المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌الافتتاحية

- ‌تمهيد

- ‌معجزة القرآن:

- ‌القسم الأول:‌‌ نزول القرآن

- ‌ نزول القرآن

- ‌حكمة نزوله منجَّمًا:

- ‌المكي والمدني:

- ‌كتابة القرآن وجمعه:

- ‌جمع القرآن في عهد عثمان أو الأحرف السبعة:

- ‌تحريق غير المصحف الإمام وغير ما نسخ منه:

- ‌ترتيب الآيات والسور:

- ‌قراءات القرآن:

- ‌فائدة وجوه القراءات:

- ‌القسم الثاني:‌‌ إعجاز القرآن

- ‌ إعجاز القرآن

- ‌تلقي العرب للقرآن:

- ‌سر الإعجاز:

- ‌الصرفة وبطلانها:

- ‌وجوه الإعجاز:

- ‌الإعجاز البلاغي:

- ‌وجوه الإعجاز البلاغي:

- ‌ ألفاظ القرآن وحروفه:

- ‌نظرات في ألفاظ القرآن:

- ‌الكلمة مع أخواتها والعبارات مع رفيقاتها:

- ‌ الأسلوب القرآني:

- ‌التآلف في الألفاظ والمعاني:

- ‌صور بيانية للطمع والشح ثم الندم

- ‌النفس الفرعونية:

- ‌قوة البلاغة في الأسلوب من كلمات متآلفة:

- ‌التلاؤم:

- ‌ تصريف البيان:

- ‌التكرار في القرآن:

- ‌قصص القرآن من الناحية البيانية:

- ‌الدعوة في أوساط الشعب:

- ‌موسى مع بني إسرائيل:

- ‌بنو إسرائيل والأرض المقدسة:

- ‌ قصص القرآن لون من تصريف بيانه:

- ‌أسلوب القصص في القرآن:

- ‌القصص الحق المصور في أهل الكهف:

- ‌التصريف في صور العبارات القرآنية:

- ‌الاستفهام والنفي:

- ‌الحقيقة والتشبيه والاستعارة في القرآن:

- ‌التشبيه في القرآن:

- ‌الاستعارة:

- ‌المجاز والكناية:

- ‌الكنايات في القرآن:

- ‌نظم القرآن وفواصله

- ‌التلاؤم:

- ‌الفواصل:

- ‌أفي القرآن سجع

- ‌الإيجاز والإطناب في القرآن:

- ‌أقسام الإيجاز:

- ‌طوال السور وقصارها:

- ‌الإعجاز بذكر الغيب:

- ‌ جدل القرآن واستدلاله:

- ‌أسلوب جدل القرآن:

- ‌مسلك القرآن في سوق الأدلة:

- ‌علم الكتاب:

- ‌معجزات سيدنا موسى:

- ‌الخوارق التي جاءت على يد سليمان:

- ‌معجزات عيسى عليه السلام:

- ‌البعث واليوم الآخر:

- ‌يوم القيامة:

- ‌الميزان والحساب:

- ‌الجنة والنار:

- ‌البعث والجنة والنار أمور حسية

- ‌علم الحلال والحرام:

- ‌العدالة:

- ‌العدالة الدولية:

- ‌الأحكام الفقهية في القرآن:

- ‌الأسرة في القرآن

- ‌الميراث في القرآن الكريم:

- ‌الزواجر الاجتماعية:

- ‌المعاملات المالية:

- ‌العلاقات الدولية في القرآن:

- ‌العلاقة في السلم والحرب:

- ‌علم الكون والإنسان في القرآن:

- ‌قصة يوسف في سورته:

- ‌المجتمع المصري في عصر يوسف:

- ‌تفسير الكتاب

- ‌مدخل

- ‌تفسير القرآن بالرأي:

- ‌الظاهر والباطن:

- ‌ ترجمة القرآن

- ‌بيان ما اشتمل عليه الكتاب

الفصل: ‌ تصريف البيان:

‌التلاؤم:

70-

يقصد بالتلاؤم في الأسلوب أن تأتلف مخارج الحروف والكلمات كما ذكرنا، والانسجام في النّغَم بينها، ويعدُّ القاضي عبد الجبار أنَّ تآخي النغم في الألفاظ والحروف من حلاوة الكلام ومحسناته، ولكنا نقول: إنَّها بالنسبة للقرآن الكريم من تأثيره في النفوس، فهو في القرآن طريق الوصول إلى القلوب، وإنَّ نظمه على ما سنبيِّن يسير هو وأسلوبه بألفاظه ومعانيه إلى القلوب ليأخذها من طبعها الأرضي ليعلوَ بها إلى الأفق السماوي.

ويذكر أبو عيسى الرماني فائدة التلاؤم فيقول: "والفائدة في التلاؤم حسن الكلام في السمع، وسهولته في اللفظ، وتقبل النفس لمعناه، لما يرد عليها من حسن الصورة، وطريق الدلالة، ومثل ذلك مثل قراءة الكتاب في أحسن ما يكون الخط والحرف، وقراءته في أقبح ما يكون من الحرف والخط، فذلك متفاوت في الصورة وإن كانت المعاني واحدة".

وإنَّ الكلام يذاق كما يذاق الطعام، فكلما كان التنسيق والتلاؤم حسن في الذوق.

وإن لغتنا العربية لغة نطق ابتداء، وصارت من بعد لغة كتابة، ولم تنفصل عنها خاصتها، فهي نطق وكتابة، ولذلك كان لمخارج الحروف أثر في فصاحة الكلام، ولا شكَّ أن مخارج الحروف مختلفة منها ما يكون في أقصى الحلق، ومنها ما هو من أدنى الفم، ومنها ما هو في الوسط بينهما، فالتلاؤم فيها بأن تكون الكلمة حروفها متقاربة المخارج، والكلمات متقاربة المخارج ليسهل النطق على اللسان، وتتقبله الأسماع.

فإذا أضيف إلى ذلك التآخي في المعاني كان التلاؤم الكامل، والأسلوب الرابع، وذلك ما جاء في القرآن.

ص: 115

3-

‌ تصريف البيان:

71-

تختلف مناهج البلغاء كُتَّابًا وشعراءً، كل يجيد منهاجًا معينًا ويمتاز فيه، ويكون من الأوساط في غيره أثر دون الأوساط، فمنهم من يجيد الوصف، ويحكي الأشياء لقارئه كأنه يراها، ومنهم من يجيد القول الوعر العنيف، ولا يكون منه السهل الميسّر، ومنهم من يجيد شعر الغزل ولا يجيد غيره، ومنهم من يجيد القول الساخر، ولا يجيد القول الجاد، كما نرى في بعض كتاب العصر، ومنهم من يجيد الكتابة في السياسة، فإذا كتب في غيرها هان وابتذل، ومنهم من يجيد الكتابة في التحليل وإثارة التأمل، وهكذا، وقلَّ من يجيد الدخول إلى الكلام البليغ في أكثر من باب أو بابين، ويكونان متآخيين غير متناقضين.

أما القرآن المعجز الذي هو فوق قدرة البشر، فإنَّ البلاغة فيه في كل أبواب القول، وهي في كل باب تعلو علوًّا كبيرًا عن المجيدين في هذا الباب وحده، ولذلك كان تصريف القول فيه من تهديد وإنذار وتبشير، وإثارة للتأمل، ودعوة للتفكير في آيات

ص: 115

الله تعالى الكونية والقرآنية، والتفكير في النفس وفي الحس، كل ذلك من دلائل الإعجاز وسره.

ولقد قال سبحانه في ذلك: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [الإسراء: 41]، أي: إنَّ التصرف لزيادة التنبيه، وكلما زاد تنبيههم بالحق وإرشادهم ازدادوا نفورًا، فزادوا كفرًا، وقال تعالى:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 98]، أي: إنَّ الله تعالى صَرَف في القرآن يضرب الأمثال وبيان الأحوال رجاء أن يؤمنوا، ولكن سبق الكفر إليهم جعلهم يأبون الإيمان بالله والخضوع له، فزادوا نفورًا عن الحقائق، كما ينفر المريض السقيم عن الدواء الناجع، والغذاء الصالح، وقال تعالى:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 45] ، ذكر الله تعالى أنَّه يصرِّف القرآن بذكر الأمثال والأحوال، ولكن الذين سبق الضلال إليهم يجادلون، والجدل في الحق الواضح المبين يطمس الحقائق ويطفئ النور، ويختفي نور الحق وسط الأقوال المتضاربة والأهواء المتنازعة.

وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113] .

وقال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 46] .

وقال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65] .

وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 105]، أي: نصرِّف الآيات ليفقهوه ويدركوا الحق إنْ كانوا غير ضالين، ولم يطمس على قلوبهم، وليقولوا درست وتعلّمت، ويكذبوا أن طمس على قلوبهم ولم يؤمنوا بالحق، كما قالوا يعلمه غيره، ورد تعالى عليهم بقوله:

{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، وقال تعالى:{كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58] .

72-

وبهذه النصوص الكريمة تبيَّنَ أنَّ القرآن كان يصرف الآيات، بمعنى أنه يتضمَّن الأمر بالتوحيد والتكليفات الشرعية التي بها صلاح المجتمع وتكوين مدينة فاضلة تحترم فيها حقوق الإنسان احترامًا كاملًا، بأوجه مختلفة من البيان، من تهديد وإنذار، إلى تبشير وتوبيخ واستنكار، ودعوة إلى التأمل في خلق الله تعالى، وفي القول ومناهج التأثير، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ص: 116

وإنَّ التصريف في القرآن الكريم على ضربين: أحدهما في المعاني، وثانيهما: في الألفاظ والأساليب، فأمَّا التصريف في المعاني فإن المؤدَّى في جملته يكون واحدًا في عدة مواضع، ولكن لها في كل مرة عبرة، وهذا تصريف في المعاني وإن كانت الألفاظ تختلف أو تتقارب أو تتحد العبارات في بعض الأحيان، ولقد قال في تصريف المعاني الرماني في رسالته إعجاز القرآن:"وهذا الضرب من التصرف فيه بيان عجيب يظهر فيه المعنى بما يكتنفه من المعاني التي تظهره وتدل عليه، وتصريف المعنى في الدلالات المختلفة قد جاء في القرآن في غير قصة، منها: قصة موسى عليه السلام في سورة الأعراف، وفي طه والشعراء؛ لوجوه من الحكمة، منها: التصرف في البلاغة من غير نقصان، ومنها: تمكين العبرة والموعظة"1.

73-

وأول تصريف في مناحي القول في القرآن يكون في السور، فمنها: الطوال التي يجد فيها القارئ أبواب العلم الإسلامي المختلفة من بيان الوحدانية، وبطلان الوثنية، وتوجيه الأنصار إلى الكون، وما فيه من دلالة على قدرة الله، والأرض وما حوت من كنوز وزروع وثمار، من اتصال الأرض بالسماء بالمطر الذي يكون غيثًا يحيي الأرض، وينبت الزرع، ويسقي كل حيّ، ومن شرائع فيها المصلحة الإنسانية وكرامة الإنسان، وتكريمه بالعقل.

وفيها القصار التي يسهل على القارئ حفظها، وأن يعيها صدره لما فيها من جمل قصار يسهل وعيها والاعتبار بهان وذكرها في صلواته، وفيها بيان الوحدانية وذكر اليوم الأخر، وفي بعضها تجد أحكامًا شرعية مثل قوله تعالى في سورة الكوثر:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ، ففيها ذكر لليوم الآخر ومقام النبي صلى الله عليه وسلم، ومقام الشانئين الذين عادوه وعادوا الحق معه، وحكم الأضحية.

واقرأ قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ، ففي هذه السورة القصيرة جماع الخصال الإنسانية التي تصلح الآحاد والجماعات، وهي الإيمان الذي يعمر القلوب ويوجه الجوارح، فلا صلاح لإنسان أو جماعة إلَّا إذا صلحت القلوب، وأثمر الإمان العمل الصالح في الآحاد، وكانت الجماعة كلها للحق تتواصى عليه وتتعاون، فما صلح قوم ضاع الحق بينهم، وتخاذلوا في نصرته، وإن السبيل إلى احتمال أعباء الحق هو الصبر، فإنَّ الصبر فيه ضبط النفس، والابتعاد عن الشهوات، وجعلها خاضعة

1 رسالة الرماني من مجموع الرسائل في إعجاز القرآن ص101.

ص: 117

للعقل، بحيث تكون أمة ذلولًا لا سيدًا مطاعًا، وما تخاذل قوم عن نصرة الحق إلَّا لأنَّ الشهوات قد استولت على نفوسهم، وصار السائد على الجماعة الهوى المطاع، والشح المتَّبَع، ولذلك نصَّ الله سبحانه وتعالى على أنَّ الجماعة الفاضلة هي التي تتواصى على الحق، فلا يذل صاحب حق ولا يعلو أهل الباطل، وتتواصى على الصبر، وضبط النفس، وقدعها عن أهوائها وشهواتها.

وفي القرآن السور المتوسطة التي ليست بالطوال ولا القصار، ومنها ما يقرب من الطوال، ومنها ما هو قريب من القصار، وهي مشتملة على جل مقاصد الشريعة الإسلامية في عبارة موجزة مثيرة، ولكن بوضوح، ومبينة ولكن بإيجاز.

وكأن الله سبحانه وتعالى بذلك التصريف في السور بين الطويل والمتوسط والقصير، وكلها في أعلى درجات البلاغة، يقدِّم مائدته الكبرى وهي القرآن للناس أجمعين، ذوى العلم الذين يتَّسع علمهم للإحاطة بالسور الطوال وما فيها من علم بالشريعة، وما فيها من علم الكون الذي لا يحيط به من دونهم، وهم أوتوا مدارك تسمو إليها، وتستخرج من كنوزها جواهر.

وأعطى الذين يشغلهم أسباب الرزق عن الإحاطة قصار السور، وفيها غناء لا قصور فيه، بل إنه كمال في كمال.

وبين هؤلاء وأولئك الذين يطلبون السور المتوسطة طولًا، وهم الشادون في العلم الذين لهم من وقتهم ما يمكنهم أكثر ممن كانت لهم قصار السور.

وقد يقول قائل: هل تقسيم القرآن إلى سور قصار وما بينها تنزيل من الله تعالى؟ ونقول في الجواب عن ذلك: إنَّ ترتيب السور بوحيٍ من الله تعالى وقد بيَّنَّا ذلك فيما أسلفنا من قول في جمع القرآن.

ص: 118