد، فاتلوه، فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات".

وإن هذه الآثار الواردة تدل دلالة قاطعة على أنَّ القرآن حوى علم النبوة كله، وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من علم النبوة إلَّا أحصاها، وأنَّ الله سبحانه وتعالى ما فرَّط في الكتاب من شيء من علم النبوة، كما قال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] مما يتعلق بالشرائع والأحكام وبيان ما يطلب من المكلف، وما به صلاحه في الدنيا، وثوابه في الآخرة؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، لا يأتيه من بين يديه، ولا من خلفه.

163-

هذا الجواب مبنيّ على ما قرَّره الذين قرأوا القرآن من السلف الصالح، وما نقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بيان إجمالي لعلم القرآن الكريم، مبني على أنه تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم لرسالة ربه، وأنه التبليغ الخالد إلى يوم القيامة، الذي تخاطب به الأجيال بالرسالة العامة التي تعمّ الإنسانية كلها، ولا تخص عصرًا من عصورها.

ولكن لا بُدَّ من أن نعرض بالذكر ببعض التفصيل لما اشتمل عليه علم القرآن، وهذا هو الجاب الثاني الذي لا يغني فيه الإجمال الكلي عن بعض التفصيل الجزئي.

وإن الذي قرره السلف وأجمعوا عليه أنَّ القرآن الكريم فيه علم النبوة كله، وأن من علمه فقد حوى النبوة بين جنبيه.

وأوّل علوم النبوة علم الغيب، ففي القرآن علم الغيب وبيان الغيب، والغيب هو لب الإيمان، وفيه علم الحاضر الذي يدل على الغيب المستكين، فيه بيان الوحدانية، وبراهينها المستمدة من الكون، واستقامة حاله، والتي يستدل عليها بالآثار القائمة، وبما خلق الله سبحانه وتعالى.

وإن العلم بمنشئ الكون هو الفطرة الإنسانية التي لا تضل إلا بما يسيطر على العقل من أهواء، وبما يقف دون الإدراك السليم من أوهام، وبما يحيط بالعقل من غيم يمنعه من الفهم السليم، فالقرآن يزيل غياهب الضلال، ويأخذ بالشارد إلى حيث الأمن العقلي.

وإن الفلاسفة يحاولون أن يدركوا المغيب عنهم من حقيقة المنشئ، ومنهم من ضل في سبيل ذلك ضلالًا بعيدًا، ومنهم من قارب، ومنهم من باعد، ولا تجد في

ص: 281

كلام أولئك الفلاسفة ما يهدي للتي هي أقوم، وما كان عجز الفلاسفة عن أن يدركوا الشيء الأول إلَّا في سيطرة أوهام سبقت، عكّرت على الفطرة وضللت العقل، ولنظريات ضالات قد سيطرت عليهم، وهي نظرية الأسباب والمسببات، وتوهموا أنها تنطبق على منشئ الوجود، كما هي ثابتة في العلة بين الموجودات، يتوالد بعضها من بعض، ويكون لكل شيء سبب، وهو سبب لغيره، وهكذا تتتابع الأسباب والمسببات، كل سبب يتبع سببًا، وهو نتيجة لسبب، وتوهَّموا لهذا أن الأشياء نشأت عن منشئ الوجود نشوء المعلول عن علته، والمسبّب عن سببه، وتسلسلوا في الأسباب والمسببّات حتى ضلوا ضلالًا بعيدًا، وجاءت الأديان السماوية موجهة الأنظار إلى الله تعالى خالق السماوات والأرض على غير مثال سبق. وهو المبدع، وهو الفاعل المختار، وهو القادر على كل شيء ولا يخرج عن واسع علمه شيء. ولا عن محيط قدرته خارج، يفعل ما يشاء يختار.

وقرر القرآن تلك الحقيقة التي هي هدف العقول، وأخرجها من تيه الضلال إلى الحق القديم.

وسيقت الأدلة على ذلك من الكون وتنوعه، وأنَّ المقرّر عقلًا أن السبب يكون من جنس المسبب، وزيكون كهيئته لا يختلف عنها، وأنَّ الاختلاف إنما يكون لأمر آخر لا بمجرّد السببية، فيبيّن القرآن الكريم تنوع الأشياء وتنوع الأحوال، اقرأ قوله تعالى:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا، وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الفرقان: 45-50] .

{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 53، 54] .

وإنك ترى من هذه الآيات الكريمة بيان تنوع المخلوقات، ولا شكَّ أن هذا التنوع يتنافى مع كون الأشياء نشأت من المنشئ كما ينشأ المعلول من العلة؛ لأن المعلول يجب أن يكون مماثلًا للعلة غير مختلف عنها، وهنا نجد اختلاف الموجودات من إنسان يتفكر ويتدبر، وحيوان ينعق، وطائر يطير، ومن شمس وقمر يسيران بحسبان.

ص: 282

فكان التنوع الذي ذكره القرآن إبطالًا لما يقرره اللفلاسفة من نظرية العلة والمعلول، والسبب والمسبب.

ضاق بهم مسلكهم، فلم يتصوروا غير ذلك، ولو نظروا إلى الكون وما يجري فيه من أحوال، لأدركوا بفطرتهم المستقيمة أنَّ المنشئ واحد أحد ليس بوالد ولا ولد، ولآمنوا بقوله تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101] واقرأ قوله تعالى في التعريف بالذات الإلهية:

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ منَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 95-104] .

انظر إلى تعريف الذات العلية، وما تنشئه في هذا الوجود، وإنَّ هذا يدل على الفاعل المختار دلالة قاطعة بتنوعه، واختلاف مظاهره، ونوع حياته، ألا تراه يسقى بماء واحد، وغذاؤه واحد، ومع ذلك تتنوع أنواعه، وتختلف أجزاؤه مما يدل على أنه نشأ بغير العلية، بل بإرادة مختارة حكيمة تفعل ما تريد، والله يخلق ما يشاء ويختار.

وإن القارئ للقرآن الحكيم يرى فيه قدرة الذات العلية، وإرادتها الخلق، والعقل لا يقبل غير ما جاء فيه، وما يسكله الفلاسفة من أوهام بالنسبة للسببية، يؤدي إلى التسلسل إلى ما لا نهاية، فإذا كان الموجود نشأ من موجود، فمم نشأ الموجود السابق، والسابق على السابق، ويتأدَّى إلى ما يستحيل العقل تصوره، وإذا كان هناك موجود تنتهي عنده السلسلة، فلماذا يفرض أنه الإله، ويفرض أنه وجد ما بعده من إرادته، لا بالعلية؟ واقرأ الآيات القرآنية في إثبات الوحدانية في الذات والصفات، وفي

ص: 283

الخلق والإيجاد، وما ينجم عنهما من وحده المعبود بحق، فإنك واجد علمًا كثيرًا، يساير العقل ولا يعانده؛ لأنه الفطرة المستقيمة التي لم تفسدها نظرية السببية في المنشئ التي أخذوها من السببية في الأمور العادية، وفرق بين واجب الوجود الذي أنشأ الكون ودبره، وهو القيوم القائم عليه الذي قدَّر كل شيء تقديرًا، وبين توالد الأحداث، وهو لا تكونه بغير تقديره وتدبيره سبحانه وتعالى، إنه فعال لما يريد.

164-

وفي القرآن علم الرسالة الإلهية، والمعجزات التي اقترنت بها، فهو يبين أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، وخصَّ العالم الإنساني بالرسل يرسلهم إليه، ليسير الناس في الصلاح بدل أن يسيروا في الفساد، وليكونوا في مودَّة وسلام بدل أن يكونوا في حرب وخصام، وليصلوا ما أمر الله أن يوصل؛ لأن الله تعالى الذي خلق الإنسان جعله إمَّا شاكرًا وإما كفورًا، فهيَّأ للشاكر أسباب شكره، وجعل الكفور مسئولًا عن فعله بعد إنذغار المنذر وتبشير المبشر، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وكما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] فما كانت هذه الرسالات الإلهية إلّا لتهدي الناس إلى خير الطرق، ومن يكفر فإنما يكون عن بينة لئلَّا يكون للناس على الله حجة.

والقرآن الكريم يبيِّن أنَّ الرسل يكونون من البشر، ومن أقوامهم ليكونوا أكثر إلفًا، وعندهم علم بهم، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] وقومه هم دعامته الأولى، فهم الذين يكونون القوة الأولى لدعوته، ويكون منهم الحواريون الذين يناصرونه ويرعونه حق رعايته.

وعندما طلب المشركون أن يكون الرسول ملكًا، ردَّ الله سبحانه وتعالى عليهم قوله تعالى:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8، 9] .

وأنَّ الله تعالى صرَّح بأنَّ الرسالة للرسل لكي يقوم الناس بالحق والميزان، فقط قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] .

وفي هذا النص الكريم يبيِّن الله سبحانه وتعالى أنَّ الرسل جاءوا بالكتاب من عنده سبحانه؛ ليقوم الناس بالقسط، ومن لم يقنعه الدليل، ولم يهتد بهداية الرحمن، وبمقتضى الفطرة المستقيمة، والإدراك السليم، فإنَّ الحديد فيه بأس شديد يقمعه من الشر، ويبعد عن الناس فساده وإفساده.

ص: 284

والآيات تفيد أيضًا أن الله سبحانه وتعالى يبعث الرسل، ومعهم المعجزات الباهرات الخارقات للعادات التي تثبت أنَّهم جاءوا من عند الله تعالى، وأنهم لم يفتروا على الله الكذب، بل هم جاءوا برسالة ربهم، ويتحدَّون الناس أن يأتوا بمثلها، وهي خارقة لقانون الأسباب والمسببات، وهي فوق إثباتها لقدرة الله تعالى الفعال لما يريد تثبت رسالة الرسول التي جرت على يديه.

165-

والقرآن الكريم فيه علم المعجزات بجوار العلم برسالة الله تعالى لخلقه، ففيه معجزة نوح عليه السلام، وهي السفينة التي نجا فيها المؤمنون، وأغرق الله تعالى الكافرين، واقرأ قوله تعالى:{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ، وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ، وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ، قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ، وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 36-44] .

هذه بينة من بينات الله تعالى تدل على اصطفائه لنوح أبي الإنسانية الثاني، وتدل أيضًا على أنَّ الله تعالى فاعل مختار، لا يتقيّد بالأسباب والمسببات التي نعرفها، بل هو القادر المريد المختار:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] .

وجاء هود عليه السلام إلى عاد فقاوموا دعوته، وناوءوا رسالته، وقالوا مفترين عليه كما حكى القرآن الكريم عنهم:{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [هود: 53، 54] .

وقد كانت الآية عقابًا دمَّر الله عليهم بريح صرصر عاتية، وقال الله تعالى في هذه: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌفَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ

ص: 285

فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 24، 25] .

وقال الله تعالى في سورة الحاقة: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] .

وقد أرسل الله تعالى صالحًا إلى ثمود، وقال الله تعالى فيهم:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ، قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ، قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ، وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ، فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ، فَلَمّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} [هود: 61-68] .

ونجد من هذه النصوص الكريمة أنَّ معجزة صالح التي تحدَّى بها وكانت بها البينة على رسالته هي ناقة كان لها شرب، ولكل منهم شرب معلوم، وكان التحدي ليس بأن يأتوا بمثلها، ولكن كان التحدي بالهلاك إن مسّوها، فعقروها، فأنذرهم الرسول المتكلم عن ربه بأنَّ العذاب نازل بهم بعد ثلاثة أيام، وقد صدق الوعيد عليها.

166-

ولننتقل إلى المعجزة التي أجراها الله تعالى على يدي سيدنا لوط عليه السلام، لقد بعثه الله تعالى إلى قوم هبطوا في مفاسدهم إلى ما لم يهبط إليه الحيوان، فأفسدوا الفطرة، وجاءهم لوط بالطهر ليحملهم على العودة إلى الفطرة المستقيمة التي فطر الله الناس عليها، ولمَّا لم تجد معهم دعوة الإصلاح، بل استمروا في غيِّهم يعمهون، أمر الله تعالى نبيه أن يسري بأهله بقطع من الليل، واستثنى امرأته من أهله، فقد كانت على شركهم، وأنَّ موعد العذاب النازل بهم الصبح، أليس الصبح بقريب، فلمَّا جاء أمر الله تعالى جعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود.

وكان يعاصر لوط إبراهيم أبو الأنبياء عليهم السلام، ولذلك جاءت الملائكة التي ذهبت إلى لوط، وجعلت أرضهم عاليها سافلها، جاءوا لإبراهيم عليه السلام، وظهر معهم أمر خارق للعادة، وهو أن تحمل امرأته وهي عجوز، ولنتل الآيات الكريمات التي أثبتت هذه الحقائق.

ص: 286

{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ، قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ، يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 69-76] .

ونرى أن خارقًا للعادة كان في أول لقاء بين إبراهيم خليل الله وبين ملائكته، وهو أن تحمل امرأة عجوز قد انقطع حيضها، من زوج عجوز.

وأنَّ الله أجرى على يد خليله إبراهيم معجزات كثيرة، منها مسألة الطير؛ إذ يقول الله تعالى في ذلك:

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] .

ومن أبرز ما أجرى الله على يديه من خوارق للعادات أنَّه ألقي في النار ليحرق فأطفأها العزيز الحكيم، واقرأ قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ، قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ، قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ، قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ، قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ، فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ، قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ

ص: 287

ُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 51-70] .

وإنك لترى أنَّ خوارق العادات التي تنقض التزام الأسباب والمسببات التي تلزم البشر، ولكن قدرة الله وإرادته فوق ما عليه، وما يجري من أسباب ومسببات بينهم.

وكذلك الأمر بالنسبة لشعيب الذي دعا إلى مكارم الأخلاق، وحسن المعاملات الإنسانية؛ إذ يقول كما حكى القرآن الكريم عنه:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ، قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ، قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ، وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ، قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ، قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ، وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ، وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 84-95] .

ونرى من هذا أنَّ الأمر الخارق للعادة كان صيحة عليهم.

وأنّ الملاحظ أن الخوارق للعادة التي جاءت على يد الأنبياء الذين عاشوا في البلاد العربية كانت حسية مناسبة للعرب، وكانت من الناحية التي تناسب الصحراء، والبادية، فمعجزة هود كانت أحجارًا من سجيل منضود، وقد ظنّوه عارضًا ممطرًا، ومعجزة صالح كانت ناقة غريبة بين أهل النوق في البادية، ومعجزة لوط كانت جعل الأرض عاليها سافلها، ومعجزة شعيب كانت صيحة جعلتهم في ديارهم جاثمين.

ص: 288

‌معجزات سيدنا موسى:

167-

قصصنا بعض القصص عن سيدنا موسى عليه السلام، وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، وكنّا نذكر ذلك بصدد بيان أنَّه لا تكرار في قصة موسى لمن تدبر وتفكَّر في المغازي والمقاصد، لا في ظواهر الألفاظ، والآن نذكر فقط الخوارق للعادات التي جرت على يد موسى عليه السلام، وهي تسع آيات كما جاء في القرآن الكريم. فقد قال تعالى:{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101] .

ولنذكر إن شاء الله تعالى تلك الآيات التي لم تجد مع فرعون وقومه الضالين.

أولهما: العصا التي قال الله تعالى فيها: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء: 45]، وقد نزل موسى يباهل بها السحرة من قوم فرعون:{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ، قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ، وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ، وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف: 115-120] .

الثانية: أنه يخرج يده من جيبه، فإذا هي بيضاء من غير سوء، كما قال تعالى:{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النمل: 12] وكما قال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10] .

الثالثة: إنَّ الله تعالى أخذ آل فرعون بالجدب ونقص الأموال والأنفس والثمرات، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130] .

الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة: ما ذكره الله تعالى بقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف: 133] .

الآية التاسعة: أنَّهم عندما نزل بهم الرجز الشديد طلبوا من موسى أن يدعو ربه ليكشف عنهم الرجز، كما قال تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ

ص: 289

بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف: 134، 135] .

وإذ لم تجد هذه المعجزات مع أنها قارنت حياتهم، ومسّت معيشتهم، حتى لم يكن لطالب حقٍّ أن يرتاب، ولا لطالب الهداية أن يمتري، عندئذ كانت الضربة القاصمة لفرعون وملئه، ولذلك قال تعالى:{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ، وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 136، 137] .

هذه إشارات إلى معجزات سيدنا موسى، وكل خارق للأسباب والمسببات مما يدل بذاته أولًا: على أنَّ الله تعالى فعَّال لما يريد، خلق الأشياء بإرادته وقدرته، ولم تنشأ عنه كما ينشأ المعلول عن علته، وتدل على رسالة موسى عليه السلام وبعثه إلى بني إسرائيل، وفرعون وقومه.

ص: 290

‌الخوارق التي جاءت على يد سليمان:

168-

كان سليمان حاكمًا ونبيًّا، ولم يكن حاكمًا طاغوتيًّا، بل كان حاكمًا ربانيًّا، أعطاه الله تعالى علم الحاكم العادل ذي السلطان غير المسيطر، وأعطاه علمًا آخر، أعطاه العلم بلغة الحيوان، وسخر له الطير، وسخر له الجن، وأوتي علم لغة النمل والطير، ولنتل ما جاء في سورة النمل من خوارق كانت مع سليمان، قال الله تعالى، وهو أصدق القائلين: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ، وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ، أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ

ص: 290

الْعَظِيمِ، قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ، قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ، قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ، قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ، فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ، قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ، قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ، قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ، فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ، وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ، قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 16-44] .

تلونا هذا الجزء من هذه السورة الكريمة، وكلها أمور ليست مما يجري في عادات الناس، ولنشر إليها إشارات نوجّه فيها الأنظار إلى ما اشتملت عليه الآيات الكريمات من بيان فوق طاقة البشر.

أولها: الأمر الذي لا يعرف لغير سليمان، وهو أنه عُلِّم منطق الطير والحيوان، وهذا يدل على أنَّ غير الإنسان أمم أمثال الإنسان، لها منطق ولغة، وإن كنَّا لا نعرفها، وعرف نبي الله سليمان بعضها، كما قال تعالى في كتابه الكريم:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] فإذا كان سليمان قد عُلِّمَ منطق بعض الحيوان، فهو مصداق لقول الله تعالى الخالق الفعال لما يريد.

وثانيها: تسخير الطير له، فهذا الهدهد كان له من الإدراك الرباني ما جعله يعرف الهدى من الضلال.

ص: 291

وثالثها: الإتيان بعرشها بين غمضة عين وانتباهتها، أو كما عبَّر القرآن الكريم {آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} ، وهذا من تسخير الله تعالى لسليمان، ومن العلم الذي أعطاه الله بعض عباده المخلصين، ونقول: إنَّ الآية صريحة في أنَّ الذي أتى هو عرشها حقيقة لا صورته، كما يقول المتشددون في المادية، ومع ذلك إذا كانت هي الصورة فإنَّ الخارق ثابت، وهو أنَّه أتى به قبل أن يرتد إليه طرفه.

وفي قصة نبي الله سلميان عليه السلام خوارق أخرى غير ما جاء في سورة النمل، فقد جاء في سورة سبأ ما نصه:{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ، فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 12-14] .

العبرة في خوارق العادات لسليمان:

169-

أطنبنا بعض الإطناب في النقل من القرآن الكريم عن خوارق العادات في عهد نبي الله سليمان عليه السلام؛ وذلك لأنَّ هذا العصر كانت فيه الفلسفة الأيونية مسيطرة في آسيا الصغرى، وتولدت عنها فلسفة اليونان، وكانت الفلسفة الأيونية قائمة على الأخذ بالأسباب والمسببات، وتولّد المعلول من العلة في انتظام قائم لا يتخلف، فجاء سليمان عليه السلام، وقام سلطانه كله على خرق للأسباب والمسببات، والقيام على إثبات أنَّ الكون كله بإرادة مريد مختار، ولا يفعل إلا ما يريد، ولا يصدر عنه شيء بغير إرادته الخالدة الثابتة، فقام سليمان بذلك، وأجرى الله تعالى تلك الخوارق على يديه، فأجرى الريح التي غدوّها شهر ورواحها شهر على يديه، وعلِّم منطق الطير، وسمع حديث النمل، وجاءه عرش بلقيس بين يديه قبل أن يرتدَّ إليه طرفه، وسخَّر الله تعالى له الجنّ، وكان كل شيء في حكمه بخوارق العادات، أو بخرق نظام الأسباب والمسببات العادية التي بنيت عليها نظرية أنَّ المخلوقات نشأت عن الموجد الأول نشوء العلة عن معلولها، فكانت حياة نبي الله تعالى سليمان في ملكه تجري على هدم هذا النظر، وسخر الله له الريح تجري بأمره حيث أصاب، وكذلك كانت الخوارق للأسباب هي المسيطرة في معجزات من جاء بعده من الرسل.

ص: 292

‌معجزات عيسى عليه السلام:

170-

في هذا العصر الأيوني كان مبعث عيسى عليه السلام، ووجوده، ولم يكن علم الطب رائجًا عند بني إسرائيل كما توهم عبارات بعض الكتاب في العقائد من المسلمين، بل كان بنو إسرائيل أجهل الناس بالطبِّ كما يقرّر علماء تاريخ الفلسفة، ومنهم رينان الفيلسوف المسيحي.

إنما كانت معجزات عيسى لإبطال النظرية الأيونية التي تعتقد أنَّ المخلوقات نشأت عن الموجد نشوء العلة عن معلوله.

وكانت ولادة عيسى إبطالًا صارخًا لهذه النظرية، فإنَّ المعتاد في الحياة الحيوانية ومنها الحياة الإنسانية أن الولد يولد من أبوين، أب ملقح ببذرة الوجود، وأم تتلقى في رحمها تلك البذرة، أو الجرثومة كما يعبّر العلماء، أو المني الذي يُمْنََى كما عبَّر القرآن.

فجاء عيسى من غير أب، وكان ذلك خرقًا للأسباب الطبيعية الجارية، وكان غريبًا على مريم البتول.

واقرأ قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا، قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا، فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا، فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا، فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا، ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم: 16-36] .

هذه كلها خوارق تنبئ عن أن الله خلق الكون بإرادة سرمدية، وولادة عيسى نفسها أول خارق للعادة، ولذا قال الشهرستاني: إنَّ وجود عيسى ذاته معجزة. وأكدت

ص: 293

معجزة الإيجاد من غير أب بمعجزات أخرى، أو بخوارق عادات أخرى، أولها: الرطب الجني من النخل بهزه، ومناداته لها وهو في المهد، وحديثه في المهد حديث الحكماء، فكل هذه خوارق للأسباب والمسببات تدل على أنّ الإيجاد والتصوير والتربية كلها بإرادة الله العليم الحكيم خالق كل شيء، ومنها الأسباب والمسببات. تعالى الله علوًا كبيرًا.

ومعجزاته عليه السلام من هذا القبيل الذي هو تحدٍّ حسيّ للأسباب والمسببات، فقد قال تعالى بعد أن بعثه رسولًا لله رحمه للعالمين:{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، إِنَّ اللَّهَ رَبّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 48-51] .

هذه دعوة عيسى عليه السلام، وفيها البينات الدالة على رسالته، بما هو خرق حسيّ واضح يرى بالعين، وليس خفيًّا يدرك بالمعنى، هو يبرئ الأكمه الذي ولد أعمى، والأبرص الذي عجز الطب إلى الآن عن إبرائه، وهو فوق ذلك يحيى الموتى بإذن الله بالفعل لا بمجرَّد الإمكان كما ادَّعى بعض المفسرين، وهو روحاني ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.

وهل يسير كل هذا على قانون الأسباب والمسببات، لكي نقول ما يقوله الفلاسفة يجب أن نلغي حكم العقول، وبدهيات المدارك.

وقد ذكر سبحانه وتعالى معجزات أخرى في آخر سورة المائدة، فقد قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ، إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا

ص: 294

اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ، قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ، قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 109-115] .

وهكذا نرى أن هذه الآيات الكريمات ذكرت بعض المعجزات السابقة، وأضافت إليها معجزتين أخريين.

إحداهما: أنه ينادي الموتى من القبول فتخرج، وذلك في قوله تعالى:{وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى} .

والثانية: أنَّ الله تعالى أنزل عليهم مائدة من السماء.

164-

ونرى من هذا أنَّ الخوارق للعادات كثرت على يد عيسى عليه السلام، وكان وجوده ذاته خارقًا للعادة؛ إذ ولد من غير أب كما بيَّنَّا، وكلها تدل على أن كل شيء في الوجود هو بإرادة مختار، فعال لما يريد.

وما كان ذلك إلَّا إبطالًا لنظرية وجود الأشياء بالفلسفة التي سادت في العصر الأيوني، ثم انتقلت إلى اليونان، وأخذت تتسع حتى كانت الأفلاطونية الحديثة التي التقت مع النصرانية المحرّفة غير المسيحية الأولى في نظرية العلية، فجعلت العقل الأول هو الأب، والعقل الثاني هو الابن. ثم كانت بعد ذلك الروح القدس المنبثقة من الاثنين أو أحدهما.

ووجود المسيح وحياته، وما أجراه الله تعالى من خوارق للعادات، كانت تحيط بكل تصرفاته وأعماله، كل ذلك كان حججًا قاطعة مثبتة أنَّ العالم كله مخلوق بإرادة حكيم قادر قهار سميع بصير مريد مختار.

172-

وإن قصة أهل الكهف التي أشرنا إليها في بعض ما قلناه، وقد حدثت بعد المسيحية على ما يبدو من وقائعها، كانت فيها إرادة الله ظاهرة في بيان سر هذا الوجود، وأنَّ الفاعل له مريد مختار لا يتقيد في إيجاده لخلقه بأن يكون وجود الأشياء مربوطًا بالعلة والمعلول، بل هو مربوط بإرادة حكيم بفعل ما يشاء ويختار، ولنتلها عليكم، ولا مانع من تكرار تلاوتها، إن كنا قد تلوناها هي من قبل.

{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا، إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا، فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا، ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا، نَحْنُ نَقُصُّ

ص: 295

عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا، هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا، وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا، وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا، وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا، إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا، وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا، سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا، وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا، قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 9-26] .

وإنَّ المفسرين والمؤرِّخين للديانات يقررون أنهم مسيحيون مؤمنون بالمسيحية الحق التي جاء بها عيسى عليه السلام، وأنهم فروا بدينهم من الرومان الذين أرهقوا المسيحيين الصادقين من أمرهم عسرًا، حتى أنّ نيرون اللعين، كان يطليهم بالقار، ويشعل فيهم النيران، ويسيرهم في موكبه، وهو فخور مختار بتلك المشاعل البشرية.

وإذا كان القرآن الكريم ذكر أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا، فإنه يكون ظهورهم في وقت الأفلاطونية التي نسخت النصرانية، والتي دخل فيها قسطنطين بعد أن ابتدأ بالسير بها في طريق التثليث الأفلاطوني، الذي بني على أساس أنَّ الكون ظهر من الأول ظهور المعلول عن علته.

ص: 296

فكانت واقعة أهل الكهف، وظهورهم بعد ثلاثمائة سنة وتسع، وهي وقت الانحراف المسيحي في الاعتقاد دليلًا قويًا على بطلانه، وعلى بطلان الأساس الذي قام عليه، وهو مذهب الأفلاطونية الحديثة، الذي يقوم على أنَّ الموجودات علة لمعلول، وليست من خالق مريد قادر.

173-

أطنبنا بعض الإطناب في ذكر الخوارق التي هي بعض ما جاء في القرآن الكريم، وذلك لأمرين: أولهما: أنَّ التوحيد الذي هو لبّ العقيدة الإسلامية، بل هو اللب في كل الأديان السماوية، يقوم على أوصاف ثلاثة:

الأول هو: وحدة الخالق في إنشاء الكون، ووحدانيته في ذاته، فهو منزه عن المماثلة للحوادث، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ووحدة المعبود، وهو الله سبحانه وتعالى.

الثاني: أنَّ الله تعالى مريد مختار فعَّال لما يريد، وأنَّه أنشأ كل ما في الوجود بإرادته وقدرته، ولم ينشأ عنه نشوء المعلول عن علته.

الثالث: ثبوت الرسالة الإلهية للمصطفين من خلقه، ولا تثبت الرسالة إلَّا بأمره.

الأمر الثاني: الذي من أجله أفضنا في ذكر بعض الخوارق، ولم نضنّ على القرطاس فيه، أنَّ بعض الذين يجعلون أمور الدين خاضعة للتجارب ويحسبون أنهم يخدمون القرآن، يدَّعون أنَّ رسالة محمد قامت على العقل ولم تقم على الخوارق، وأن القرآن الذي هو حجة محمد الكبرى خاطب العقول ولم يخاطب بالخوارق، وجرت عباراتهم بما يفيد أنَّ الإسلام لا يعرف الخوارق، إلى درجة أنَّ بعض علماء اللاهوت المسيحي سألنا: هل القرآن يعارض الخوارق والمعجزات، فأجبنا سؤالهم بأنَّ القرآن سجّل معجزات الأنبياء، وها نحن أولاء نبيِّن بعض ما في هذا السجل الخالد.

ص: 297

‌البعث واليوم الآخر:

174-

إنَّ العالم يتنازع فيه الخير والشر، ربما يتغلّب على الخير، وفي الناس الأخيار والأشرار، وقد يغلب أهل الشر على أهل الخير، وعدل الله يوجب أن تكون العاقبة للأخيار، وأن تكون للذين أحسنوا الحسنى وزيادة، والله سبحانه جعل الخير والشر لحكمة أرادها؛ ليبتلي الإنسان إمَّا شاكرًا وإما كفروًا، ولم يخلق الإنسان عبثًا، ولم يجعله سدًى، بل إنه مسئول عن فعله إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.

وإن ذلك يقتضي ألَّا تكون هذه الحياة الدينا وحدها، بل لا بُدَّ من حياة أخرى تكون للأخيار الذين لم ينتصر خيرهم في هذه الحياة، ولا تكون للأشرار الذين غلبوا الأخيار ظلمًا واعتدوا وفتنوا الناس في أمورهم.

ولذلك كانت الحياة الآخرة وبيانها من مقاصد الأديان السماوية، فلا يوجد دين سماوي إلَّا كان الإيمان بالبعث والحساب، والثواب والعقاب من أركان الإيمان فيه.

ولذلك جعل القرآن الكريم الإيمان بالغيب أول أجزاء الإيمان، فقد قال الله تعالى في أوصاف المؤمنين:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 3-5] .

وترى أنَّ أول وصف للمؤمنين هو الإيمان بالغيب، فلا تستولي عليهم مادة الحياة، ولا يسيطر عليهم سلطانهم، فإن فرق ما بين الإيمان والزندقة الإيمان بالغيب، فمن حسب أنَّه لا وجود إلَّا للمادة المشاهدة المحسَّة فهو ليس بمؤمن، وليس عنده استعداد للإيمان إلَّا من رحم ربك.

وقد ختم الله سبحانه وتعالى أوصاف المؤمنين بقوله تعالى: {وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} ، فأوجب الإيمان بالآخرة وأكَّده بتقديم الجار والمجرور، أي: إنَّ الآخرة وحدها هي الجديرة بالإيمان، وأنَّه لا إيمان إلَّا باليقين الذي لا مجال للريب فيه، وأن رقي الإنسان في أن تكون حياته غير مقصورة على الدنيا؛ لأنَّ التكليف شرف وهو مقتضى تحمل التبعات، ولا سبيل لتحمل التبعات إلَّا أن يكون ثمَّة يوم يجري فيه الحساب والثواب والعقاب.

ولذلك وصف الله سبحانه وتعالى الذين لا يؤمنون بلقاء الله تعالى بأنهم الخاسرون: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 31، 32] .

نعم خسر الذين لا يؤمنون بالآخرة، خسروا إنسانيتهم، فقد حسبوها عبثًا ليس لها غاية، وخسروا العزاء إذا شقوا فيها، فإن الإيمان بالآخرة عزاء روحي لمن يؤمن بها فيتحمَّل شقاء الدينا لينال نعيم الآخرة، وإنهم لم يترقبوا اللقاء فلم يستعدوا بالعمل الصالح.

وقد قرَّر الله سبحانه وتعالى أن الإنسان يكون مخلوقًا سدًى كالهمل إن لم يكن هناك يوم آخر، حيث قال:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36-40] .

ص: 298

175-

ولذلك عني القرآن الكريم بإثبات حقيقة البعث، وبيان الحال في الحياة الآخرة، وكان خطاب القرآن لقوم لا يؤمنون بالبعث، ولا يدركون إلَّا الحياة الدنيا، ويقولون: إن هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين.

وإنَّ عقيدة البعث لبّ الإيمان، وغاية من غايات الرسائل الإلهية، ولذلك تجد القرآن يحتفي ببيان حقيقة البعث، وتنبيه العقول إليه، وما من موضع في القرآن الكريم إلّا ذكر فيه البعث وقيام الدليل عليه، بقياس قدرة الله تعالى على الإعادة على قدرته على الابتداء، وأنَّ البعث تكون الحياة الدنيا من غيره عبثًا لا جدوى فيها، كما قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] .

ولنقبس قبسة من الآيات الكريمات التي تدعو إلى الإيمان بالبعث، وتبيّن أن المشركين في ضلال، اقرأ قوله تعالى:{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد: 5] .

إنهم يعجبون من أنهم بعد أن يصيروا ترابًا يخلقون خلقًا جديدًا، بل إنهم يعجبون من أن تدخل أجسامهم بعد البلى في أجسام أخرى ثم تبعث، فيبيِّن سبحانه وتعالى قدرته على ذلك، فيقول تبارك تعالى:{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا، يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 50-52] .

ولقد يقولون مستغربين: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 78-83] .

وترى من هذا أن الذين ينكرون البعث ينكرون مع ذلك الله تعالى، بل ينكرون أصل الرسالة الإلهية إلى خلقه، اقرأ قوله تعالى في سورة ق:{ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ، قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ، بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 1-5] . ويقول سبحانه: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] .

وهكذا نرى المتتبع لآيات القرآن يجد مجادلة في أمر البعث، فإنكار البعث مقترن بالكفر، ومقترن بإنكار الرسل، والقرآن يرد على المنكرين إنكارهم بمنطق العقل والحق، فإن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما، وهو الذي يملك الرزق في السماء والأرض، وهو الذي أنشأ الحياة والأحياء، وبقياس الغائب على الشاهد يثبت بلا ريب أنَّ القادر على الإنشاء قادر على الإعادة، وأنَّ من أفن الإدراك وفساد التفكير أن يحسبوا أن ثمَّة عائقًا يعوق المنشئ الأول عن الإعادة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

ص: 299

‌يوم القيامة:

176-

هو اليوم الذي يضرب فيه الكون، والشمس تكوّر، والنجوم تنكدر، والجبال تسير، والعشار تتعطّل، ولقد وصفه الله سبحانه وتعالى:{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ، وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ، وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ، وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 1-14] .

وإن يوم القيامة يقترن بالخروج من القبور والبعث، كما قال تعالى:{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ، يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ، كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَامًا كَاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 1-12] .

وإن الله سبحانه وتعالى يسمِّي يوم القيامة الساعة؛ لأنها ساعة الهول الأكبر، وقد قال تعالى في وصفها:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1-3] .

وكما سمَّاها الله تعالى الساعة سمَّاها أيضًا الحاقة، والقارعة، فقال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً

ص: 300

وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ، وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 13-17] .

وقال تعالى في وصفها بالقارعة: {الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ، يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 1-5] .

وعلم الساعة خفيّ عن الناس وعن الأنبياء والمرسلين، فهي من علم الغيب الذي استأثر به علم الله تعالى، حتى يسير الناس في أعمالهم وبإرادتهم ويتحمَّلون تبعة الأعمال، وقد قال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 187، 188] .

ولقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 33، 34] .

ص: 301

‌الميزان والحساب:

177-

إذا كان يوم القيامة هو اليوم الذي يبعثر فيه ما في القبور، وقد حدَّثنا القرآن الكريم في علمه عن ذلك بتفصيل واضحٍ تطمئن إليه العقول والقلوب، فإنه بعد قيام القيامة يكون الحاسب على ما قدم المرء من أعمال الخير، ويحاسب الأشرار على ما قدموا من شر، ولذلك نجد النصوص القرآنية تقرِّر الحساب والميزان، وأنَّ الناس منتهون من بعد الحساب إمَّا إلى الجنة وإمَّا إلى السعير، اقرأ من سورة الواقعة قوله تعالى:

{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ، خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ، إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا، وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا، فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا، وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً، فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ

ص: 301

وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ، عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة: 1-16] .

وإنه يجيء كل إنسان ومعه كتابه، فيه حسناته وفيه سيئاته، قال تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا، مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 12-15] .

ويقول سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا، يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا، وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 70-72] .

ويقول سبحانه وتعالى بعد وصف يوم القيامة في سورة الحاقة: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ، يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ، مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 18-29] .

ويقول سبحانه في سورة القارعة بعد ذكر يوم القيامة وهوله: {فَأََّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ، فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ، نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 6-11] .

ص: 302

‌الجنة والنار:

178-

فصَّل القرآن الكريم أحوال أهل الجنة وما فيها من نعيم مقيم، وأحوال أهل النار وما فيها من عذاب أليم، ويبيِّن ما يجزي الله تعالى به عباده المتقين، وما يعاقب به الذين استحوذ عليهم الشيطان.

ولنضرب لذلك أمثلة مما ذكره من أحوال الجنة ونعيمها، فقد قال تعالى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] .

ويقول سبحانه وتعالى في وصف أهل الجنة: وهم فيها: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ، عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ، وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ، وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا، إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا، وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ، وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ، وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ، إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا، عُرُبًا أَتْرَابًا، لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ} [الواقعة: 10-40] .

وقال تعالى في وصف الجنة ووصف النار: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً، تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ، لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ، لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً، فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ، فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ، أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 1- 26] .

ويقول سبحانه في وصف الجنة: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، ذَوَاتَا أَفْنَانٍ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا

ص: 303

تُكَذِّبَانِ، كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، مُدْهَامَّتَانِ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 46-78] .

179-

وقد ذكر القرآن أوصاف النار التي هي جزاء الكافرين، الذين استبكروا عن أن يؤمنوا بربهم، واتبعوا إغواء إبليس الرجيم، ولنذكر بعض أمثلة من أوصاف الجحيم، يقول الله تعالى:{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا، لِلطَّاغِينَ مَآَبًا، لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا، لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا، إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا، جَزَاءً وِفَاقًا، إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا، وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا، وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا، فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ 21-30] .

ويقول سبحانه وتعالى في جهنم أيضًا: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، كَلَاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ، ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 1-17] .

ويقول سبحانه في بعض ما يذوقه الكفار الضالون: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ، إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ، وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ، قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ

ص: 304

وَالْآَخِرِينَ، لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ، لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ، فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ، فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ، فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ، هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ، نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} [الواقعة: 41-57] .

ويقول سبحانه وتعالى في جزاء اتباع إبليس وذكر ذلك في أصل عصيان إبليس عندما طلب سبحانه وتعالى منه السجود فلم يسجد، يقول سبحانه وتعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ، قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ، قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ، لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: 28-44] .

وهكذا نرى وصف الجحيم مبثوثًا في القرآن؛ لأنَّه جزاء وفاق على الشر؛ ولأن جزاء الإحسان على الإحسان، كما قال تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} .

180-

وإن القرآن الكريم قد جمع بين ضفتيه بيان العقيدة الإسلامية التي لا يسع مسلمًا أن ينكرها، ومن أنكرها يقال له: تب، كما قال الإمام الشافعي -رضي الله تعالى عنه.

وإن العقيدة كلها قائمة على الإيمان بوحدانية الله تعالى، وعدله سبحانه، وأنه الفعَّال المختار، وأنَّه المجازي بالإحسان إحسانًا، ويعاقب من يخرج عن الجادة، ويكون من المفسدين.

وبالبناء على عقيدة الوحدانية، وأن الله تعالى فاعل مختار، وأنه العادل، كان بعث الرسل، وكانت المعجزات الخارقات لما يعرفه الناس من الأسباب والمسببات، وكان العدل الإلهي موجبًا أن يكون ثمة بعث وحساب وعقاب وثواب، وكل امرئ بما كسب رهين.

ص: 305

‌البعث والجنة والنار أمور حسية

البعث والجنة النار أمور حسية:

181-

يحلو لبعض المتفلسفين من الكُتَّاب في الماضي أن يقولوا أنَّ البعث والجنة والنار والحساب والعقاب والثواب أمور روحية معنوية، وليست أمورًا حسية، وذلك قد جاء من نقض إيمانهم بالغيب، وباطل ما يقولون وما يعتقدون، فإذا كان البعث معنويًّا للأرواح، فلماذا يعجب المشركون من أنهم بعد أن يكونوا ترابًا يعودون، فإن عودة الأرواح لا تقتضي أن يكون ذلك الاستنكار؛ إذ إن الأجساد التي صارت لا تعود، ولكان الرد عليهم سهلًا، بأن يقال لهم: إن أجسامكم لا تعود، بل أرواحكم هي التي تعود.

وإذا كان البعث ماديًّا بصريح القرآن الكريم، فإنَّ الجزاء يكون الإحياء بأرواحهم وأجسادهم، والنتيجة المنطقية لهذا أن يكون نعيم أولئك الذين بعثوا من قبورهم، نعيمًا لأجسادهم وأرواحهم، ونعيم الأجساد ماديّ لا محالة، ولذلك يجب الإيمان بأن نعيم الجنة وعذاب النار ماديان، وليسا معنويين فقط؛ لأن البعث حق، ويجب التنبه إلى أنَّ حقائق اليوم الآخر سواء أكانت معنوية أم كانت مادية لا تتسع لها لغتنا، وأيّ لغة من اللغات؛ لأنها أعلى من مستوى حياتنا، ونحن نعبِّر عمَّا هو من معايشنا، وفيما هو في طاقتنا.

ولكن تعبير القرآن عن الآخرة وما فيها هو اللغة العربية، وإن كانت أعلى مما يستطيعه البشر.

ولذلك كانت تعابير العربية لتقريبها من مألوفنا، ولكي نتسامَى إلى معرفة ما ينتظر المتقين من نعيم مقيم، وما ينتظر العصاة من عذاب مهين.

ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت"، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ عبارات القرآن فيما يتعلَّق بالجنة والنار مجازية في ألفاظها.

ولكن مع إيماننا بهذه الحقائق يجب أن نقرِّر أن ما ذكر من رمان وعسل مصفى وخمر لذة للشاربين، هي مما يجوز إطلاق هذه الأسماء عليه، ولكنه نوع آخر، ليس من جنس الأنواع في حياتنا هذه، وإن كان لها اسمها، ولذا وصفت خمر الآخرة بأنهم لا يصدَّعون عنها ولا ينزفون، ولكن فيها لذة للشاربين.

هذا كلمات نقولها في ختام بحثنا عن يوم القيامة، وما يجري من بعده من حساب وعقاب وثواب.

والقرآن الكريم روضة يانعة مستمرة، فيها الحقائق عن الغيب كله بمقدار ما تذكره عقولنا ويقرب إلى أفهامنا، والحقائق كاملة في غيب الله، اللهمَّ اكتبنا من الشاهدين.

ص: 306

‌علم الحلال والحرام:

182-

علم الحلال والحرام في الإسلام مصدره القرآن، وهو الشريعة العملية، والأحكام التكليفية، وما من أمر شرع بالسنة إلَّا كان مرجعه إلى القرآن، فهو كليّ هذه الشريعة، حتى لقد قال العلماء: إنه لا يوجد حكم شرعي إلَّا كان له أصل في القرآن، والسنة النبوية الكريمة بينته أو شرحته، ولقد طار بعض الملحدين بهذه الحقيقة، وزعموا أنه يمكن الاستغناء بالقرآن عن السنة، وذلك من هو الافتيات على الحقائق؛ لأن السنة مبينة القرآن كما قال تعالى:{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، وكما قال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] .

فإهمال السنة والاقتصار على الكتاب ضلال مبين أو تضليل أثيم، إنما هما يتعاونان في بيان أحكام الشريعة، والسنة تفصيل لما أجمل الكتاب، وتوضيح لما عساه لا تدركه الأفهام.

أمر الله تعالى بالصلاة ولم يذكر أركانها ولا شكلها، وترك للنبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- بيانها، فبينها بالعمل، وقال:"صلوا كما رأيتموني أصلي"، وتضافرت بذلك الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصار العلم بالأركان والكيف من أصول الدين، والعلم بها ضروري، من أنكره فقد أنكر شيئًا علم من الدين بالضرورة، فهو كافر، وكذلك الأمر في الزكاة، ذكرت مجملة وبيَّنَها النبي صلى الله عليه وسلم، وطبَّقها وجمعها، حتى أنَّ من ينكرها يخرج عن الإسلام.

183-

وقد ذكر القرطبي أنَّ من أوجه إعجاز القرآن علم الحلال والحرام فيه، وقد وافقناه على ذلك تمام الموافقة؛ وذلك لأنَّ ما اشتمل عليه القرآن من أحكام تتعلق بتنظيم المجتمع وإقامة العلاقات بين آحاده على دعائم من المودة والرحمة والعدالة، لم يسبق به في شريعة من الشرائع الأرضية، وإذا وزنا ما جاء في القرآن بما جاءت به قوانين اليونان والرومان، وما قام به الإصلاحيون للقوانين والنظم بما جاء في القرآن، وجدنا أنَّ الموازنة فيها خروج عن التقدير المنطقي للأمور، مع أن قانون الرومان أنشأته الدولة الرومانية في تجارب ثلاثمائة سنة وألف من وقت إنشاء مدينة روما، إلى ما بعد خمسمائة من الميلاد، ومع أنه قانون تعهده علماء قيل أنهم ممتازون، منهم "سولون" الذين وضع قانون أثينا، ومنهم "ليكورغ" الذي وضع نظام أسبرطة.

فجاء محمد -صلى الله تعالى عليه وسلم- ومعه القرآن الذي ينطق بالحق عن الله سبحانه وتعالى، من غير درس درسه، وكان من بلد أميّ ليس فيه معهد، ولا جامعة، ولا مكان للتدارس، وأتى بنظام للعلاقات الاجتماعية والتنظيم الإنساني، لم يسبقه سابق، ولم يلحق به لاحق.

وقد كتبنا في هذا بما فيه بيان الناس1. والآن نكتفي بالإشارة إلى موضوعات الأحكام من غير إطناب تتميمًا لأجزاء الموضوع، والتفصيل في موضعه بما كتبنا.

1 كتبنا في ذلك رسالتين إحداهما بعنوان: شريعة القرآن دليل على أنه من عند الله، ورسالة الملكية بالخلافة في الشريعة والقانون الروماني، وقد طبعهما مجلس الشئون الإسلامية وترجمهما.

ص: 307

‌العدالة:

184-

كل النظم الإسلامية قامت على العدالة؛ إذ كانت الشعارات تدعو إلى التسامح ولو مع الظالم، ويقول قائلها: استغفروا لأعدائكم، فالإسلام يقول: اعدلوا مع كل إنسان ولو كان عدوًّا مبينًا. ومكان التسامح في الأمور الشخصية لا في الأمور التي تتعلق بتنظيم العلاقات الإنسانية، ولذا يقول الله سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] .

ولقد قال العلماء: إنَّ هذه الآية أجمع آية لمعاني الإسلام، ويروى في ذلك أنَّه عندما شاعت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض العربية، وتناقلتها الركبان، أرسل حكيم العرب أكثم بن صيفي ولده ليسألوا محمدًا صلى الله عليه وسلم عمَّا يدعو، فتلا عليهم هذه الآية، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] ، فرجعوا إلى أبيهم، وذكروا له ما سمعوا، فقال الحكيم العربي:"إنَّ هذا إن لم يكن دينًا فهو في أخلاق الناس أمر حسن، كونوا يا بني في هذا الأمر أولًا، ولا تكونوا آخرًا".

والعدل ليس موالاة الأولياء وظلم الأعداء، إنما العدالة للجميع على سواء، والله تعالى يقول مخاطبًا أهل الإيمان:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، فالعدل مع الأعداء المبغوضين كحاله مع الأولياء المحبوبين أقرب للتقوى.

ويقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] .

وإن هذه الآية تدل على أمور ثلاثة: أولها: أن العدالة في ذاتها مطلوبة؛ لأنها أقرب القربات إلى الله تعالى، والعدالة في كل شيء وفي كل عمل، ولذلك قال

ص: 308

-سبحانه وتعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} في كل أعمالكم، سواء أكنتم حكَّامًا أم كنتم محكومين، وأن تكونوا شهداء لله لا لأنفسكم، ولا لأوليائكم، والأقربين منكم.

الأمر الثاني الذي تدل عليه الآية: أنَّ الإعراض عن الحكم ظلم، أو تمكين للظالمين، فالسكوت عن رد الباطل ظلم، والمؤمن يجب عليه أن يقوم بالحق، وأن ينصر الحق، وأن يؤيد الحق حيثما كان.

الأمر الثالث: الذي تدل عليه دلالة صريحة أنَّه لا طبقية في الإسلام بالغنى والفقر، فلا يكرم الغني لغناه، ولا يذل الفقير لفقره، بل الجميع أمام العدالة سواء، قال تعالى:{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71] .

185-

ولا تفرقة بين العناصر في تحقيق العدالة، فالله سبحانه وتعالى خلق الخلق على ألوان مختلفة، ولكنهم جميعًا خلق الله تعالى، وإن اختلاف الألوان والألسنة من آيات الله تعالى الكبرى، فهو يقول سبحانه في كتابه العزيز الخالد بلفظه وحقائقه ومعانيه:{وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22] .

والجميع عباد الله تعالى، فلا يصح أن يظلم زنجيّ للونه، ولا يحابى أبيض لشقرته، ولقد صرَّح بذلك القرآن الكريم، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] .

وإن هذا النص الكريم ينبئ عن ثلاثة معانٍ سامية توجب المساواة بين الأجناس. لأنَّ الأصل واحد، وهو الأم والأب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلَّا بالتقوى".

المعنى الثاني: الذي دلَّت عليه الآية الكريمة: أنَّ الاختلاف في الشعوب والقبائل والأجناس يوجب التعارف، ولا يسوغ التخالف، والتعارف يقتضي تعاون أبناء الأرض على استغلال كل ينابيع الثروة في الأرض، بحيث يفيض أهل كل إقليم على الآخر بفاضل ما عنده، من غير بخس ولا شطط، ومن غير من ولا أذى، ويقتضي المساواة في أصل الحقوق الإنسانية الثابتة من اتحاد الأصل، ويقتضي العدالة، ولا يرهق جنس آخر بظلم، أو أذى أو مضايقة أو استعباد.

والمعنى الثالث الذي يدل عليه النص الكريم: أنَّ الفضل لا يكون بالجنس والعشيرة، بل يكون التفاضل بالعمل الصالح، الذي يتقي به صاحبه وجه الله تعالى، والذي لا يريد به إلّا النفع العام، ودفع الفساد في الأرض، فالإكرام ليس باللون، ولا بالسامة أو الآرية، إنما الإكرام بالعمل لخدمة الإنسانية، وإن النصوص القرآنية كلها تدعو إلى التراحم بين الناس، فالله تعالى يقول:{اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] .

ونص القرآن على الوحدة الإنسانية، فقال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213] .

ص: 309

‌العدالة الدولية:

186-

والعدالة كما تكون بين الآحاد تكون بين الجماعات والدول، فقد قامت العلاقة بين المسلمين وغيرهم على أساس العدالة، فلا يظلمون شيئًا، ولا يمنعون من خير، والناس جميعًا نسبتهم إلى الله واحدة، لقد كانت الدول حتى التي بلغت شوطًا من الحضارة في عهد نزول القرآن كالفرس والرومان واليونان لا تعترف بأي حق لغير المستوطنين معهم، فغيرهم يعدون برابرة، وليسوا منهم في شيء، حتى إن الإسرائيليين الذين يعيشون في حكم الرومان لا يعتبرون رومانيين، ولا يمنحنون هذه الرعوية وتلك الجنسية، باعتبار أنَّ الجنسية الرومانية شرف لا يحوزه إلَّا الرومان، وكذلك كان الفرس.

وإنَّ من يعيش في بلد آخر يسترقّونه، حتى إنَّ أفلاطون جرى عليه الرق، وعمر ابن الخطاب رضي الله عنه قبل الإسلام قد ذهب إلى أرض الروم فاسترقَّه قسيس روماني، وأظهر عمر الاستسلام، حتى أطمأنّ إليه القسيس وخرج معه إلى الصحراء في أرض الشام، فلوى عمر رقبته -وكان قويًّا في بدنه، كما صار من بعد قويًّا في دينه- وقتله، وهرب بحريته.

جاء القرآن الكريم فحارب التعصب القبلي، والتعصب الجنسي، والتعصب الإقليمي، وجعل الناس كما رأيت أمة واحدة، لا فرق بين عربي وغير عربي، كما أشرنا.

وقامت بذلك العلاقة الدولية على أسس العدل، قال تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، وقال جل وعلا:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194] .

وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] .

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن العصبية الجاهلية، وبالأول كان النهي عن العصبية الإقليمية، ولقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أمن العصبية أن يحب الرجل قومه، قال:"لا، وإن من العصبية أن يعين قومه على الظلم".

وسيكون لذلك شيء من البيان عندما نتكلم عن العلاقات الدولية التي نظمها القرآن.

ومهما يكن من إيجاز في هذا المقام فإنه يجب أن نشير إلى أنَّ شرائع القرآن قسمان: عبادات ومعاملات مالية واجتماعية، أساس العلاقات المالية والاجتماعية العدالة.

ص: 310

‌الأحكام الفقهية في القرآن:

1-

العبادات:

187-

قد ذكر القرآن الأوامر التكليفية في العبادات بالإجمال، ولم يتعرض لها بالتفصيل كما أشرنا من قبل، فالصلاة تعرَّض النصُّ القرآني لها بالأوامر بالتكليف بها، والغاية منها، وهو إصلاح النفوس، وتزكية القلوب، وتربية الوجدان، كما قال تعالى:{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]، وكما قال تعالى في وجوبها ووجوب الوضوء والاغتسال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] .

وجاء الأمر المؤكَّد بالصلاة في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] .

وكذلك كان الأمر بالزكاة مجملًا، ولم يبيِّن القرآن شيئًا من أحكامها ونصابها ومقاديرها، ولم تذكر إلَّا مصارفها في قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] .

والحج من العبادات التي لم تبيَّن أحكامها كلها تفصيلًا، بل ذكر القرآن بعضها، وإن لم يكن قليلًا، وبَيِّنَ -صلى الله تعالى عليه وسلم- سائرها.

ص: 311

وقد قال -صلى الله تعالى عليه وسلم: $"خذوا عنِّي مناسككم" لقد بيِّن القرآن أركان الحج وأشهره ومواقفه، والنبي عليه الصلاة والسلام فصَّل واجباته، وكن بيانه أكثره عملي.

ومن العبادات الصوم، وقد طالب القرآن به إجمالًا، وذكر وقته، والأعذار التي تبيح الفطر في الجملة، وأشار سبحانه إلى حكمة اختيار شهر رمضان لفرضية الصوم، كما قال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] .

وهنا يرد على الخاطر سؤال: لماذا بيَّنَت العبادات بالقرآن إجمالًا مع تأكيد طلبها، والتفصيل فيها -إن استثنيت الحج- كان قليلًا، ولا يمكن أن تقال العبادة على وجهها مع ذلك الإجمال.

والجواب عن ذلك: إنَّ العبادات هي لب الدين، وهو قوام اليقين، وهي ذكر الله الذي به تطمئن القلوب، وهي التي تربِّي الضمير وتنيره وتقيمه، وهي التي تربي الضمير الجماعي، والوجدان الإنساني، وروح التعاون بين الناس بعضهم مع بعض.

والعبادات هي قوام الجماعات؛ لأنَّ تكوين الجماعات لا يكون إلَّا بأمر معنوي يؤلف بينهم، ويزيل النفرة، وذلك بأن يكون المؤمن ربانيًّا يتجه إلى رب الخلق، ويسير على ميزان الحق.

ولهذه المعاني في العبادات، وعموم تطبيقها على كل المؤمنين، كان لا بُدَّ من تربية عملية عليها، وقدرة حسنة في تنفيذها، وأسوة من الرسول في القيام بها، وأن تتوارث تلك الأسوة الأجيال، وتكون مع القرآن اتصال الرسالة المحمدية، ولذلك تثبت أحكام العبادات التفصيلية بسنة النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- المتواترة التي عرفها المسلمون جمعًا عن جمع باقية إلى يوم القيامة.

ولا شيء من العبادات يثبت بالقياس، بل يثبت بإيجاب القرآن، وعمل الرسول عليه الصلاة والسلام.

2-

الكفارات:

188-

الكفارات، وهي تأخذ جانبيين: جانب العقوبة المادية على ذنب ارتكب، أو خطأ ترتَّب عليه أذى غيره، وكان يجب الاحتراس من ذلك، والجانب الثاني فيها

ص: 312

معنى التقرب إلى الله تعالى بالتوبة مقرونة بذلك الجزاء، ولقربها من العبادات ذكرناها بجوارها، وفوق ذلك هي ردء لتقصير في العبادات نفسها، فهي في هذه جزء منها.

وعلى ذلك نقسمها من هذه الجهة إلى قسمين: أحدهما تعويض عن التقصير في بعض العبادت، أو استعمال الرخص، أو العجز الكامل عن أداء الفرض، ومن هذا القبيل رخصة الإفطار للمريض بمرض مزمن، والشيخ الفاني والشيخة إذا عجزا عن الصيام أو كانا لا يصومان إلَّا بمشقة فوق الطاقة، وقد ثبتت هذه الفدية بالقرآن الكريم، قال تعالى فيه:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] أي الذين يبلغون في صومهم أقصى الطاقة التي لا يمكن المداومة على تحملها، ولذا قال ابن عباس: إنها نزلت في الشيخ والشيخة إذا شق عليهما الصوم. ومن الفدية التي تعد كفارة لبعض التقصيرات في العبادات الهَدْي في حال عدم القيام ببعض الواجبات التي لا تُعَدُّ ركنًا من أركان الحج، وقد ثبت ذلك بالقرآن الكريم، وعمل النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك كفارة الصيد في الأشهر الحرم، وقد ثبت ذلك بالقرآن الكريم، إذ قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، يَا أَيُّهَا اَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ، أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 94-96] .

وهكذا نرى أنَّ الكفَّارات هنا ثابتة بالقرآن الكريم، وهي في موضوع، وهي سد لنقص، أو لاعتداء في عمل ما نهى الله تبارك وتعالى عنه.

وبجوار هذا النوع من الكفَّارات التي كانت درءًا لنقص أو لرخصة أو لعدم الاستجابة لأمر وموضوعها العبادة، هناك كفارات أخرى هي في معنى العبادات في ذاتها، ولكنَّها شرعت لمعنى خلقي أو اجتماعي أو لحقوق العباد، وهذا هو القسم الثاني.

ومن ذلك كفارة اليمين، وهي عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، وقد ثبت ذلك بقوله تعالى:{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] .

ص: 313

ونرى أن هذه الكفارة شرعت لمعنى خلقي، وهو صيانة الألسنة عن كثرة الإيمان وإخلافها، والتعرض للمهانة، كما قال تعالى:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10] ، وأيضًا لكيلَا يتَّخذ المؤمنون يمين الله حاجزًا بينهم وبين فعل الخير إن حلفوا، وبدا الخير في غير ما حلفوا عليه، فشرع لهم تلك الكفارة تَحِلَّة لأيمانهم، كما قال عليه الصلاة والسلام: $"من حلف على شيء فرأى خيرًا منه، فليحنث وليكفر".

وإنَّ الكفارة ذاتها عبادة بدليل أنَّها كانت صومًا في بعض أحوالها.

ومن الكفَّارات التي ذكرت في القرآن علاجًا إحياء للأسرة، ولمنع الظلم عن المرأة كفارة الظهار، وهي كفارة من يحرِّم امرأته على نفسه، ويجعلها كإحدى محارمه من غير إرادة طلاق، وما كان لشريعة القرآن أن تترك المرأة المظلومة فريسة لكلمات ينطق بها اللسان إيذاء وظلمًا، ولا يترك المتكلم بها من غير عقاب لغوًا عابثًا، بل لا بُدَّ من ردِّ الحق، وعقاب العابث، فكانت الكفارة، وتثبت بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 3، 4] .

ونرى أنَّ هذه الكفارة فيها إقامة للحياة الزوجية على دعائم من المودة والإنس النفسي من غير إيحاش ولا إعنات؛ لأن النطق بهذه الكلمات وأشباهها يلقي بالجفوة في قلب الزوجة فلا تطمئنُّ إلى زوجها، ولا إلى الحياة الزوجية الكريمة المتوادة، ولهذا كانت تلك الكفارة محافظة على هذه المعاني.

ومن الكفارات التي نصَّ عليها القرآن الكريم كفارة القتل الخطأ، فإن الله أوجب الدية تعويضًا لأسرة المقتول، وأوجب الكفارة إذا كان القاتل المخطئ من أهل التكليف، وذلك لتعويض جماعة المؤمنين، ولتربية النفس على الاحتراز من الخطأ، والاحتياط له، ولقد قال سبحانه وتعالى في ذلك:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92] .

وواضح أنَّ الدية لتعويض الأسرة وهي تجب على أسرة الجاني لأسرة المجني عليه، وفي وجوبها على أسرة الجاني معنى التعاون الاجتماعي بين الأسرة في دفع الأذى، والحمل على المعاونة في التأديب النفسي.

والكفارة فيها تعويض لجماعة المؤمنين؛ لأنَّه يقتله لمؤمن قد نقص عدد المؤمنين، فكان الواجب أن يعوّض ما نقص بعتق رقبة مؤمنة؛ لأن العتق إعطاء الحرية، والحرية كالحياة.

وفي الجملة أنَّ الكفارات كلها التي جاء بها القرآن وبيَّنَتها السنة النبوية فيها معنى العبادة، وفيها صلاح، وفيها تعاون اجتماعي إنساني.

ص: 314

الأسرة في القرآن:

189-

قبل أن نتلو الآيات الكريمة التي تصدَّت لأحكام الأسرة وتنظيم العلاقات بين آحادها، أو نشير إلى بعض تلك الآيات الكريمة، لا بُدَّ أن ننبه إلى أمرين:

أولهما: ما ذكرناه آنفًا من أنَّ العبادات قد ذكرت في القرآن إجمالًا، وترك أمر بيانها للنبي -صلى الله تعالى عليه وسلم، وأشرنا إلى ما أدركنا حكمته لعلم الله تعالى في شرعه وبيان أحكامه.

الأمر الثاني: أن الأسرة ذكرت أحكامها تفصيلًا من وقت تكوينها بعقد الزواج، إلى أن يقرر الله تعالى التفريق بالموت أو الطلاق، وذكر أحكام الأسرة الممتدة غير المقصوة على الزوجين، وما بينته السنة لا يعد كثيرًا بالنسبة لما بينه القرآن الكريم.

ثم ذكر القرآن الكريم توزيع المال في آحاد الأسرة، وفي الميراث، ويكاد القرآن الكريم يستغرق كل أحكامه في تفصيل لا إجمال فيه.

وهنا يسأل السائل، لماذا كان التفصيل في أحكام الأسرة، ولم يترك أمرها لبيان النبي عليه الصلاة والسلام فقط، ونقول في الجواب عن ذلك: إنَّ هذه حكمة علَّام الغيوب، وإننا نلتمس معرفة بعض هذه الحكمة، راجين ألَّا نكون داخلين في النهي في قوله تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36] .

وإن هذا بلا ريب من عناية القرآن الكريم بالأسرة؛ إذ جاء النص على أحكامها بآيات محكمة، وإذا كانت عناية الإسلام بالعبادات جعلت أحكامها عملية يتولَّاها النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم؛ لتربي النفوس عليها بالدرية والتهذيب لا بمجرد التلقين، فعناية الإسلام بالأسرة كانت بالنصِّ الكامل على نظامها، لكيلا ينحرف الناس بأهوائهم عنها، وليكلا ينكروا تطبيقها، ويجعلوا لعقولهم سبيلًا للتحكم في أموالها،

ص: 315

ونظامها، ولأنَّها متصلة بالرضا والغضب بين الزوجين والأقارب، فكان لا بُدَّ من ميزان مقرر ثابت بحكم الأهواء، ويضع الأمور في مواضعها.

وإن أحكام الأسرة مؤثرة في المجتمع وموجهة له؛ لأن الأسرة هي دعامة البناء الاجتماعي يضطرب باضطرابها، ويقوى بقوتها، ولأنَّ الإسلام جاء لإقامة مجتمع فاضل تربطه المحبة، وتوثق روابطه المودة، كانت عنايته بأحكام الأسرة، وأن تكون مستقرة يتصل فيها ماضي الأمة بحاضرها.

ومن الناس من ظنوا أنهم يستطيعون إقامة بناء صالح للأسرة من غير أن يتقيدوا بألأحكام القرآن الكريم باسم ما يسمونه "تطور الزمان" يقلبون فيه الأوضاع، فتضطرب الموازين، ومن الناس من يبالغون في إعطاء المرأة حقوقًا لا تقتضيها فطرتها، ولا النظام الاجتماعي، ويحسبون أنهم يسيرون بالجماعة إلى الإمام، وهم يرجعون بها إلى الوراء، حيث تفسد الطبائع وتخالف الفطرة.

ولقد يقول بعض علماء الاجتماع: إنَّ النشأة الأولى في جاهلية الإنسان كان فيها السلطان على الأولاد للمرأة كأنثى الحيوان، أو أكثره، حتى إذا عرف البيت، وانتظمت العلاقة بين الرجل والمرأة، وكان لكل واحد منهما ما هيأته الفطرة له، فالمرأة ترأم الأولاد، وتقوم على رعايتهم، والأب يكدح ويعمل ليوفر لهم الرزق.

والآن يحاولون أن يقلبوا الأمور، ويضعوها في غير مواضعها، حتى لقد قال بعض المفكرين: إننا لو سرنا خطوات بعد ما ابتدأنا السير فيه وأوغلنا، فستعود الأمور إلى سيطرة المرأة على البيت، ويكون الرجل غير مستقر في بيت، ويكون نظام المسافدة.

من أجل هذا فيما ندرك وعلى قدر إدراكنا نص الكريم على أحكام الأسرة بالتفصيل، حتى لا يتهجّم المنحرفون ليشرِّعوا لأنفسهم ما لم يشرِّع الله ويفسدوا الفطرة.

ولقد كان سبحانه وتعالى بعد ذكر بعض أحكامها يقول -جل شأنه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ ِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13]، ومن ذلك قوله تعالى بعد بيان المواريث:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] .

190-

وأحكام الأسرة التي تعرض لها القرآن تبتدئ من وقت إنشاء الزواج أو التفكير فيه، فأوجب الإعلان في الزواج، فقال تعالى:{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235] .

ص: 316

َوبيِّنَ سبحانه وتعالى في كتابه أنَّ المهر واجب على الرجل؛ لأنَّ كل الواجبات المالية على الرجل، حتى لا تبتذل المرأة في كسب المال فتتدلى إلى الهاوية. وقد قال تعالى في ذلك:{وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]، وقرَّر أن المرأة مستحقة للمهر كاملًا بالدخول بها. وقد قال تعالى في ذلك:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا، وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 20، 21] .

وإذا لم تتمّ بينهما عشرة زوجية، وكان تفرّق قبل الدخول، فإن المرأة لا تحرم من المهر حرمانًا كاملًا، بل يبقى لها نصفه، ولأنَّ الرجل لم تقم بينهما حياة زوجية يشتاران عسلها، فإنه يسقط عنه النصف، وذلك ما قاله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم؛ إذ يقول -جلَّ من قائل:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 236، 237] .

والقرآن الكريم بيِّنَ من يحل الزواج منهن، ومن لا يحل بالنص، وبعض البيان كان مستغلقًا على بعض الأفهام، فبينه النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم، اقرأ قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ

ص: 317

مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 22-26] .

ولأن الإسلام يريد مجتمعًا فاضلًا طاهرًا، لا تشيع فيه الفاحشة، أباح تعدد الزوجات إلى أربع فقط، وقد كان من قبله إلى غير عدد محدود، كما ذكرت التوراة، فقال تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] .

وشرط إباحة الزواج في الأحوال كلها العدالة، سواء أكان الزواج الأول أم الزواج الثاني، ولقد أجمع الفقهاء على أنَّ من تأكَّد أنه سيظلم امرأته إن تزوج يكون آثمًا؛ لأن الزواج حينئذ يكون موصولًا للظلم فيأخذ حكمه، ولكنّ الزواج لا يبطل، وليس للحاكم أن يقرِّر بطلانه، أو يمنعه، لكن إذا وقع الظلم بالفعل كان للقاضي أن يفرق بينهما إن طلبت الزوجة ذلك، وذلك لمقام النهي في قوله تعالى:{وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [النساء: 19] .

191-

والإسلام إذ جعل دعامة العلاقات الاجتماعية الأسرة فقد دعمها القرآن بوصاياه الحكيمة التي يأثم كل الإثم من خالفها، وتجانف لإثم في العلاقة الزوجية:

أولًا: أمر الأزواج بالعدل وحسن المودة، والعشرة الطيبة التي تقرب القلوب وتدنيها، ولا تنفرها وتجنبها، فقال تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] .

وقال تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] وقد تلونا ذلك آنفًا.

وأمر سبحانه وتعالى ثانيًا كلا الزوجين أن يعمل على إصلاح الآخر، إن بدا منه اعوجاج، فيقول سبحانه في القرآن العظيم: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا، وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا

ص: 318

تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 127-130] .

وأمر ثالثًا: بعلاج نشوز الزوجة، وعلاج نشوزها إن لم يتمكنا من الإصلاح بينهما من غير اطِّلاع غيرهما عليهما إلَّا أن يكون من أهل الخير أو الجيران الصالحين، فقال تعالى:

{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34] .

وأمر سبحانه وتعالى في القرآن الكريم رابعًا: بإرسال حكمين إن كان الشقاق متوقعًا، ويخشى استمراره، فقال تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35] .

والإسلام وزَّع واجبات الحياة الزوجية بين الزوج والزوجة توزيعًا عادلًا يتفق مع الفطرة من غير ظلم للمرأة، ولا إرهاق ولا إذلال لها، فجعلها قوامة على البيت تديره وتدبره، وتربي ثمرة الزواج، وعلى الرجل الإنفاق، ولقد قال تعالى في ذلك {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى، لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَاّ مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 6، 7] .

192-

ولقد تعرَّض القرآن الكريم لثمرات الزوجية وهي الأولاد، وقد تعرَّض لبيان حالها ومدة الحمل والرضاع، وحال الأم في حال الحمل، فقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ

ص: 319

الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15] ، وإن القرآن الكريم بَيِّنَ وقت الرضاعة وعلى من تجب وبيِّنَ نفقة الولد، وعلى من تجب، فيقول سبحانه وتعالى:

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233] .

ولقد عني الإسلام بالمحافظة على الأولاد إذا فقدوا آباءهم، وهم اليتامى، وعني منهم بأمرين:

أولهما: المحافظة على أموالهم، فيقول سبحانه وتعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [[الأنعام: 152]، ويقول سبحانه وتعالى:{وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] ، ولحرض الإسلام على أموالهم من أن تتبعثر أو تذهب، نهى الأوصياء عن أن يعطوهم أموالهم قبل أن يدربوهم على إدارة أموالهم، فقال تعالى:{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا، وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا، لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا، وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا، وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 5-10] .

هكذا نجد القرآن الكريم حثَّ على المحافظة على أموال اليتامى، ونظم طريق المحافظة عليها، بعد أن تسلم إليهم.

الأمر الثاني: الذي حث عليه القرآن الكريم بالنسبة لليتامى أنَّه منع قهرهم، وإذلال نفوسهم، لكيلَا تكون لهم عقد نفسية تحول بينهم وبين الاندماج في الأمة،

ص: 320

ولذلك أمر الله نبيه بألَّا يقهر يتيمًا، فقال تعالى:{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى: 9] .

وقد أمر المؤمنين الصادقين أن يضمّوا اليتامى إلى أسرهم، ويكونوا كأولادهم، حتى لا يشعروا بذل اليتيم، فقد قال تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] .

وعني الإسلام باليتامى لكيْلَا ينشئوا نافرين من الجماعة، فيكون منهم المشرَّدون، وقطَّاع الطرق، ويكونون حربًا على أمنها، فيكونون ذئاب الجماعة، وهم إن أحسنت تنشئتهم يكونون قوة عاملة نافعة.

وكذلك الأمر في كل مسكين أذلَّته الحاجة وقهره الفقر، فإنه يكون قوة إن أكرم، وعاملًا هدَّامًا إن قهر ومنع، وهؤلاء هم العقبة إن لم يكرموا، ولذلك قال الله تعالى:{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 11-17] .

وكما أوجب الإسلام رعاية اليتامى، والقيام على شئون الأولاد وتربيتهم على المودة والرحمة والنزوع الاجتماعي، أمر الأولاد بإكرام الوالدين، والإحسان يقترن بالأمر بعبادة الله وحده، ومن ذلك قوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36] .

ويذكر الله تعالى وصايا لقمان لابنه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 13-15] .

ولقد حرص القرآن على الوصية بالوالدين عندما يصيبهما الضعف، ويكونان في حاجة إلى النظرة الرفيقة الطيبة، فيقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] .

ص: 321

وهكذا يربي القرآن الكريم الأسرة ويقيمها على دعائم من المودة والرحمة ورعاية القوي للضعيف ورحمة الكبير بالصغير، وإكرام الصغير للكبير.

إنهاء الحياة الزوجية غير الصالحة:

193-

تقوم الحياة الزوجية في الإسلام على أساس المودة المواصلة والرحمة بين الزوجين، وتنشئة الأولاد على نزوع الرحمة والتآلف والائتلاف بالمجتمع، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله تعالى:{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] .

ووصف سبحانه وتعالى العلاقة بين الزوجين بقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} ، وأثبت أنَّ التزواج للأنسال والرحمة بين الناس، فقال تعالى فيما تلوناه من قبل:{اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] .

وإذا كانت العلاقة الزوجية تقوم على المودة والتفاهم، لا على المباغضة والتنافر، فإنه إذا تنافرت القلوب وأصبحت غير قابلة للالتئام، فإنَّ بقاء هذه الحياة ليس في صالح الأسرة، ولا في مصلحة المجتمع المتوادِّ المتراحم، ولقد عالج القرآن الكريم كما رأينا هذه الحالة عندما تنشعب القلوب، فإذا لم يجد علاج بينهما ولا علاج من ذويهما، فإنَّ الإنهاء أولى من الإبقاء، ولذلك قال تعالى فيما تلونا:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] ، فعندئذ يكون الطلاق أمرًا غير محظور.

ويلاحظ أنَّه عند الطلاق الذي يكون بيد الرجل تحل البغضاء محل المودة أنه لا بُدَّ من تحقيق أمور ثلاثة.

أولها: التسريح يكون بإحسان من غير مشاحة ولا معاندة، فقد تلونا من قبل قوله تعالى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] .

والإحسان يوجب أن يعمل على أن تكون نفسها طيبة بإنفاق مال عليها، ويكون متعة طلاق لها، وقد أوجبها القرآن الكريم في قوله تعالى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ] [البقرة: 241، 242] .

ص: 322

ولقد أوجب الشافعي وأحمد بمقتضى هذه الآية المتعة لكل مطلقة مدخول بها، وذلك نص كتاب الله تعالى.

الأمر الثاني: الذي أوجبه القرآن الكريم: أن يكون الطلاق رجعيًّا؛ بحيث يكون للمطلِّق الحق في أن يرجِع زوجه إليه قبل انتهاء عدتها، وهي في الغالب تقدر نحو ثلاثة أشهر تقريبًا، هي مقدار ثلاث حيضات، وقد ثبتت الرجعة بقوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 228، 229] .

وإن هذه الآيات الكريمات صريحة في أن الطلاق يكون رجعيًّا، وأنَّ الأجل للرجعة هو ثلاثة قروء، أي: ثلاث حيضات، ولكن تحتسب الطلقة من ضمن ثلاث الطلقات التي يملكها، وأنَّ الرجعة تثبت في الطلاق الأول والثاني، أما الثالث فلا رجعة فيه.

ولقد قال تعالى في ثبوت الرجعة أيضًا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا، فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 1-3] .

وهذه الآيات تدل على ثلاثة أمور: أولها: إن الطلاق لا يكون إلا رجعيًّا، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله تعالت كلماته:{لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [البقرة: 228] ، وأنَّ الطلاق حيث يمكن الرجوع، من حدود الله التي لا يجوز أن يتعداها المكلف.

وثانيها: إنَّ الإشهاد على الرجعة واجب حتى تكون المرأة على علم بالرجعة، وحتى تشتهر بين الناس إعادته الحياة الزوجية؛ ولأنَّ شرط صحة الزواج الشهادة، فيكون شرط إعادته الشهادة أيضًا.

وثالثها: أنها لا تخرج من بيت الزوجية، ولا يخرجها منه.

وذلك هو الأمر الثالث الذي قرَّرنا أنَّ القرآن أوجبه.

ص: 323

الخلع:

194-

واضح من هذا أنَّ الرجل إذا نفر من زوجته ولم يكن سبيل لإزالة نفرته كان له أن يطلّق في الحدود التي بيَّنَّاها، ومع الواجبات التي أوجبها القرآن، فإذا نفرت المرأة من عشرة الزوج، فهل تبقى مع هذه النفرة، التي حاول الزوجان، وذووهما إزالتها، فلم يستطيعوا، هنا تجلت العدالة التي قررها الله تعالى في قوله تعالى:{لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [البقرة: 228] ، فكما أنَّ الرجل له أن يوقع الطلاق إذا نفر من زوجته وتأكّدت النفرة، وشدد في أن يكون الطلاق رجعيًّا؛ لأنه عسى أن تكون النفرة لأمر عارض وقد زال، فهو أحق بامرأته.

إذا كان الأمر كذلك في الطلاق عند نفرة الرجل، فإنه يفرض أن هذه النفرة قد تكون منها، وتكون العشرة مباغضة، ومع المباغضة العنت، لذلك شرع الخلع، وكان الخلع بالاتفاق بينهما، وقد يكون بحكم القاضي إن ترافعا إليه.

ولماذا كان الخلع في حال نفرة المرأة؟ الجواب عن ذلك: إنَّ الرجل ينفق في سبيل الزواج مالًا، وقد يكون كثيرًا، وذلك بحكم القرآن، وقد يكون كل ما يملك، ويستقبله زواج آخر يقيم به حياة زوجية بدل هذه الزوجية التي أبغضت فيها المرأة، ولا يمكن العشرة مع بغضها، فكان لا بُدَّ من أن يأخذ ما أنفق أو بعضه.

وهذا هو الخلع، وقد شرعه الله سبحانه وتعالى بقوله:{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] .

الطلاق ثلاث مرات:

195-

شرع الله الطلاق ثلاث مرات، سواء أكان بإيقاع الزوج منفردًا، أم كان باتفاقهما في الخلع، أو بحكم القاضي، فذا وقعت الطلقات الثلاث بثلاث مرات، فإنها لا تحل له إلا بعد أن تتزوج زوجًا غيره بزواج شرعي صحيح على نية البقاء، لا على نية التوقيت، ثم إن طلقت من بعد لأمر عارض أو توفي عنها زوجها فإنَّ لهما أن يتزوجا من بعد، ذلك ما بينه سبحانه وتعالى بقوله -تعالت كلماته، وتسامت أحكامه:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230] .

وكان تحريمها بعد الطلقة في المرة الثالثة؛ لأنها تدل بعد التجربة على أن الحياة لا تستقيم بينهما على ما هما عليه من أخلاق أو تنافر، فكان لا بُدَّ من تجربة تكون شديدة عليهما إن كان ثمة محل للصلاح، أو احتمال له، وكانت تلك التجربة أن تتزوج

ص: 324

آخر، فإن كانت الإساءة من جانبها كانت عشرة الآخر مهذبة أو مقررة لما كان منها، وإن كانت الإساءة من جانبه فإنه يراها في أحضان رجل آخر، فيثير ذلك أسفه على ما كان منه.

فإن انتهت التجربة، وتلاقيا من بعد، كان ذلك بعد تهذيب في تجربة شديدة.

العدة:

196-

إذا تَمَّ الافتراق بين الزوجين، سواء أكان المفرق هو الموت أم كان المفرق هو الطلاق، فإنه لا بُدَّ من عدة تنتظر المرأة فيها، فلا تتزوج زوجًا آخر استبراء لرحمها من مظنَّة الحمل، وإحدادًا على الزوج السابق، وليتمكن الرجل فيها من مراجعة نفسه إذا كان الطلاق رجعيًّا.

وإذا كانت المرأة حاملًا، فالعدة تكون بوضع الحمل؛ لقوله سبحانه وتعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، سواء أكان الفراق بالطلاق أو الخلع، أم كان بالموت، ورأى ابن عباس وعلي رضي الله عنهما أن تكون العدة بوضع الحمل، بشرط مرور أربعة أشهر وعشرة أيام، إعمالًا لآية العدة:{الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] .

وعدة المطلقات ثلاث حيضات لما تلونا من قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، والقروء الحيضات.

وإذا كانت المطلقة بلغت سنّ اليأس، وقد يئست من الحيض، أو لم تر الحيض أصلًا فعدتها تكون بثلاثة أشهر، وقد نصَّ على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] .

ولا بُدَّ قبل ترك الكلام في العدة كما ورد منها في نصوص القرآن الكريم لا بُدَّ من التنبيه إلى ثلاثة أمور: أولها: إنَّ العدة بالنسبة للمطلقات إنما تكون لمن دخل بها، وذلك لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ، أمَّا المتوفَّى عنها زوجها فإنها تعتد عدة الوفاة، ولو لم يدخل بها؛ لأنَّ النص الكريم {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} لم يفرق بين مدخول بها وغير مدخول بها.

الثاني: إنَّ المطلقة تبقى في بيت الزوجية في مدة العدة، ولا تخرج منه ولا يجوز إخراجها، وقد تلونا في ذلك قوله تعالى:{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء: 19] .

ص: 325

والمتوفى عنها زوجها صرَّح القرآن بأنها تبقى في بيت الزوجية حولًا لا يجوز للورثة وأولياء الميت أن يخرجوها منه، وذلك بصريح القرآن الكريم، فقد قال سبحانه وتعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 240] .

فهذا النص الكريم يدل على أنَّ المتوفَّى عنها زوجها لها أن تبقى في بيت الزوجية الذي مات به الزوج حولًا على أن يكون ذلك متاعًا وحقًّا، فلا يجوز إخراجها؛ لأنه يكون انتزاعًا لحقها، ولكن يجوز لها أن تخرج، وإن ذلك بلا ريب حفظ للمرأة من الضياع، وصيانة لحرمة الزوج المتوفَّى.

الأمر الثالث: إنَّ النفقة الزوجية تبقى في العدة؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} والحمل لا يعرف إلَّا بعد الولادة، فيفرض وجوده في كل معتدة من طلاق، وخصوصًا أن قوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] هو عام للحامل والحائل على سواء.

تنبيهان:

197-

يلاحظ أنَّ المرأة في الزواج لها حقوق وعليها واجبات، وأنَّ الزواج لا يفرض عليها من وليها، بل لا بُدَّ من اختيارها ورضاها في أصل العقد وفي المهر، وقد نصَّ على ذلك القرآن الكريم في المهر، فقال تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] .

ومنع القرآن الكريم بصريح اللفظ عضل المرأة بمنعها من الزواج، أو تزويجها بمن لا تريد، قال تعالى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 232] .

والتنبيه الثاني: إنَّ المرأة تأخذ نصيبها كما يأخذ الرجل نصيبه من المال مع التفاوت قال تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] وإن هذا النص الكريم فوق دلالته على وجوب توقير ميراث النساء يدل على أن ذمة المرأة منفصلة عن ذمة الرجل، سواء أكان زوجًا أم كان أبًا أو أخًا أو قريبًا بأي درجة من درجات القرابة.

ص: 326

الأسرة في الإسلام ممتدة:

198-

هذا لفظ استعرناه ممن يكتبون في علم الاجتماع في هذه الأيام، فهم يقسمون الأسرة إلى قسمين: قاصرة وممتدة، ويقصدون بالقاصرة الزوجين وأولادهما، ويقصدون بالممتدة ما يشمل ذوي القربى جميعًا من أصول وفروع، وحواشٍ قريبة وبعيدة؛ بحيث يشكل الأقربين وغيرهم.

وقد جاء الإسلام منظمًا العلاقة بين النوعين، والقرآن في محكم آياته تعرض لأحكام الزوجين والأولاد، ولم يترك أحكام بقية ذوي القربى، وقد حثَّ بالنسبة لذوي القربى الذين يشملون الأسرة القاصرة أو الممتدة على مراعاة الرحم، وذكر الواجبات إجمالًا بالنسبة لصلة الأرحام، فأوجب مراعاة هذه الصلة التي أوجدتها الفطرة، ومهما تشعبت الفروع، وتكاثرت، فقال الله سبحانه وتعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] وجعل سبحانه وتعالى من أقرب القربات إلى الله تعالى إعطاء ذوي القرابة بسبب القرابة فقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] .

ونرى أنه سبحانه وتعالى جعل من أوّل أبواب البر إعطاء ذوي القربى بسبب القرابة، لا لفقرهم، ولا لحاجتهم، ولكن صلة لهم، وإبقاء لحبل المودة في القربى أن يبقى.

والوصية بأولي القربى كثيرة في القرآن الكرم، ومن ذلك قوله تعالى:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [البقرة: 83]، وقوله تعالى في قسمة الميراث:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 8]، وقوله تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] ، فالمودة في القربى أجر يعطيه العبد لربه، وهكذا نجد نصوص القرآن.

199-

وقد ذكر القرآن الكريم حقوقًا وواجبات متبادلة في القرابة، ونذكر منها ثلاثة:

أولها: إنَّ الدية في القتل الخطأ تجب على الأسرة، وتعطى الأسرة، فهي تجب على الأسرة بمعناها الممتد، وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً

ص: 327

وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] .

وبهذا نجد وجوب التعاون بين الأسرة بمعناها الممتد، فهي تتعاون في غرم الجرائم تدفعه، وفي تعويضها تأخذه، ولذلك لا يجب إلَّا إذا كانت الأسرة مؤمنة، أو كان بينها وبين المسلمين ميثاق تجب بمقتضاه الديات، ولا تسقط إلَّا إذا كان من قوم عدو للمؤمنين، فإنَّ الدية تكون إعانة لهم على الاعتداء.

ثانيها: إنَّ الله أوجب للفقير العاجز عن الكسب نفقة على قريبه الغني، وقد ذكر القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور: 61] .

ونجد أن الله سبحانه وتعالى ذكر في القرآن الحكيم أنه لا إثم على من يأكل في بيوت هؤلاء عند الاحتياج، ونفي الإثم يشير إلى أنه الحق؛ إذ إن تناول الحقوق لا إثم فيه.

وقد يقال: إن ذلك لم يكن مقتصرًا على القرابة، بل ذكر الصديق، فدل على أن الحق ليس سببه القرابة، ونقول: إنَّ ذلك الحق سببه العجز ابتداء، ولذلك ذكر في أول الآية ذوي العجز عن الكسب، فكان الكلام كله في أهل العجز، ولكن الأخذ كان للقرابة ابتداء، فإن لم تكن له قرابة يلزمها الشرع، كانت المودة التي توجبها الصداقة مبررًا للأكل، وإن كان لا يلزم الصديق بذلك قضاء، فإنه يجب عليه دينًا ويأثم فيما بينه وبين الله إن كان قادرًا، ومع ذلك يترك صديقه يتضور جوعًا، ولذلك كانت المؤاخاة.

وفي ذلك إرشاد خلقي اجتماعي حكيم لواجبات الأصدقاء نحو أصدقائهم.

ص: 328

‌الأسرة في القرآن

ص: 3