الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6-
جدل القرآن واستدلاله:
140-
القرآن كل ما فيه معجز، فإيجازه معجز، وإطنابه معجز، وألفاظه معجزة، وأساليبه معجزة، ونغماته ونظمه وفواصله، كل هذا معجز، واستدلاله وجدله وبيانه لا يصل إلى درجته نوع من الكلام، وقد ساق الإمام الباقلاني طائفة من خطب العرب، وأهل اللسن، وأهل الإيمان، طائفة من أبلغها وأقواها، ووازن بينها وبين إلزام القرآن وإقناعه واستدلاله، فوجد أن الموازنة غير لائقه بذات القرآن، والفرق بين القرآن وكلام أعلى أئمة البيان يجعل الموازنة غير مستقيمة، والفرق بينها وبين القرآن هو كالفرق بين الخالق والخلوق؛ لأنه فرق بين كلام الخالق وكلام المخلوق.
ولعله من الخير أن ننقل تلك الخطبة التي اعتبرها الباقلاني من أعلى ما عرف من بليغ القول، وهي رثاء علي بن أبي طالب -كرَّم الله وجه- لخليفة رسول الله أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه:
"لما قبض أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- ارتجَّت المدينة بالبكاء كيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء عليّ باكيًا متوجعًا، وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة.
رحمك الله أبا بكر، كنت إلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنسه وثقته، وموضع سره، كنت أول القوم إسلامًا، وأخلصهم إيمانًا، وأشدهم يقينًا، وأخوفهم لله، أعظمهم عناء في دين الله، وأحوطهم على رسول الله، وأثبتهم على الإسلام، وأيمنهم على أصحابه، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم سننًا وهديًا، ورحمة وفضلًا، وأشرفهم منزلة، وأكرمهم عليه، وأوثقهم عنده.
فجزاك الله عن الإسلام ورسوله خيرًا، كنت عنده بمنزلة السمع والبصر، صدَّقت رسول الله حين كذَّبه الناس، فسماك في تنزيله صديقًا، فقال:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ}
وآسيته حين بخلوا، وقمت معه عند المطاردة حين قعدوا، وصحبته في الشدائد أكرم الصحبة، ثاني اثنين، وصاحبه في الغار، والمنزل عليه السكينة والوقار، ورفيقه في الهجرة، وخليفته في دين الله وفي أمته أحسن الخلافة حين ارتدَّ الناس، فنهضت حين وهن أصحابك، وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، وقمت بالأمر حين فشلوا، ونطقت حين تعتوا1 ومضيت بنور إذا وقفوا، واتبعوك فهدوا، وكنت أصوبهم منطقًا، وأطولهم صمتًا، أكثرهم رأيًا، وأشجعهم نفسًا، وأعرفهم بالأمور، وأشرفهم عملًا، كنت للدين يعسوبًا2. أولًا حين نفر عنه الناس، وأخيرًا حين قفلوا3. وكنت للمؤمنين أبًا رحيمًا؛ إذ صاروا عليك عيالًا، فحملك أثقال ما ضفعوا عنه، ورعيت ما أهملوا، وحفظت ما أضاعوا، شمرت إذا خننعوا، وعلوت إذ هلعوا، وصبرت إذ جزعوا، وأدركت أوتار ما طلبوا، وراجعوا رشدهم برأيك فظفروا، ونالوا بك ما لم يحسبوا.
وكنت كما -قال رسول الله- آمن الناس عليه في صحبتك، وذات يدك، وكنت كما قال ضعيفًا بدنك، قويًّا في أمر الله، متواضعًا في نفسك، عظيمًا عند الله، جليلًا في أعين الناس، كبيرًا في أنفسهم.
لم يكن لأحد فيك مغمز، ولا لأحد مطمع، ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قويّ عزيز حتى تأخذ له حقه، والقوي العزيز ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق، القريب والبعيد عنك سواء، أقرب الناس إليك أطوعهم لله، شأنك الحق والصدق، والرفق، وقولك حكم وحتم، وأمرك حلم وحزم، ورأيك علم وعزم، فأبلغت وقد نهج السبيل، وسهل العسير، وأطفأت النيران، واعتدك بك الدين، وقوي الإيمان، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون، وأتعبت من بعدك إتعابًا شديدًا، وفزت بالخير فوزًا عظيمًا، فجللت عن البكاء، وعظمت رزيتك في السماء، وهدت مصيبتك الأنام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاءه، وسلمنا له أمره، فوالله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثلك أبدًا، فألحقك الله تعالى بنبيه، ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك.
وسكت الناس، حتى انقضى كلامه، ثم بكوا حتى علت أصواتهم.
141-
هذه خطبة من عيون البيان العربي، بل لعلها أبلغ خطبة بعد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إن وضعناها بجواز القرآن أَفََلَت، كما تختفي النجوم إذا طعلت
1 التعتعة في الكلام: التردد من حصر الوعي.
2 اليعسوب: الرئيس المقدَّم.
3 رجعوا.
الشمس، وأصبحت لا تساوي بجوار القرآن شيئًا، وإن الذين يسيئون إلى كل كلام بليغ مهما تكن درجته هم الذين يضعونه بجوار القرآن، وأنَّى يكون كلام بجوار كلام خالق البشر، وأنَّى يكون كلام ابن الأرض بجوار كلام الله في اللوح المحفوظ.
وإننا مهما نحاول تعارف أسرار البلاغة في القرآن فلن نصل إلى كلام محكم، كمن يحاول معرفة الروح، فهي من أمر الله تعالى، نعرف مظاهر الحياة منها ولكن لا نعرف كنهها، فنحن نعلم علوّ القرآن وإعجازه وامتيازه، وأنه لا يحاكى، ولكن لا نستطيع أن نعرف سرّ هذه الروعة التي يحسها كل قارئ مدرك.
ولعلَّ من التوفيق للباقلاني أن جاء بأبلغ كلام ووضعه بجوار كلامه سبحانه، فبدا بجواره هزيلًا، مهما تكن درجته في البيان، وذلك أمر ظاهر، لم يجئ الإعجاز بصرف، ولكن بإدراك المقام البلاغي للقرآن، وإن لم يعرف السر كاملًا.
ونعود إلى ذات الخطبقة نجدها صادقة كل الصدق في وصف أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها وصلت إلى أقصى الغاية في مناقبه، وفي مقامه من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي مواقفه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومواقفه إذ انتقل عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، فقد أنقذ الإسلام عند الصدمة الأولى، وهي حالة الردة.
والخطبة العلوية هذه فيها وصف الحاكم العادل، كيف يكون رحيمًا برعيته، مصدر أمن لا مصدر إزعاج، متطامنًا لهم، قريبًا من أنفسهم، لا يطمع القوي في حيفه، ولا ييئس الضعيف من عدله.
وقد ذكرنا هذه الخطبة أيضًا لنشير إلى الينابيع البيانية التي استقى منها القول في إعجاز القرآن، وهو أساس لكل كلام محكم.
ومن معرفة بلاغة القول أن نعرف المواضع التي بنى عليها الاستدلال، ونحن هنا نريد ابتداء أن نعرف المنهاج القرآني للاستدلال، والأصول التي بنى عليها استدلاله في نظرنا القصير، وإن كان في كل ما يتعلق بالبيان عن المثيل، ولا يمكن أن يكون له مثيل.
142-
وإن رجال البيان في بيان مناهج الخطب واستدلالها يتكلَّمون في الينابيع التي يستقي منها الخطيب أدلته أو براهينه، ونحن مع إقرارنا بأن منهاج القرآن أعلى من الخطابة، كما هو أعلى من الشعر والسجع، نرى أن نستعير من علماء البلاغة كلامًا في مصادر الاستدلال، ونريد أن نتعرَّف المصادر الذاتية التي بنى القرآن الكريم استدلاله عليها، وإن كان مقامه أعلى وأعظم، وهو معجز في ذاته، وليس ككلام البشر، وإن بنى على حروف البشر وألفاظهم، ومن جنس كلامهم.
ويقولون: إن الاستدلال الذي يستمد من مصادر ذاتية، أي: تؤخذ من ذات الموضوع، وهي أشبه بالبرهان المنطقي، وإن كانت أعلى، وهي ستة مواضع أو ينابيع:
أولها التعريف أي: معرفة الماهية، وثانيها التجزئة بذكر أجزاء الموضوع، وثالثها التعميم ثم التخصيص، ورابعها العلة والمعلول، وخامسها المقابلة، وسادسها التشبيه وضرب الأمثال.
1-
الاستدلال بالتعريف:
143-
الاستدلال بالتعريف بأن يؤخذ من ماهية موضوع القول دليل الدعوى بأن يؤخذ مثلًا من حقيقة الأصنام دليل على أنها لا تصلح أن تكون معبودًأ، ومن بيان صفات الله تعالى دليل على أن يكون وحده المستحق للعبادة، وإذا كان موضوع القول هو الذات العلية تقدَّست أسماء الله، فإنه يكون الاستدلال على ألوهيته سبحانه، ببيان صفاته، وخلقه للكون صغيره وكبيره ولا تعترف الذات العلية إلا بصفاتها، ومن ذلك قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 95-100] .
ونجد في هذا الكلام إثباتًا لوحدانيته سبحانه وتعالى، وأنه وحده المعبود بحق، وأنه لا إله إلا هو، وكان طريق الإثبات هو بيان خلقه وتنوعه، أنَّه وحده الخالق لكل شيء، وإذا كان الله تعالى هو الخالق وحده فهو الإله وحده، وكان التعريف بالله تعالى هو السبيل لإثبات الربوبية له سبحانه، وقد عرّف سبحانه وتعالى بصفاته واثره سبحانه في الوجود؛ لأن الله تعالى لا يعرف إلّا بصفاته وآثاره في الخلق والتكوين؛ لأن معرفة حقيقة ذاته سبحانه وتعالى غير ممكنة في هذه الدنيا، وأن الذي نعرفه أنه سبحانه وتعالى منزَّه عن مشابهة الحوادث، فليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
ومما يدل على عظمة الخالق واستحقاقه للعبودية، وقدرته على البعث والنشور، التعريف بالمخلوق، وخصوصًا الإنسان، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ، وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون: 12-17] .
ومن هذا نرى أنَّ التعريف بالإنسان من خلقه ابتداء دليل على بعثه انتهاء، ألم تر أنَّ الله سبحانه وتعالى ذكر أنه خلقه علقة ومن العلقة مضغة ومن المضغة عظامًا ثم كساها لحمًا، ثم أماتها، ومن الطبيعي أن يكون قادرًا على الإحياء؛ لأن الإنشاء على غير الله أصعب من الإعادة، ولا صعوبة على الله تعالى في إنشاء ولا إعادة.
ومن تعريف بعض المحرمات يستبين تحريمها، والأمر القاطع بالتحريم، ومن ذلك قوله تعالى في تحريم الخمر:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 90-92] .
ونرى من هذا أنَّ التحريم الثابت بالنصِّ ذكر أوصاف الخمر وبيان ذاتها وما يترتب عليها؛ لمعرفة حكمة تحريمها، فذكر تعريفها بالحدِّ والرسم، أما التعريف بالحد فبيان ذاتها بأنها مع أخواتها من الميسر، والذبح على النصب، هو التعريف بالحد، وهو ذكر الذات، بذكر جنسها وفصلها، وأما ذكر هذا التعريف بالرسم، فهو ذكر ما يترتب على الشرب من وقوع الداوة والبغضاء والصد عن الصلاة وعن ذكر الله تعالى، فهي لهو لتزجية الفراغ بما فيها الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، والأنغمار في اللهو الفاسد.
2-
الاستدلال بالتجزئة:
144-
إن تذكر أجزاء الموضوع وبتتبعها يكون إثبات الدعوى، ومن ذلك أن المقرر الثابت بالبديهة الذي لا مجال للريب فيه الحكم بأن الأثر يدل على المؤثر، وأن الكون يدل على خالقه، وأنَّ القوى البشرية والعقول المستقيمة تقر بأن الخالق لهذا الكون صغيره وكبيرة قوة واحدة، وهي قوة الله سبحانه وتعالى.
وقد كان القرآن يذكر ذلك في آياته الحكيمة أحيانًا مجزءًا وأحيانًا غير مجزء، ومن الاستدلال بالتجربة قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، أَمَّنْ جَعَلَ
الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 59-64] .
ونرى من هذا كيف كانت التجزئة في مادة الاستدلال، وإن لم تكن الأجزاء كلها مستوفاة، وإنه من منهاج الاستدلال يتبيِّن أن لك جزء يصلح وحده دليلًا على أن الله وحده هو المنشئ للكون، والمدبِّر له، والقائم على كل شيء، ولذلك قرن السياق في كل جزء نفى أن يكون إله غير الله معه سبحانه وتعالى عما يشكرون.
ونجد هنا في هذه الآية الكريمة تجزئة في الاستدلال بحيث يعتبر كل جزء دليلًا قائمًا بذاته، ومن مجموعه دليل كليّ على أنَّ كل صغير أو كبير من خلق الله تعالى، وأنها دليل على وجوده سبحانه وتعالى.
3-
التعميم ثم التخصيص:
145-
التعميم أن تذكر قضية عامة، وتؤدّي إلى إثبات الدعوى بإجمالها، ثم يتعرَّض المستدل إلى جزئيات القضية، فيبرهن على أنَّ كل جزء منها يؤدي إلى إثبات الدعوى المطلوب إثباتها، أو أنها في مجموعها تؤدي إلى إثبات الدعوى.
ومما سبق ذكره يتبين صدق الدعاوي العامة التي هي صلب الدين وهي التوحيد، وأنه تجب إطاعة الرسول، وأنه لا خضوع إلا لله سبحانه، ومن ذلك قوله تعالى في المجاوبة بين موسى وفرعون: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى، قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى، قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا
يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى، كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى، مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 49-55] .
ونرى من هذه القضية العامَّة الكاملة التي تذكر بجوار الله سبحانه وتعالى، وهي التي بها يعرف الله سبحانه وتعالى الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه وهو الهادي، فقال سبحانه كلمة جامعة كاشفة لمعنى الربوبية، ومع الربوبية العبادة، وكمال الألوهية، فقال الله تعالى على لسان موسى:{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ، فهو سبحانه وتعالى مانح كل شيء في هذا الكون الوجود، وهو مانح الهداية لمن اهتدى.
ثم أخذ القرآن الكريم بعد هذا التعميم الجامع بين جزئيات داخلة في هذا، وذكر من بعد هذه الجزئيات ما ينبه فرعون وأهل مصر وهم أهل زرع وضرع وختم النص الكريم بما يناسبهم، وهو نعمة للجميع:{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} .
4-
العلة والمعلول:
146-
أساس الاستدلال الربط بين القضايا التي تصوّر أجزاء الحقائق في هذا الوجود، بأن يكون وجود بعض الأشياء علة لوجود شيء آخر، وبمقدار قوة الارتباط تكون قوة الاستدلال، وذلك بأن يكون أحدهما علة للآخر، وإذا وجدت العلة كان المعلول ثمرة لوجودها، وهما متلازمان من الناحية العقلية، أو على حسب مجرى الأمور، وإا ذكر المعلول كان كاشفًا لعلته؛ لأن ذكر النتائج مع إحدى المقدمتين لدليل يدل على المقدمة الثانية، ولأن المقدمات تطوى فيها، فإذا ذكر تحريم الخمر، وحاول العقل أن يتعرّف سبب التحريم يستطيع تكشفه من أوصاف الخمر، فإذا عرف الوصف المناسب للتحريم استيقن أنه السبب، وهو يكون وصفًا لا يشاركها فيه غيره من المباحات، وفي القرآن كثير، يكون فيه التعليل جزءًا من الدليل الذي يسوقه القرآن الكريم بتنزيل من العزيز الحكيم، ولنتل آية إباحة القتال، فإن فيها السبب الذي يبرره، والدليل الذي يوجبه، اتل قوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 190-193] .
وإننا نجد في سياق هذا النص القرآني الكريم أنَّ السبب الذي برّر أمر الله تعالى بالقتال أمران: أحدهما الاعتداء، وثانيهما فتنة المؤمنين في دينهم، فإذا زال الأمران لا يكون ثمَّة مبرر للقتال، ثم هذا الاعتداء، وتلك الفتنة دليل الوجوب، وكذلك نجد الأمر في الإذن بالقتال؛ إذ كان دليله هو الاعتداء، ولذلك قال الله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 39: 41] .
ونرى في هذه الآيات الكريمة أنَّ العلة الموجبة هي الاعتداء وإخراج المؤمنين مفتونين في أنفسهم وأموالهم، ثم قامت المعلولات الغائبة المترتبة على السكوت، وعدم دفع المعتدين أن يعمّ الفساد ويسود الشرّ، فلولا هذا الدفاع لفسدت الأرض، ولهدمت المعابد، ولم تقم الشعائر، فاتخذ من هذه النتائج المترتبة على ترك المشركين يعيثون مبررة لمقاومتهم، وموجبة لحربهم، فكان هذا من قبيل الاستدلال بالنتائج وهي الغايات الواقعية دليلًا على الوجوب، وإن هذه الآيات الكريمات صور سامية لما سنَّه الإسلام من سنة تتفق مع الطبيعة الإنسانية، وهي إزالة الشر بالعقاب الشديد ومقاومته؛ لأن الفضيلة في الإسلام ليست سلبية، ولكنها إيجابية. بيِّنَ سبحانه على السبيل الإيجابي لردِّ الرذيلة ودفع شرها ومقاومته، فكان الاعتداء على الفضيلة سببًا موجبًا للتال، والقتال في سبيلها جهاد مثوب.
5-
المقابلة:
147-
إن المقابلة بين شيئين أو أمرين، أو شخصين تكون ليعرف أيهما المؤثر في عمل معين، وإذا ثبت أنَّ التأثير لواحد منهما كان له فضل التقديم على غيره، وقد كان ذلك النوع من ينابيع الاستدلال كثيرًا في القرآن الكريم؛ لأنَّ المشركين كانوا يعبدون أحجارًا يصنعونها أو مخلوقات لله تعالى خلقها، وكانوا يعتقدون أن لها تأثيرًا في الإيجاد، أو في الشر يمنع، أو الخير يجلب، فكانت المقابلة بين الذات العلية وبين ما ابتدعوا من عبادة الأوثان ينبوعًا للاستدلال على بطلان ما زعموا، ومن ذلك قوله تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 17، 18] .
هذا هو النص الكريم، وفيه مقابلة بين المعبود بحقٍّ وهو الله سبحانه وتعالى خالق السماوات، وهم يؤمنون بأنَّ الله وحده خالق السماوات والأرض:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وهم يعلمون أن الأحجار التي يعبدونها صنعت بأيديهم ولم تخلق شيئًا، فالقرآن من هذه المقابلة يأتي بدليل يلزمهم ويفحمهم أو يقنعهم إن استقامت القلوب، وإن الدليل بالتقابل يصح أن يكون عندما ادعيت الألوهية للخالق جلت قدرته مع المخلوق المصنوع بأيدي العباد، وبالمقابلة بينهما نجد الخالق يحتاج إليه كل ما في الوجود، والمصنوع بأيدي العباد لا ينفع ولا يضر، فالله وحده هو الإله الحق الذي لا يعبد سواه؛ لأنه لا يحتاج لأحد ويحتاج إليه كل أحد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4] .
ومن المقابلة التي كانت ينبوعًا للاستدلال قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16] .
وأن هذا الاستدلال قائم على المقابلة، فكانت المقابلة من لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ومن هو القهار القادر على كل شيء وهو الواحد الأحد الذي لا يشبهه أحد، وكأن المقابلة بين الأعمى والبصير، ويشمل الأعمى من لا يدرك الحقائق، والبصير من يدركها، وبين الظلمة التي تعتم النفس، والنور الذي يشرق به القلب، ومن يخلق ومن لا يخلق، وهذه المقابلات ينابيع الإدراك الموجه المسترشد، والظلام المعتم المحير.
وإن هذه المقابلات تصلح دليلًا مثبتًا في عدة دعاوى، ويكون ف المقابلات الحكم الفصل الهادي المرشد.
ففي الدعوى الأولى ادِّعَاء المساواة بين من يملك كل شيء ومن لا يملك لنفسه النفع والضر، والحكم الذي ينتجه الدليل أنهما ليسا متساويين، وإذا كانت دعوى المساواة في الألوهية باطلة، فالحكم بالنفي، والإله هو الله وحده الذي يملك كل شيء، وفي الدعوى الثانية نفي التسوية بين من أدرك الحق واهتدى، ومن ضلَّ وغوى، والأخير كالأعمى، والأول كالبصير، فأيهما يهتدي إلى الطريق السوي، ولا شك أن الحكم أن الخير في المبصر المهتدي، وليس في الضال المرتدي، فالفضل لأهل التقوى ولو كانوا ضعفاء يستضعفهم الناس.
وفي الدعوى الثالثة ادِّعاء الاشتراك في الخلق والتكوين بالزعم لا بالحقيقة، وهذه باطلة، بل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار، وبذلك يتحقق الحكم فيما هو صادق واقع، لا فيما هو مزعوم مختلق.
ومن المقابلات القرآنية التي دلَّت على البعث، وكان فيها رد على أوهام للكافرين في قوله تعالى:{َوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأحقاف: 33، 34] .
ونرى هنا استدلالًا على أنَّ البعث ممكن في ذاته، والتصديق به واجب؛ لأن الله تعالى أخبر به على لسان نبيه الكريم وفي كتابه المكنون؛ إذ جاء به القرآن الكريم، ودعا إليه محمد الأمين.
وكان الاستدلال بطريق المقابلة، وكانت المقابلة بين إنشاء الأحياء ابتداء والخلق والتكوين من غير سابق، وأنَّ القدرة فيه كانت، ولم يعي بخلقهنّ، وبين الإعادة للأجسام التي خلقت ثم صارت رميمًا، وأنه إذا كانت قد وجدت، فالثانية قد وجدت وهي تجيء إذ أخبر بها العزيز الحميد، القادر على كل شيء.
وأن بهذه المقابلة بين الإنشاء والإعادة، وبين الخلق من غير أصل سابق والإعادة ينتهي به ذو العقل الرشيد إلى الحكم بأن البعث ممكن في ذاته، وأنَّه واجب الاعتقاد؛ لأنَّ الله تعالى أخبر به، {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5] .
ومن الآيات الدالة على أن الله تعالى خلق كل شيء، واعتمدت الدلالة فيها على المقابلة قوله تعالى:{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 57-74] .
ونجد من هذه المقابلات بين إنشاء الخالق وعجز الإنسان ما يدل على أنه هو الذي خلق فهدى، وأنه العليم بما خلق، وأنه بهذا المستحق للعبادة وحده، وأنه ليس كمثله شيء وأنه الواحد الأحد.
6-
الاستدلال بالتشبيه والأمثال:
148-
من ينابيع الاستدلال في القرآن التي تثبت قدرة الله تعالى، وصدق ما يطلب الدين الحق، وما أتى به القرآن -التشبيه وضرب الأمثال، وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم أنه يضرب الأمثال ويبيِّن الحقائق عن طريقه، وضرب الأمثال باب من أبواب التشبهي، وهي تضرب كما ذكرنا في باب التشبيه للغائب لتقريب الحقائق ولتشبيه الغائب غير المحسوس بما يقربه من القريب المحسوس، ولتوضيح المعاني الكليّة بالمشاهد الجزئية، وللاستدلال بحال الحاضر على الغائب.
ومن ذلك قوله تعالى الذي ذكر فيه أنَّ المثل يكون لبيان الحقائق، سواء أكان بالصغير أم كان بالكبير، فقد قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] .
وفي هذا النص يثبت الله تعالى أنه سبحانه يقرّب الحقائق الثابتة بالأمثال، ويأتي بالدليل من بيان الأشياء، واستخراج خواصها، والإثبات بالأدلة عن طريقها، وأن الناس في تلقي هذه الأدلة فريقان: فريق آتاه الله قلبًا نيّرًا يصغي إلى الحق ويأخذ به، ومنهم من أصاب العناد قلبه، فإذا قوي الدليل فإنه يزيد إصرارًا وإمعانًا في الضلال، فيوغل فيه، وهذا معنى قوله تعالى:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} .
فهذا النص يفيد أنَّ الله تعالى في القرآن الكريم يتخذ من الأمثال تبيينًا للحقائق، وتثبيتًا، وإقامة للدليل بها.
واقرأ قوله تعالى في بيان عجز الأصنام ومن يعبدونها العجز المطلق وقدرته تعالى على كل شيء، فقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ، مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73، 74] .
انظر إلى الديل القاطع الذي يثبت بطلان الوثنية، ويقيم الدليل على الوحدانية، فإن الأوثان ومن يتبعونها ولو تضافرت كل القوى معها لا يمكن أن يخلقوا ذبابًا
ذلك الطير الضعيف أو تلك الحشرة الضئيلة التي يستحقرونها، ولو أنَّ الذباب سلب منهم شيئًا، ولو اجتمعوا مع أوثانهم على أن يستردوه ما استطعوا إلى ذلك سبيلًا، وهم والذباب سواء في الضعف وإن بدوا أقوياء، وهذا أضعف خلق الله تعالى في زعمهم، فكيف يكون للذين يدعونهم آلهة قوة أمام الله، وكيف يعبدونهم معه، وهم لا وجود لهم ولمن يعبدونهم بجواره سبحانه وتعالى علوًّا كبيرًا، فهذا المثل سيق مساق الاستدلال وكان دليلًا قويًّا، إن كانوا طلاب حق يلتمسون الدليل عليه، وإن كانا طلاب باطل ضلوا السبيل، لا يزيدهم الدليل إلَّا كفرًا.
وهذا المثل الواقعي التصويري فيه دليل على إثبات حقيقتين، أولاهما: أنَّ المغترّ دائمًا يدلي به غروره إلى أنه يحكم على المستقبل بما هو عليه في الحال القائمة، والقوة الموهومة، فذو الجنة والنفر ظنّ أن الحاضر ينبئ عن المستقبل، وغره بالله الغرور، وتعالى من غير علوّ، وتسامى من غير سموّ، واستقوى من غير قوة، فجاء المستقبل وخيب الأمل وكشف الحقيقة.
الحقيقة الثانية: إثبات أنَّ الولاية والنصرة لله سبحانه وتعالى، وأنه وحده المالك للأمور كلها في ماضيها ومستقبلها وشاهدها، وغائبها.
فكان المثل دليلًا على وباء الغرور، وأن الأمر لله وحده.
ومن الأمثال الموجّهة إلى الحقائق الخلقية والدينية قوله تعالى في سورة القلم: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} [القلم: 17- 23] .
سيقت قصة أصحاب الجنة الدنيوية، وهي قصة واقعية تصويرية، وهي دليل مثبت؛ أولًا: لأنّ الزكاة تطهر المال وتحميه؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فهي للمال نظافة ونماء، وهم قد أقسموا ليصرمنَّها مصبحين، وأن لا يدخلنَّها اليوم عليهم مسكين، وتثبت ثانيًا: أن العاقبة الحسية تؤثر في النفس إن كان فيها قابلية للهداية، وهؤلاء إذا كانت قد ضاعت منهم الثمرات، فقد عادت إليهم بأعظم العظات، فما كسبوه من عظة أكثر مما فقدوه من ثمرة، وثمرات القلوب أطيب من ثمرات تشتهي الأبدان طعمها، وهي دليل على أنَّ الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن الأقدار تحت سلطانه، ويجريها كما يحب وكما يشاء.
ومن الأمثلة التي تساق مساق الدليل قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 75، 76] .
والآيات قبل ضرب هذين المثلين كانت في الأمر بعبادة الله تعالى وحده والإخبار عن عبادة المشركين من لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا؛ إذ يقول سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} ، فجاء سبحانه وتعالى بهذين المثلين، وهما يبطلان عقيدة الشرك وزعم المشركين بأمثلة تقع في الحياة، والحكم فيها من البدهيات التي لا ينكرها عاقل، ولا يختلف فيها فكر عن فكر، وكل مثل من المثلين دليل قائم بذاته على بطلان الوثنية؛ إذ فيه تسوية بين من لا يقع بينهما التساوي.
أمَّا أولهما فقد ضرب برجلين أحدهما عبد مملوك لا يقدر على شيء؛ لأنه مملوك لغيره، فهو ليس له مال، فهل يستوي هذا مع رجل مرزوق من الله تعالى رزقًا
حسنًا، إن التسوية غير معقولة بين من له مال يعطي منه غيره، أو ينفق منه في الخير سرًّا وجهرًا، وبين المملوك الذي لا مال له، إذا كانت التسوية غير معقولة، فتسوية أولئك المشركين بين الأحجار التي لا تضرّ ولا تنفع في عبادتها مع الله تعالى الرزاق ذي القوة المتين، المالك لكل شيء، الذي له ملك السماوات والأرض، أبعد عن كل معقول، وذلك برهان على بطلان الشرك كله، سواء أكان إشراك حيوان أو إنسان أم كان إشراك حجر.
وثاني المثلين أنَّ الله يضرب مثلًا برجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء، وهو كَلٌّ على مالكه أو ذي قرابة له يتولَّى أمره، ولا يتجه إلى جهة ويأتي فيها بخير، بل إن الطرقات مسدودة أمامه من جوارحه المئوفة الناقصة، فهل يستوي مع رجل موهوب في عقله وخلقه، وكيانه الإنساني والنفسي، يسلك الصراط المستقيم، يأمر بالعدل، ولا يحيد عن سبيله، فهما إذن بالبداهة لا يستويان.
وإذا كان هذان الرجلان لا يستويان بداهة، فأولى ألَّا تتساوى في العبادة الأحجار مع خالق الكون، وهادي الخلق، ومانح النعم ومجريها رب العالمين.
ومن الأمثلة التي تدل على أنّ العبادة الخالصة لا تكون إلَّا لله تعالى وحده، وأنها بغير ذلك لا تكون عبادة، قوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] إنَّ هذا المثل التصويري فيه دلالة على صدق التوحيد وفساد الشرك، فإنه سبحانه وتعالى جعل الفرق بين التوحيد والشرك كالفرق بين رجل مملوك لعدة أشخاص هم مختلفون فيه، كلّ يريد أن يختص بأكبر حظ منه، وأن يكلّف أقل قدر فيه، وهو في ذاته ضائع بينهم نفسيًّا وماديًّا لا يدري أيهم يطالبه بحقه، فهو ضائع لا محالة وهو لا يحس بأمن في هذه الملكية المتنازعة، وذلك مثل من يعبد آلهة مختلفة تكون نفسه حائة بائرة غير مستقرة ولا مطمئنة، فليست كحالها، مع رجل سلمًا خالصًا لرجل لا يشاكسه أحد فيه، وهو مستقرّ يعرف من يخدمه ومن يعتمد عليه، ومن فوض أمره إليه، وذلك مثل من يعبد الله تعالى وحده، فإن من يعبد الله وحده تطمئن نفسه، ويجد المأوى، ويجد الملجأ والملاذ، وذلك مثل تهتدي به النفوس الشاردة.
ومن الأمثال التي ساقها القرآن الكريم للاستدلال بها على البعث والنشور، والإماتة الإحياء قوله تعالى:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259] .
إن هذه القصة واقعية، وليس في سياق القول ما يدل على أنها تصويرية، والأصل أن تكون حقيقة، فلا بُدَّ أن أجزاءها قصة واقعة، وليست مجرد مثل تصويري، وهذه القصة معها دليل واقعي على البعث والنشور، وأنَّه في قدرة الله تعالى إعادة الموتى، فمن أنشأ الكون يحيي الموتى، وأننا سنموت كما ننام، ونبعث كما نستيقظ، فهو مثل وقاعي لبيان -كيف يحيي الله الموتى، فقد مات الرجل مائة عام، ثم أحياه الله، ورأى طعامه لم يتغير، ورأى حماره حيّ حسب أنه نام يومًا أو بعض يوم، والله على كل شيء قدير.