الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سادسًا: كتبُ متشابه القرآنِ
علمُ المتشابهِ في علومِ القرآن مصطلحٌ يطلقُ على عدَّةِ علومٍ، وهي:
1 -
المتشابِه الذي يقابلُ المحكم.
2 -
المتشابه اللفظيُّ الذي يُشْكِلُ على حفَّاظِ القرآنِ.
3 -
المتكرِّرُ من المقاطعِ، مع تغيُّرِ كلمةٍ أو نحوها، أو ما يكونُ بين مقطعينِ من تناسبٍ ومُشَاكَلةٍ من أي وجهٍ من وجوهِ المُشَاكَلَةِ.
أما النَّوعُ الأوَّلُ فهو قسمان:
الأولُ: أن يُرادَ بالمتشابِه: ما يقعُ لبعضِ النَّاسِ من عدمِ فهم المعنى، ويكونُ غيرُه عالِمًا به، فيكونُ متشابهًا على من وقع له ذلكَ، ومحكمًا عندَ من علِمهُ، وهذا هو المتشابِهُ النِّسبيُّ، وقد مضتِ الإشارةُ إليه في مشكلِ القرآن.
الثَّاني: أن يرادَ بالمتشابِه: ما استأثرَ اللهُ بعلمِه، ويكونُ المحكمُ بهذا الاعتبارِ: ما عَلِمه النَّاسُ على وجهِ العمومِ، وإن وقعَ لبعضِهم عدمُ فهمِ بعضِ معانيه، كما سبقَ في المتشابِه النِّسبيِّ.
وهذا القسمُ [أي: المتشابه الذي استأثر الله بعلمه] لا علاقةَ له بالتَّفسيرِ، لأنَّ التَّفسيرَ مرتبطٌ ببيانِ المعاني المعلومةِ للناسِ التي قد تخفى على بعضهم، فتكونُ من المتشابهِ عندهم.
وهذا المتشابِهُ الذي استأثرَ اللهُ بعلمِه مرتبطٌ بالمغيَّباتِ: من وقتِ وقوعِ الحوادثِ، وكيفيَّاتِ هذه المغيَّباتِ، وهذا لا يعلمُه إلَاّ اللهُ، ومن ادَّعى علمَه فقد كذبَ.
وأمَّا النَّوعُ الثَّاني، فلا علاقة له بعلم التَّفسيرِ، وإنما يتعلَّقُ ببيانِ المواطن التي تتشابَهُ على الحفَّاظِ، فيقعُ منه الغلطُ في حفظِها، وقد كتبَ في ذلك جماعة من العلماء، منهم: أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي (ت: 189)(1)، وأبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي (ت: 336) (2)، وأبو الحسن علي بن محمد السَّخاويُّ (ت: 643) (3)، وغيرهم.
وأمَّا النَّوعُ الثَّالثُ، فهو المقصودُ بالحديثِ هنا، ومن المؤلَّفاتِ المطبوعةِ فيه:
1 -
دُرَّةُ التَّنْزيلِ وغُرَّةُ التأويلِ، لأبي عبد الله محمد بن عبد الله،
(1) طبعَ بتحقيق: الدكتور صبيح التميمي.
(2)
طُبِعَ كتابه بعنوان: متشابه القرآن العظيم، تحقيق: عبد الله بن محمد الغنيمان، وقد ذكر ابن المنادي أنه اعتمد على من كتب قبله، وهم: خلف بن هشام، وموسى الفراء. ينظر: متشابه القرآن العظيم (ص:61 - 62).
(3)
له منظومة في ذلك، وعنوانها: هداية المرتاب، وغاية الحفاظ والطلاب في متشابه الكتاب، وقد شرحها محمد سالم محيسن، وشعبان محمد إسماعيل باسم (التوضيحات الجلية شرح المنظومة السخاوية في متشابه الآيات القرآنية).
المعروف بالخطيب الإسكافي (ت: 420)(1).
2 -
البرهان في متشابه القرآن، لمحمود بن حمزة الكرمانيِّ (ت: بعد 500).
3 -
ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل، لأبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطيِّ (ت: 708).
4 -
كشف المعاني في المتشابه من المثاني، لبدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة (ت: 733).
ويلاحظُ أنَّ بعضَ الأمثلةِ الواردةِ في النَّوعينِ الأولين قد تكونُ واردةً في كتبِ هذا النَّوعِ؛ لأنَّه في حقيقتِه توجيهٌ وتعليلٌ، ويشمل من الآيات:
1 -
ما تكرَّرَ بتمامِه؛ كقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} في سورة الرحمن.
2 -
ما اختلفَ فيه التعبيرُ مع اتفاقِ الحدثِ أو اختلافِه.
فمثالُ اتفاقِ الموقفِ قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى *إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} [طه: 9، 10]، وقوله تعالى:{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29].
ومثال اختلاف الحدثِ، قوله في يوسف عليه السلام:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22]، وقال في
(1) هذا الكتاب فيه اختلافٌ في النِّسبةِ، وقد نسبه بعضهم للراغبِ الأصفهانيِّ.
موسى عليه السلام: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص: 14].
3 -
ما اختلفَ بتقديمٍ أو تأخيرٍ:
ومثالُ ذلكَ قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعام: 32]، وقوله تعالى:{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت: 64].
وهناك غيرُها من أنواع الاشتباه التي يحكيها المؤلِّفونَ في هذا العلمِ؛ كالزيادة والحذفِ، وإبدال حرفِ مكانَ حرفٍ، وإبدالِ كلمةٍ مكانَ كلمةٍ، ومجيء اللفظِ منكَّرًا في آيةٍ ومعرَّفًا في أخرى، ومجيئه مجموعًا في آيةٍ ومفردًا في أخرى، ومجيئه مشدَّدًا في آيةٍ وغيرَ مشدَّدٍ في أخرى
…
إلخ.
وإذا تأمَّلتَ الأمثلةَ المذكورةَ تبيَّنَ لك أنَّ هذه الكتبَ تشتملُ على أمثلةٍ من النَّوعينِ الأوَّلينِ، فالتكرارُ الواردُ في القرآنِ، واختلافُ التعبيرِ عن الحدث الواحدِ مما اعترضَ عليه الزَّنادقةُ الملحدونَ (1).
والمثالُ الواردُ في التقديمِ والتأخيرِ يحكيه المصنِّفونَ في المتشابِه على الحفَّاظِ (2).
وهذا العلمُ من العلومِ الصَّعبَةِ التي تتطلَّبُ طولَ تفكُّرٍ، ودقَّةَ نظرٍ، ويدخلُها التَّكلُّفُ؛ لأنَّ طلبَ المناسبةِ بين الآيات التي يقع فيها التَّشابُه لا يتأتَّى بيسرٍ وسهولةٍ؛ لذا لن تَعدمَ من وجودِ أمثلةٍ لا تقنعُ بالحلِّ المذكورِ لها عند من كتبَ في هذا العلمِ، ومن أمثلةِ ذلكَ:
(1) ينظر على سبيل المثال: تأويل مشكل القرآن (ص:232) وما بعدها.
(2)
ينظر مثلاً: متشابه القرآن العظيم، لابن المنادي (ص:88)، التوضيحات الجلية شرح المنظومة السخاوي في متشابه الآيات القرآنية (ص:53).
قوله تعالى في يوسف عليه السلام: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22]، وقال في موسى عليه السلام:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص: 14]، فما وجهُ زيادةِ «استوى» في قصَّةِ موسى عليه السلام؟
قال الخطيبُ الإسكافيُّ (ت: 420): «والذي يفرق بين المكانين حتى لم ينتظر بيوسف عليه السلام الاستواء بعد بلوغ الأشدِّ (1) هو أنَّ يوسفَ عليه السلام أخبرَ الله ـ تعالى ـ عنه أنَّه أوحى إليه لما طرحَه إخوتُه في الجُبِّ، حيثُ قال:{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15]، وأراه ـ عزَّ ذِكْرُه ـ الرُّؤيا التي قصَّها على أبيه.
وموسى عليه السلام لم يُفعلْ به شيءٌ من ذلك إلى أن بلغ الأشدَّ واستوى؛ لأنه لم يعلمْ ما أريدَ به إلا بعدَ أن استأجره شعيبٌ عليه السلام (2)، ومضتْ سنو إجارتِه، وسارَ بأهلِه، فهو أتاه ما أتاه من كرامة الله تعالى.
وقيلَ: إنَّه بعد الأربعينَ، فلم ينتظر بيوسف في إيتاءِ الحكمِ والعلمِ والتَّشريفِ بالوحي ما انتظر به موسى
…
» (3).
(1) هذا الكلام يتعلَّقُ بالمراد ببلوغ الأشدِّ، وهل هو سنُّ الأربعينَ، أو لا؟ وما الفرق بينه وبين الاستواء؟ وليس هذا مجالَ تفصيلِه.
(2)
هذا قولٌ لبعض العلماء، والصحيحُ أنَّ الرجلَ الذي استأجرَ موسى عليه السلام ليس شُعيبًا النَّبيَّ. ينظر في ذلك:«رسالة في قصة شعيب عليه السلام» ، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ضمن جامع الرسائل، تحقيق: الدكتور محمد رشاد سالم (1:60 - 66).
(3)
درة التَّنْزيل وغرة التأويل في بيان المتشابهات في كتاب الله العزيز، للخطيب الإسكافي (ص:240)، وقد تبعه على هذا التوجيه ـ ولم يزدْ عليه ـ مَنْ كَتَب بعده في المتشابه. ينظر: البرهان في متشابه القرآن، للكرماني، تحقيق: أحمد عز الدين عبد الله خلف (ص:227)، وكشف المعاني في المتشابه من =
والذي يظهرُ أنَّه لا حاجةَ إلى ربطِ الآيتينِ ببعضهما، حتَّى تطلبَ لهما مناسبةُ هذه الزيادةِ التي اختصَّ بها موسى عليه السلام، ولقد كنت غير مقتنعٍ بهذا الجوابِ، وظهرَ لي أنَّ تخصيصَ ذكرِ موسى بالاستواءِ؛ أنَّ خِلقَةَ موسى كانتْ على ذلك من قوَّةِ البنيةِ، وشدة الصرعة التي كان يحتاجُها في رسالتِه، ولقد ظهرَ أثرُها في الآيات التي بعدها، وهي في قصةِ الفرعونيِّ الذي وكزه موسى عليه السلام، فقضى عليه، وكأنَّ في ذِكْرِ «استوى» تمهيدًا لما في هذه القصَّةِ، وفيها تنبيهٌ على احتياجِ موسى عليه السلام لقوة خِلقَتِه وبِنْيَتِهِ في رسالتِه، كما هو ظاهرٌ من حياتِه عليه السلام، بخلافِ ما كان من يوسفَ عليه السلام الذي كان يحتاجُ إلى العلم والحكم لتدبير شؤون الناس في معاشهم، واللهُ أعلمُ.
ولا تخلو هذه الكتبُ من المُلَحِ والطَّرائفِ في توجيه بعض المواطن المتشابِهة، ومن ذلك ما وردَ في قوله تعالى:{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 70]، وقوله تعالى:{فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَسْفَلِينَ} [الصافات: 98]. حيثُ اختلفت الفاصلتانِ مع أنهما واردتان في قصَّةِ تكسيرِ إبراهيمَ لأصنامِ قومِه، ومناظرتِه لهم في شأنِها.
ومما وُجِّهَ به هذا الاختلافُ: أنَّه في سورة الأنبياء ذكر المكايدة بينه وبين قومه، فقال لهم:{وَتاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57]، وهم أرادُوا به كيدًا، فانتهى كيدُه إلى النَّجاحِ، حيث كسرَ أصنامَهم، ونجا من نارِهم، وانتهى كيدُهم إلى الخسارةِ، حيثُ
= المثاني، لبدر الدين ابن جماعة، تحقيق: الدكتور عبد الجواد خلف (ص:215)، وملاك التأويل، لابن الزبير الغرناطي، تحقيق: سعيد الفلاح (2:676 - 677).
خَسِرُوا أصنامَهم، ولم ينتقموا ممن كسرَها، فناسبَ ذكرُ الخسارةِ سورةَ الأنبياء.
وفي سورةِ الصَّافَّاتِ ذُكِرَ البنيانُ الذي بنوه له، وذلكَ في قوله تعالى:{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97]؛ أي في أسفلِ البنيانِ، فخرجَ منه معافًى لم يُصِبْهُ أذى، فكانوا أحقَّ بالسُّفولِ منه، وفي ذكرِ السُّفولِ مناسبَةٌ لغرضِهم من هذا البنيانِ العالي الذي أرادوا أن يجعلوه في أسفلِه، واللهُ أعلمُ (1).
(1) ينظر: درة التَّنزيلِ وغرة التأويلِ (ص:299 - 300)، وقد تبعه من جاء بعده، فذكر معنى كلامِه. ينظر: البرهان في متشابه القرآن (ص:268)، وملاك التأويلِ (2:842)، وكشف المعاني في المتشابه من المثاني؛ لابن جماعة (ص:256).