الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تاسعًا: كتبُ الناسخِ والمنسوخِ
إنَّ علمَ النَّاسخِ والمنسوخِ من أشهرِ علومِ القرآنِ، وأكثرها كُتُبًا، إذ كتبَ فيه عددٌ كثيرٌ من العلماءِ، ومن كتبهم المطبوعة:
1 -
كتاب النَّاسخِ والمنسوخِ في كتابِ الله تعالى، لقتادة بن دِعامة السَّدوسيِّ (ت: 117).
2 -
النَّاسخُ والمنسوخُ، لمحمد بن مسلم بن شهاب الزهريِّ (ت: 124).
وهذان الكتابان من كتبِ أعلامِ التَّابعينَ وتابعيهم، ومن ثَمَّ فإنَّ دراستَها يلزمُ أن تكونَ على مصطلحِهم في النَّسخِ، وسيأتي بيانُ مصطلحِهم فيه.
3 -
الناسخ والمنسوخ، لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت: 224).
4 -
الناسخ والمنسوخُ في كتاب الله عز وجل واختلاف العلماء في ذلك، لأبي جعفر أحمد بن محمد النَّحاس (ت: 338).
5 -
الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ومعرفة أصوله واختلاف الناس فيه، لأبي محمد مكي بن أبي طالب (ت: 437).
6 -
الناسخ والمنسوخ في القرآن لأبي بكر بن محمد بن عبد الله بن العربي (ت: 543).
7 -
نواسخ القرآن، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزيِّ (ت: 597).
وتتميَّزُ هذه الكتبُ الأربعة بالنَّقدِ والتَّحليلِ في تفسيرِ الآياتِ التي حُكيَ فيها النَّسخُ، وفيها فوائدُ كثيرةٌ بسببِ هذه المناقشاتِ العلميَّة.
8 -
النَّسخُ في القرآنِ الكريمِ، للدكتور مصطفى زيد، وهو من أهمِّ كتب النَّسخِ المعاصرة.
وهناك غيرها كثيرٌ من المطبوع والمخطوطِ.
مصطلح النَّسخ بين المتقدِّمين ومتأخِّري الفقهاء:
يختلف إطلاقُ النَّسخِ بين السَّلفِ والمتأخِّرينَ.
فالمتأخِّرونَ من علماءِ الفقهِ وأصولهِ يُعرِّفونَ النَّسخَ بأنه: رفعُ حكمٍ شرعيٍّ بدليلٍ شرعيٍّ متراخٍ عنه.
ومن شروطِ وقوعِ النَّسخِ:
1 -
أن يكونَ النَّسخُ في حكم شرعيٍّ.
2 -
أن لا يكونَ النَّاسخُ متصلاً بالمنسوخِ في آية واحدة.
3 -
أن يكونَ بينهما زمنٌ في النُّزولِ، وهذا يعتمدُ على تاريخِ النُّزُولِ، ومعرفة المكِّيِّ من المدنيِّ، والذي نزلَ أوَّلاً، والذي نزل بعده، وهذا من أعسرِ العلوم.
قال ابن العربيِّ (ت: 543): «ومعرفةُ المكِّيِّ والمدنيِّ أمرٌ عسيرٌ، لم تبلغْ إليه معرفةُ العلماءِ على التَّحقيقِ، ولا ثبتَ فيه النَّقلُ على الصَّحيحِ،
وإنما أراد الله أن يكونَ كذلك في سبيل الاحتمال حتى تختلفَ بالمجتهدين الأحوالُ» (1).
4 -
وجودُ التَّعارض بين الحكمينِ المُدَّعى فيهما النَّسخُ.
وأغلبُ مادَّةِ كُتبِ النَّاسخِ والمنسوخِ تتعلَّقُ بالنَّسخِ على اصطلاحِ المتأخرينَ، ومن أجلِ ذلك، فهو جزءٌ من علمِ أحكامِ القرآنِ.
أمَّا علماءُ السَّلفِ من الصَّحابة والتَّابعين وأتباعِهم، فالنَّسخُ عندهم يشملُ النَّسخَ الذي استقرَّ عليه المتأخرونَ، والعامَّ والخاصَّ، والمجملَ والمبيَّنَ، والمطلقَ والمقيدَ.
وهذا يعني أنَّ مصطلحَ النَّسخِ عندهم يشملُ رفعَ أيِّ حكمٍ، أو معنى في الآيةِ، وهو بهذا يشملُ تخصيصَ العامِّ، وتقييدَ المطلقِ، وبيانَ المجملِ، والاستثناءَ، وغيرَها مما يدخلُه إزالةُ بعضِ معناه (2).
وعلى هذا المفهومِ من النَّسخِ يُحملُ كلامُ علي بن أبي طالب
(1) الناسخ والمنسوخ، لابن العربي (2:9).
(2)
من العجيبِ أنَّ ابن العربيِّ (ت: 543) قد نصَّ على هذا، فقال:«قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]، قال ابن القاسم ـ عن مالكٍ ـ: هي منسوخة. وهذا كلامٌ تشمئز منه قلوبُ الغافلين، وتحارُ فيه ألبابُ الشَّادين، والأمرُ فيه قريبٌ؛ لأنَّا نقولُ: لو ثبتَ ما نسخَها إلَاّ ما كان في مرتبتِها، ولكن وجهه أنَّ علماء المتقدِّمين من الفقهاء والمفسِّرين كانوا يُسمُّونَ التَّخصيصَ نسخًا؛ لأنَّه رفعٌ لبعضِ ما تناوله العمومُ ومسامحة، وجرى ذلك في ألسنتهم، حتَّى أشكلَ ذلك على من بعدهم، وهذا يظهرُ عند من ارتَاضَ بكلامِ المتقدِّمين كثيرًا» . أحكام القرآن (1:205).
ولكنه يعترضُ على أمثلةٍ في النَّسخِ على مفهومِ السَّلفِ، ويحكمُ بها على مصطلحِ المتأخرينَ. ينظر: كتابه الناسخ والمنسوخ (2:51 - 52، 261).
(ت: 40) في النَّاسخِ والمنسوخِ، فقد وردَ عنه أنَّه مرَّ بقاصٍّ يقصُّ في المسجدِ، فقال له: «أعلِمتَ النَّاسخَ والمنسوخَ؟
قال: لا.
قال: هلكتَ وأهلكتَ» (1).
وقد نبَّه على مفهومِ النَّسخِ عند السَّلفِ جمعٌ من العلماءِ، أنقلُ لك من أقوالِهم قول الشَّاطبيِّ (ت: 790): «
…
الذي يظهرُ من كلامِ المتقدمين أنَّ النَّسخَ عندهم في الإطلاقِ أعمُّ منه في كلامِ الأصوليين، فقد يطلقون على تقييد المطلقِ نسخًا، وعلى تخصيصِ العمومِ بدليلٍ متَّصلٍ أو منفصلٍ نسخًا، وعلى بيانِ المبهمِ والمجملِ نسخًا، كما يطلقون على رفع الحكمِ بدليلٍ متأخِّرٍ نسخًا؛ لأنَّ جميع ذلك مشتركٌ في معنًى واحدٍ، وهو أنَّ النَّسخَ في الاصطلاحِ المتأخِّرِ اقتضى أنَّ الأمرَ المتقدِّمَ غيرُ مرادٍ في التَّكليفِ، وإنما المرادُ ما جيء به آخِرًا، فالأوَّلُ غيرُ معمولٍ به، والثَّاني هو المعمولُ به.
وهذا جارٍ في تقييدِ المطلقِ، فإنَّ المُطلَقَ متروكُ الظَّاهرِ مع مُقَيِّدِهِ، فلا إعمالَ له في إطلاقِه، بل المُعمَلُ هو المقيَّدُ، فكأن المطلقَ لم يُفِدْ مع مُقَيِّدِهِ شيئًا، فصارَ مثلَ النَّاسخِ والمنسوخِ.
وكذلك العامُّ مع الخاصِّ، إذْ كانَ ظاهرُ العامِّ يقتضي شمولَ الحكمِ لجميعِ ما يتناولهُ اللَّفظُ، فلمَّا جاءَ الخاصُّ، أخرجَ حُكمَ العامِّ عن الاعتبارِ، فأشبه النَّاسخَ والمنسوخَ. إلَاّ أنَّ اللَّفظَ العامَّ لم يُهمَلْ مدلولُه جملةً، وإنما أُهمِلَ منه ما دلَّ عليه الخاصُّ، وبقِيَ السَّائرُ على
(1) أخرج هذا الأثر جماعة، منهم أبو عبيد في النَّاسخ والمنسوخ (ص:4)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (1:410).
الحكمِ الأوَّلِ. والمبيَّنُ مع المبهمِ، كالمُقَيَّدِ مع المُطلَقِ، فلمَّا كانَ كذلكَ استُسْهِلَ إطلاقُ لفظِ النَّسخِ في جملةِ هذه المعاني، لرجوعِها إلى شيءٍ واحدٍ» (1).
وإذا تقرَّر هذا، فإنَّه لا يصحُّ الاعتراضُ على ما يردُ عن السَّلفِ من النَّسخِ حتَّى يتبيَّنَ لك الأمرُ.
وسأضربُ لك مثالين في مصطلحِ النَّسخِ عند السَّلفِ:
* رُويَ عن ابن عباسٍ (ت: 68) أنَّه حَكَمَ على قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] بأنه منسوخٌ بقوله تعالى: {إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء: 227](2).
والآيةُ المنسوخةُ خبرٌ، وقد تقرَّرَ في قواعدِ النَّسخِ أنَّ الأخبارَ لا تُنسخُ (3).
ولكن إذا حملتَ النَّسخَ على مطلقِ الرَّفعِ، وأنَّه هنا رَفَعَ بعضَ العمومِ الوارد على لفظِ الشُّعراءِ، وبهذا يكونُ الاستثناءُ الواردُ بعد هذا العمومِ قد خصَّصَ من الشُّعراءِ من آمنَ باللهِ = صحَّ لك ما وردَ من
(1) الموافقات، للشَّاطبي، تحقيق: محيي الدين عبد الحميد (3:73 - 74). وقد ذكر أمثلةً لقضايا النَّسخِ على مصطلح السَّلفِ، وبيَّنَ المرادَ بها (3:74 - 79). وينظر للنصِّ على مصطلح السَّلف في النسخ: شيخ الإسلام في الفتاوى (14:69، 101)، والاستقامة (1:23)، ودقائق التفسير (1:214). وابن القيم في إعلام الموقعين (1:35). والدِّهلويُّ في الفوز الكبير في أصول التفسير، نقله إلى العربية: سليمان الحسيني الندوي (ص:53).
(2)
ينظر: الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، لمكي (ص:373)، ونواسخ القرآن، لابن الجوزي (ص:417).
(3)
ينظر على سبيل المثال: الناسخ والمنسوخ للنحاس (2:120).
الحُكمِ بالنَّسخِ، وأنه لا يرادُ به النَّسخُ على الاصطلاحِ المتأخِّرِ الذي استقرَّ عليه علماءُ أصولِ الفقه وغيرهم، واللهُ أعلمُ.
* أسند النَّحاسُ (ت: 338)، عن وهب بن منبِّه (ت: 114) أنَّ قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5]، منسوخٌ بقوله تعالى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7](1).
وقد اعترض على هذا جماعةٌ، منهم ابن الجوزيِّ (ت: 597). قال: «وهذا قبيحٌ؛ لأنَّ الآيتين خبرٌ، والخبرُ لا يُنسخُ
…
» (2).
وهذا الاعتراضُ يصحُّ لو كان مقصودُ القائلِ النَّسخَ الاصطلاحيَّ المتأخِّرَ، ولكن لو حُمِلَ على مُصطلحِ السَّلفِ، وجُعلَ هذا من بيان المجملِ، لكانَ المذهبَ، دون أن يُعترضَ على العلماءِ ما كان لقولِهم وجهٌ مقبولٌ واللهُ أعلمُ.
وعلى هذا قِسْ كثيرًا مما وردَ من لفظِ النَّسخِ عن السَّلفِ، تسلمُ من الاشتباهِ في تفسيرِهم، أو الاعتراضِ عليهم بما لهم فيه مصطلحٌ ما استقرَّ عليه المتأخِّرون.
ومن هنا يحسنُ التَّنبُّه على أنَّه لا يصحُّ أن تُحملَ ألفاظُ السَّلفِ
(1) ينظر: الناسخ والمنسوخ، للنحاس، تحقيق: الدكتور سليمان اللاحم (2:612)، وقد نسبه ابن الجوزي في نواسخ القرآن (ص:447) إلى وهب والسُّدِّيَّ ومقاتل بن سليمان.
(2)
نواسخ القرآن، لابن الجوزي (ص:447).
على الألفاظِ الاصطلاحيَّةِ التي ضُبِطَتْ بها العلوم بعد عهدهم.
ومن الأمثلةِ على ذلك، ما ورد في تفسيرِ قولِه تعالى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98]، قال عكرمةُ (ت: 105)، والحسنُ البصريُّ (ت: 110)، وابن جريج (ت: 150): {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ، ثمَّ استثنى، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]؛ يعني: عيسى والملائكة وعُزَير وكلُّ من عُبِدَ من الصالحينَ، وهو غيرُ راضٍ (1).
قال مكيُّ بن أبي طالب (ت: 437): «وقد سمَّى جماعةٌ من المتقدمين هذا استثناءً، وليس كذلك؛ لأنَّ الاستثناءَ إنَّما يأتي بحرفِ الاستثناءِ، ولا حرفَ في هذا، فإنما هو تخصيصٌ وبيانٌ» (2).
وهذا الاستدراكُ من مكيٍّ (ت: 437) غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّه لا يرادُ بالاستثناءِ في هذا المثالِ الاستثناءُ في مصطلحِ النَّحويين، بل مرادهم: استثنى؛ أي: أخرجَ، والمرادُ أنَّهم خارجونَ عن حكمِ الآيةِ الأولى بهذه الآيةِ، وهو التَّخصيصُ والبيانُ الذي ذكرَه أبو محمد مكيُّ بن أبي طالبٍ (ت: 437) (3).
(1) ينظر: تفسير الطبري، طـ: الحلبي (17:96).
(2)
الإيضاح لناسخ القرآن، لمكيٍّ، تحقيق: أحمد فرحات (ص:351).
(3)
لم يكن هذا غائبًا عن مكيٍّ (ت: 437)، فيما يظهر، إذ إنه بيَّنَ ذلك في تعليقِه على قول ابن عباسٍ في تخصيص قوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5]، قال مكيٌّ (ت: 437): «وعن ابن عباس أيضًا أنه قال: «استثنى اللهُ منها نساءَ أهلِ الكتابِ فأحلَّهُنَّ بآيةِ المائدةِ» . =
استدراكٌ في أمثلةِ النَّسخ عند السَّلفِ:
قد لا تسلمُ بعضُ الأمثلةِ من أن تكونَ مشكلةً في مرادِ السَّلفِ بالنَّسخِ، وذلك إذا كان الأمرُ يتعلَّقُ بحكمٍ شرعيٍّ، وكان محتملاً للنَّسخِ الاصطلاحيِّ المتأخِّرِ، ومحتملاً لأن يكونَ بمعنى تخصيصِ العمومِ مثلاً.
فيكونُ الخلافُ في الحكم على الآيةِ دائرًا بين النَّسخِ، والقول بالعمومِ المُخصَّصِ، وإليك هذا المثال الذي يبيِّنُ المقالَ:
قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 121].
في هذه الآية خلافٌ طويلٌ، والمرادُ هنا ما أشيرَ إلى حكمِ النَّسخِ فيها، فقد قيل بأنها منسوخةٌ بآيةِ المائدةِ، وهي قوله تعالى:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5].
ويكونُ المرادُ بالمشركاتِ: عابداتِ الأوثان من العربِ وغيرِهم، واليهوديَّاتِ، والنَّصرانيَّاتِ، وتكونُ هذه الآيةُ ناسخةً للمنعِ من زواجِ نساءِ أهلِ الكتابِ إذا كُنَّ عفائفَ محصناتٍ، وأُعطينَ أجورهنَّ.
أما عابداتُ الوثنِ من الكافرات، فقد وردَ النَّهيُ عن زواجِهنَّ في غيرِ هذه الآيةِ، ولذا يبقينَ على التَّحريمِ.
وقيلَ بأنَّ آيةَ سورةِ المائدةِ مخصِّصةٌ لآيةِ سورةِ البقرةِ؛ أي أنَّ اللهَ
= وهذا معنى مفهومٌ من قولِه، وإن كان بغيرِ لفظِ الاستثناءِ، فهو تخصيصٌ وبيانٌ، كما أنَّ الاستثناءَ بيانٌ أيضًا». الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، لمكيٍّ، تحقيق: الدكتور أحمد حسن فرحات (ص:172).
خصَّ من المشركاتِ نساءَ أهل الكتابِ، على أنَّ وصفَ المشركاتِ يشملهنَّ ويشملُ الوثنيَّاتِ.
وفي هذا المثالِ، قد يجوزُ أن يكونَ من قال بالنَّسخِ، أرادَ العمومَ، كما قد يجوزُ أن يكونَ مرادُه النَّسخَ الاصطلاحيَّ، واللهُ أعلمُ.
وفي الآية تقريرٌ آخر، لكنَّ المرادَ هنا مطلقُ المثال الذي يُصوِّر المسألة، والله الموفِّقُ.
ومن الملاحظِ في كتبِ النَّسخِ، كثرةُ حكايتهم لآياتِ النَّاسخِ والمنسوخِ، وهي في كثيرٍ منها ليست كذلك، ولعلَّ أكثرَ آيةٍ ادُّعيَ أنها ناسخةٌ آيةُ السَّيفِ، فقد حُكِيَ أنها ناسخة لأكثرَ من ستينَ آية (1).
(1) ينظر: قبضة البيان في ناسخ ومنسوخ القرآن، لأبي القاسم جمال الدين بن عبد الرحمن البذوري (ص:18 - 21).