المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: كتب إعراب القرآن - أنواع التصنيف المتعلقة بتفسير القرآن الكريم

[مساعد الطيار]

الفصل: ‌ثانيا: كتب إعراب القرآن

‌ثانيًا: كتبُ إعرابِ القرآنِ

برزَت بداياتُ علمِ الإعرابِ (النَّحو) في عهدِ التَّابعينَ، وكان ذلك على يد أبي الأسودِ الدؤليِّ (ت: 96)، واستمرَّ هذا العلمُ في التَّقدم، حتَّى كتبَ فيه إمامُ علم النَّحوِ: سيبويه (ت: 180) كتابه «الكتاب» ، وكان ذلك في عهد أتباعِ التَّابعينَ، ومؤلَّفُه هذا مليءٌ بالشَّواهدِ القرآنيَّةِ المُعرَبَةِ.

وقد كانَ علمُ إعرابِ القرآنِ يدخلُ في تآليفِ معاني القرآنِ، كما هو ظاهرٌ من كتابِ الفرَّاء (ت: 207)، والأخفشِ (ت: 215)، والزَّجَّاجِ (ت: 311).

وقد نصَّ الفرَّاء (ت: 207) على أنَّ كتابَه في علم المعاني والإعرابِ، فقال:(تفسيرُ مشكل إعرابِ القرآنِ ومعانيه» (1).

كما نصَّ على ذلك الزَّجاجُ (ت: 311)، فقال:«هذا كتابٌ مختصرٌ في إعرابِ القرآنِ ومعانيه» (2).

(1) معاني القرآن، للفراء (1:1).

(2)

معاني القرآن وإعرابه، للزجاج (1:39).

ص: 34

أمَّا الأخفشُ (ت: 215)، فإنَّ مقدمة كتابِه مفقودةٌ، ولكنَّ كتابَه كتابُ نحوٍ وإعرابٍ، وهو باسم إعرابِ القرآنِ أولى منه باسم معاني القرآنِ.

وقد ذُكِرَ لجماعةٍ من العلماءِ كتبٌ أفردوها في علمِ إعرابِ القرآنِ.

وأوَّل كتابٍ مطبوعٍ في هذا الشَّأنِ، كتابُ إعرابِ القرآنِ لأبي جعفر النَّحَّاسِ (ت: 338)، وهو كتابٌ يتميَّزُ بنقلِ أقوالِ السَّالفينَ من أئمَّةَ النَّحو.

وللنَّحاسِ (ت: 338) كتابٌ في معاني القرآنِ، وقد يكونُ بكتابيه هذين أوَّلَ من فَصَلَ في التَّأليفِ بينَ علمِ معاني القرآنِ، وعلم إعرابِ القرآنِ (1).

وبهذا يظهر أنَّ كُتب العلماءِ في إعرابِ القرآنِ على قسمين:

الأول: كتبٌ مستقلَّةٌ باسم إعرابِ القرآنِ.

الثاني: كتبٌ تضمَّنت إعرابَ القرآنِ؛ كبعضِ كتبِ التَّفسيرِ، وكتبِ معاني القرآنِ، وكتبِ الاحتجاجِ للقراءاتِ، وكتبِ الوقفِ والابتداءِ.

ومن الكتبِ المستقلَّةِ بإعرابِ القرآنِ:

1 -

إعرابُ القرآنِ، لأبي جعفر النَّحَّاس (ت: 338).

(1) لم يُطبعْ لعالمٍ قبل النحاس كتابٌ مستقلٌّ في إعرابِ القرآنِ، وقد ذُكِر هذا العنوان لكتبِ جماعةٍ من أهل العربيَّةِ؛ كقطرب (ت: 206)، وأبي عبيدة (ت: 210)، وابن قتيبة (ت: 276)، وغيرهم، ويظهرُ ـ واللهُ أعلمُ ـ أنَّ هذا من التوسع في المصطلحاتِ، فيطلقُ على ما يتعلَّقُ بعلوم العربية: الإعراب، والغريب، والمعاني، فجعلت عناوين هذه الكتب على هذا المسمى من هذا الباب؛ لأنَّ من هؤلاء الذينَ ذُكِرَ لهم إعرابُ القرآنِ من هو مُضعَّفٌ في معرفته بعلم النحو المعرفة التي تؤهلهم لكتابةِ مؤلَّفٍ فيه، وهم موصوفونَ بمعرفةِ لغة العربِ، والله أعلمُ.

ص: 35

2 -

إعراب ثلاثين سورة من القرآن، لأبي عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه (ت: 370).

3 -

مشكل إعراب القرآنِ، لمكي بن أبي طالب القيسيِّ (ت: 437).

4 -

البيان في غريب إعرابِ القرآنِ، لأبي البركات عبد الرحمن بن محمد بن الأنباري (ت: 577).

5 -

التبيان في إعراب القرآنِ، لأبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري الحنبلي (ت: 616).

6 -

الفريد في إعراب القرآن المجيد، للمنتخب حسين بن أبي العزِّ الهَمَذاني (ت: 643).

7 -

الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، للسمين الحلبيِّ (ت: 756).

وإذا قرأت في هذه الكتبِ، فإنَّك تجدُ خلافاتِ النُّحاةِ، وتطبيقاتِ علم النَّحوِ، وكأنَّكَ تقرأُ كتابًا في النَّحوِ لا كتابًا له علاقةٌ ببيانِ معنى كلامِ اللهِ تعالى، وهذا الأمرُ ظاهرٌ ـ أيضًا ـ في جُلِّ الأعاريبِ المذكورةِ في الكتبِ المتوسِّعةِ في بيانِ المسائلِ النَّحويَّةِ من كتبِ التَّفسيرِ؛ كالبحرِ المحيطِ، لأبي حيَّانَ الأندلسيِّ (ت: 745)، الذي عظَّمَ علمَ النَّحوِ، وجعلَه من أهم العلومِ التي يحتاج إليها المفسِّرُ، وكتابِ روحِ المعاني للآلوسيِّ (ت: 1270) الذي اعتمدَ على نحويَّاتِ أبي حيان (ت: 745).

ولو اقتصرَ المعربونَ من النَّحوِ على ما يتأثَّرُ به المعنى، فبيَّنوه، لكان أنفعَ للمفسِّرِ، إذ تَتَبُّعُ الفروع الكثيرةِ المتعلِّقةِ بإعرابِ الآي محلُّه كُتبُ النَّحوِ، ومن تأمَّلَ هذا الحشوَ لمسائلِ علمِ النَّحوِ، وجدَه قاطعًا عن تحصيلِ التَّفسيرِ، وليس معينًا عليه.

ص: 36

ولقد كان إمامُ المفسِّرينَ ابنُ جريرٍ الطبريُّ (ت: 310) على هذا المنهج، وقد أشارَ إليه بقولِه: «

فهذه أوجهُ تأويلِ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، باختلافِ أوجهِ إعرابِ ذلك.

وإنما اعتَرَضْنا بما اعتَرَضْنا في ذلك من بيان وجوه إعرابِه ـ وإن كان قصدُنا في هذا الكتابِ الكشفَ عن تأويلِ آي القرآنِ ـ لما في اختلافِ وجوهِ إعرابِ ذلك من اختلافِ وجوهِ تأويلِه، فاضطرَّتنا الحاجةُ إلى كشفِ وجوه إعرابهِ، لنكشف لطالبِ تأويلِه وجوهَ تأويلِه، على قدرِ اختلافِ المختلفةِ في تأويلِه وقراءتِه» (1).

* كما كانت ظاهرةُ بناء الإعرابِ على المعنى بارزةً عنده كذلك، وله في تفسيرِه أمثلةٌ، منها:

في تفسيرِ قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217]، قال الطَّبريُّ (ت: 310): «وهذان الخبرانِ عن مجاهد والضحاك (2) يُنبئانِ عن صحَّةِ ما قُلنا في رفع «الصَّدِّ» و «الكفر به» ، وأنَّ رافعَه «أكبر عند الله» ، وهما

ص: 37

يؤكِّدان صِحَّةَ ما روينا في ذلك عن ابن عباس، ويدلَاّن على خطأ من زعم أنه مرفوعٌ على العطفِ على «الكبير» (1)، وقول من زعم أنَّ معناه: وكبيرٌ صدٌّ عن سبيلِ اللهِ، وزعم أنَّ قوله:{وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} ، خبرٌ منقطعٌ عما قبله مبتدأ (2)» (3).

* بل كان عنده ما هو أخصُّ من ذلك، وهو بناء الإعرابِ على ما جاء عن السَّلفِ، كما في المثالِ السابقِ، وحسَبَ علمي، لم يلقَ هذا الجانب ما يليق به من البحثِ والتَّمحيصِ، ولو سبكتَ في ذلكَ قاعدةً لقلت: إنَّما يُبْنَى الأعرابُ على تفسيرِ السَّلفِ، ولا يصحُّ ردُّ الواردِ عنهم بدعوى مخالفةِ القواعدِ النحويَّةِ التي ضبطها المتأخرون، بلْ يبحثُ عن الوجه من الإعرابِ الذي حُمِلَ عليه الكلامُ عندهم.

ومن أمثلةِ تطبيقِ هذا:

* ما ورد في تفسيرِ الطبري (ت: 310)، عند تفسيرِ قوله تعالى:{يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَاّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النمل: 10، 11]، عن الحسن البصريِّ (ت: 110)، قال:«كانت الأنبياء تُذنبُ، فتعاقبُ» ، وقال ابن جريج (ت: 150): «لا يُخيفُ اللهُ الأنبياءَ إلَاّ بذنبٍ يُصيبُه أحدهم، فإن أصابَه، أخافَه اللهُ، حتَّى يأخُذَه منه» (4).

ثُمَّ أورد الطبريُّ (ت: 310) عن بعضِ النُّحاةِ في هذا الاستثناء تقديرات:

(1) ذكر هذا الوجه الفراء في معانيه (1:141)، والطبري ينقلُ منه كثيرًا.

(2)

هذا قول الأخفش في معاني (1:184)، والطبري ينقل منه كثيرًا.

(3)

تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (4:310 - 311). وينظر: (1:248 - 249).

(4)

ينظر قولهما في تفسير الطبري، طـ: الحلبي (19:136).

ص: 38

الأول: أن يكونَ الاستثناءُ منقطعًا، ويكونَ المعنى: إنَّ الرسلَ معصومةٌ مغفورٌ لها آمنةٌ يوم القيامةِ، ومن خلطَ عملاً صالحًا وآخر سيِّئًا، فهو يخافُ ويرجو (1).

الثاني: أن يكون المستثنى منه محذوفًا، ويكون المعنى: إنِّي لا يخافُ لديَّ المرسلون، إنما يخاف غيرهم، إلَاّ من ظلمَ، ثمَّ بدَّل حسنًا بعد سوءٍ، فإنه لا يخاف (2).

الثالثُ: أن تكون «إلَاّ» بمعنى «الواو» ، ويكون المعنى: لا يخاف لديَّ المرسلون، ولا من بدَّل حسنًا بعد سوءٍ (3).

قال الطبريُّ (ت: 310): «والصَّوابُ من القولِ في قوله: {إِلَاّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ} عندي، غيرُ ما قال هؤلاء الذين حكينا قولهم من أهل العربيَّةِ، بل هو القولُ الذي قاله الحسنُ البصريُّ وابنُ جُريجٍ ومن قال قولهما، وهو أن قوله:{إِلَاّ مَنْ ظَلَمَ} [النمل: 11] استثناءٌ صحيحٌ من قولِه: {

لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَاّ مَنْ ظَلَمَ} منهم، فأتى ذنبًا، فإنه خائفٌ لديه من عقوبتِه.

وقد بيَّنَ الحسنُ رحمه الله معنى قيلِ اللهِ لموسى ذلك، وهو قوله: إنما أخفتُك، لقتلكَ النَّفسَ (4)

وأما الذين ذكرنا قولهم من أهل العربيَّة، فقد قالوا على مذهبِ العربيَّةِ، غير أنهم أغفلوا معنى الكلمةِ، وحملُوها على غير وجهِها من التأويلِ.

(1) ينظر هذا التقدير والذي بعده في: معاني القرآن للفراء (2:287).

(2)

ينظر: معاني القرآن، للفراء (2:287)، وإعراب القرآن، للنحاس (3:200).

(3)

ينظر: معاني القرآن، للفراء، وقد ذكره عن بعض النحويين ـ ولم يسمِّه ـ ثمَّ ردَّه (2:287).

(4)

تفسير الطبري، طـ: الحلبي (19:136).

ص: 39

وإنما ينبغي أن يُحمَلَ الكلامُ على وجهِهِ من التَّأويلِ، ويُلتَمسَ له ـ على ذلك الوجه للإعرابِ في الصَّحةِ ـ مخرجٌ، لا على إحالةِ الكلمةِ عن معناها ووجهِها الصَّحيحِ من التأويل» (1).

* وعن الباقولي (ت: 543)(2)، قال: «قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4]؛ أي: الذين هم لأجل الطهارةِ وتزكيةِ النَّفسِ عاملونَ الخير.

وليس المرادُ من هذا الكلام أنهم يؤدون الزَّكاةَ؛ لأنَّه لا يقالُ: فعلتُ الزكاةَ، وأنت تريدُ: أدَّيتُ الزَّكَّاةَ.

فإنَّما الزكاةُ: الطهارةُ، كما قال:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى *وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15]، وقال:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]؛ أي: طهَّرها من المعاصي، {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10]؛ أي: من أخملَهَا بالفجورِ والمعاصي.

وأبدًا ينبغي لك أن تُفسِّر القرآن بعضَه ببعض ما أمكنَكَ. ألا ترى أنهم قالوا في قول الله عز وجل: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] إنَّ المعنى: للرسولِ معقِّباتٌ؛ أي: ملائكةٌ من أمرِ اللهِ يحفظونَه من بين يديه ومن خلفِه، كذا فسَّرَ إبراهيمُ النَّخَعيُّ.

(1) تفسير الطبري، طـ: الحلبي (19:137 - 138).

(2)

علي بن الحسين بن علي الأصبهانيُّ الباقوليُّ، أبو الحسنِ، الملقب: جامع العلومِ، النحوي، المفسِّرُ، له كتبٌ تدلُّ على تمكُّنِه وسعةِ اطِّلاعِه في العلمِ، منها: البيان في شواهد القرآن، وكشف المشكلات وإيضاح المعضلات، وغيرها، توفي سنة (543). ينظر في ترجمته: مقدمة الدكتور محمد الدالي لكتاب كشف المشكلات وإيضاح المعضلات.

ص: 40

ففارَ فائرُ القومِ، وقالوا في هذا: إنه فصل بين الصفةِ والموصوفِ، وقدَّم ظرفَ الصِّفةِ على الصِّفةِ.

فنظرنا في ذلكَ، فإذا إبراهيمُ أخذ هذا التَّفسيرَ من قولِه تعالى:{إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 27]، والرَّصَدُ: الملائكةُ، وهم المعقِّباتُ، يحفظون النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم.

فوجبَ أخذُ التَّفسير من آيةٍ نظيرةِ تلك الآيةِ التي تُفسِّرُها، فإذا ثبتَ هذا وصحَّ، عَلِمْتَ سقوطَ طعنِ الطَّاعنِ في هذه الآية» (1).

وإذا تقعَّدَ ذلك عندك، علمتَ خطأ أبي حيان (ت: 745) في ردِّه الواردَ عن السَّلفِ في تفسيرِ قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، بدعوى أن تفسيرَهم لا يُساعدُ عليه كلامُ العربِ.

قال: «والذي رُوِيَ عن السلفِ لا يُساعدُ عليه كلامُ العرب؛ لأنهم قدَّروا جواب «لولا» محذوفًا، ولا يدلُّ عليه دليلٌ؛ لأنهم لم يقدِّروا: لهمَّ بها، ولا يدلُّ كلامُ العربِ إلا على أن يكونَ المحذوفُ من معنى ما قبلَ الشَّرطِ؛ لأنَّ ما قبل الشَّرطِ دليلٌ عليه، ولا يُحذَفُ الشيءُ لغيرِ دليلٍ» (2).

وهذا منه رحمه الله غيرُ سديدٍ؛ لأنَّ هؤلاءِ السَّلفَ ـ الذين يزعم أنَّ

(1) كشف المشكلات وإيضاح المعضلات، لجامع العلوم أبي الحسن علي بن الحسين الأصبهاني الباقولي، تحقيق: الدكتور محمد أحمد الدالي (2:916 - 919).

(2)

البحر المحيط، لأبي حيان، تحقيق: عرفات العشا حسونة (6:258).

ص: 41

كلامَ العربِ لا يُساعد على قولِهم ـ عربٌ (1)، وهم أدرى منه بلغتِهم، وأقدرُ على تحديدِ مرادِ اللهِ بكلامهِ من غيرِهم من المتأخرينَ عنهم، فكيفَ غفلَ عن هذا؟!

ولو كان رحمه الله يجعل تفسيرَهم حجةً يحتكمُ إليه، ويبني عليه الإعرابَ، لما قال هذا القولَ.

وهذا الاعتراضُ ـ فيما يبدو ـ متناسقٌ مع رأيه في أنَّ النَّحويَّ قادرٌ على معرفةِ التَّفسيرِ بدونِ الرُّجوعِ إلى تفسيرِ السَّلفِ، وقد حكى مذهبَه هذا في مقدِّمةِ تفسيرِه.

قال: «ومن أحاط بمعرفةِ مدلولِ الكلمةِ، وأحكامِها قبلَ التَّركيبِ، وعَلِمَ كيفيَّةَ تركيبِها في تلكَ اللُّغةِ، وارتقى إلى تمييزِ حُسْنِ تركيبِها وقُبحِه = فلن يحتاج في فهم ما تركَّبَ من الألفاظِ إلى مُفهِّم ومُعلِّم، وإنما تفاوتَ النَّاسُ في إدراكِ هذا الذي ذكرناه، فلذلك اختلفت أفهامهم، وتباينت أقوالُهم.

وقد جرينا الكلام يومًا مع بعضِ من عاصرنا، فكان يزعم أنَّ علمَ التَّفسيرِ مضطرٌّ إلى النَّقلِ في فهمِ معاني تراكيبه الإسناديَّةِ إلى مجاهد وطاوس وعكرمة وأضرابِهم، وأنَّ فهم الآيات متوقِّفٌ على ذلك.

والعجب له أنه يرى أقوالَ هؤلاء كثيرةَ الاختلافِ، متباينةَ

(1) وردت الرواية التي اعترض عليها أبو حيان، عن ابن عباس وابن أبي مُليكة وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والقاسم بن أبي بزة. ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (16:35 - 37).

ص: 42

الأوصافِ، متعارضةً ينقضُ بعضُها بعضًا (1)

» (2).

ومن ثَمَّ، فإنَّ الاهتمامَ بمسائلِ النَّحوِ التي لها أثرٌ في المعنى واختلافِه مطلبٌ مهمٌّ لمفسِّرِ القرآنِ، ومن الأمثلةِ الموضحة لذلك:

اختلاف المعنى بمعرفةِ الفرقِ بين واو العطف وواو الاستئنافِ، في قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]، فإن كانت عاطفةً فالمعنى: وما يعلم تفسيرَه إلَاّ الله والراسخون في العلم. وإن كانت مستأنفةً، فالمعنى: ما يعلم حقيقة ما يؤول إليه إلَاّ الله وحده، أما الراسخون في العلم فيقولون آمنَّا به

وفي قوله تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34]، إن كانت الواو عاطفةً، فجملةُ:{وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} من تمام كلام ملكة سبأ. وإن كانت الواو استئنافيَّةً، فالكلام تعقيب من الله على كلامها، لتأكيد ما قالته.

ومثلُه اختلافُ المعنى بسببِ احتمالِ «ما» أن تكونَ تعجُّبيَّةً أو استفهاميَّةً في قوله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17]، فإن كانت تعجبيةً فالمعنى: ما أشدَّ كفرَه.

وإن كانت استفهاميَّةً، فالمعنى: ما الذي جعله يكفر؟

أو أن تكونَ نافيةً أو موصولةً في قوله تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}

(1) هذه دعوى عريضة، ولم يدلِّل عليها أبو حيَّان، وهو عالمٌ باللغة، ولو تأمَّل أقوالَ السلفِ بحسِّه اللُّغويِّ، لما وجد هذا التَّناقضَ الكثيرَ الذي يزعمه، ولكن يبدو أنَّ موقف ردِّ هذا القول جعلَه يُصدرُ هذا الحكم.

(2)

البحر المحيط، لأبي حيان، تحقيق: عرفات العشا حسونة (1:13).

ص: 43

[البلد: 3]، فإن كانت نافيةً، فالمعنى: أقسم بمن يلد ومن لا يلد (1).

وإن كانت موصولةً، فالمعنى: أقسم بالوالد وولدِه.

وقوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102]، وغيرها، فإن كانت نافيةً، فالمعنى: يعلِّمون النَّاس السِّحرَ، ولم يُنْزَل على الملكينِ شيءٌ من السِّحرِ. وإن كانت موصولةً، فالمعنى: يعلِّمون الناس السِّحرَ والذي أُنزلَ على الملكين ببابل.

ولو تأمَّلتَ هذه الأوجه الإعرابيَّةَ المختلفةَ التي ذكرتُها، وجدتها أثرًا من آثارِ المعنى والتَّفسيرِ؛ أي: أنَّ التَّفسيرَ والمعنى سابقانِ للنَّحوِ، إذ الإعراب فرعُ المعنى، فأنت تفهمُ المعنى، ثمَّ تُعربُ، هذا هو الأصلُ، ولكن لمَّا فَسَدَتِ الألسنُ، كتبَ العلماءُ الأصولَ التي يُضبطُ بها كلامُ العربِ، فتشكَّلَ بهذا علمُ النَّحوِ، وصارَت له مسائلُه المضبوطةُ، وصار يُتَطلَّبُ المعنى من جهته أحيانًا (2).

(1) قال السمين الحلبي في الدر المصون (11:6): وقيل: «ما» نافية، فتحتاج إلى إضمار موصول به يصحُّ الكلام؛ تقديره: والذي ما ولد، إذ المراد بالوالد: من يولد له، وبالذي لم يلد: العاقر، قال معناه ابن عباس وتلميذه ابن جبير وعكرمة.

(2)

هذه المسألةُ تحتاجُ إلى تأمُّلٍ لطيفٍ، إذ قد يقولُ قائلٌ: إنَّ الإعرابَ هو الأصلُ، وإنما يُفهَمُ المعنى به، وهذا صحيحٌ في حقِّ من جاء بعد العربِ الأُوَلِ؛ لأنَّ علمَ النَّحوِ حادثٌ، والعربُ كانوا يتخاطبونَ ويفهمونَ عن بعضِهم، وليست تلكَ الأداةُ موجودةٌ كما هي الآن، بل كانت من طبيعتهم المركوزة فيهم، وإن لم يُعبِّرُوا عنها، ويؤلِّفوا فيها، ولكن لما دخل العجم في الإسلام، وكثُرَ اختلاطُهم بالعربِ، بدأتِ الألسُنُ في الفسادِ، فكان لا بدَّ للناسِ من ضبطِ كلامِ العرب، ليفهمَه من لا عِلمَ له بكلامِهم، وليستطيعَ التَّحدُّثَ بلغةِ العربِ. =

ص: 44

ولهذا تجدُ أنَّ علمَ النَّحوِ يساعدُ في ردِّ بعضِ الأوجُه التَّفسيريَّةِ التي تردُ عن بعضِ المفسِّرينَ أو المعربين، ومن ذلك ما قاله ابن كثيرٍ الدِّمشقيُّ (ت: 774): «وقوله تعالى: {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات: 16]، قال ابن جرير؛ أي: عاملينَ بما آتاهم الله من الفرائضِ.

{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 16]؛ أي: قبلَ أن يفرض عليهم الفرائض كانوا محسنين في الأعمالِ أيضًا، ثمَّ روى عن ابن حميد، حدثنا مهران، عن سفيان، عن أبي عمر، عن مسلم البطين، عن ابن عباس في قوله:{آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} ، قال: الفرائض، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ}: قبل الفرائض يعملونَ.

وهذا الإسنادُ ضعيفٌ، ولا يصحُّ عن ابن عباسٍ، وقد رواه عثمان بن أبي شيبة، عن معاوية بن هشام، عن سفيان، عن أبي عمر البزَّار، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فذكره.

والذي فسَّرَ به ابن جرير فيه نظرٌ؛ لأنَّ قوله: {آخِذِينَ} حالٌ من قولِه: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الذاريات: 15]، فالمتقونَ في حالِ كونِهم في الجنَّاتِ والعيونِ آخذينَ ما آتاهم ربُّهم؛ أي: من النعيمِ والسُّرورِ والغِبطةِ» (1).

= ومن باب التذكرةِ، فإنَّ بداية نشوء علم النحو كانت لخدمة كلامِ الله، ولتَبيُّنِ معانيه، كما تشهد بذلك الروايةُ الواردةُ عن أبي الأسود الدؤلي مع الذي قرأ لفظ «رسوله» بالكسر، من قوله تعالى:{أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3]، فيكون المعنى على هذه القراءة الغلطِ: أن الله بريءٌ من المشركين وبريءٌ من رسولِه، وذلك ليس بصوابٍ، بل القراءة الصحيحةُ برفع «ورسولُه» ، والمعنى عليها: أن الله بريءٌ من المشركين، ورسوله بريءٌ من المشركين.

(1)

تفسير ابن كثير، تحقيق: سامي السَّلامة (7:416).

ص: 45

* ولقد كان التَّوسُّع في ذكرِ التَّقديراتِ النَّحويَّةِ التي يحتملها نصُّ القرآنِ مما يقطع منفعةَ هذا العلمِ في بيانِ كلامِ الله. ولو اكتُفيَ بحملهِ على أحسنِ الإعرابِ، وأفصحِ الوجوهِ = لكان، ولكنَّ الواقعَ في كثيرٍ من كُتبِ أعاريبِ القرآن وكتب التفسيرِ وغيرِها مما يحوي جملةً منه، أنها ابتعدتْ عن هذا إلى ذكرِ المحتملاتِ الإعرابيَّةِ التي تحتملُها المفردةُ والجملةُ القرآنيَّةُ، فصارَ القرآنُ ميدانًا لتطبيقاتِ النَّحويِّينَ وخلافاتِهم، والأمثلةُ على ذلك كثيرةٌ جدًا، وأذكر لك هنا هذا المثال:

* قال الباقوليُّ (ت: 543): «قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23].

الهاءُ في {مِثْلِهِ} تعودُ على «ما» ، وهو القرآنُ؛ أي: فأتوا بسورةٍ مثل القرآنِ (1). فـ «مِنْ» ، زيادةٌ على هذا، وهو قول الأخفشِ، ودليلُه في الآيةِ الأخرى:{فَاتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 38].

وقولٌ ثانٍ: فأتوا بسورةٍ من مثلِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم (2)، فتعودُ الهاءُ إلى «عبدنا» من قوله:{عَلَى عَبْدِنَا} ، فيكونُ «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ؛ أي: ابتدئوا في الإتيان بالسورةِ من مثلِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

فهذان قولانِ قالَهما أصحابُ المعاني (3).

(1) هذا تفسيرُ مجاهد وقتادة. ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (1:373 - 374).

(2)

حكى الطَّبريُّ هذا القول، ولم ينسبه لمعيَّنٍ. ينظر: تفسير الطبري، طـ: الحلبي (1:374). وقد رجَّح قول مجاهد وقتادة.

(3)

حكى هذين القولين الزَّجَّاجُ في معانيه (1:100)، ولم يذكر الفراء في معانيه (1:19)، وأبو عبيدة في مجازه (1:34) سوى القول الأول.

ص: 46

وعلى قياس سيبويه ـ في قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66]: إنَّ الهاء في قوله: {فِي بُطُونِهِ} يعودُ إلى {الأَنْعَامِ} ـ يجيءُ قولٌ ثالثٌ في هذه الآيةِ، وهو أن يعودَ الهاء من قوله:{فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} ؛ أي: من مثلِ الأندادِ؛ لأنَّ الأندادَ ذُكِرَتْ قبلُ في قولِه: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 23]» (1).

والقولان الأوَّلانِ هما المعروفانِ في التَّفسيرِ (2)، وهذا التَّوجيهُ الإعرابيُّ الثالثُ غريبٌ جدًّا، ولا يخفى ضعفُه على متأمِّلٍ، وإنما ساقه إليه الحرصُ على بيان ما تحتمله الآيةُ من إعراباتٍ، وإن لم يكنِ السياقُ شاهدًا لها.

وقد أشار ابن القيم (ت: 751) إلى مشكلةِ التَّقديراتِ النَّحويَّةِ التي يذكرُها بعضهم، فقال: «قوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَاّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ: 37]، فمَنْ آمن ليس داخلاً في الأموالِ والأولادِ، ولكنه من الكلامِ المحمولِ على المعنى؛ لأنه تعالى أخبرَ أنَّ أموالَ العبادِ وأولادَهم لا تُقَرِّبُهم إليه، وذلك يتضمَّنُ أنَّ أربابَها ليسوا هم من المقربينَ إليه، فاستثنى منهم من آمنَ وعَمِلَ صالحًا؛ أي: لا قريبَ عنده إلا من آمنَ وعَمِلَ صالحًا، سواءٌ كان له مالٌ وولدٌ، أو لم يكن له.

والانقطاعُ فيه أظهرُ، فإنَّه تعالى نَفَى قُرْبَ النَّاسِ إليه بأموالِهم وأولادِهم وأثبتَ قُرْبَهم عنده بإيمانِهم وعملهم الصَّالِحِ.

فتقديرُ «لكن» ههنا أظهرُ من تقديرِ الاتصالِ في هذا الاستثناءِ، وإذا

(1) كشف المشكلات، للباقولي (1/ 26 - 27).

(2)

ينظر: تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (1:373 - 374).

ص: 47

تأمَّلتَ الكلامَ العربيَّ، رأيتَ كثيرًا منه واردًا على المعنى لوضوحِه، فلو وردَ على قياسِ اللَّفظِ مع وضوحِ المعنى لكانَ عِيًّا.

وبهذه القاعدةِ تزولُ عنك إشكالاتٌ كثيرةٌ، ولا تحتاج إلى تكلُّفِ التَّقديراتِ التي إنَّما عدلَ عنها المتكلمُ لما في ذكرِها من التَّكلفِ، فقدَّر المتكلّفون لنطقهِ ما فَرَّ منه، وألزمُوه بما رَغِب عنه، وهذا كثيرٌ في تقديراتِ النُّحاةِ التي لا تخطرُ ببال المتكلِّمِ أصلاً، ولا تقعُ في تراكيبِ الفصحاءِ، ولو سَمِعُوها لاستهجنوها، وسنعقُد إنْ شاءَ اللهُ تعالى لهذا فصلاً مستقلاً» (1).

* ولقد كان في التَّوجُّهِ للنَّصِّ القرآنيِّ مجالٌ لبعضِهم في ذكر أصولِ مذاهبِهم وآرائهم النحويَّةِ، ومن أدلِّ الدليلِ على ذلكَ ما تراه في كتبِ معاني القرآنِ، للفراء (ت: 207)، وللأخفش (ت: 215)، فالأوَّلُ بنى كتابَه على نحو أهلِ الكوفةِ، فبيَّنَ أصولَهم في كتابِه هذا، حتى كاد يخرُج من كونِه بيانًا للمعاني إلى كونِه كتابًا في النَّحوِ الكوفيِّ.

وأمَّا الثاني، وهو بصريٌّ، فقد أرادَ أن يُبيِّنَ آراءه النَّحويَّةَ التي يتبنَّاها، وقد تكونُ مخالفةً لأصحابِه البصريِّينَ، فعمِلَ كتابَه هذا بعد انتشارِ كتاب سِيبَويه (ت: 170) الذي استحسنه النَّاس وكَلِفُوا به (2)، ولكي يَنفُقَ كتابه، كان التَّوجُّه للقرآنِ، وكانَ هذا أولى ما يخلِّدُ به العالمُ مذهبَه، فكان ذلك من الأخفشِ (ت: 215)، واللهُ أعلمُ (3).

(1) بدائع الفوائد (3:579).

(2)

أي: أولعوا به. ينظر: مادة (كلف) من القاموس المحيط.

(3)

هذا التحليلُ المذكور عن الأخفش استفدته من مقدمة الدكتورة هدى قراعة في تحقيقها لكتاب معاني القرآن، للأخفش (1:25 - 26).

ص: 48

ولو رُتِّبَ هذان الكتابان على مسائلِ كُتب النَّحوِ، لصارا كتابينِ نحويَّينِ، قلَّ أن يشذَّ عنهما بابٌ من أبوابِ النَّحوِ (1)، وهذا يدلُّ على أنهما أرادا بهذا التَّوجُّه للقرآنِ إبرازَ مذهبِهما النَّحويِّ، واللهُ أعلمُ.

* لمَّا كان الأمرُ من التوسُّع في الإعراب ما ذكرتُ لك، ظهرتْ قواعدُ تضبطُ ما يُعملُ به في إعرابِ كتابِ اللهِ، ومن هذه القواعد: أن لا يعربَ القرآنُ إلَاّ بالأفصحِ الصحيح، وأن يُجتنبَ الغريبُ والشَّاذُّ من الأعاريبِ.

* في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217]، قال أبو جعفر النَّحَّاسُ (ت: 338): «وقال أبو عبيدة: هو مخفوضٌ على الجوارِ (2).

قال أبو جعفر: لا يجوزُ أن يُعربَ شيءٌ على الجوارِ في كتابِ اللهِ عز وجل، ولا في شيءٍ من الكلامِ، وإنَّما الجوارُ غلطٌ، وإنما وقع في شيءٍ شاذٍّ، وهو قولُهم: هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ. والدليلُ على أنه قولٌ غلطٌ، قول العربِ في التثنية: هذان جُحْرَا ضَبٍّ خَرِبَانِ. وإنما هذا بمنزلة الإقواءِ، ولا يُحملُ شيءٌ من كتابِ اللهِ عز وجل على هذا، ولا يكونُ إلَاّ بأفصحِ اللُّغاتِ وأصحِّها

» (3).

* وقال أبو حيَّان الأندلسي (ت: 745): «ينبغي أن يُحملَ [أي:

(1) يُنظر: فهارس معاني القرآن للفراء، إعداد: الدكتورة فايزة المؤيد (ص:211 - 257)، والفهارس التي ألحقتها الدكتورة هدى قراعة في آخر معاني القرآن للأخفش (2:765 - 779).

(2)

يُنظرُ قوله في: مجاز القرآن (1:72).

(3)

إعراب القرآن، للنحاس، تحقيق: الدكتور زهير غازي زاهد (1:307).

ص: 49

القرآن] على أحسنِ إعرابٍ، وأحسنِ تركيبٍ، إذ كلامُ اللهِ تعالى أفصحُ الكلامِ، فلا يجوزُ فيه جميع ما يُجَوِّزُه النُّحاةُ في شعرِ الشَّمَّاخِ والطِّرمَّاحِ وغيرهما، من سلوكِ التَّقاديرِ البعيدة، والتَّراكيبِ القلقةِ، والمجازاتِ المُعقَّدةِ» (1)

* وقال ابن القيم (ت: 751): «لا يجوزُ أن يُحمل كلامُ الله عز وجل ويفسَّرَ بمجرَّدِ الاحتمالِ النَّحويِّ الإعرابيِّ الذي يحتملُه تركيبُ الكلامِ، ويكونُ الكلامُ به له معنى ما، فإنَّ هذا المقامَ غلط فيه أكثرُ المعربين للقرآنِ، فإنَّهم يفسِّرون الآية ويعربونها بما يحتملُه تركيب تلك الجملةِ، ويُفهمُ من ذلك التَّركيبِ أيُّ معنًى اتَّفقَ، وهذا غلطٌ عظيمٌ يقطعُ السَّامعُ بأنَّ مرادَ القرآنِ غيرُه.

وإن احتملَ ذلك التَّركيبُ هذا المعنى في سياقٍ آخرَ وكلامٍ آخرَ، فإنَّه لا يلزمُ أن يحتملَه القرآنُ، مثلُ قولِ بعضهم في قراءة من قرأ {وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، بالجرِّ. إنَّه قَسَمٌ.

ومثلُ قول بعضِهم ـ في قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217]ـ: إنَّ المسجد مجرورٌ بالعطفِ على الضميرِ المجرورِ في «به» .

ومثل قول بعضهم ـ في قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} [النساء: 162]ـ: إنَّ المقيمين مجرورٌ بواو القسم. ونظائرُ ذلك أضعاف ما ذكرنا، وأوهى بكثيرٍ.

(1) ينظر: البحر المحيط، لأبي حيان، بعناية، عرفات العشا حسونة (1:12، 207).

ص: 50

بل للقرآن عُرْفٌ خاصٌّ، ومعانٍ معهودةٌ، لا يُناسِبُه تفسيرُه بغيرِها، ولا يجوزُ تفسيرُه بغيرِ عرفِه والمعهودِ من معانيه، فإنَّ نسبة معانيه إلى المعاني، كنسبةِ ألفاظه إلى الألفاظِ، بل أعظمُ.

فكما أنّ ألفاظَهُ ملوكُ الألفاظِ وأجلُّها وأفصحُها، ولها من الفصاحةِ أعلى مراتِبها التي يعجزُ عنها قدر العالمين، كذلك معانيه أجلُّ المعاني وأعظمُها وأفخمُها، فلا يجوزُ تفسيرُه بغيرِها من المعاني التي لا تليقُ به، بل غيرُها أعظمُ منها وأجَلُّ وأفخمُ، فلا يجوزُ حملُه على المعاني القاصرةِ بمجرَّدِ الاحتمالِ النَّحويِّ الإعرابيِّ.

فتدبَّرْ هذه القاعدة، ولتكنْ منك على بالٍ، فإنَّكَ تنتفعُ بها بمعرفةِ ضَعْفِ كثيرٍ من أقوالِ المفسِّرينَ وزيفها، وتقطع أنها ليست مرادَ المتكلم تعالى بكلامه» (1).

ومن قرأ في كتابِ البحر المحيط لأبي حيَّانَ (ت: 745)، فإنه سيظهرُ له في علم الإعرابِ قواعدُ كثيرةٌ منثورةٌ في كتابه، ومنها على سبيل المثالِ:

* قال أبو حيَّان (ت: 745): «وقد ركَّبوا وجوهًا من الإعرابِ في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2]، والذي نختاره منها أنَّ قوله:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} جملةٌ مستقلَّةٌ من مبتدأ وخبرٍ؛ لأنه متى أمكن حملُ الكلامِ على غيرِ إضمارٍ ولا افتقارٍ، كان أَولى أن يُسلكَ به الإضمار والافتقار.

وهكذا عادتنا في إعرابِ القرآنِ، لا نسلكُ فيه إلَاّ الحملَ على

(1) بدائع الفوائد (3:538).

ص: 51

أحسنِ الوجوهِ، وأبعدِها من التكلُّفِ، وأسوغِها في لسان العربِ.

ولسنا كمن جعلَ كتابَ الله تعالى كشعرِ امرئ القيسِ، وشعرِ الأعشى، يحملُه على جميعِ ما يحتملُه اللَّفظُ من وجوه الاحتمالات. فكما أنَّ كلامَ اللهِ من أفصحِ الكلامِ، فكذلك ينبغي إعرابه على أفصح الوجوه

» (1).

* وقال ناقدًا الزَّمَخْشَريَّ (ت: 538) في تقديره «خَمَدَتْ» جوابًا محذوفًا لقوله تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17]، وفي ادِّعائه أنَّ الحذف أولى، قال: «

الذي يقتضيه ترتيبُ الكلامِ وصحَّتُهُ ووضعُهُ مواضِعَهُ أن يكونَ {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} هو الجوابَ، فإذا جعلتَ غيره الجوابَ، مع قوَّةِ ترتيبِ ذهابِ اللهِ بنورِهم على الإضاءةِ، كان ذلك من بابِ اللُّغزِ؛ إذ تركتَ شيئًا يُبادِرُ إلى الفَهْمِ، وأضمرتَ شيئًا يحتاجُ في تقديرِه إلى وَحْيٍ يُسفِرُ عنه، إذ لا يدلُّ على حذفه اللَّفظُ مع وجودِ تركيبِ {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} .

ولم يكتفِ الزَّمَخْشَرِيُّ بأن جَوَّزَ حذفَ هذا الجوابِ حتَّى ادعى أنَّ الحذفَ أولى، وقال:«وكانَ الحذفُ أولى من الإثبات، لما فيه من الوجازة مع الإعرابِ عن الصِّفةِ التي حصلَ عليها المستوقدُ بما هو أبلغُ للَّفظِ في أداءِ المعنى؛ كأنَّه قيلَ: فلما أضاءت ما حوله خمدت، فبقوا خابطينَ في ظلامٍ، متحيِّرينَ، متحسِّرينَ على فَوتِ الضَّوءِ، خائبين بعد الكدحِ في إحياءِ النَّارِ» (2) انتهى.

وهذا الذي ذكره نوعٌ من الخطابةِ، لا طائلَ تحتها؛ لأنَّه كان يمكنُ

(1) البحر المحيط، لأبي حيان، بعناية: عرفات العشا حسونة (1:61 - 62).

(2)

ينظر: الكشاف، للزمخشري (1:198 - 199).

ص: 52

له ذلك، لو لم يكن يَلِي قولَه:{فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} ، قولُه:{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} .

وأمَّا ما في كلامِه بعد تقديرِ «خمدت» إلى آخرِهِ، فهو مما يُحمِّلُ اللَّفظَ ما لا يحتملُه، ويُقدِّر تقاديرَ وجملاً محذوفةً لم يدل عليها الكلامُ، وذلك عادتُه في غيرِ كلامٍ في معظم تفسيرِه.

ولا ينبغي أن يُفسَّرَ كلامُ اللهِ بغيرِ ما يحتملُه، ولا أن يُزادَ فيه، بل يكونُ الشَّرْحُ طبقَ المشروحِ، من غيرِ زيادةٍ عليه، ولا نقصٍ منه» (1).

* وفي قولِه تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]، قال أبو حيَّان (ت: 745): «

ولا حاجة تدعو إلى أنَّ في الكلام تقديمًا وتأخيرًا ـ كما ذهبَ إليه بعضُهم، وأنَّ التقديرَ: ونحن نُسبِّحُ ونُقدِّسُ لك بحمدك، فاعترضَ «بحمدك» بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه (2) ـ لأنَّ التَّقديم والتَّأخير مما يختصُّ بالضَّرورة، فلا يُحملُ كلامُ الله عليه، وإنما جاء {بِحَمْدِكَ} بعد {نُسَبِّحُ} لاختلاطِ التَّسبيحِ بالحمدِ.

وجاء قوله بعد: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} كالتَّوكيدِ؛ لأنَّ التَّقديسَ هو التَّطهيرُ، والتَّسبيحَ: هو التَّنْزيهُ والتَّبرئةُ من السُّوءِ، فهما متقاربان في المعنى، ومعنى التَّقديس ـ كما ذكرنا ـ التَّطهيرُ» (3).

(1) البحر المحيط، لأبي حيان، بعناية: عرفات حسونة (1:128 - 129).

(2)

حكى هذا ابنُ عطيَّةَ احتمالاً، فقال:«ويحتمل أن يكونَ قوله: {بِحَمْدِكَ} اعتراضًا بين الكلامين؛ كأنهم قالوا: ونحن نسبِّحُ ونقدِّسِ، ثمّ اعترضوا على جهة التَّسليمِ؛ أي: وأنت المحمودُ في الهدايةِ لذلكَ» . تفسير ابن عطية، طـ: قطر (1:231).

(3)

البحر المحيط، لأبي حيان، بعناية: عرفات العشا حسونة (1:231).

ص: 53

وما ذكرتهُ غيضٌ من فيضٍ في كتابِ البحر المحيطِ، ولو جُمِعَت هذه القواعدُ التي تتعلَّقُ بإعرابِ كتابِ اللهِ من كتبِ إعرابِ القرآنِ، لوَجد الجامعُ لها علمًا غزيرًا، وشيئًا كثيرًا، واللهُ الموفِّقُ.

ص: 54