الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حادي عشر: كتبُ أسبابِ النُّزولِ
نزل القرآنُ على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُنجَّمًا، وكان منه يَنْزِلُ عليه ابتداءً، ومنه ما يَنْزِلُ بسببٍ: حادثةٍ تقعُ؛ كحادثةِ الظِّهارِ، أو سؤالٍ يوجَّهُ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يخرجُ ما نزلَ من القرآنِ بشأنِ قِصَصٍ ماضيةٍ، فإنها لا تُعدُّ من أسبابِ النُّزول.
أمَّا إن كانَ السَّببُ في قصةٍ وقعتْ، أو في حالٍ من أحوالِ من نزلَ فيه القرآنُ من العربِ وأهلِ الكتابِ = فإنَّه يُعدُّ سببًا للنُّزولِ، وعلى هذا كثيرٌ من أسبابِ النُّزولِ المحكيَّةِ.
وقد كتبَ العلماءُ في أسبابِ النُّزولِ، ومن كتبِهم في هذا العلمِ:
1 -
أسبابُ النُّزولِ، لعليِّ بن المَدِينيِّ (ت: 334).
2 -
أسباب النُّزولِ، لأبي الحسن علي بن أحمد الواحديِّ (ت: 468).
3 -
العُجابُ في بيانِ الأسبابِ، لأبي الفضل أحمد بن حجر العسقلانيِّ (ت: 852).
4 -
لبابُ النُّقولِ في أسبابِ النُّزولِ، لجلالِ الدِّينِ عبد الرحمن بن أبي بكر السُّيوطيِّ (ت: 911).
5 -
الصَّحيحُ المسندُ من أسبابِ النُّزولِ، لمقبل بن هادي الوادعيِّ.
وهناك غيرها في هذا العلمِ (1).
صِيغُ أسباب النُّزول:
تعتبرُ صِيَغُ النُّزولِ من المباحثِ المشكلةِ في علم التَّفسيرِ؛ لأنَّ تحديدَ الصِّيَغِ التي يُرادُ بها سبب النُّزولِ المباشرِ غيرُ واضحةٍ في كلِّ سببٍ يُذكرُ، وليس لهم في ذلك عبارةٌ متَّحدةٌ.
ومن العباراتِ:
فأنزل الله، فَنَزَلت، نزلت هذه الآية في كذا، نزلت في فلان.
وصيغةُ: «فأنزل الله» ، وصيغةُ:«فَنَزَلت» ، غالبًا ما تكونُ في السَّببِ المباشرِ لنُزولِ الآيةِ.
وصيغةُ: «نزلت هذه الآية في كذا» ، وصيغة:«نزلت في فلان» ، غالبًا ما تكونُ من بابِ التَّفسيرِ الاجتهاديِّ، وليست من بيانِ السَّببِ الذي من أجلِه نزلت الآيةُ.
وقد تأمَّلتُ كثيرًا مما وردَ بهاتين الصِّيغتين، فظهرَ لي أنها ـ إن لم تكن تحكي سَبَبًا مباشرًا ـ لا تخلو من ثلاثةَ أحوالٍ:
الأول: أن تدلَّ على تضمُّنِ الآية للحكمِ الذي حُكِيَ في النُّزولِ.
(1) ينظرُ في كتبِ هذا العلمِ ما كتبه عبد الحكيم محمد الأنيس في مقدمة تحقيقه لكتاب العجاب في بيان الأسباب (1:80 - 84).
ومثاله، ما رواه الواحديُّ (ت: 468) عن عبد الله بن عمر (ت: 73)، قال:«أُنزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] أن تصليَ حيثما اتجهت بك راحلتك، في التَّطوُّعِ» (1).
الثَّاني: أن تدلَّ هذه العبارةُ على أنَّ المفسِّرَ فسَّرَ بالقياسِ.
ومثاله ما رُوي عن سعد بن أبي وقَّاصٍ (ت: 55) في قول اللهِ تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة: 27]، قال:«نزلت في الحَرُورِيَّةِ» ؛ يعني: الخوارج، وفي روايةٍ: هم الحروريَّةُ (2).
الثالث: أن تكونَ على سبيلِ حكايةِ مثالٍ لمن تشملُه الآيةُ.
ومن أمثلتِه، ما رواه ابن مردويه (ت: 410) عن سعد بن أبي وقَّاصٍ (ت: 55)، في تفسير قوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33]، قال:«نزلت في الحروريَّةِ» (3).
والآيةُ عامَّةٌ في كلِّ من حاربَ الله ورسولَه، والخوارجُ الحروريَّةُ مثالٌ لهم، فهم داخلونَ في حكمِ الآيةِ، واللهُ أعلمُ.
ويكثرُ في هذا القِسْمِ أن يُحكى نزولُ الآيةِ في شخصٍ معيَّنٍ، والمرادُ من ذِكْرِه التَّمثيلُ به لمعنى ما تحمله الآيةُ؛ لذا قد يُحكى نزولُ الآيةِ في أكثرَ مِن شخصٍ، وإنما هم أمثلةٌ لمن تحتملُه الآيةُ، ومن ذلكَ قوله تعالى:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 3]، فقد وردَ أنها نزلتْ في العاصِ بن وائل، وقيل: في عقبة بن أبي معيطٍ، وقيل: في أبي
(1) أسباب نزول القرآن، للواحدي، تحقيق: كمال بسيوني (ص:41).
(2)
ينظر: فتح الباري، طـ: الريان (8:278)، والعجاب في بيان الأسباب (1:247).
(3)
يظر: تفسير ابن كثير، تحقيق: سامي السلامة (3:95).
لهبٍ، وقيل: في أبي جهلٍ (1)، وهؤلاءِ المذكورونَ أمثلةٌ لمن أبغضَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فهم كلهم يشملُهم هذا الوصفُ، كما قال ابن كثيرٍ (ت: 774): «وهذا يَعُمُّ جميعَ من اتَّصَفَ بذلك ممن ذُكرَ وغيرِهم» (2).
ومن ثَمَّ، فإنَّ أسبابَ النُّزولِ في أغلبِ أحوالِها أمثلةٌ لما تتضمّنُه الآيةُ من معنى أو حكمٍ؛ لذا قد يصحُّ أكثرُ من سببٍ في آيةٍ، وليس بينها تعارضٌ إذا حُمِلَتْ على التَّمثيلِ، ومن ذلك:
روى البخاريُّ (ت: 256) سببينِ في نزولِ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} [آل عمران: 77].
الأول: عن أبي وائل شفيق بن سلمة (ت: 82)، عن عبد الله بن مسعودٍ (ت: 32) قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف يمين صبر ليقتطعَ بها مالَ امرئ مسلمٍ، لقيَ الله وهو عليه غضبانُ» ، فأنزلَ اللهُ تصديقَ ذلك:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} إلى آخرِ الآيةِ.
قال: فدخل الأشعثُ بنُ قيسٍ، وقال: ما يُحدِّثُ أبو عبد الرحمن؟
قلنا: كذا وكذا.
قال: فِيَّ أُنزِلت. كانت لي بئرٌ في أرضِ ابن عمٍّ لي، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«بَيِّنَتُكَ أو يمينه» .
فقلتُ: إذًا يَحْلِفُ يا رسول الله.
(1) ينظر: تفسير الطبري (30:328 - 329)، وتفسير ابن كثير (8:504).
(2)
تفسير ابن كثير، تحقيق: سامي السلامة (8:504).
فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «من حلفَ على يمينِ صبرٍ يقتطعُ بها مالَ امرئٍ مسلمٍ، وهو فاجرٌ، لقيَ الله وهو عليه غضبان» .
الثاني: عن عبد الله بن أبي أوفَى (ت: 88): «أنَّ رجلاً أقامَ سِلعةً في السُّوقِ، فحلفَ فيها: لقد أُعطِيَ بها ما لم يُعطَهُ، ليوقِعَ فيها رجلاً من المسلمين، فنَزَلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 77]» (1).
وهذان السَّببان لا منافاة بينهما، ويُحملُ الأمرُ على أنَّ النُّزولَ كان بالسَّببينِ جميعًا، ولفظُ الآية أعمُّ من ذلك (2).
ومن أجل ذلك، ظهرتْ قاعدةُ: العبرة بعمومِ اللَّفظِ، لا بخصوص السَّببِ.
وهذا يعني أنَّه لا يوجدُ إشكال في تكاثُرِ النُّصوصِ في سبب النُّزولِ، واللهُ أعلمُ.
ملاحظة:
يكثرُ تعيينُ من يُرادُ بالآيةِ، دون ذكرِ لفظِ النُّزولِ، وهذا يأتي في بابِ القياسِ، وبابِ التَّمثيلِ، ومن أمثلةِ ذلكَ:
ما ورد في تفسيرِ قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمُ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5] عن أبي أمامة الباهليِّ: صُدّيِّ بن عجرن (ت: 86)، قال:«هم الخوارج» (3).
(1) صحيح البخاري، مع شرحه فتح الباري، طـ: الريان (8:60 - 61).
(2)
ينظر: فتح الباري، طـ: الريان (8:61).
(3)
تفسير الطبري، طـ: الحلبي (28:86 - 87).
وإذا نظرتَ إلى سياقِ الآيةِ، وجدتَ أنه في الحديثِ عن بني إسرائيل، كما أنَّ الخوارجَ لم يكونوا عند نزولِ هذه الآياتِ، وإنما أرادَ المفسِّرُ أنْ يُنبِّه على دخولِ الخوارجِ في حكم هذه الآيةِ، وأنهم مثالٌ لقومٍ مالوا عن الحقِّ، فأمالَ اللهُ قلوبهم جزاءً وفاقًا لميلِهم، على سبيلِ القياسِ بأمرِ بني إسرائيلَ.
طريق معرفة سبب النُّزول:
سببُ النُّزولِ له حُكمُ الرَّفعِ؛ لأنَّه حكايةُ أمرٍ حدثَ في عهدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا يعني أنَّه لا يُقبلُ إلَاّ ممن شَهِدَ الحدثَ (1)، أو كان من الصَّحابةِ الذين يروونَه، وإن لم يُشاهدوه (2).
وهذا يعني أنَّ ورودَ أسبابِ النُّزولِ الصَّريحةِ عن الصَّحابةِ الكرامِ له حكمُ الرَّفعِ، وإلى هذا أشارَ جماعةٌ من العلماءِ؛ منهم الحاكمُ (ت: 405)، فقد ذكر ذلك في مواطنَ من كتابه: المستدركِ على الصَّحيحين، وذكره كذلك في كتاب معرفة علوم الحديث، فقال: «
…
فأمَّا الموقوفُ على الصَّحابةِ، فإنَّه قلَّ ما يخفى على أهل العلم
…
ومن الموقوف الذي يُستدلُّ به على أحاديث كثيرة: ما حدَّثناه أحمد بن كاملٍ القاضي، ثنا يزيد بن الهيثم، ثنا محمد بن جعفر الفيدي، ثنا ابن فضيل، عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن أبي هريرة رضي الله عنه في قول الله عز وجل:{لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر: 29]، قال:
(1) فائدة: يغلب على رواية أسباب النُّزولِ التي يرويها البخاري في كتاب التفسيرِ من صحيحه أن يسندها إلى صاحب الحدث الذي نزلت فيه.
(2)
ينظر مثلاً: فتح الباري، طـ: الريان (8:360)، فقد روى البخاريُّ سبب نزول سورةِ المسد عن ابن عباس، وهو لم يشهد هذا الحدث.
تلقاهم جهنَّمُ يوم القيامة، فتلفحُهم لفحةً، فلا تترك لحمًا على عظمٍ إلَاّ وضعت على العراقيب.
قال: وأشباه هذا من الموقوفات تُعَدُّ في تفسيرِ الصَّحابةِ.
فأمَّا ما نقول في تفسير الصَّحابيِّ: مسندٌ، فإنَّما نقولُه في غيرِ هذا النَّوعِ (1)، فإنَّه كما أخبرناه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصَّفَّار، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني مالك بن أنس، عن محمد بن المنكدر، عن جابرٍ قال: كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قُبُلِها، جاء الولدُ أحول، فأنزل الله عز وجل:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223].
قال الحاكم: هذا الحديث وأشباهه مسندةٌ عن آخرها، وليست بموقوفة، فإنَّ الصَّحابيَّ الذي شَهِدَ الوحي والتَّنْزيلَ، فأخبر عن آيةٍ من القرآنِ: إنها نزلت في كذا وكذا، فإنَّه حديثٌ مسندٌ» (2).
أمَّا إذا وردت حكايةُ السَّببِ الصَّريحِ عن التابعينَ أو أتباعِهم، فإنه لا يخلو الحالُ من أمرين:
الأول: أن ينفردَ الواحدُ منهم بذكرِه، وفي هذه الحالِ لا يُقبلُ
(1) يقصد النوع الخامس الذي ذكره قبل هذا الكلام، وهو الموقوف من الروايات. ينظر: معرفة علوم الحديث (ص:19).
(2)
معرفة علوم الحديث، للحاكم (ص:20)، وقد نقلته بنصِّه لإبرازِ مذهبِه، إذ قد فَهِمَ بعض الأئمة الأعلام أنه يعد تفسير الصَّحابةِ في حكم المرفوع، وسبب ذلك اللَّبس أنه لم يفصِّل كهذا التَّفصيل في المواطن التي ذكرها في المستدرك (1:542)، (2:258)، وممن نَسَبَ له ذلك ابنُ القيِّم، قال في كتابه التبيان في أقسام القرآن (ص:142 - 143): «
…
وهذا عند طائفة من أهل الحديث في حكم المرفوع. وقال الحاكم: تفسيرُ الصحابةِ عندنا في حكم المرفوع».
السَّببُ صريحًا؛ لأنَّ فيه انقطاعًا ظاهرًا، وإن احتُملَ تفسيرًا.
الثاني: أن يَرويَ السَّببَ اثنان أو أكثر، وفي هذه الحالِ يُجعلُ أصلُ ما حكوه سببًا، وإن اختلفوا في تفاصيلِه، خصوصًا إذا تكاثرت روايتُهم، وورد عن جمع منهم من غيرِ تواطؤٍ أو روايةٍ لأحدهم عن الآخرِ.
وهذه القاعدةُ تفيدُ كثيرًا في الأسبابِ التي يرويها مَنْ دونَ الصَّحابةِ الكرامِ، وقد ذكرها شيخ الإسلام ابن تيميَّةَ (ت: 728)، فقال: «والمراسيلُ إذا تعدَّدتْ طُرقُها، وخلتْ عن المواطأةِ قصدًا، أو الاتفاقِ بغيرِ قصدٍ، كانتْ صحيحةً. فإنَّ النقلَ إمَّا أن يكونَ صِدقًا مطابقًا للخبرِ، وإما أن يكون كذبًا تعمَّدَ صاحبه الكذب، أو أخطأ فيه، فمتى سَلِم من الكذبِ العمد والخطأ = كان صدقًا بلا ريب.
فإذا كان الحديثُ جاء على جهتينِ أو جهاتٍ، وقد عُلِمَ أنَّ المخبرين لم يتواطئوا على اختلاقه، وعُلِمَ أنَّ مثلَ ذلكَ لا تقع الموافقة فيه اتفاقًا بلا قصد، عُلمَ أنَّه صحيحٌ، مثلُ شخصٍ يحدِّثُ عن واقعةٍ جرتْ، ويذكرُ تفاصيلَ ما فيها من الأقوالِ والأفعالِ، ويأتي شخصٌ آخرُ قد عُلِمَ أنَّه لم يواطئ الأولَ، فيذكرُ مثلَ ما ذكرَه الأولُ من تفاصيلِ الأقوالِ والأفعالِ، فيعلم قطعًا أنَّ تلك الواقعةَ حقٌّ في الجملةِ.
فإنه لو كان كلٌّ منهما كَذَبَها عمدًا أو خطأً، لم يتَّفقْ في العادةِ أن يأتي كلٌّ منهما بتلك التفاصيلِ التي تمنعُ العادةُ اتفاقَ الاثنينِ عليها بلا مواطأةٍ من أحدهما لصاحبِه، فإنَّ الرَّجلَ قد يتَّفقُ أن ينظِمَ بيتًا، وينظمَ الآخرُ مثله، أو يكذب كذبة، ويكذب الآخر مثلها، أما إذا أنشأ قصيدة طويلةً ذات فنون على قافيةٍ ورويٍّ، فلم تَجْرِ العادةُ بأنَّ غيرَه يُنشِئُ مثلها
لفظًا ومعنًى، مع الطولِ المُفرطِ، بل يُعلمُ بالعادةِ أنَّه أخذها منه.
وكذلك إذا حدَّثَ حديثًا طويلاً فيه فنونٌ، وحدَّثَ آخرُ بمثلِه، فإنه يكونُ واطأه عليه، وأخذه منه، أو يكونُ الحديثُ صِدقًا.
وبهذه الطَّريقِ يُعلمُ صدقُ عامَّةِ ما تعدَّدتْ جهاتُه المختلفةُ على هذا الوجهِ من المنقولاتِ، وإن لم يكنْ أحدها كافيًا؛ إمَّا لإرساله، وإمَّا لضعفِ ناقِلِه.
لكن مثل هذا لا ينضبطُ به الألفاظُ والدقائقُ التي لا تُعلمُ بهذه الطَّريق، بل يحتاجُ ذلك إلى طريقٍ يَثْبُتُ بها مثلُ تلكَ الألفاظِ والدَّقائقِ، ولهذا ثبتت غزوةُ بدرٍ بالتَّواتر، وأنها قبل أُحُدٍ، بل يُعلمُ قطعًا أنَّ حمزةَ وعليًّا وعُبيدةَ برزوا إلى عتبةَ وشيبةَ والوليدِ، وأنَّ عليًّا قتلَ الوليدَ، وأنَّ حمزةَ قتل قِرْنَهُ، ثمَّ يُشَكُّ في قِرْنِه هل هو عتبةُ أو شيبةُ؟
وهذا الأصل ينبغي أن يُعرفَ فإنَّه أصلٌ نافعٌ في الجزمِ بكثيرٍ من المنقولاتِ في الحديثِ والتَّفسيرِ والمغازي، وما يُنقلُ من أقوالِ النَّاسِ وأفعالِهم، وغيرِ ذلك» (1).
الحاجة إلى معرفة سبب النُّزولِ:
الأصل الأصيلُ الذي يجبُ أنْ يُعلمَ أنَّ سببَ النُّزول الصَّريحَ يعينُ على فهم معنى الآيةِ، ويُبعدُ المحتملاتِ الواردةِ عليها، فهو مرجِّحٌ أكيدٌ عند ورودِ الاحتمالِ، والجهلُ به مدعاةٌ للوقوعِ في الخطأ في التَّفسيرِ (2).
(1) مقدمة في أصول التفسير، تحقيق: عدنان زرزور (ص:62 - 73).
(2)
ينظرُ في أهميَّةِ معرفةِ أسبابِ النُّزول: أسباب النُّزولِ للواحدي، تحقيق: كمال بسيوني زغلول (ص:10)، والمقدمة في أصول التَّفسير، لابن تيميَّة، تحقيق: عدنان زرزور (ص:47)، والموافقات، للشاطبي، تحقيق: محيي الدين =
ومن الأمثلةِ في ذلكَ:
فسَّرَ أبو عبيدةَ (ت: 210) قول الله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]، فقال:«أي اطلبوا البِرَّ من أهلِه ووجهِه، ولا تطلبوه عندَ الجهلةِ المشركينَ» (1).
وفسَّرَه بعضهم على «أنَّ البيوتَ كنايةٌ عنِ النِّسَاءِ، ويكونُ المعنى: وأتوا النِّسَاءَ منْ حيثُ أمرَكم اللهُ، والعربُ تُسَمِّي المرأةَ بيتًا، قالَ الشاعرُ (2):
مَا لي إذَا أنْزِعُهَا صَأَيْتُ
…
أكِبَرٌ غَيَّرَنِي أمْ بَيتُ
أراد بالبيتِ المرأةَ» (3).
وكلا هذينِ القولينِ يَظْهَرُ منهما عدمُ العملِ بسببِ النُّزولِ الواردِ في الآيةِ الذي يدلُّ على أنَّ المرادَ بالبيوتِ البيوتُ المسكونةُ، ولو لم يكنِ السَّبَبُ واردًا لاحتملَ ما قالوا.
وقد ورد عن السَّلفِ أقوالٌ في سببِ نزولِها (4)، وهي لا تخرجُ
= عبد الحميد (3:225 - 229)، وكلامه مفصَّلٌ بالمثالِ، وهو مهمٌّ في هذا البابِ، والله الموفقُ.
(1)
مجاز القرآن (1:68).
(2)
الرجز بلا نسبة في عِدَّة مراجع: جمهرة اللغة (241، 257)، وديوان الأدب، للفارابي (3:298)، وغيرها. وهو يصف دلوًا إذا نزعها صأى؛ أي: سمع لنفسه صوتًا.
(3)
أمالي الشريف المرتضى (1:378) وهو يُكثر من المحتملات الضعيفة، لغوية أو غيرها.
(4)
ينظر في الأسبابِ الواردة عنهم: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (3:555 - 560).
بالبيوتِ عن المعنى الظَّاهرِ المعروفِ؛ أي: البيوت المسكونة، والذي عليه جمهورهم أنَّ الأنصارَ كانوا إذا أحرموا في الجاهلية لم يدخلوا البيت من بابه، وإنما يدخلونه من ظهرِه، فأنزل الله هذه الآيةَ لهذا السَّببِ، فأبطل هذه العادةَ الجاهليَّةَ.