المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌علم الكون والإنسان في القرآن: - المعجزة الكبرى القرآن

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌الافتتاحية

- ‌تمهيد

- ‌معجزة القرآن:

- ‌القسم الأول:‌‌ نزول القرآن

- ‌ نزول القرآن

- ‌حكمة نزوله منجَّمًا:

- ‌المكي والمدني:

- ‌كتابة القرآن وجمعه:

- ‌جمع القرآن في عهد عثمان أو الأحرف السبعة:

- ‌تحريق غير المصحف الإمام وغير ما نسخ منه:

- ‌ترتيب الآيات والسور:

- ‌قراءات القرآن:

- ‌فائدة وجوه القراءات:

- ‌القسم الثاني:‌‌ إعجاز القرآن

- ‌ إعجاز القرآن

- ‌تلقي العرب للقرآن:

- ‌سر الإعجاز:

- ‌الصرفة وبطلانها:

- ‌وجوه الإعجاز:

- ‌الإعجاز البلاغي:

- ‌وجوه الإعجاز البلاغي:

- ‌ ألفاظ القرآن وحروفه:

- ‌نظرات في ألفاظ القرآن:

- ‌الكلمة مع أخواتها والعبارات مع رفيقاتها:

- ‌ الأسلوب القرآني:

- ‌التآلف في الألفاظ والمعاني:

- ‌صور بيانية للطمع والشح ثم الندم

- ‌النفس الفرعونية:

- ‌قوة البلاغة في الأسلوب من كلمات متآلفة:

- ‌التلاؤم:

- ‌ تصريف البيان:

- ‌التكرار في القرآن:

- ‌قصص القرآن من الناحية البيانية:

- ‌الدعوة في أوساط الشعب:

- ‌موسى مع بني إسرائيل:

- ‌بنو إسرائيل والأرض المقدسة:

- ‌ قصص القرآن لون من تصريف بيانه:

- ‌أسلوب القصص في القرآن:

- ‌القصص الحق المصور في أهل الكهف:

- ‌التصريف في صور العبارات القرآنية:

- ‌الاستفهام والنفي:

- ‌الحقيقة والتشبيه والاستعارة في القرآن:

- ‌التشبيه في القرآن:

- ‌الاستعارة:

- ‌المجاز والكناية:

- ‌الكنايات في القرآن:

- ‌نظم القرآن وفواصله

- ‌التلاؤم:

- ‌الفواصل:

- ‌أفي القرآن سجع

- ‌الإيجاز والإطناب في القرآن:

- ‌أقسام الإيجاز:

- ‌طوال السور وقصارها:

- ‌الإعجاز بذكر الغيب:

- ‌ جدل القرآن واستدلاله:

- ‌أسلوب جدل القرآن:

- ‌مسلك القرآن في سوق الأدلة:

- ‌علم الكتاب:

- ‌معجزات سيدنا موسى:

- ‌الخوارق التي جاءت على يد سليمان:

- ‌معجزات عيسى عليه السلام:

- ‌البعث واليوم الآخر:

- ‌يوم القيامة:

- ‌الميزان والحساب:

- ‌الجنة والنار:

- ‌البعث والجنة والنار أمور حسية

- ‌علم الحلال والحرام:

- ‌العدالة:

- ‌العدالة الدولية:

- ‌الأحكام الفقهية في القرآن:

- ‌الأسرة في القرآن

- ‌الميراث في القرآن الكريم:

- ‌الزواجر الاجتماعية:

- ‌المعاملات المالية:

- ‌العلاقات الدولية في القرآن:

- ‌العلاقة في السلم والحرب:

- ‌علم الكون والإنسان في القرآن:

- ‌قصة يوسف في سورته:

- ‌المجتمع المصري في عصر يوسف:

- ‌تفسير الكتاب

- ‌مدخل

- ‌تفسير القرآن بالرأي:

- ‌الظاهر والباطن:

- ‌ ترجمة القرآن

- ‌بيان ما اشتمل عليه الكتاب

الفصل: ‌علم الكون والإنسان في القرآن:

وهذا التشدد في الوفاء بالعهد؛ لأنه في ذاته عدالة، ولأنَّ العهد فيه حدّ للحقوق، وخصوصًا إذا كان بين متكافئين، ولا يصح أن يكون الاستعداد وأخذ الأهبة سببًا في ذاته للنقض، ولكن إذا قامت أمارات تدل على أن استعداد المعاهد وأهبته نذير خيانة، وعلى المؤمنين أن يأخذوا حذرهم كما قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71] . وفي هذه الحال يطبق قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] .

وإذا كان هناك ما يجب الاحتياط له فإنَّه يكون عند عقد العهد، فلا يصحُّ الاطمئنان إلى عهد من عرفوا بالخيانة، فإنَّ العهد معهم نوع من الاغترار، ولذلك كان يجب تعرف حال الطرف الذي يعاهده قبل العهد، ولذلك حذَّر الله تعالى من العهد مع بعض المشركين الذين يقول سبحانه فيهم:{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ، اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة: 8-10] .

230-

هذا ما أردنا أن نقتبسه من آي الذكر الحكيم في أحكام الحلال والحرام، وما نقلنا كل ما اشتمل عليه القرآن العظيم، ولكن نقلنا ما يرى التالي للقرآن المقتبس من نوره، وما فصلنا الأحكام التي تعرضنا لنقلها من كتاب الله، فإنَّ تفصيلها يحتاج إلى نقل ما جاء في السنة، وما اختلف الفقهاء في ظلّ النور القرآني في دلالة بعض الألفاظ، فإنَّ الكلام في ذلك يخرجنا عن مقصدنا، وهو الإشارة إلى علم الكتاب الكريم الذي يدل على إعجازه، والله سبحانه وتعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 369

‌علم الكون والإنسان في القرآن:

231-

القرآن الكريم تكرَّر ذكر الكون فيه؛ لأنه كما بينا اتخذ من خلق كل من الوجود دليلًا على من أنشأه، فكان بمقتضى النهج النوراني لا بُدَّ أن الكون وما فيه من خلق عظيم يدل على منشئه وحده سبحانه وتعالى، ولا تكاد تَجِدُ سورة من القرآن مكيَّة أو مدنية خلت من ذكر الكون، وما يتصل به.

وإنَّ ذلك فيما نحسب يوجِّه نظر الإنسان إلى أنَّه جزء صغير من هذا الكون، ليربطه به، وليتعرَّف أسراره وأحواله، وليعرف أنَّه وهو الصغير قد سخر الله تعالى له هذا الكون الكبير، ولقد قال تعالى:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} .

وأنَّ ثمة حقائق مذكورة في القرآن يستبصر بها كل متعرِّف لهذا الكون دارس له.

ص: 369

فالله تعالى يقول: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29] .

وفي القرآن الكريم ما يومئ إلى محاولة إلى محاولة الإنسان الارتفاع في القضاء، فالله تعالى يقول:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَاّ بِسُلْطَانٍ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 33- 36] .

واقرأ آيات القرآن في السحاب وإرساله وأحواله، فإنك تجد توجيهًا إلى ما لم يكن الناس من قبل يتَّجِهون إليه، ودلَّت المشاهدات على أنه واقع، اقرأ قوله تعالى في وصف السحاب:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرِْهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 43] .

وترى من هذا تشبيه السحاب الذي أزجاه الله تعالى بالجبال، وهذا لا يبدو للسائر على سطح الأرض، ولا للواقف على آكامها ومرتفعاتها، وما كان ذلك معلومًا عند العرب، ولكن الذي يرتفع فوق السحاب في الطائرات التي تقطع أجواء الفضاء يرى السحاب جبالًا.

وإنَّ هذا بلا شكٍّ نوع من العلم بالكون فوق ما فيه من دلالة على إعجاز القرآن؛ إذ إن ذلك الوصف لا يمكن أن يكون من محمد؛ لأنه لم يرتفع حتى يكون فوق السحاب، فلا بُدَّ أن يكون الوصف بعلم الله تعالى، والكلام كله من عند سبحانه وتعالى، لا من عند محمد.

وأنت ترى أوصافًا كثيرة للأرض والسماء لا تكون من الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، أو لا يعلم علوم الكون وما يجري فيه، وما كانت معروفة عند العلماء في عصر نزول القرآن، كالعلم بطبقات الأرض والسماء، ذكرها القرآن، والباحثون لا يزالون دائبين في البحث عنه، وعلمهم يصدق بالقرآن، اقرأ قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] .

واقرأ قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]، وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ، الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ

ص: 370

مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 1-4] .

واقرأ قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 15، 16] .

وترى النص الكريم يفرّق بين الشمس والقمر، فيجعل الشمس هي السراج الذي يضيء، والقمر نورًا مقتبسًا من غيره، وهو الشمس.

واقرأ قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 61، 62] .

ويقول سبحانه وتعالى في خلق السماوات والأرض، وأدوار خلقهن:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] .

ولقد بيِّنَ القرآن أنَّ السماوات والأرض كانتا شيئًا واحدًا، وأنَّ الأرض انفصلت عن السماء وتكوَّنت فيها القشرة الأرضية، وكان عليها الماء، ومنه كانت الأحياء التي خلقها الله تعالى، واقرأ في ذلك:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رََاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [النبياء: 30-32] .

وترى أنَّ النص الكريم صريح في أنَّ السماوات والأرض كانت كونًا واحدًا، وفصل الله تعالى جزءًا منه وهو الأرض، وكانت فيها هذه الحياة التي يحياها الحيوان والطير في السماء، والسمك في الماء، والزرع في الفيحاء.

وإذا كان العلماء اليوم يقررون أنَّ الكون ابتدأ خلقه بالسديم، وهو يشبه الدخان، فقد صرَّح القرآن الكريم قبل ذلك، وقبل أن يعلموا، فقال الله تعالى في خلق السماوات والأرض: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً

ص: 371

لِلسَّائِلِينَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 9-12] .

ونقف وقفة قصيرة عند هذه الآيات البيِّنَات، فنرى الله سبحانه وتعالى يبيِّن لنا أنَّ الأرض خلقها في يومين، واليوم هنا كما أشرنا من قبل ليس هو اليوم الذي نعرفه، وإنِّمَا هو الدور في التكوين، وهو كونها من السموات رتقًا، وهذا دور، ثم انفصالها وهذا دور ثان، ودوران آخران للأرض جعل فيها رواسي عالية، وهي الجبال، وخلق فيها الماء وما تبعه من خلق للأحياء من حيوان ونبات، فكانا أربعة أدوار.

ويبيِّن سبحانه أنَّ السماء والأرض كانت دخانًا، وهو ما نحسب أنه السديم الذي يقوله العلماء.

232-

وإن القرآن الكريم فيه إشارات بيِّنَات إلى علم الكون، ونعتقد أن الذين درسوا علوم الكون في السماوات والأرض وما بينهما لو تتبَّعوا آيات القرآن الكريم التي تعرَّضت لذكر الكون لوجدوا حقائق كثيرة ما وصل إليه العلم الحديث، قد تعرَّض لها القرآن بالإشارة الواضحة التي تجعل ولا تفصل، وهي في كلتا الحالتين صادقة كلَّ الصدق بيَّنَة لمن يطلب الحقائق الصادقة، وإن بضاعتنا في علوم الكون محدودة لا تسمح لنا بالخوض في كلامٍ تفصيلي في هذا، وقد رأينا كثيرين من العلماء المخلصين المحققين قد تعرضوا لهذا، فمنهم من بَيِّنَ طبقات الأرض، كما أشار القرآن، ومنهم من بَيِّنَ غير ذلك.

ونحن نرحب ببيانهم، ولكن لا بُدَّ من ملاحظتين:

الملاحظة الأولى: إنَّهم يحاولون أن يحملوا القرآن نظرياتهم، وعليهم أن يفهموه كما تبيّن ألفاظه، وكما تومي إشاراته؛ وذلك لأنهم أحيانًا يحملون القرآن ما لا يتحمَّل ويرهقون ألفاظه بالتأويل، وأحيانًا يأتون بنظريات لم تكن قد حررت من بعد من الشك والنظر، وقد تتغير، ولا يصح أن يبقى القرآن تتردد معانيه باختلاف النظريات، بل إنَّ الواجب أن ندرس ما في القرآن على أنه حقائق، فما وافقه من العلوم قبلناه.

الملاحظة الثانية: أن ندرس الكون في القرآن على أنه حقائق ثابتة هو مواضع التسليم من المؤمن بالله تعالى وبالقرآن، فلا تجعل حقائق موضع نظر، بل إن الإيمان بالقرآن يوجب الإيمان بكل ما اشتمل عليه، ولا يصح لنا أن نترك ظاهر القرآن ونتجه إلى تأويله إلَّا أن يكون الظاهر يقبل التأويل، وتكون حقائق العلم الثابتة تقتضي الأخذ بالتأويل الذي يحتمله القرآن من غير تعسُّف لا خروج بالألفاظ إلى غير معانيها.

ص: 372

وإننا بهذه الدراسة العميقة المسلّمة بحقائق نفتح مغاليق في العلم، ونتكشف الحقائق الكونية بهداية من القرآن، على أنه المرشد لها، وليس التابع، ولا الخاضع، وكتاب الله تعالى هو كتاب الحق والصدق والعلم؛ لأنه من عند الله الذي لا يخفى عليه شيء في السماء ولا في الأرض، وهو كتاب الوجود، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

الإنسان في القرآن:

233-

ذكر الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من طين، وخلق الجن من نار، وقد بيِّنَ ذلك في أصل الخليقة، وقد ذكر الله تعالى في آيات وسور مختلفة، وكلها سيقت بالبيان المتناسق في موضعها وموضوعها، ولنذكر من غير اختيار آيات كريمات في موضع منها، قال تعالى في سورة البقرة:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 30- 36] .

وإن هذا النص الكريم يبيِّن ثلاث حقائق كانت مع الإنسان:

أولها: إنه أوتي استعدادًا لعلم الإشياء، أي: علم الكون وما فيه؛ لأنَّ الله تعالى سخرها له، ولا يتحقق ذلك التسخير إلَّا إذا أودع الله تعالى نفسه القدرة على العلم بها، ولذلك أنبأ الملائكة بأسمائها.

الثانية: إنَّ في طبيعة الإنسان الاستعداد للإغراء، ومن هذه الناحية جاء إبليس، فأغرى أبوي الإنسان بالأكل من الشجرة، وقد نهاهما الله تعالى، ولكنهما تحت تأثير ذلك الإغراء نسيا نهي الله، كما قال تعالى في وصف آدم أبي الخليفة:{فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] .

ص: 373

الحقيقة الثالثة: أن آدم نزل هذه الأرض، وقد تلا كلمات الله تعالى ليكون مثالًا للفضيلة، ويستمسك بها، ولكن كان معه في الأرض إبليس يغري ذرية آدم، ويغويها، كما قال تعالى عنه:{فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83] .

هذا بيان الله تعالى في ابتداء خلق الإنسان.

ولقد بيِّنَ سبحانه من بعد ذلك خلق الإنسان بالتناسل، فقال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12- 14] .

ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2، 3] .

ويقول تعالى في خلق النفس الإنسانية في الإنسانية: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8] .

ويقول سبحانه في القوة المدركة في الإنسان التي بها يكون التكليف والحساب والثواب والعقاب: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 78] .

ويذكر سبحانه في كتابه الكريم أدوار الإنسان، فيقول تبارك وتعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 7-72] .

ص: 374

وذكر الله خلق الإنسانن وما عهد إليه من تكليفات في ثنايا القرآن الكريم، وقد ذكر الكون على أنه مسخَّر للإنسان يكشف منه أسرار الوجود التي يكون في طاقته أن يعلم بها، ويذكر خلق الإنسان وما أودعه الله تعالى من قوى ليعبد الله تعالى وحده.

ويذكر سبحانه وتعالى أنه بمقتضى ذلك التكوين النفسي والعقلي وكل القوى التي خلقها سبحانه وتعالى قد أخذ عليه عهدًا أن يكون ربانيًّا لله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 172-174] .

وبذلك يبيِّن سبحانه أنّ المواهب الإنسانية التي خلقها الله في الإنسان عهد بينه وبين ربه، فإن استجاب لفطرته ارتفع، وإن خالف واتبع الشيطان هوى، وبيِّنَ سبحانه وتعالى كيف يهوى، فيقول سبحانه بعد الآية السابقة:

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 175-179] .

النفس الإنسانية في القرآن:

227-

إذا اتجه التالي للقرآن إلى دراسة النفس الإنسانية من خلال آياته، فإنه بلا ريب في مكان فسيح للدراسة، يعطي مجموعة من المعلومات الحقيقية المصورة للنفس في إيمانها وفي فجورها، ويمكن أن يجد الإنسان فيها قواعد علمية تكشف عن نواميس النفوس، وما تتأثَّر به، وما تتجه إليه في إيمانها وفي انحرافها، ولنتجه إلى بعض هذه المعاني في كتاب الله تعالى، ولا ندَّعي أننا نستطيع الإحاطة بها علمًا، ولا إحصاءها ولو بالتقريب، فإنَّ ذلك يحتاج إلى تفرغ لا قِبَل للأخذ به إلَّا أن يكون ممن يعنون بدراسته، أو من المتخصِّصين في علم النفس، ولنضرب بعض الأمثال، وكثير منها في قصص القرآن، وبعضها في شرح أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين:

ص: 375

"أ" من هذه الأمثلة أنَّ النفس التي تسارع إلى الاعتقاد من غير دليل سابق، ولا فحص لقول لاحق من شأنها أن تقع في الخطأ، وإذا أصرت بعد البيان كانت في ضلال أصابها الصمم عن الحقائق، والعماء عنها، اقرأ قوله تعالى:{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 101، 102] .

إن الذي وهبه الله الهداية لفهم القرآن الكريم بعباراته وإشاراته تبدو بين يديه الحقيقتان الآتيتان:

أولاهما: إنَّه سبحانه وتعالى يقرّر أنه ليس من شأن الذين سارعوا إلى التكذيب من غير أن يفحصوا ويدرسوا أن يؤمنوا؛ لأن الإيمان يقتضي قلبًا مذعنًا لما يأتي به الدليل، لا أن يكون سابقًا بالحكم قبل الدليل، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله تعالت كلماته:{فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} وواضح أن العلة في سد باب الإيمان هو مسارعتهم بالتكذيب من غير برهان، ومن يكذب بالبرهان لا يؤمن بما جاء به البرهان.

الحقيقة الثانية: إنَّ المسارعة بالتكذيب تؤدِّي إلى تغليق القلب عن أن يصل إليه النور، ويتوالى التكذيب من غير دراسة للأدلة يكون منع الهداية، ولذلك يقول الله تعالى:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101] أي: بهذه الحال ومثلها يطبع الله تعالى على قلوب الكافرين، ويتحقق فيهم قول الله تعالى:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 171] .

"ب" ولننتقل إلى مثل آخر من كتاب الله، وإنَّه المعين الذي لا ينفد في دراسة النفس الإنسانية، ذلك المثل هو قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155] .

فهذا النص الكريم يبيِّن لنا قاعدة في النفس يسترشد بها المربِّي والمهذِّب، والذي حاول معالجة النفوس المريضة؛ إذ يعرف سبب المرض فيطلب له.

إذ يبيِّن الله سبحانه وتعالى أن الذين أعرضوا عن الوقوف يوم التقى الجمعان سبب توليهم أنهم أصابتهم ذنوب، وأنَّ الذنب يسهل الذنب، والمخالفة تجر المخالفة، وأنه لأجل الطبِّ لهم لا بُدَّ أن يعالج الذنب الأول بالحمل على الإقلاع عنه، وقد يكون ظهور مغبَّته السيئة علاجًا له، ولذلك قال الله تعالى:{وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} ، لأنهم أدركوا سوء ما كان لهم.

ص: 376

"ج" ومن هذه الأمثلة ما قرَّره الله تعالى من أنَّ النفس غير المؤمنة لا تنضبط، ولا تستقرّ على حال، والنعمة تبطرها وتطغيها، والنقمة توئسها وتشقيها، ولا ضبط ولا انضباط، ولا علاج لذلك إلَّا بالصبر، اقرأ قوله تعالى:{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ، وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ، إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 9-11] .

وإن هذه الآية الكريمة تشير إلى أنَّ ذلك الفرح الطاغي في حالة، واليأس المميت في وقته مرض إنساني، وأنَّ علاجه الصبر؛ لأنَّ الصبر ضبط النفس، فلا تنزعج للألم، ولا تطغى بالنعم.

"د" ولقد بيِّنَ الله تعالى أنَّ سلوك غير الحق هو اتِّبَاع للظنّ غير الناشئ عن دليل، بل عن الهوى، وقد قال تعالى في ذلك:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى، وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 27، 28] .

فهذا النص الكريم يبيِّن مرض النفس التي تضل، ويذهب بها الضلال إلى متاهات من الباطل، وذلك المرض هو الوهم، فهم يتوهَّمون ثم يهوون ثم يظنون، وليس عندهم دليل يكون علمًا، بل عندهم أوهام وظنون، وإن دارس علم النفس التربوي يجد فيه بابًا من أبواب التربية العقلية بأن يباعد بين الناشئة والأوهام.

"هـ" ومن الأمثلة لبيان أحوال النفوس بيان أحوال النفوس التي لا تفكِّر إلَّا في دائرة نفعها أو ضرّها، ومن شأن هذه النفوس أن تكون أثرة متقلبة، لا تذعن للحق ولكن تذعن لنفعها وضررها.

اقرأ قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12] .

وهذا تصوير للنفس التي فقدت الإيمان، وحرمت الخير، ولا تفكر إلَّا في محيطها، وهي بلا ريب غير الذين قال الله تعالى فيهم:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] .

"و" ولنكرِّر مثلًا ذكرناه فيما تلونا من قبل، ونذكره هنا من ناحية البيان النفسي، وهو مثل ولدي آدم، فالله تعالى يقول: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ

ص: 377

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 27-32] .

هذه الآيات البينات فيها كشف عن النفس المؤمنة المطمئنة الراضية، وكشف عن النفس الحاسدة الحاقدة:

"أ" وهي تدل على أمور نفسية تصوّر مصدر الشر والخير، فالنفس المؤمنة تعرف الأمور على وجهها، وتدرك الحق وما أوجبه، فهي ترد سبب قبول القربان إلى التقوى والخوف من الله.

"ب" والنفس التقية هي التي تمتلئ بذكر الله وتستشعر خوفه دائمًا، وأنَّ الاعتداء إنما يكون حيث يختفي الخوف ويظهر الطغيان، ولذلك علّل عدم رد الاعتداء الذي بادره به أخوه بأنه يخاف الله رب العالمين، وأنَّ القتل إنما هو جريمة في حق من خلقهم الله تعالى، وهو ربهم.

"ج" وتشير الآية إلى النفس منطوية على الخير، وأنَّ الشر عارض لها، ولذا رد المؤمن التقي قول أخيه وتهديده بالقتل بقوله:{مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} ، وفي هذه إشارة إلى أنَّ النفس التي لم تدنس بشر ليس من شأنها أن تبسط يدها بالقتل.

"د" والآيات تدل على أنَّ الحسد هو أساس الاعتداء، فلو انخلع من القلوب ما كان شر ولا اعتداء في الأرض.

"هـ" وتدل الآيات أيضًا على أنَّ الاعتداء بالأذى ليس هو الأصل بالنفس الإنسانية، فهو عندما اتجه إلى قتل أخيه عالج نفسه ليحملها على مطاردته في قتله، ولذا عبَّر الله سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله تعالت كلماته:{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ؛ لأنه خسر أخاه وخسر نفسه، فأفسدها.

"و" وتدل ثالثًا على أن رؤية المعتدى عليه، والاعتداء قائم يبعث على الندم، والآيات من بعد ذلك تبيِّن أنَّ أساس الكثير من الجرائم هو الحسد، فلو اجتثَّ من النفوس ما كان اعتداء، ولكن الله تعالى يبلو به الناس ليعلم الخير والشر.

ولا شكّ أن الدارس للنفس الإنسانية يجد في القرآن معينًا لا ينضب، ولو أن الناس عكفوا عليه لوجدوا فيه أعظم مصدر للدراسات النفسية والاجتماعية.

ص: 378