الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفواصل:
124-
يعرِّف الرماني الفواصل بأنها: حروف متشابكة في المقاطع توجب حسن إفهام المعاني، ويقول:"الفواصل بلاغة والاسجاع عيب؛ وذلك أن الفواصل تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها، وهو قلب ما توجبه الحكمة في الدلالة؛ إذ كان الغرض الذي هو حكمة إنما هو الإبانة عن المعاني التي إليها الحاجة ماسة، فإذا كانت المشاكلة مواصلة إليه فهو بلاغة، وإذا كانت المشاكلة على خلاف ذلك فهو عيب ولكنه، لأنَّه تكلف من غير الوجه الذي توجبه الحكمة، ومثله مثل من رصَّع تاجًا ثم ألبسه زنجيَّا ساقطًا، أو نظم قلادة ثم ألبسها كلبًا، وقبح ذلك وعيبه بين لمن له أدنى فهم، فمن ذلك ما يحكي عن بعض الكهان: "والأرض والسماء، والغراب الواقعة بنقعاء، لقد نقر المجد إلى العشراء"، وهكذا نجد الرماني يفرّق بين السجع والفاصلة، بأن الفاصلة بلاغة، وأن السجع عيب، وأن الفواصل الألفاظ فيها تتبع المعاني، والأسجاع الألفاظ فيها مقصودة، والمعاني تابعة، ويظهر أنه لم يكن بين يديه إلا سجع الكهان، ولكن أكل السجع كذلك، وألَّا يوجد سجع يزيد المعاني قوة، وتكون فيه المعاني هو المتبوزعة، وليست تابعة، وأنَّ السجع يزيد المعاني ويعطيها قوة ويسهل قبولها، ويكون بابًا من أبواب تأكيدها.
ولذلك خالف الرماني في ذلك كلام الذين كتبوا البلاغة من بعد، وقبل أن نخوض فيما قالوه، نقرِّر أنَّ الفرق هو بين الفواصل والسجع، إنَّ الفواصل معناها أن تكون مقاطع الكلام متقاربة في الحروف كالنون والميم في قوله تعالى:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِك يَوْمِ الدِّينِ} ، وأما السجع فهو أن تكون المقاطع متحدة في الحروف، ونلاحظ أن الرماني متأثر في فكرة السجع بسجع الكهَّان الذي قصد به اتحاد الحروف من غير نظر إلى المعنى، ومن غير أن تكون المعاني في ذاتها ذات قيمة، بل لا يقصدون إلا إلى رصّ الكلمات متحرين اتحاد المقاطع.
وإنه عند التحقيق نجد أنَّ الفواصل أعمّ من السجع، فهي إما سجع تتحد فيه حروف المقاطع، أو مجرَّد فواصل تتقارب فيها حروف المقاطع، وذلك رأى ابن سنان في كتابه "سر الفصاحة"1 فهو يقول: الفواصل على ضربين: ضرب يكون سجعًا، وهو ما تماثلت فيه حروفه في المقاطع، وضرب لا يكون سجعًا، وهو ما تقابلت حروفه في المقاطع ولم تتماثل، ولا يخلو كل واحد من هذين القسمين من أنه يأتي سهلًا طوعًا وتابعًا للمعاني، وبالضدِّ من ذلك حين يكون متكلفًا يتبعه المعنى، فإن كان من القسم الأول فهو المحمود الدالّ على الفصاحة، وحسن البيان، وإن كان الثاني فهو مذموم.
وإن هذا الكلام معناه أنه ليس في كل فاصلة تكون الألفاظ تابعة للمعاني، فيكون الحسن والإفصاح والإحسان، وليس في كل سجع تكون المعاني تابعة للألفاظ، فيكون التكلّف، بل التعميم بالحسن في غير السجع، والقبح في السجع هو الخطأ، ولا شك أن فواصل القرآن كلها من البليغ الذي تكون فيه الألفاظ تابعة للمعاني.
وأنه بلا ريب في القرآن مقاطع تتحد فيها الحروف، ومقاطع أيضًا لا تتحد فيها الحروف، ولكن تتقارب، ومن المقاطع التي تتحد فيها الحروف قوله تعالى في سورة.
1 سر الفصاحة ص156.
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَالطُّورِ، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ، مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 1-8] .
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا، إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 1-8] .
وهكذا نجد اتحاد حروف المقطع في مقطعين أو أكثر، ثم تتغير إلى اتجاه المقاطع في حرف آخر، ومن القرآن ما تتقارب فيه المقاطع، مثل قوله تعالى:{ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ، قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ، بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 1-6] .
إننا لا نجد المقاطع متحدة الحروف، ولكن نجد أمورًا ثلاثة:
أولها: تقارب مخارج الحروف في المقاطع، فالدال والباء، والظاء مخارجها واحدة، والنطق فيها متقارب، ولا نفرة بينها.
ثانيها: وجود حرف المد قبل الحرف الأخير من كل مقطع، وهو حرف الياء في خمسة منها، وواحد بالواو، والوزن في الخمس الأول منها هو وزن فعيل.
وبهذين الأمرين كان التقارب في المقاطع، تقاربًا بينا يجعل نسق القول واحدًا، ولو لم تتحد المقاطع.
والأمر الثالث: هو اتحاد النغم والموسيقى في كل المقاطع، فهي كلها مؤتلفة في حروفها وألفاظها، وجملة ومقاطعها، حتى كونت صورة بيانية تجعل كلام الله العزيز فوق كل منال.
وقد يكون الكلام في القرآن خاليًا من المقاطع في بعض الآيات، ولا ينزل في نغمه وموسيقاه عن سمته ومستواه الأعلى، ومن ذلك قوله تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] .
وإننا لا نجد في هذا الكلام إلّا مقطعين لا يعدَّان فواصل متقاربة، ولا فواصل متحدة في آخرها بحروفها، إنما هو كلام الله المنثور من غير إرسال، بل النغم متآخ، والمعاني متلاقية، والألفاظ متجانسة، ومتلائمة مع بيان للأحكام ميسرًا سهلًا، فلم ينزل ذكر الأرقام بمرتبة الكلام عن حد التلاؤم والتآخي.