المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ قصص القرآن لون من تصريف بيانه: - المعجزة الكبرى القرآن

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌الافتتاحية

- ‌تمهيد

- ‌معجزة القرآن:

- ‌القسم الأول:‌‌ نزول القرآن

- ‌ نزول القرآن

- ‌حكمة نزوله منجَّمًا:

- ‌المكي والمدني:

- ‌كتابة القرآن وجمعه:

- ‌جمع القرآن في عهد عثمان أو الأحرف السبعة:

- ‌تحريق غير المصحف الإمام وغير ما نسخ منه:

- ‌ترتيب الآيات والسور:

- ‌قراءات القرآن:

- ‌فائدة وجوه القراءات:

- ‌القسم الثاني:‌‌ إعجاز القرآن

- ‌ إعجاز القرآن

- ‌تلقي العرب للقرآن:

- ‌سر الإعجاز:

- ‌الصرفة وبطلانها:

- ‌وجوه الإعجاز:

- ‌الإعجاز البلاغي:

- ‌وجوه الإعجاز البلاغي:

- ‌ ألفاظ القرآن وحروفه:

- ‌نظرات في ألفاظ القرآن:

- ‌الكلمة مع أخواتها والعبارات مع رفيقاتها:

- ‌ الأسلوب القرآني:

- ‌التآلف في الألفاظ والمعاني:

- ‌صور بيانية للطمع والشح ثم الندم

- ‌النفس الفرعونية:

- ‌قوة البلاغة في الأسلوب من كلمات متآلفة:

- ‌التلاؤم:

- ‌ تصريف البيان:

- ‌التكرار في القرآن:

- ‌قصص القرآن من الناحية البيانية:

- ‌الدعوة في أوساط الشعب:

- ‌موسى مع بني إسرائيل:

- ‌بنو إسرائيل والأرض المقدسة:

- ‌ قصص القرآن لون من تصريف بيانه:

- ‌أسلوب القصص في القرآن:

- ‌القصص الحق المصور في أهل الكهف:

- ‌التصريف في صور العبارات القرآنية:

- ‌الاستفهام والنفي:

- ‌الحقيقة والتشبيه والاستعارة في القرآن:

- ‌التشبيه في القرآن:

- ‌الاستعارة:

- ‌المجاز والكناية:

- ‌الكنايات في القرآن:

- ‌نظم القرآن وفواصله

- ‌التلاؤم:

- ‌الفواصل:

- ‌أفي القرآن سجع

- ‌الإيجاز والإطناب في القرآن:

- ‌أقسام الإيجاز:

- ‌طوال السور وقصارها:

- ‌الإعجاز بذكر الغيب:

- ‌ جدل القرآن واستدلاله:

- ‌أسلوب جدل القرآن:

- ‌مسلك القرآن في سوق الأدلة:

- ‌علم الكتاب:

- ‌معجزات سيدنا موسى:

- ‌الخوارق التي جاءت على يد سليمان:

- ‌معجزات عيسى عليه السلام:

- ‌البعث واليوم الآخر:

- ‌يوم القيامة:

- ‌الميزان والحساب:

- ‌الجنة والنار:

- ‌البعث والجنة والنار أمور حسية

- ‌علم الحلال والحرام:

- ‌العدالة:

- ‌العدالة الدولية:

- ‌الأحكام الفقهية في القرآن:

- ‌الأسرة في القرآن

- ‌الميراث في القرآن الكريم:

- ‌الزواجر الاجتماعية:

- ‌المعاملات المالية:

- ‌العلاقات الدولية في القرآن:

- ‌العلاقة في السلم والحرب:

- ‌علم الكون والإنسان في القرآن:

- ‌قصة يوسف في سورته:

- ‌المجتمع المصري في عصر يوسف:

- ‌تفسير الكتاب

- ‌مدخل

- ‌تفسير القرآن بالرأي:

- ‌الظاهر والباطن:

- ‌ ترجمة القرآن

- ‌بيان ما اشتمل عليه الكتاب

الفصل: ‌ قصص القرآن لون من تصريف بيانه:

وثانيها: إنَّ ضعفهم أفقدهم قوة الإيمان، والشك في حكم الديَّان، حتى إنهم ليقولون لموسى عليه السلام: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. وذلك تهكُّم يدل على وَهَن إيمانهم، كما وهنت نفوسهم.

وثالثها: إنَّ الأمم لا تتربَّى إلَّا بتعوّد خشونة العيش، كما تعوَّدت نعومته، وأن تذوق جشبه كما ذاقت حلاوته، ولذلك بَيِّنَ الله سبحانه وتعالى أنه لا يمكن أن يدخلوا الأرض المقدَّسة التي كتب الله تعالى عليهم أن يدخلوها، فقال سبحانه:{فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} .

وهذا كما يبدو من الآية تحريم كوني، أي: إنَّه لا يمكن أن يستطيعوا الدخول إلى الأرض المقدسة مقاتلين مجاهدين إلَّا بعد أن يذهب عنهم ذل الوهن، ويأتي جيل جديد قد ذاق طعم الشدة، وعلم الحياة نضالًا، ولم يعلمها استكانة وضعفًا، والتقدير بالأربعين لا أحسب أنه يقصد به العدد، ولكن يقصد به الكثرة التي تنشئ جيلًا تربَّى في شظف العيش وصلابة الحياة وقسوتها.

ولقد أخذ هذه الحقيقة القرآنية ابن خلدون، وجعل أساس قوة الأمم شدة الحياة وصلابتها، فإنها إذا استرخت أدال الله منها بقوم أولي بأس شديد تربَّوا في البداوة، وذاقوا بأسها.

ص: 139

2-

‌ قصص القرآن لون من تصريف بيانه:

83-

ذكرنا أنَّ البيان القرآني فيه تصريف القول على ألوانٍ متعددة متباينة في حقيقتها متلاقية في غياتها، ولا يمكن أن يكون لكلام بشر مع سموِّ البلاغة وبلوغها المقام الذي يناصى في كل أصنافها، بل لا يمكن أن يبلغ الغاية في صنف واحد من أصنافها، وقد ذكرنا ما في القرآن من إطناب من غير تكرار، وذكرنا ما يتوهم فيه التكرار في القصص، وبيَّنَّا أنه لا تكرار يعد ترديدًا ولو على سبيل التوكيد، وما يتوهم فيه التكرار إنما هو تجديد المعنى لغاية أخرى ومقصد آخر، وكان الذكر لما يتوهم تكراره فيه كمال المعنى، ولا يمكن أن يستغنى القول عنه، إنما التكرار المردود يكون فيما لو حذف المتوهم تكراره ما نقصت الغاية، وما اختل بيان المقصد، وتكرار القرآن ليس على هذا، بل هو تكميل لا بُدَّ منه، وتتميم لا يستغنى عنه، وذلك يكون في القصص، وفي الاستدلال بآيات الله تعالى الكونية، على وحدة من خلق وكون وأبدع، وقد ضربنا على ذلك الأمثال.

والان نذكر القصص القرآني على أنه لون من تصريف البيان القرآني، وتغير أشكاله كما ذكر الله تعالى في القرآن:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} .

ص: 139

إن القصص القرآني فيه العبرة، وما ذكرت قصة إلّا كان معها عبرة أو عِبَر، وفيها المثلات لمن عصوا وتركوا أمر ربهم، وفيها بيان ما نزل بالأقوياء الذين غرهم الغرور، والجبابرة الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، والله من ورائهم محيط.

وإن القصص فيه إيناس صاحب الرسالة المحمدية بأخبار إخوانه من المصطفين الأخيار، وإثبات قوله، فقد كانت تلك الأخبار الصادقة ما كانت لتعليم إلا لمن شاهد، وما شاهد أحداثها وهو لا يزال في بطن الغيب، كما قال سبحانه وتعالى عقب قصة مريم:{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] وكما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام ووقائعها، قد قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 44-46] .

لم يكن محمد مشاهدًا الأحداث التي جاء القرآن الكريم بقصصها، وهي صادقة وثابتة في الصادق من أخبار النبيين في كتبهم التي يتداولها أهل الكتاب، ولم يتناولها التحريف.

ولم يكن بمكة مدرسة لاهوت، بل لم يكن بمكة يهود ولا نصارى إلا خمَّار ألحدوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منه كذبًا وبهتانًا، فقال الله تعالى ردًّا عليهم:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] .

وكانت مكة بلدًا أميًّا، ليس به علم، ولا رياسات، إلّا مباريات رياسية في البيان، وكان محمد صلى الله عليه وسلم أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، وقد قال الله تعاى وهو أصدق القائلين:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] .

لذلك نقول: إن القصص القرآني ذاته فيه إعجاز ذكره الكتاب جاء على لسان أمي لا يقرأ ولا يكتب؛ إذ هو النبي الأمي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.

ويتساءل أيّ تالٍ للقرآن: من أين جاء محمد بهذا القصص الحق، وهو لم يشاهد وقائعه، ولم يقرأها؛ لأنه لم يكن قارئًا؟ إنه من عند الله العزيز الحكيم علَّام الغيوب، وبذلك كان القصص الصادق من التحدي.

ص: 140

التصريف البياني في قصص القرآن:

ذكر الله تعالى الحقائق الإسلامية في القصص، فلم يكن عبرة فقط، بل كان بيانًا لحقائق الإسلام، فنجد فيه بيانًا لعقيدة التوحيد، والبرهان عليها جاء في سياق القصص عن النبيين السابقين، فقد رأيت في قصص سيدنا إبراهيم عليه السلام كيف كانت الدعوة إلى التوحيد، وكيف أبطل عبادة الوثان بأنها لا تضر ولا تنفع، وأنه جعلها جذاذًا إلا كبيرًا لهم، وأنهم أرادوا عقوبته بالحرق بالنار، فجعلها الله تعالى بردًا وسلامًا على إبراهيم.

واقرأ بعض القصص عن سيدنا نوح الأب الثاني للبشر، ترى الأدلة على التوحيد بأن نجد في بعضها أدلة التوحيد تساق للضالين، ويوجه أنظارهم إلى الكون وما فيه فقد قال تعالى:

{قَالَ يَا قَوْم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا، وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا، ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا، مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خََقَكُمْ أَطْوَارًا، أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا، وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا، لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 2: 20] .

ألم تر في هذه النصوص السامية تسلية واضحة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ فيها بيان ما لقيه نوح، وكيف كانت الأدلة القاطعة لا تزيدهم إلا نفورًا من الحق وفرارًا من أتباعه، وإصرارًا على الباطل، وفي كل ذلك عزاء للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لئلَّا تذهب نفسه حسرات على كفر الكافرين وجحودهم بعد الأدلة القاطعة.

ومع هذا العزاء الروحي، والعبرة التي تريح الدعاة إلى الحق، نجد في السياق البرهنة على التوحيد، وأن الله تعالى وحده هو الخالق، وأنه بالتالي المستحق للعبادة وحده، فلا معبود سواه.

وسوق الأدلة على التوحيد في سياق قصة يجعله يسري إلى النفس من غير مقاومة، وتكراره يجعله يخط في النفس خطوطًا، وتتعمق الخطوط فيكون الإيمان.

ص: 141

وإنك لترى الدعوة إلى التوحيد واضحة في قصة يوسف عليه السلام، فهو في السجن يدعو إلى التوحيد وعبادة الله وحده، ويجعل سلواه وهو في السجن الدعوة إلى الوحدانية، وسوق الأدلة، فالله تعالى يحكي عنه أنه يقول لصاحبيه في السجن:{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ، يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 37-40] .

انظر إلى الاستدلال القيم على أن الواحد الأحد خير من أرباب متفرقين، يتيه العقل فيهم، وأنهم لا حقائق لهم تتعلق بالألوهية، ثم يذكر ذلك عقب أن بين تأويل ما عجز عنه المئولون من رؤى، وقال: أنه قد علمه ربه.

ثم انظر إلى هذا القصص، وذكر التوحيد يجيء في أثناء السجن بسبب فرية نسائية افترينها عليه، ويجيء في وسط قصة نسوة المدينة أنه يكون طريفًا، فيكون له تأثيرًا أقوى وأشد.

84-

وليس القصص القرآني فيه إثبات أنَّ الله وحده هو المستحق للعبادة، وبطلان عبادة الأوثان التي هي أسماء سمَّوْها هم وآباؤهم، ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، بل فيها إثبات الوحدانية أمام الذين يدعون ألوهية المسيح عليه السلام.

واقرأ قصة عيسى عليه السلام، فإن فيها الدليل على أنه ليس إلّا عبدًا لله تعالى، ولقد قال سبحانه وتعالى في ذلك:{يَا أَهْل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا، لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 171، 172] .

ونرى من هذا أن ذكر قصة عيسى أو ذكر جزء منها اختص ببيان وحدانية الله وإثبات بطلان أنَّ الله تعالى ثالث ثلاثة، وساق الدليل، وهو أنَّ الله تعالى خالق كل شيء، وله ما في السماوات والأرض، وصلة كل مخلوق كمثيله وإن اختلف طريق غيره،

ص: 142

فصلة المسيح عليه السلام بالله من حيث الخلق والتكوين كصلته بأي مخلوق سواه، ولا يؤثر في هذه الصلة التكوينية أنه عبد ممتاز، وأنه رسول من رب العالمين، وإن كانت طريقة تكوينه أنه وُجِدَ من غير أب، فإن ذلك لا يجعله إلهًا أو ابن إله، كما قال تعالى في مقام آخر فيه إشارة إلى قصة عيسى؛ إذ قال الله تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] .

واقرأ قصة أخرى لسيدنا عيسى عليه السلام، فقد قال الله تعالى:{وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 71-76] .

وهنا نجد الرد على من يجعلون المسيح إلهًا، لقد نفى الدعوى من أصلها؛ إذ بَيِّنَ أن المسيح الأمين لم يكن يدَّعيها، ولا يمكن أن يدَّعيها، فقد كان هو داعيًا إلى التوحيد، نافيًا للشرك بربوبية الله، وأنه كسائر الناس مخلوق، وأن الله ربه كما هو رب الناس جميعًا، وبين سبحانه بطلان دعوى الألوهية له ولأمه بأنهما محتاجان، ويأكلان الطعام كسائر الناس، والله تعالى غنيّ لا يحتاج، وليست له صفة الحوادث من طعام وغذاء، وبيِّن ثالثًا أنه لا يضر ولا ينفع إلَّا بإذن من الله تعالى خالقه من غير أب، وأنه من بعد ذلك عبد لا يستنكف ولا يستكبر.

ونرى أن نفي التثليث وإثبات بطلانه بالدليل جاء في ضمن قصة، فكان تصريفًا في الاستدلال؛ إذ إن سوق الدليل في ضمن قصة يجعله أكثر سريانًا في النفس، وانسيابًا في أطوائها.

الحث على المعاملة الطيبة في القصص:

85-

وإنه مما جاء في القصص أنَّ دعوة النبيين -عليهم الصلاة وأتم السلام- جاءت للخير إلى حسن التعامل، وإصلاح الأرض، وأنَّ إصلاح الأعمال والنفوس ومنع الفساد في الأرض من أعظم المقاصد في الشرائع السماوية بعد عبادة الله تعالى والإيمان باليوم الآخر، وإذا كان ذلك في ضمن قصة استمكنت في النفس وتجهت إلى مداخلها من غير تعويق من ملاحاة جديدة، غير ما كان في عهد النبي الذي ذكرته القصة.

ص: 143

اقرأ قصة شعيب عليه السلام، فقد قال تعالى:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ، وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف: 85-87] .

أمَا ترى في هذا النص القرآني الذي تتضمَّنه قصة شعيب عليه السلام دعوة صريحة إلى ناحية علمية تتصل بالإصلاح الاجتماعي، ومنع الفساد في الأرض، والقيام بحق الأمانة في التعامل.

وفي موضع آخر من قصة شعيب نجده يكرر الدعوة، ثم يبين سبحانه كيف تقاوم دعوة الحق بالإصرار على الشر، وكيف كان الإصرار عليه، إلى أن يديل الله تعالى بما ينزل بالعصاة، ومما يؤدي إلى فساد أخلاق الأمة، لقد قال الله تعالى حكاية لقول شعيب:{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ، قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ، قَالَ يَا قَوْم أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 84-88] .

ونرى من هذه المجاوبة أنهم يصرون على ما هم عليه، ويعدون إرشادهم إلى الحق في المعاملة تدخلًا في شئونهم المالية، وكأنهم يظنون أن شئون المال لا صلة له بالتدين، كما يجري على ألسنة بعض الذين لا يريدون بالدين الحق وقارًا، ويبين سيدنا شعيب عليه السلام أنه إذ ينهاهم هو أول من يتمسَّك بألَّا يفعل ما نهى عنه، إذ يقول:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} وفي ذلك إشارة إلى أن من يدعو إلى أمر يهدمه إن خالفه في عمله، وأن الاستجابة إلى الداعي إلى الخير تقتضي أن يكون الداعي مستجيبًا له، وهكذا، فإنَّ الله تعالى يأخذ على بني إسرائيل، أنهم يأمرون الناس بالبرِّ وينسون أنفسهم، فقد قال تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] .

ص: 144

ميزان العدالة في الحكم:

86-

ويبين الله سبحانه وتعالى بطريق القصص القرآني -لأنه من تصريف البيان كما أشرنا- أنَّ مقياس الحكم العادل إدراك الحق، وألَّا يجعل القاضي أو الحاكم للهوى سلطانًا في الحكم، فإن كان الهوى كان الشطط في الحكم، ومظنَّة الوقوع في الظلم، وإن كان الحاكم لا بُدَّ أن يكون مدركًا للحق فلا بُدَّ من عنصر العلم وإبعاد الهوى.

واقرأ قصة داود عليه السلام الذي أعطاه الله الملك والحكمة، فاقرأ العبارات السامية التالية:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ، فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ، يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 21-26] .

هنا نجد القصة عن نبي الله داود عليه السلام تتضمَّن ثلاثة أمور في التنبيه على كل واحدة منها تنبيه إلى أمثل الطرق للوصول إلى العدل في الأحكام.

أولها: إنَّه سبق إلى الحكم من غير أن يستمع إلى كلام الخصم، فقضى لأحد الخصمين، قبل أن يستمع إلى كلام الآخر، فإن ذلك مدرجة الظلم، بل قد يكون ظلمًا.

ثانيها: إنَّه لم يكتف بالحكم في القضية المعروضة، بل عمَّم الحكم، والقضاء يكون في القضية المدروسة ولا يتجاوزها.

الأمر الثالث: وهو يفصل التفرقة بين الحكم الظالم والحكم العادل، أن الحكم العادل لا يكون بالهوى والشهوة، وأما الحكم الظالم فإنه يكون تحت سلطان الهوى والشهوة. وأن الملوك والحكام المستبدين يكون مصدر شرهم أهواؤهم، فهم يتبعون أهواءهم فيما يحكمون به، وما ينزلونه بالناس، فهم يسنون النظم تبعًا لأهوائهم ويطبقونها تبعًا لأهوائهم، ويجعلون شيعتهم تسارع إلى تنفيذ أهوائهم، ولا يفهمون المصلحة إلا تابعة لأهوائهم، فإذا نهى الله تعالى نبيه داود عن اتباع الهوى وهو خليفة

ص: 145

حاكم، فإنما نهاه عمَّا يؤدي إلى فساد الحكم، وبهذا يتبين أن حكم الهوى كان مصدر فساد الحكم في الماضي، كما هو مصدر الفساد في كل الأزمان، وذكر ذلك في قصة من قصص القرآن يزيد المبدأ تبينًا وتأكيدًا، وقد بيَّنَّا أن ذكر أيّ أمر في قصة يجعله يسري في النفوس، ويدخل إلى الضمائر إن كان فيها استعداد للحق.

ولا شكَّ أن هذا كله يدل على أن القرآن يصرف فيه سبحانه البيان تصريفًا ليكون أقرب إلى التأثير والدفع إلى العمل، وليس ذكر القصص للعبرة فقط، بل هو مرشد وهادٍ مع ذلك إلى أقوم السبيل، والله أعلم.

بيان بعض الأحكام بالقصص القرآني:

87-

من صور التصريف البياني بالقصص القرآني بيان بعض الأحكام الشرعية، فإنَّ ذلك يثبت هذه الأحكام ويدعمها؛ لأنها تكون أحكامًا متفقًا عليها في كل الشرائع السماوية، وبيان أنها غير قابلة للنسخ، وأنها مؤكدة ثابتة، وفي القصة تكون حكمة شرعيتها قائمة والغاية منها ثابتة، ولنذكر من قصة قابيل وهابيل ولدي آدم.

فقد قال الله تعالى فيها: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 27-31] .

هذه القصة تثبت أن الغيرة والحسد يؤديان إلى الاعتداء، وأن ذلك يحدث بين أقرب الناس بعضهم لبعض، وأنه لا علاج للحسد بإخراجه من النفوس، فهو فيها دفين، نعم إنه مرض، ولكنه مرض لا يمكن أن يكون منه شفاء، والناس ليسوا سواء فمنهم شقي وسعيد.

وإذا كان الأمر كذلك فلا علاج إلَّا ببتر من استكن في قلبه الحسد، وصار من شأنه التعدي استجابة له، والاعتبار في النظم لصلاح الجماعة لا لصلاح الآحاد فقط، ولذلك قال الله تعالى عقب ذكر قصة ولدى آدم:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32] .

ص: 146

وإنا لنرى هذا القصص المحكم قد ارتبط فيه الحكم بسببه، فهو في جزء من القصص ذكر سبحانه ما كان بين الأخ وأخيه من محاربته فطرة الأخوة الرابطة، وأنه حمل نفسه حملًا على ارتكاب جريمته؛ إذ هي مخالفة للطبائع السليمة، ولذلك قال سبحانه وتعالى:{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُه} حتى إذا تمَّت الجريمة رأى بشاعتها في جثة أخيه، فأراد أن يواريه فضَلَّ، حتى رأى غرابًا هو أحنّ على أخيه منه، وهو أعلم كيف يواري سوءة أخيه.

وما كانت أمور الناس لتترك فوضى، يجرم من يجرم ثم يندم، فكانت شريعة القصاص؛ لأن الاعتداء بالقتل اعتداء على حق الحياة في كل إنسان، ومن قتل نفسًا بغير حق فهو على استعداد لقتل غيرها، ففي عمله تعريض النفوس الإنسانية لاعتداء المعتدين المفسدين، ومن أحياها بالقصاص من القاتل، فكأنما أحيا الناس أجمعين، كما قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} [البقرة: 179] .

وإن هذا يدل على أن شريعة القصاص شريعة أزلية خالدة باقية، وأنها كانت في الشرائع السابقة، ولم تخل شريعة من شرائع النبيين الكرام منها، ولقد ذكرت بحكمتها ونتيجتها، وهي إحياء للأمة وإهمالها إماتة لها.

ولا شك أنَّ ذلك تصريف بياني قرآني في بيان الأحكام:

وقد جاءت الأحكام أكثر تفصيلًا في بيان القصاص في الأطراف مع النفس في قصص عن بني إسرائيل، والتوراة وما جاء فيها، ولنتل على القارئ الكريم بعض ما جاء في ذلك، وإن كنَّا سنتلو أكثر مما تلونا من الماضي، ولقد قال الله تعالى في وصف بعض بني إسرائيل في عصر النبي صلى الله عليه وسلم الذين أرادوا أن ينفروا من حكم التوارة في مجرم ارتكب جريمة، لاجئين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حاسبين أن عنده حكمًا أخفّ من حكم التوراة لهوًى في نفوسهم. قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ

ص: 147

مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَْ} [المائدة: 42-50] .

وترى من هذا النص الكريم بيانًا للأحكام الشرعية الخاصة بالقصاص في تفصيل محكم مستقر مقنع، فهو يجعل القصاص في الأطراف، كما هو ثابت في النفس، بل إنه يثبت القصاص في الجروح، ويوثق الأحكام بأنها نفذت في الإنجيل؛ إذ جاء الإنجيل مصدقًا لما بين يديه من التوراة، ويوثقها بأن القرآن مصدق لما جاء في التوراة، ولكن له هيمنة وسلطا، يبقي ما يبقي، وينسخ ما ينسخ، وما يثبت أنه نسخ من أحكامها فهو منسوخ؛ لأن له الهيمنة الكاملة.

وفي القصاص الشريعة باقية، وفي التوراة كما هو في القرآن جواز العفو عن القصاص؛ إذ يقول سبحانه:{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَه} ، والقصاص ثبت بالقرآن، فالله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 178، 179] .

وهكذا نجد ذكر الأحكام الثابتة التي لم يعترها تغيير ونسخ بطريق القصص نوع من تصريف البيان وتثبيت الأحكام.

ص: 148