الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد السادس
الفصل التاسع والثلاثون: مملكة كندة
مدخل
…
الفصل التاسع والثلاثون: مملكة كندة
كندة قبيلة قحطانية في عرف النسابين، تنسب إلى "ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن زيد بن عريب بن زيد ب كهلان بن سبإ"، و"ثور" هو كندة"1.
وقد عرفت عند الأخباريين بـ"كندة الملوك"2؛ لأن الملك كان لهم على بادية الحجاز من بني عدنان3. ولأنهم ملكوا أولادهم على القبائل. وكانوا يتعززون بنسبهم إلى كندة، وإلى "آكل المرار"؛ لأنهم كانوا ملوكًا4.
و"كندة" هي "كدت" القبيلة التي ورد اسمها في نصوص المسند، مثل نص "أبرهة"5. بل ورد اسمها في النصوص المذكورة قبل هذا العهد بكثير.
1 الاشتقاق "2/ 218"، ابن حزم: جمهرة أنساب العرب "ص399"، الإكليل "10/ 504"، منتخبات "ص94"، ابن خلدون "2/ 276" نهاية الأرب "2/ 287"، البيان والتبيين "3/ 328""لجنة التأليف والترجمة والنشر"، ENC. II، P. 1018
2 "كندة حي من اليمن منهم كانت الملوك"، منتخبات "ص94"، "فأخبرني عن كندة، قال: "ساسوا العباد، وتمكنوا من البلاد" مروج "2/ 325"، "ذكر خلافة عمر.
3 ابن خلدون "2/ 257".
4 الطبري "3/ 139""دار المعارف بمصر".
5 Glaser، zei Inschriften uber den Dammbruch von Marib، S. 55، Gunnar olinder، The Kings of Kinda، 1927، P. 33
وسيكون رمزه: Olinder
إذ ورد في النص: "JAMME 635". المدون في أيام الملك "شعر أوتر" ملك سبأ وذي ريدان. وقد كانت قد انضمت إلى حلف معاد للملك المذكور على نحو ما تحدثت عنه. وكان يحكم "كدت" كندة في ذلك الوقت ملك اسمه "ربعت"، أي "ربيعة"، وذكر أنه من "ذ ثورم""ذ الثورم"، أي من "الثور""آل ثور"، وأنه كان ملكًا على "كدت" كندة وعلى "قحطن" أي "قحطان"1.
فنحن على هذا النص أمام مملكة كندية كانت قد تكونت في أيام "شعر أوتر" أي في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، وذلك فيما لو جارينا رأي "جامة" وسرنا مسراه في تقديم أيام "شعر أوتر"2. وقبل هذا الوقت فيما لو ذهبنا مذهب غيره ممن يرجعون مبدأ تأريخ سبأ إلى أقدم من تقديره ومن تقدير "ريكمنس". ونحن أيضًا بموجبه أمام ملك من ملوك كندة اسمه "ربعت ذا الثورم". أي "ربيعة" من "الثور"، أي من "آل ثور"، فهو إذن من صميم كندة. وقد رأينا أن أهل الأخبار ينسبون كندة إلى "ثور بن عفير"، ويظهر أنهم أخذوا "ثور" القديم، وهو اسم عائلة أو بيت أو عشيرة من كندة، فصيروه الجد الأكبر لكندة. وأعطوه النسب الطويل المذكور.
ويلاحظ أن الملك "ربيعة" كان يحكم إذ ذاك "كندة"، كما كان يحكم "قحطان". و"قحطان" في هذا الوقت قبيلة، كانت متحالفة مع "كندة". ومن هذا الاسم أخذ الأخباريون قحطانهم، فصيروه جد العرب القحطانيين. وقد ورد اسم قحطان في نص آخر وسم بـ"REP. EPIG، 4304". هذا نصه: "عبد شمس سبأ بن يشجب، يعرب بن قحطان"3. وهو نص سبق أن تحدثت عنه، وقلت إنه في نظري مصنوع موضوع، وأعتقد أن صانعه وضعه لغاية واضحة هي إثبات أن ما يذكره أهل الأخبار عن نسب سبأ، هو صحيح، وأنه وارد مذكور في المسند. وبين "صنعاء" و"زبيد" مدينة تعرف بـ"قطحان"4
1 السطر 27 من النص: "JAMME 635"
2 MAHRAM، P. 391
3 RIP. EPIG. 4304، Orientalia، V، 1936، P. 63
4 MAHRAM، P. 138
وكانت كندة "كدت" مستقلة وعلى رأسها ملك، في أيام "الشرح يحضب" كذلك. وكان ملكها إذ ذاك من المناهضين المعادين للملك "الشرح يحضب"، فاشترك كما رأينا في أثناء بحثنا عن "الشرح" في الحلف الكبير الذي تألف ضد مملكة "سبأ وذي ريدان"، والذي امتد من الجنوب نحو الشمال، وشمل البر والبحر. وقد أصيبت "كندة" بهزيمة في القتال الذي نشب بينها وبين جيش "سبأ"، ووقع ملكها واسمه إذ ذاك "ملكم" مع عدد من رؤسائها وكبرائها "مراس وأكبرت"، في الأسر. وسيقوا إلى "مأرب"، وأبقوا في الأسر حتى وافقوا على وضع أولادهم رهائن عند ملك "سبأ وذي ريدان" وعلى إعطاء عهد بعدم التحرش مرة أخرى بمملكة "سبأ وذي ريدان" وبمساعدة أعدائها. وقد وافق "مالك" على إعطاء عهد بما طلب منه ووضع ابنه رهينة، كما وضع رؤساء وكبراء كندة أولادهم رهائن لديه، فأفرج بذلك عنهم1.
وقد فقدت كندة بعد هذا العهد استقلالها في وقت لا نستطيع تحديده الآن، لعدم ورود شيء عنه في النصوص، وصارت خاضعة لحكم دولة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"؛ إذ ورد في النصين "JAMME 660" و"JAMME 665" أنها كانت تابعة إذ ذاك لحكم هذه الدولة. يخبر النص:"JAMME 660"، أن كندة كانت تحت حكم حاكم من حكام "شمر يهرعش"، سقط اسمه الثاني من النص وبقي اسمه الأول وهو:"وهب إوم""وهب أوم""وهب أوام"، وأن ذلك الحاكم كان يدير بالإضافة إلى كندة قبائل حضرموت ومذحج و"بهلم""باهلة" و"حدان" و"رضوم" و"أظلم"، ومعنى ذلك أنه كان يدير منطقة واسعة تسكنها قبائل متعددة، في جملتها كندة التي صارت تحت حكم ملوك سبأ2.
ويخبرنا النص "JAMME 665" أن رجلًا من "جدنم""جدن" كان كبيرًا "كبر" على "إعراب ملك سبأ""أعراب ملك سبأ" وعلى "كندة""كدت" و"مذحج" وعلى "حررم""حريرم""حرر""حرار""حرير" وعلى "بهلم""باهلم""باهل""باهلة" وعلى "زيد أيل"، وعلى كل
1 Jamme 576، MaMb 212، Mahram، PP. 67، Geukens 3
2 السطر الثاني من النص: Jamme 660، Mamb 156، Mahram، P. 164
أعراب سبأ "وكل أعرب سبأ" وعلى حمير وحضرموت ويمنت1. وقد عينه بدرجة "كبر" أي "كبير" وهي من أعلى الوظائف في الدولة الملك "ياسر يهنعم" وابنه "ذرأ أمر أيمن". ومعنى هذا أن كندة كانت تابعة أيضًا في هذا العهد لحكم سبئيين، وأن ذلك الكبير كان يدير منطقة واسعة وضعها الملكان تحت تصرفه.
ويرى "جامة" أن أرض كندة يجب أن تكون في جنوب "قشمم""قشم""قشام""القشم"، وذلك لأن النص:"JAMME 660" يضعها بين "حضرموت" و"مذحج" فيرى لذلك أن منازلها في ذلك الوقت كانت عند هذه المواضع2.
والمعروف اليوم أن أول من ذكر اسم "كندة" من المؤلفين الكلاسيكيين على وجه لا يقبل الشك أو الجدل، هو "نونوسوس"، وقد دعاها باسم "KINDYNOI" أي "كندة" وذكر أنها وقبيلة "مادينوي""MADDYNOI""معد" هما من أشهر القبائل العربية عددًا ومكانة، يحكمها رجل واحد اسمه "KAISOS" أي "قيس"3.
وعلى أخبار الأخباريين معولنا في تدوين تأريخ كندة. وفي مقدمة هؤلاء ابن الكلبي الأخباري المعروف، وله مؤلف خصصه بتأريخ كندة، سماه:"كتاب ملوك كندة" ومؤلفات أخرى لها علاقة بهذه القبيلة4، وأبو عبيدة والأصمعي، وعمر بن شبة، وأمثالهم ممن سترد أسماؤهم في ثنايا صحائف هذا الفصل. وهي أخبار تمثل جملة نزعات واتجاهات تصور تحزب أولئك الأخباريين وميولهم إلى هذه القبيلة أو تلك، فبينها أخبار تميل إلى تأييد أهل اليمن، وبينها أخبار ترجح كفة "كندة"، وبينها أخبار ترجع الفضل إلى كلب، وبينها أخبار تؤيد بني أسد، وطبيعتها على العموم من طبيعة ما يرونه لنا الأخباريون من روايات عن تأريخ العرب قبل الإسلام، فيها العصبية القبلية والتحزب، فيجب أن ننظر إليها إذن بحذر شديد.
1 السطر الأول فما بعده حتى السطر الرابع من النص.
2 Mahram، P. 318، 372
3 Olinder، PP. 114
4 راجع أيضًا مقدمة "أوليندر""OLINDER" عن الموارد التي يستعان بها في تدوين تأريخ كندة من الصفحة التاسعة فما بعد، الفهرست "98"، "طبعة خياط".
وقد ذكر حمزة أنه نقل أخبار ملوك كندة من "كتاب أخبار كندة"1، وأظنه قصد كتاب ابن الكلبي، الذي أشرت إليه. وفي استطاعة الباحث العثور على الموارد التي تفيدنا في تدوين تأريخ كندة ومعرفة اتجاهاتها وتعيين أسمائها. و"المفضليات" و"الأغاني" و"النقائض" وأمثالها وبقية كتب الأدب، هي خير أمثلة لتطبيق ما أقول.
ويذكر الأخباريون أن مواطن "كندة" الأصلية كانت بجبال اليمن مما يلي حضرموت2. وقد أطلق "الهمداني" عليها "بلد كندة من أرض حضرموت"3. وذكر ياقوت أن كندة مخلاف باليمن، هو باسم قبيلة كندة4، وروى رواية لابن الكلبي تفيد أن هذه القبيلة كانت تقيم في دهرها الأول في "غر ذي كندة" أي في مواطن العدنانيين، ومن هنا احتج القائلون في كندة ما قالوا من نسبهم في عدنان، وهو يدل على وجود فريق كان يرى أن قبيلة كندة من قبائل عدنان5 ويدل هذا الاختلاف على اختلاط كندة بالقحطانيين والعدنانيين، ومن أمثال هذا الاختلاط تتولد الأنساب.
ولم يتحدث الأخباريون عن مواطن كندة قبل استقرارهم في "غمر ذي كندة" وكيف وصلوا إلى هذا الموضع، ولا عن كيفية انتقالهم إلى حضرموت قبل الإسلام. وقد تحدث اليعقوبي عن حرب وقعت بين كندة وحضرموت. طال أمدها، وهلك فيها جمع من الرؤساء، منهم:"سعيد بن عمرو بن النعمان بن وهب"، و"عمر بن زيد" وكان على "بني الحارث بن معاوية" و"شرحبيل بن الحارث" وكان على السكون، وهؤلاء من كندة، و"مسعر بن مستعر" و"سلامة بن حجر" و"شرحبيل بن مرة" وهؤلاء من حضرموت.
فلما ملكت حضرموت "علقمة بن ثعلب" وهو يومئذ غلام، لانت كندة بعض اللين، وكرهت محاربه حضرموت، وكان القتل قد كثر فيها، فصارت كندة إلى أرض معد، ثم ملكوا رجلًا منهم كان أول ملوكهم يقال له "مرتع بن
1 حمزة "ص92"، "كندة""السكون""السكاسك"، الفهرست "1/ 98". "طبعة فلوكل".
2 الصفحة "ص85 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 257".
3 الصفحة "ص85 وما بعدها".
4 البلدان "7/ 284".
5 البلدان "6/ 304". الأغاني "11/ 160" المفضليات "ص427".
معاوية بن ثور" فملك عشرين سنة، ثم ملك ابنه ثور، ثم ابنه معاوية بن ثور، ثم الحارث بن معاوية، وكان ملكه أربعين سنة، ثم ملك وهب بن الحارث عشرين سنة، وملك بعده حجر بن عمرو المعروف بـ"آكل المرار" الشهير الذي حالف بين كندة وربيعة بالذنائب وتولى الملك1 فهؤلاء إذن هم أسلاف "حجر بن عمرو"، حكموا كندة ومعدًا على رأي اليعقوبي قبل حجر بسنين.
وفي رواية لابن الكلبي أن "أول من أنسأ الشهور من مضر مالك بن كنانة، وذلك أن مالك بن كنانة نكح إلى معاوية بن ثور الكندي، وهو يومئذ في كندة، وكانت النسأة قبل ذلك في كندة؛ لأنهم كانوا قبل ذلك ملوك العرب من ربيعة ومضر، وكانت كندة من أرداف المقاول"2. وتدل هذه الرواية على أن هذه القبيلة كانت على اتصال وثيق بالقبائل المنتسبة إلى معد، وربما كان اتصالها هذا أوثق وأقوى من اتصالها بقبائل قحطان، مع أن النسابين يعدونها من قبائل قحطان.
وأقدم رجل في كندة تحدث عنه الأخباريون بشيء من التفصيل والوضوح، هو "حجر" الملقب بـ"آكل المرار"3، وهو ينسب إلى "عمرو بن معاوية بن ثور بن مرتفع بن معاوية" على رواية4، وإلى "عمرو بن معاوية بن الحارث الأصغر بن معاوية بن الحارث الأكبر بن معاوية بن كندة" على رواية أخرى5.
1 "الذئاب"، الصفة "ص123، 146، 171، 173، 182، 209"، البلدان "4/ 197 وما بعدها" اليعقوبي "1/ 176 وما بعدها"، "طبعة النجف".
2 الأزرقي: أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار "1/ 118""المطبعة الماجدية بمكة سنة 1352".
3 المرار: عشب مر إذا أكلته الإبل قلصت عنها مشافرها فبدت أسنانها، قيل سمي حجر آكل المرار لكشر كان به. وقيل لأن ابنه له سباها ملك من ملوك سليح يقال له "زياد بن هبولة" من الضجاعة، فقالت له ابنة حجر: كأنك بأبي قد جاء كأنه جمل أكل المرار. تعني كاشرًا عن أنيابه، وقيل: إنه كان في نفر من أصحابه في سفر. فأصابهم الجوع، فأما هو فأكل المرار حتى شبع، فعرف بآكل المرار. وهناك روايات أخرى في هذا المعنى. راجع: اليعقوبي "1/ 177" أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر "1/ 74" شرح ديوان امرئ القيس ومعه أخبار المراقسة وأشعارهم في الجاهلية وصدر الإسلام "ص6" لحسن السندوبي، اللسان "4/ 171".
4 حمزة "ص92".
5 ابن خلدون "2/273".
ورويت روايات أخرى تختلف عن هذه السلسلة بعض الاختلاف1. وذكر أنه كان أخًا لـ"حسان بن تبع" لأمه. فلما دوخ "حسان" بلاد العرب، وسار في الحجاز، وهم بالانصراف، ولَّى أخاه "حجرًا" على "معد بن عدنان" كلها، فدانوا له، وسار فيهم أحسن سيرة2.
وفي رواية أخرى من روايات الأخباريين أن التبايعة كانوا يصاهرون "بني معاوية بن عنزة" من كندة، وكانوا يملكون في "دمون"، ويولونهم على "بني معد بن عدنان" بالحجاز، فكان أول من ولي منهم "حجر آكل المرار"، ولَّاه "تبع بن كرب" الذي كسا الكعبة، وولى بعده ابنه "عمرو بن حجر"3.
فيفهم من هذه الرواية أن "بني معد" كانوا أتباعًا للتبابعة يعينون عليهم من يشاءون من الناس.
وفي رواية ترجع إلى ابن الكلبي، مفادها أن تبعًا المعروف بـ"أبي كرب" حين أقبل سائرًا إلى العراق نزل بأرض معد، فاستعمل عليها "حجرًا آكل المرار"، ومضى لوجهه. فلما هلك، بقي حجر لحسن سيرته مطاعًا في مملكته. وملك الشأم يومئذ "زياد بن الهبولة السليحي" والملك الأعظم في بني جفنة، وزياد كالمتغلب على بعض الأطراف، فقتله حجر. وقد بقي حجر حتى خرف، وله من الولد: عمرو ومعاوية4.
فيظهر من الرواية المتقدمة أن حجرًا كان معاصرًا لـ"زياد بن الهبولة السليحي" وهو ملك عرب الشأم يومئذ، ويذكر حمزة أن "حجرًا "قتله5.
وفي رواية أخرى أن حجرًا هو أول ملوك كندة. وكانت كندة قبل أن يملك حجر عليها بغير ملك، فأكل القوي الضعيف، فلما ملك حجر سدد أموالها وساسها أحسن سياسة، وانتزع من اللخميين ما كان بأيديهم من أرض "بكر بن وائل". وبقي حجر كذلك حتى مات6. فـ"حجر" على هذه الرواية
1 الأغاني "15/ 82".
2 ابن خلدون "2/ 273"، ابن قتيبة: المعارف "ص308".
3 ابن خلدون "2/ 276".
4 حمزة "ص92"، ابن خلدون "2/ 273" الأغاني "15/ 82" المحبر "ص368 وما بعدها".
5 حمزة "ص92".
6 أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر "1/ 74""المطبعة الحسينية".
أول ملك من ملوك كندة، وأول زعيم من زعمائها تمكن من توحيد صفوفها ومن تغليبها على قبائل أخرى، ومن توسيع رقعة أراضيها حتى بلغت حدود مملكة لحم.
وذكر عدد من الأخباريين أن والد "حسان تبع" هو "أسعد أبو كرب" المعروف بـ"تبع الأوسط"، وهو ابن "كلي كرب بن تبع"1. وقد ذهب "هاتمن" "HARTMANN" إلى أن "حسان تبع" هذا هو "شرحبيل يعفر" المذكور في نص "GLASER 554" الذي يعود تأريخه إلى سنة "450" للميلاد، وهو ابن "أب كرب أسعد" الذي حكم على تقدير "هومل" من سنة "385" حتى سنة "420" للميلاد2، غير أننا يجب أن نأخذ أمثال هذه الأمور بحذر3، خاصة فيما يتعلق بفتوحات التبابعة واتساع ملكهم وغير ذلك مما يقصه علينا الأخباريون.
ونزل حجر على رواية بنجد بـ"بطن عاقل" وكان اللخميون قد ملكوا كثيرًا من تلك البلاد، ولا سيما بلاد "بكر بن وائل" فنهض بهم وحارب اللخميين، واستخلص أرض بكر منهم4، ويقع "بطن عاقل" في جنوب "وادي الرمة" على الطريق بين مكة والبصرة5.
ويحدثنا بعض الرواة أن حجرًا بينما كان يغزو عمانًا، بلغ ذلك "الحارث بن الأهيم "الأيهم" بن الحارث الغساني"، فأغار على أرض حجر، وأخذ أموالًا لحجر، وقينة من أحب قيانه إليه، وانصرف، فقال للقينة:"ما ظنك بحجر؟ " فقالت: "لا أعرفه ينام إلا وعضو منه يقظان، وليأتينك فاغرًا فاه كأنه بعير أكل مرارًا، فإن رأيت أن تنجو بنفسك فافعل"، فلطمها الغساني فما لبثوا أن لحقهم حجر كما وصفت، فرد القينة والأموال، وكان حجر قد رجع من غزاة عمان وهو يقول بعد أن بلغه غارة الغساني:"لا غزو إلا بالتعقيب"6 وذكر "الهمداني" في معرض تفسيره لـ"آكل المرار" مضمون هذه الرواية دون
1 المعارف "ص307" حمزة "ص85 وما بعدها".
2 Handbuch، S. 104، Hartmann، Die Arabische Frage، S. 481
3 OLINDER، P. 40
4 ابن الأثير "1/ 209"، شرح القصائد العشر، للزوزني "ص6".
5 البلدان "6/98" OLINDER، P. 42
6 منتخبات "ص97".
أن يشير إلى اسم الغساني، أو اسم الموضع الذي كان حجر يغزو فيه1. وذكرت بعض الروايات الحارث بن جبلة بدلًا من الحارث بن الأهيم "الأيهم" بن الحارث الغساني2.
وذكر الميداني القصة نفسها عن "الحارث بن مندلة الضجعمي" من "بني سليح". أما "ابن هشام"، فجعله "عمرو بن الهبولة الغساني"3.
وفي رواية أخرى أن الغازي هو "زياد بن الهبولة" ملك الشأم، وكان من "سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة"، غزا ملك حجر في أثناء إغارة حجر في كندة وربيعة على البحرين، فأخذ الحريم والأموال، وسبى "هندًا بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية" زوجة حجر. فلما سمع حجر وكندة وربيعة، عادوا من غزوهم في طلب "ابن الهبولة" ومع حجر أشراف ربيعة "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان"، و"عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان"، وغيرهما، فأدركوا "زيادًا""عمرًا؟ " بـ"البردان" دون عين أباغ، وقد أمن الطلب، فنزل حجر في سفح جبل، ونزلت بكر وتغلب وكندة مع حجر دون الجبل بالصحصحان على ماء يقال له "حفير"، ووقعت معركة تغلب فيها حجر على خصمه، وأخذ زياد أسيرًا، ثم قتل، واسترجعت منه هند في قصة معروفة مشهورة فيها شعر على الطريقة المألوفة عند الأخباريين4. وتقول الرواية أنه بعد أن انتقم وانتصر، عاد إلى الحيرة5. وقد عرفت هذه المعركة بـ"يوم البردان"6.
ويلاحظ أن ابن الأثير أورد في روايته عمرًا بدلًا من زياد، أي زياد بن الهبولة ملك الشأم كما هو مقتضى الكلام، وأورد في نهاية القصة هذه الجملة "ثم عاد إلى الحيرة" وهي تشعر أن موضع حجر كان في الحيرة، ولم يذكر أحد أنه كان فيها.
1 الصفة "ص86".
2 الأغاني "13/ 63" OLINDER، P. 44
3 OLINDER، P. 45
4 ابن الأثير "1/ 207" الأغاني "15/ 82" وما بعدها" البيان والتبيين "3/ 328" "لجنة" OLINDER، P. 43
5 ابن الأثير "1/ 208"، "البردان"، تاج العروس "2/ 300" القاموس "1/ 277".
6 ابن الأثير "1/ 207" وما بعدها.
ويظهر أن المورد الذي نقل منه ابن الأثير أو أصحاب القصة، لم يحسن حبكها، أو أنه خلط بين قصتين، فظهرت في هذا الشكل.
وقد انتبه ابن الأثير إلى هذا الاضطراب، فقال:"هكذا قال بعض العلماء: أن زياد بن هبولة السليحي ملك الشأم غزا حجرًا. وهذا غير صحيح؛ لأن ملوك سليح كانوا بأطراف الشأم مما يلي البر من فلسطين إلى "قنسرين"، والبلاد للروم، ومنهم أخذت غسان هذه البلاد، وكلهم كانوا عمالًا لملوك الروم، كما كان ملوك الحيرة عمالًا لملوك الفرس على البر والعرب، ولم يكن سليح ولا غسان مستقلين بملك الشأم، وقولهم ملك الشام غير صحيح.
وزياد بن هبولة السليحي ملك مشارف الشام، أقدم من حجر آكل المرار بزمان طويل؛ لأن حجرًا هو جد الحارث بن عمرو بن حجر الذي ملك الحيرة والعرب بالعراق أيام قباذ أبي أنو شروان، وبين ملك قباذ والهجرة نحو ثلاثين ومائة سنة. وقد ملكت غسان أطراف الشأم بعد سليح ستمائة سنة، وقيل خمسمائة سنة، وأقل ما سمعت فيه ست عشرة سنة وثلاثمائة سنة، وكانوا بعد سليح، ولم يكن زياد آخر ملوك سليح، فتزيد المدة زيادة أخرى، وهذا تفاوت كثير، فكيف يستقيم أن يكون ابن هبولة الملك أيام حجر حتى يغير عليه، وحيث أطبقت رواة العرب على هذه الغزاة، فلا بد من توجيهها، وأصلح ما قيل فيه: إن زياد بن هبولة المعاصر لحجر كان رئيسًا على قوم، أو متغلبًا على بعض أطراف الشأم. وبهذا يستقيم هذا القول والله أعلم.
وقولهم أيضًا أن حجرًا عاد إلى الحيرة لا يستقيم أيضًا؛ لأن ملوك الحيرة من ولد عدي بن نصر اللخمي، لم ينقطع ملكهم لها إلا أيام قباذ، فإنه استعمل الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار، كما ذكرنا من قبل، فلما ولي أنو شروان، عزل الحارث، وأعاد اللخميين. ويشبه أن يكون بعض الكنديين قد ذكر هذا تعصبًا، والله أعلم.
إن أبا عبيدة ذكر هذا اليوم، ولم يذكر أن ابن هبولة من سليح، بل قال:"هو غالب بن هبولة ملك من ملوك غسان، ولم يذكر عوده إلى الحيرة، فزال هذا الوهم"1.
1 ابن الأثير "1/ 208 وما بعدها".
وبهذا التعليق أراد ابن الأثير إصلاح ما جاء في الرواية المذكورة من أوهام.
ولكن تعليقه نفسه فيه أوهام وأخطاء من حيث عدد السنين وتقدير المدد وما شاكل ذلك من أمور ترد في روايات أهل الأخبار.
ولا نعرف متى توفي حجر، وقد ذكر ابن الأثير أنه توفي بـ"بطن عاقل" وبه دفن1. ويرى "أوليندر" "OLINDER" استنادًا إلى تقدير سنة وفاة الحارث حفيد "حجر" بسنة "528" للميلاد، وإلى تقدير مدة حكم الضجاعمة من "بني سليح"، أنه حكم في الربع الأخير من القرن الخامس للميلاد2.
ويرى بعض الباحثين أن حجرًا هو "OGARUS" المذكور في بعض التقاويم في حوادث السنين 497 و501 و502 للميلاد. وقد ذكر معه اسم أخ له عرف بـ"BADICHARIMUS" أي "معديكرب"، كما ذكر أحد أحفاده وهو "ARETHA" أي الحارث3.
ونسب الأخباريون لـ"حجر" ثلاث زوجات، هن:"هند" ابنة "ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية" وتعرف بـ"هند الهنود" و"أم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني" وهي أم "الحارث بن حجر"4، وأما الثالثة فمن حمير5.
وفي ديوان الشاعر الجاهلي "بشر بن أبي خازم الأسدي" قصيدة يمدح فيها "عمرو بن أم أناس"، أو "أم أياس"6، وهو من "كندة". وأم أناس هي ابنة "عوف بن محلم الشيباني" الذي يضرب به المثل، فيقال:"لا حر بوادي عوف". وهو من بيت شرف قديم، لهم قبة يقال لها "المعاذة" من لجأ إليها أعاذوه7. ومما جاء في مدح هذا الشاعر له:
1 ابن الأثير "1/ 209".
2 OLINDER، P. 48
3 Provincia Arabia، III، S. 286
4 الأغاني "9/ 159""15/ 82"، جمهرة ابن حزم "323"، الزوزني، شرح القصائد العشر "7".
5 OLINDER، P. 41
6 بالياء في ديوان بشر حسب تحقيق الناشر.
7 الاشتقاق "215".
وَالمانِحُ المِائَةَ الهِجانَ بِأَسرِها
…
تُزجى مَطافِلُها كَجَنَّةِ يَثرِبِ
وَلَرُبَّ زَحفٍ قَد سَمَوتَ بِجَمعِهِ
…
فَلَبِستَهُ رَهوًا بِأَرعَن مُطنِبِ
بِالقَومِ مُجتابي الحَديدِ كَأَنَّهُم
…
أُسدٌ عَلى لُحُقِ الأَباطِلِ شُزَّبِ1
ويستفاد من هذه القصيدة أن الممدوح، وهو عمرو، كان كريمًا سخيًّا يهب المئات من الإبل الهجان الطيبة الأعراق، وأنه كان صاحب جيش قوي. وينطبق هذا الوصف على "عمرو بن حجر". أكثر من انطباقه على "عمرو بن الحارث" جد "امرئ القيس". وذلك على رواية من زعم أنه كان للحارث جد الشاعر المذكور ولد اسمه "عمرو" من زوجة له دعوها "أم أناس" ابنة "عوف بن محلم الشيباني" إذ لم يكن وضع أولاد الحارث وضعًا حسنًا بعد النكبة التي نزلت بمصيبة والدهم وبتعقب المنذر بن ماء السماء لهم، وبثورة القبائل عليهم.
فليس من المعقول أن يهب "عمرو" تلك الهبات وأن يجمع له جيش لجب.
خاصة وأن الرواة لم يذكروا اسمه في جملة أسماء أبناء الحارث الذين ملكهم على القبائل في حياته أو الذين ورثوا ملكه بعد مماته.
وقد نص "ابن قتيبة" في كتابه: "المعاني الكبير" على أن "عمرو بن أم أناس" هو "عمرو بن حجر الكندي" الذي كان جد "عمرو بن هند"، وهند أم "عمرو بن هند" هي ابنته. وذكر أن "أم عمرو بن حجر" هي "أم أناس بنت ذهل بن شيبان بن ثعلبة" وأنه هو المذكور في شعر الحارث بن حلزة، إذ يقول:
وَوَلَدنا عَمرو بِن أُمِّ أُناسٍ
…
مِن قَريبٍ لَمّا أَتانا الحِباءُ2
وقد اختلف أهل الأخبار كما رأينا في السبب الذي حمل الناس على تلقيب "حجر" بـ"آكل المرار". فذهبوا في ذلك جملة مذاهب ذكروها في أثناء حديثهم عنه3.
1 ديوان بشر "39" الأغاني "15/ 82 وما بعدها".
2 كتاب المعاني الكبير "1/ 531 وما بعدها".
3 الأغاني "8/ 60""طبعة مطبعة التقدم" التبريزي، القصائد العشر، "ص4" الجاحظ، البيان والتبيين "3/ 328""مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر" الكامل، لابن الأثير "1/ 301""دار الطباعة المنيرية" دائرة المعارف، للبستاني "1/ 122" الأغاني "15/ 83".
وصار "عمرو بن حجر "المعروف بـ"المقصور" ملكًا بعد أبيه. ويقولون إنه إنما قيل له "المقصور" لأنه قصر على ملك أبيه، أو لأن "ربيعة" قصرته عن ملك أبيه، وبذلك سمي المقصور1.
وكان لـ"عمرو" كما يقول الأخباريون أخ اسمه "معاوية" ويعرف بـ"الجون"2 "الجوف"3، كان نصيبه "اليمامة". ويظهر من هذا الخبر أنه أخذ من شقيقه هذه المنطقة وترك الأرضين الباقية لأخيه.
ويذكر أهل الأخبار أن "عمرو" و"معاوية" شقيقه هو "شعية بن أبي معاصر بن حسان بن عمرو بن تبع"4. ويظهر من هذا النسب أنها كانت من أسرة يمانية رفيعة ومن البيوتات التي كانت تحكم بعض المقاطعات.
وورد في رواية أن "عمرًا" غزا الشأم ومعه ربيعة، فلقيه الحارث بن أبي شمر الغساني فقتله. ولم يضف "اليعقوبي" صاحب الرواية المذكورة إلى هذه الرواية شيئًا عن حياة "عمرو" المقصور5. أما "حمزة"، فلم يشر إليه بشيء6.
وفي رواية أن ربيعة حينما قصرت عمرًا عن ملك أبيه، استنجد عمرو المقصور "مرثد بن عبد ينكف الحميري" على ربيعة، فأمده بجيش عظيم. فالتقوا بـ"القنان"، فشد عامر الجون على عمرو المقصور فقلته7. فهذه الرواية تنفي رواية من يقول إن الحارث بن شمر الغساني هو الذي قتله.
وإذا صحت الرواية المتقدمة، تكون "ربيعة" قد ثارت على "ابن حجر" لأنها أرادت التخلص من حكم كندة لها. وقد تمكنت من ذلك على الرغم من المساعدة اليمانية التي قدمت له.
ويظهر من الروايات الواردة عن عمرو ومن تلقيبه بلقب: "المقصور" ومن
1 ابن الأثير "1/ 209"، المحبر "ص369"، المفضليات "ص429"، الأغاني "8/ 60".
2 ابن الأثير "1/ 209"، الأغاني "15/ 82"، المحبر "ص369".
3 "الجوف"، الأغاني "8/ 61"، وهو تصحيف، والصحيح "الجون". "9/ 79""طبعة دار الكتب".
4 الأغاني "8/ 60".
5 اليعقوبي "1/ 177"، الأغاني "8/ 65".
6 حمزة "ص92".
7 يوم القنان، المفضليات "ص429"، البلدان "7/ 165".
الشروح التي ذكرها الرواة في تفسير هذه الكلمة، أن "عمرًا" لم يكن قويًّا صاحب عزم وإرادة، وأنه اكتفى بما وقع له من أبيه، فلم يسع في توسيعه وتقويمه، وأن حكمه على ما يظهر لم يكن طويلًا، وقد جعله ابن الكلبي في جملة من كان يخدم "حسان بن تبع" تبع حمير، ولم يلقبه بلقب ملك، بل قال: إنه كان سيد كندة في زمانه. وذكر أن "حسان بن تبع" حين سار إلى جديس، خلقه على بعض أموره. فلما قتل "عمرو بن تبع" أخاه "حسان بن تبع"، وملك مكانه اصطنع "عمرو بن حجر"، وكان ذا رأي ونبل، وكان مما أراد عمرو إكرامه به وتصغير بن أخيه حسان أن زوجة ابنة "حسان بن تبع"، فتكلمت في ذلك حمير. وكان عندهم من الأحداث التي ابتلوا بها؛ لأنه لم يكن يطمع في الترويج إلى أهل ذلك البيت أحد من العرب. وولدت ابنة "حسان بن تبع" لعمرو بن حجر "الحارث" الذي عينه "تبع بن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن"، أي خال "الحارث" على بلاد معد1.
ويظهر من رواية مرجعها ابن الكلبي أن الأسود بن المنذر ملك الحيرة، كان قد تزوج ابنة لـ"عمرو بن حجر"، فولدت له "النعمان بن الأسود" الذي حكم في زمن "قباذ" أربع سنين، ولذلك عرفت بـ"أم الملك"2.
وانتقل الملك على رأي أكثر الأخباريين من عمرو إلى ابنه الحارث: وهو المعروف بـ"الحارث الحراب" على بعض الروايات3. وقد ورد في شعر للشاعر "لبيد" هذا البيت:
وَالحارِثُ الحَرّابُ خَلّى عاقِلًا
…
دارًا أَقامَ بِها وَلَم يَتَنَقَّلِ
وقد ذهب الأصمعي إلى أن الشاعر المذكور قصد بـ"الحارث الحراب" الحارث الذي نتحدث عنه. وذلك لأن "عاقلًا" من ديار كندة. وهو جبل كان يسكنه "حجر أبو امرئ القيس"4. وإذا أخذنا بهذه الرواية وجب علينا أن نفترض أنه كان قد أقام بموضع عاقل وحكم منه في أغلب الأوقات.
1 الطبري "2/ 86".
2 الطبري "1/ 900"، حمزة "ص69".
3 شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري "ص55، 275".
4 شرح ديوان لبيد "ص275".
وقد نعت "حمزة" الحارث بـ"المقصور"1. وقد رأينا أن جماعة من الأخباريين منحت هذا اللقب لـ"عمرو".
وقد اختلف الرواة في أم "الحارث"، فذهب بعض منهم إلى أنها ابنة "حسان بن تبع"2، وذهب بعض منهم إلى أنها "أم أناس"3 أو "أم إياس"4 بنت "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان"، وأمها "أمامة بنت كسر بن كعب بن زهير بن جشم" من تغلب5.
وفي رواية أخرى، أن "أم أناس"، وكانت زوجة لـ"حجر" وهي أم "الحارث بن حجر" و"هند بنت حجر". ولذلك فهي ليست أمًّا للحارث بن عمرو المقصور، كما جاء في الرواية المتقدمة. ويظهر أن مرد هذا اختلاف يعود إلى تشابه الاسمين، وإلى عدم تمييز الرواة بينهما. ويكون "الحارث بن حجر" المذكور إذن شقيقًا لعمرو بن حجر6.
وقد ذكر "ثيوفانس" رئيسًا عربيًّا دعاه "الحارث من بني ثعلبة""ARETAS O. THALABAYNYS"، يظن "أوليندر" أنه "الحارث الكندي"7، ويرجح لذلك الرواية الثانية التي تجعل أم الحارث "أم أناس""أم إياس". ذلك لأن "أم أناس" من شيبان، وشيبان هو ابن ثعلبة في عرف النسابين، فيكون هذا الحارث على رأيه هو الحارث الكندي.
ولست أستطيع الجزم بهذا الرأي، فإن "الحارث" من الأسماء المعروفة الكثيرة الاستعمال عند العرب في بادية الشأم وفي بلاد الشأم، وشمال الحجاز ونجد، وقد عرفنا أسماء عدد من الأمراء وسادات القبائل عرفوا بهذا الاسم، ثم إن نسبة الحارث إلى الثعلبانية "ثعلبة"، لا يدل على أن الحارث الذي ذكره "ثيوفانس" هو "الحارث الكندي"، بل يدل على أنه كان من قبيلة اسمها "ثعلبة" أو "ثعلبان".
وقد ذكر كتبه اليونان والسريان اسم قبيلة "ثعلبة" وكانت من القبائل الخاضعة
1 حمزة "ص92".
2 الطبري "1/ 100"، حمزة "ص69".
3 المفضليات "ص429"، الأغاني "8/ 62".
4 OLINDER، P. 48.
5 المفضليات "ص429".
6 الأغاني "15/ 83".
7 OLINDER، P. 48
للروم. فورد "طايوي ربيث رومرين ديث ثعلبة"، أي "العرب الذين في أرض الروم الملقبون ببني ثعلبة"، وورد ذكرها في أخبار مؤرخي الكنيسة في النصف الثاني من القرن الرابع للميلاد1.
وفي "طيء" ثلاثة بطون عرفت بـ"بني ثعلبة"، هي "ثعلبة بن ذهل"، و"ثعلبة بن رومان" و"ثعلبة بن جدعاء"، وتعرف بـ"ثعالب طيء".
ويوجد أيضًا "بنو ثعلبة بن شيبان" من بطون "تميم"2. وقد عرف "بنو شيبان بن ثعلبة بن عكاية بن صعب بن علي بن بكر بن وائل" و"بنو شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكاية" بـ"بني ثعلبة" في تواريخ الروم والسريان.
ومن "شيبان" كان "حارث بن عباد" سيد شيبان في حرب البسوس. وقد عرفوا بـ"THALABENES" عند الروم3.
وتذكر رواية لابن الكلبي أن "تبع بن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن"، أعان "الحارث بن عمرو" وساعده على تولي الملك. و"تبع بن حسان بن تبع"، هو خاله على هذه الرواية. وتزعم أنه بعث إلى ابن أخته بجيش عظيم سار معه إلى بلاد معد والحيرة وما والاها، فسار إلى "النعمان بن امرئ القيس بن الشقيقة"، فقاتله، فقتل النعمان وعدة من أهل بيته، وهزم أصحابه، وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر، وملك "الحارث بن عمرو الكندي" ما كانوا يملكون4.
ولا نعرف من الأسماء المذكورة في الكتابات العربية الجنوبية اسم ملك يدعى "تبع بن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن". ويرى "هارتمن""HARTMANN" أن الأخباريين أرادوا به "شرحبيل يكف"، وهو ابن شرحبيل يعف" المذكور اسمه في النص المؤرخ بسنة "467"5.
يظهر من رواية "ابن الكلبي" المتقدمة أن الملك لم ينتقل إلى الحارث من أبيه إرثًا، وإنما جاءه بمساعدة خاله "تبع بن حسان بن تبع". ولم تذكر الرواية
1 شيخو، النصرانية "القسم الأول ص79". ROTHSTEIN، 8. 47
2 النصرانية "القسم الأول، ص127". ابن حزم، جمهرة "ص297".
3 النصرانية "القسم الأول، ص131 وما بعدها"، "القسم الثاني: 2/ 422".
4 الطبري "2/ 86".
5 Olinder، P. 54، Hartmann، S. 497
الأسباب التي دعت إلى اعتماد الحارث على "تبع" في تولي الملك. ولو صحت هذه الرواية كان معناها أنه لم يتمكن من الحصول على حقه في الملك إما لامتناع القبائل من قبوله ملكًا عليها، مما دعاه إلى الاستعانة بـ"تبع" أو بغيره، وإما لأن ملك والده يوم توفي لم يكن واسعًا، بل كان مقتصرًا على كندة ومن في حلفها، أو لأنه لقي مقاومة من أشقائه وأقربائه، مما دفعه إلى الاستعانة بالغرباء في تنصيب نفسه ملكًا على كندة وعلى القبائل الأخرى، ثم على توسيع ملكه فيما بعد.
ولدينا رواية أخرى، تذكر أن الذي ساعد "الحارث بن عمرو" على تولي الحكم على بلاده معد، هو "صهبان بن ذي خرب"، وذلك أن معدًا لما انتشرت تباغتت وتظالمت، فبعثت إلى صهبان تسأله أن يملك عليها رجلًا يأخذ لضعيفها من قويها مخافة التعدي في الحروب، فوجه إليها الحارث بن عمرو الكندي، واختاره لها؛ لأن معدًا أخواله، أمه امرأة من بني عامر بن صعصعة، فسار الحارث إليها بأهله وولده. فلما استقر فيها، ولى ابنه حجر، وهو أبو امرئ القيس الشاعر على أسد وكنانة، وولى ابنة شرحبيل على قيس وتميم، وولى ابنه معديكرب، وهو جد الأشعث بن قيس الكندي على ربيعة، فمكثوا كذلك إلى أن مات الحارث، فأقر صهبان كل واحد منهم في ملكه، فلبثوا بذلك ما لبثوا. ثم إن بني أسد وثبوا على ملكهم حجر بن عمرو، فقتلوه. فلما بلغ ذلك صهبان، وجه إلى مضر عمرو بن نابل اللخمي، وإلى ربيعة لبيد بن النعمان الغساني، وبعث برجل من حمير يسمى أوفي بن عنق الحية وأمره أن يقتل بني أسد أبرح القتل. فلما بلغ ذلك أسدًا وكنانة، استعدوا. فلما بلغ أوفي ذلك، انصرف نحو صهبان، واجتمعت قيس وتميم فأخرجوا ملكهم عمرو بن نابل عنهم فلحق بصهبان، وبقي معديكرب جد الأشعث ملكًا على ربيعة1.
أما صهبان، فهو رجل لم يكن من أهل بيت الملك في حمير، بل كان قد وثب على الملك وأخذه عنوة، وذلك حينما تضعضع أمر الحميرية بقتل "عمرو بن تبع" أخاه "حسان بن تبع"، فانتهز صهبان هذه الفرصة، ووثب على "عمرو بن تبع" فقتله واستولى على ملكه وصار الأمر إليه2.
1الديبوري. الأخبار الطوال "ص53 وما بعدها".
2 الأخبار الطوال "ص52 وما بعدها".
وهناك رواية أخرى تذكر أن "صهبان بن محرث" هو الذي عين الحارث على معد. فهي تأييد للرواية المتقدمة. سوى أنها عينت اسم والد صهبان، بأن نصت عليه، فجعلته "محرثًا" أما الرواية المتقدمة فدعته "ذي خرب" و"ذي خرب" لقب، يعبر عن منصب وليس باسم علم.
وفي رواية يرجع سندها إلى أبي عبيدة، أن بكر بن وائل لما تسافهت، وغلبها سفهاؤها، وتقاطعت أرحامها، ارتأى رؤساؤهم فقالوا: إن سفهاءنا قد غلبوا على أمرنا فأكل القوي الضعيف. فنرى أن نملك علينا ملكًا نعطيه الشاة والبعير، فيأخذ للضعيف من القوي. ويرد على المظلوم من الظالم، ولا يمكن أن يكون من بعض قبائلنا، فيأباه الآخرون، فيفسد ذات بيننا، ولكننا نأتي تبعًا فنملكه علينا، فأتوه، فذكروا له أمرهم، فملك عليهم الحارث بن عمرو آكل المرار الكندي، فقدم فنزل بطن عاقل1.
ويدرك من هذه الروايات أنه كان للتبايعة نفوذ على قبائل معد، وأن تلك القبائل كانت تستشيرهم في أمورها، وتحتكم إليهم فيما يحدث بينهم من خلاف. وأنه كان لهم يد في تعيين الحارث وتنصيبه على تلك القبائل.
والشيء الوحيد الذي يمكن استخلاصه من هذه الروايات المدونة عن تعيين الحارث ملكًا، أنه تولى الحكم على كندة بعد وفاة أبيه، وأنه وسع ملكه بعد ذلك وقد يكون بمساعدة "تبع"، فصار ملكًا على كندة وبكر وعلى قبائل أخرى وأنه تمكن بشخصيته من رفع شأن قبيلته. ويرى "أوليندر" أنه حكم حوالي سنة "490" للميلاد2.
وليس من السهل تعين اسم "التبع" الذي عين الحارث ملكًا كما جاء ذلك في الروايات اليمانية بالاستناد إلى نصوص المسند، وليس من السهل أيضًا تصور بلوغ نفوذ "ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الجبال وفي تهامة" المواضع التي ذكرها أخباريو اليمن. وقد رأينا آثار الوهن بادية على تلك المملكة، بحيث لم تتمكن من مقاومة غزو الحبشة لها. وليس من السهل أيضًا تصور مجيء "بكر" والقبائل الأخرى مختارة طائعة إلى الحارث تلتمس منه أن
1 نهاية الأرب "15/ 406"، العقد الفريد "6/ 78"، "طبعة العريان".
2 OLINDER، P. 56
يتفضل عليها بأن يكون ملكًا عليها، وقد رأيناها كما يقول الأخباريون أنفسهم تنتقض على البيت المالك من كندة وتثور عليه، وتقتل أمراءها منهم، حال علمها بضعف ذلك البيت، وبوفاة الرجل الذي جمع تلك القبائل بقوته، ووحدها بشخصيته. والأقرب إلى المنطق هو أن هذه القبائل لم تعترف برئاسة الحارث عليها، وبتاجه عليها إلا لما رأته فيه من القوة، وإلا بعد استعمال القوة والعنف مع عدد من القبائل، فرضيت به ملكًا ما دام قويًّا والأمر بيديه، وهو منطق السياسة في الصحراء. وبهذا التفسير نستطيع فهم تكون ممالك أو إمارات بسرعة عجيبة، تظهر فجأة قوية تحتضن جملة قبائل، ثم تسير بسرعة فتهدد حدود الدول الكبرى وتهاجمها كالفيضان، فإذا أصيبت بهذه الدول تمزقت أوصالها وتجزأت كما تتجزأ الفقاعة وتذوب، هكذا حياة المالك في البوادي، ممالك تولد، وأخرى تموت.
ويذكر الأخباريون أن الحارث الكندي جمع إلى ملكه ملك الحيرة وآل لحم، وذلك في زمن قباذ. ورووا في ذلك جملة روايات عن كيفية تولي الحارث ملك الحيرة، وطرده لملكها الشرعي وتولي الحكم دونه. فرووا أن الزمن لم يكن مؤاتيًا لـ"قباذ" يوم أوتي الحكم. كانت الأحوال مضطربة، والفتن رافعة رأسها في مواضع متعددة، والنفوذ في المملكة بيد الموابذة، ولموبذان موبذ الكلمة العليا؛ إذ هو الرئيس الروحي الأعلى في المملكة، كما كان للأغنياء وللإقطاعيين الشأن الأول في سياسة الدولة، فلم يعجب قباذ الوضع؛ لأنه "ملك الملوك""شاهنشاه" ومن حق "ملك الملوك" ألا ينازع في الملك، ففكر في طريقة لتقليص ظل الموابذة والمتنفذين في المملكة من كبار الأغنياء والملاكين، ورأى أن خير ما يفعله في هذا الباب، هو نشر تعاليم مزدك بين الناس، فإذا انتشرت كانت كفيلة بالقضاء على الأغنياء وعلى رجال الدين المتنفذين1. وكان مزدك وأصحابه يقولون إن الناس تظالموا في الأموال والأرزاق، فاغتصبها بعضهم من بعض، وإن الأغنياء قد اغتصبوا رزق الفقراء "وإنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وإنه من كان عنده فضل من الأموال والنساء والأمتعة، فليس هو بأولى به من غيره. فافترص السفلة ذلك، واغتنموه، وكانفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم فابتلي الناس بهم، وقوي أمرهم حتى كانوا
1 Noldeke، Aufsatzee zur Persischen Geschichte، Leipzig، 1887، S. 109
يدخلون على الرجل في داره، فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله، لا يستطيع الامتناع منهم"1. هكذا وصف الطبري وغيره من الأخباريين دعوة مزدك.
فهي على هذا الوصف دعوة اشتراكية جاءت مقوضة لرجال الدين والإقطاعيين ومتنفذة الأغنياء.
فلما شايع قباذ المزدكية، اجتمعت كلمة "موبذان موبذ" والعظماء على إزالته من ملكه، فأزالوه عنه وحبسوه، وعينوا أخاه جاماسب مكانه، ويذكر الطبري أن ذلك كان في السنة العاشرة لملك قباذ، فيكون ذلك في سنة "498 م" على رأي من جعل ابتداء ملكه في عام "488م"2. وقدر حدوثه أيضًا في سنة "496م"3. وقد مكث أخوه ملكًا ست سنوات ثم أزاله عنه أخوه قباذ الذي أفلت من السجن في قصة يرويها الأخباريون، واستعاد قباذ بذلك ملكه4. فتكون استعادته ملكه في حوالي سنة "504" أو "502م". وقد مكث ملكًا حتى انتقل إلى العالم الثاني في سنة "531م".
وتذكر رواية الأخباريين هذه. أن الملك قباذ طلب من المنذر بن ماء السماء الدخول فيما دخل فيه من مذهب مزدك وزندقته، فامتنع، فاغتاظ قباذ وانزعج منه، ودعا "الحارث بن عمرو" إلى ذلك، فأجابه، فاستعمله على الحيرة. وطرد المنذر من مملكته، فعظم سلطان الحارث، وفخم أمره، وانتشر ولده، فملكهم على بكر وتميم وقيس وتغلب وأسد5. وكان من حل نجدًا من أحياء نزار تحت سلطان الحارث دون من نأى منهم عن نجد6. فتربط هذه الرواية كما نرى بين زندقة قباذ وعزل المنذر وتنصيب الحارث ملكًا على الحيرة، بقبوله مذهب قباذ.
وروى "حمزة" أن الحارث كان قد طمع في ملك "آل لخم". وكان قد وجد أن "قباذ" ضعيف الهمة فاتر العزم، غير ميال إلى القتال، وأنه سوف لا يساعد آل لحم. إن هو هاجمهم، لذلك ساق كندة ومن كان معه من بكر بن وائل عليهم، وباغت سادة الحيرة ولم يتمكنوا من الوقوف أمامه، فهرب.
1 الطبري "2/ 88".
2 ency. brita. vol. 17، p. 547 Ency. 4، p 178
3 noldek ، aufs. S. 109
4 الطبري "2/ 87".
5 ابن الأثير "1/ 209"، الطبري "2/ 89 وما بعدها" المحبر "ص369".
6 حمزة "ص92".
"المنذر" من دار مملكته بالحيرة ومضى حتى نزل إلى "الجرساء الكلبي" وأقام عنده إلى أن تغير الحال بوفاة قباذ، وتبدل سياسة الحكومة بتولي "كسرى أنو شروان" الملك فعاد إلى ملكه وقهر الحارث وتغلب عليه واستعاد ما اغتصب منه1.
وذكر "حمزة" أن سبب لجوء "بكر بن وائل" إلى الحارث، وخضوعها لحكمه واشتراكها معه في مهاجمة "آل لخم" وانتزاع الحكم منهم، هو أن "امرأ القيس البدء" كان يغزو قبائل "ربيعة"، فينكي فيهم، ومنهم أصاب "ماء السماء"، وكانت تحت "أبي حوط الخطائر" فثارت به "بكر بن وائل" فهزموا رجاله، وأسروه، وكان الذي ولي أسره "سلمة بن مرة بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان"، فأخذ منه الفداء وأطلقه، فبقيت تلك العداوة في نفوس "بكر بن وائل" إلى أن وهن أمر الملك "قباذ"، فعندها أرسلت بكر إلى الحارث بن عمرو فملكوه، وحشدوا له، ونهضوا معه حتى أخذ الملك ودانت له العرب2.
وبهذه الكيفية شرح "حمزة" كيفية تولي "الحارث" عرش الحيرة، وسبب بغض "بكر بن وائل" لآل لخم، بغضًا دعاها إلى تنصيب "الحارث" ملكًا عليها، وعلى الانتقام من آل لخم.
ولابن الكلبي رواية عن كيفية تولي الحارث ملك الحيرة، ذكر "أن قباذ ملك فارس له ملك كان ضعيف الملك، فوثبت ربيعة على النعمان الأكبر أبي المنذر الأكبر ذي القرنين، وإنما سمي ذا القرنين لضفرين كانا له، فهو ذو القرنين بن النعمان بن الشقيقة. فأخرجوه، فخرج هاربًا حتى مات في إياد، وترك ابنه المنذر فيهم، وكان أرجى ولده عنده، فتنطلق ربيعة إلى كندة، وكان الناس في الزمن الأول يقولون إن كندة من ربيعة، فجاءوا بالحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار الكندي، فملكوه على بكر بن وائل، وحشدوا له، وقاتلوا معه، فظهر على ما كانت العرب تسكن من أرض العراق، وأبى قباذ أن يمد المنذر بجيش. فلما رأى ذلك المنذر، كتب إلى الحارث بن عمرو: إني في غير قومي، وأنت أحق من ضمني واكتنفني، وأنا متحول إليك. فحوله إليه، وزوجه
1 حمزة "ص70 وما بعدها".
2 حمزة "ص70 وما بعدها".
ابنته هندًا. ففرق الحارث بن عمرو بنيه في قبائل العرب، فصار شرحبيل بن الحارث في بكر بن وائل وحنظلة بن مالك وبني زيد بن تميم وبني أسد وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب، وصار غلفاء وهو معديكرب في قيس، وصار سلمة بن الحارث في بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة بن تميم
…
ومع معديكرب الصنائع، وهم الذين يقال لهم بنو رقية أم لهم ينسبون إليها. وكانوا يكونون مع الملوك من شذاذ الناس. فلما هلك أبوهم الحارث بن عمرو تشتت أمرهم وتفرقت كلمتهم، ومشت الرجال بيينهم، وكانت المغاورة بين الأحياء الذين معهم، وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع وزحف إليه بالجيوش
…
"1.
ولابن الكلبي رواية أخرى دونها الطبري، هذا نصها: "لما لقي الحارث بن عمرو بن حجر بن عدي الكندي النعمان الأكبر، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك بعث قباذ بن فيروز ملك فارس إلى الحارث بن عمرو الكندي أنه قد كان بيننا وبين الملك الذي قد كان قبلك عهد، وأني أحب أن ألقاك.
وكان قباذ زنديقًا يظهر الخير ويكره الدماء، ويداري أعداءه فيما يكره من سفك الدماء، وكثرت الأهواء في زمانه واستضعفه الناس. فخرج إليه الحارث بن عمرو الكندي في عدد وعدة حتى التقوا بقنطرة الغيوم
…
فلما رأي الحارث ما عليه قباذ من الضعف، طمع في السواد، فأمر أصحابه مسالحه أن يقطعوا الفرات؛ فيغيروا في السواد، فأتى قباذ الصريخ وهو بالمدائن فقال: هذا من تحت كنف ملكهم. ثم أرسل إلى الحارث بن عمرو أن لصوصًا من لصوص العرب قد أغاروا، وأنه يجب لقاءه، فلقيه. فقال له قباذ: لقد صنعت صنيعًا ما صنعه أحد من قبلك. فقال له الحارث: ما فعلت ولا شعرت، ولكنها لصوص من لصوص العرب، ولا أستطيع ضبط العرب إلا بالمال والجنود. قال له قباذ: فما الذي تريد؟ قال: أريد أن تطعمني من السواد ما أتخذ به سلاحًا. فأمر له بما يلي جانب العرب من أسفل الفرات، وهي ستة طساسيح، فأرسل الحارث بن عمرو الكندي إلى تبع وهو باليمن: إني قد طمعت في ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ستة طساسيح،
1 المفضليات "ص427 وما بعدها"، النقائض "ص1072 وما بعدها"، "طبعة ليدن".
فاجمع الجنود، وأقبل
…
فجمع تبع الجنود، وسار حتى نزل الحيرة، وقرب من الفرات، فآذاه البق، فأمر الحارث بن عمرو أن يشق له نهر إلى النجف، وهو نهر الحيرة، فنزل عليه، ووجه ابن أخيه شمر ذي الجناح إلى قباذ، فقاتله فهزمه شمر حتى لحق بالري". وقد ترك ابن الكلبي الإشارة إلى الحارث وظفر إلى الحديث عن فتوحات شمر الذي أوصل فتوحاته إلى القسطنطينية، ثم إلى رومة "رومية"، ثم إلى عودة "تبع" وتهوده بتأثير أخبار يثرب، ثم إلى علم "كعب الأحبار" الذي استمده على حد قوله من بقية ما أورثت أحبار يهود1.
ويرى "موسل" أن التقاء "الحارث" بـ"قباذ""488-531م" عند قنطرة الفيوم، كان سنة "525" للميلاد2. والفيوم موضع لا يبعد كثيرًا عن "هيت"3:
يفهم من رواية ابن الكلبي هذه أن الحارث التقى بملك الحيرة "النعمان بن المنذر" في معركة أسفرت عن مقتل "النعمان" وفرار المنذر ابنه، وعن انتصار عرب الحارث على عرب الحيرة، واستيلاء الحارث على ما كان يملكه النعمان، فلما حدث هذا ووقع، اضطر "قباذ" إلى ملاطفة الحارث واسترضائه. ولكن الحارث طمع في أكثر من ذلك، طمع في السواد، فأقطعه منه ما يلي جانب العرب من أسفل الفرات، أقطعه من ستة طساسيح. فليس في هذه إشارة إلى قبول "الحارث". الدخول في المزدكية، ولا إلى طرد النعمان من ملكه نتيجة لرفضه اتباعه في دينه، إنما هو ضعف قباذ وعجزه عن مساعدة صاحبه النعمان وانتهاز الحارث الذكي هذه الفرصة المواتية للاستيلاء على ما طمع فيه من ملك النعمان.
أما الشق الثاني، وهو خبر "تبع"، وحروبه ومساعدته له، فهو على ما يظهر من هذا النحو الذي ألفناه في ربط تأريخ كندة باليمن، والإشادة بماضي القحطانيين وانفرادهم بالملك دون خصومهم العدنانيين، وإلى عدم تمكن كندة من العمل وحدها لولا مساعدة اليمانيين.
يستنتج من كل هذه الروايات أن "الحارث بن عمرو" الكندي اغتصب عرش الحيرة أمدًا، اغتصبه من "النعمان بن امرئ القيس بن الشقيقة"، أو
1 الطبري "2/ 89 وما بعدها".
2 Musil، Middle Euphrates، P. 350
3 البلدان "6/ 414".
"المنذر الأكبر بن ماء السماء" أو "النعمان الأكبر أبو المنذر الأكبر ذو القرنين"، و"ذو القرنين"، هو "ذو القرنين بن النعمان بن الشقيقة"1، أو "النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن الشقيقة"2، وذلك في زمن "قباذ" ملك الفرس. ويقصد بـ"قباذ" هذا "قباذ" الأول الذي حكم ثلاثًا وأربعين سنة على ما جاء في الأخبار3. ويقدر العلماء ذلك في سنة "488" حتى سنة "531" بعد الميلاد4.
ولنتمكن من تعيين اسم الملك الذي قصده الرواة، علينا الرجوع إلى أسماء من حكم في أيام قباذ من ملوك الحيرة، وذلك على نحو ما رواه لنا الأخباريون.
إن أول من حكم في عهد "قباذ"، على ما يدعيه "حمزة" هو الملك "الأسود بن المنذر"، وقد حكم في أيامه ست سنين، ثم المنذر بن المنذر، وأمه "هر"، وقد حكم سبع سنين. ثم النعمان بن الأسود، وأمه أم الملك بنت عمرو بن حجر أخت "الحارث بن عمرو بن حجر الكندي"، أربع سنين. ثم أبو يعفر بن علقمة الذميلي، وقد حكم ثلاث سنين. ثم امرؤ القيس بن النعمان بن امرئ القيس، وقد حكم سبع سنين. ثم امرؤ القيس بن النعمان بن امرئ القيس، وقد حكم سبع سنين، ثم المنذر بن امرئ القيس المعروف بالمنذر بن ماء السماء، وهو ذو القرنين، وقد حكم اثنتين وثلاثين سنة من ذلك ست سنين في زمن قباذ. ثم الحارث بن عمرو بن حجر الكندي، ولم يذكر "حمزة" مدة حكمه، إنما قال:"ذكر هشام عن أبيه أنه لم يجد الحارث فيمن أحصاه كتاب أهل الحيرة من ملوك العرب. ثم قال: وظني أنهم إنما تركوه لأنه توثب به الملوك بغير إذن من ملوك الفرس، ولأنه كان بمعزل عن الحيرة التي كانت دار المملكة ولم يعرف له مستقر وإنما كان سيارة في أرض العرب"5. ولم يذكر حمزة مدة حكم "قباذ"6.
أما "الطبري"، فجعل "النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن الشقيقة".
1 المفضليات "ص427".
2 OLINDER ، P. 58
3 الطبري "2/ 89".
4 ENCY. IV، P. 178
5 حمزة "ص69-72".
6 حمزة "ص39".
الملك الذي كان قد حكم حينما تولى "قباذ" الحكم، وجعل "الحارث بن عمرو بن الحجر" الذي قتل النعمان على روايته من بعده. وقد دام حكمه على ما يظهر من رواية الطبري حتى أيام "كسرى أنو شروان بن قباذ". فلما قوي شأن "كسرى أنو شروان"، بعث إلى المنذر بن النعمان الأكبر، وأمه ماء السماء، فملكه الحيرة وما كان يلي آل الحارث بن عمرو بن حجر1.
أما "ابن الأثير"، وهو عيال على الطبري وناقل منه، فقد ذكر ما ذكره الطبري، وأضاف إليه: أن المنذر بن ماء السماء لما بلغه هلاك قباذ، وقد علم خلافه على أبيه في مذهبه، أقبل إلى "أنو شروان" فعرفه نفسه، وأبلغه أنه سيعيده إلى ملكه، وطلب "الحارث بن عمرو"، وهو بالأنبار، فخرج هاربًا في صحابته وماله وولده، فمر بـ"الثوبة"، فتبعه المنذر بالخيل من تغلب وإياد وبهراء، فلحق بأرض كلب، ونجا، وانتهبوا ماله وهجائنه، وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسًا من بني آكل المرار، فقدموا بهم على المنذر، فضرب رقابهم بـ"جفر الأميال"2 "جفر الأملاك" في ديار بني مرينا العباديين بين دير بني هند والكوفة3.
ترى مما تقدم اختلاف الروايات وتباينها وتعددها، حتى إن الرواية الواحد مثل "ابن الكلبي" يروي لنا جملة روايات، قد يناقض بعضها بعضًا. لقد وجدنا منها ما زعمت أن قباذ طرد المنذر من مملكته، وأحل الحارث محله، ومنها ما زعمت أن المنذر استرضى الحارث بعد أن رأي عجزه وعجز صاحبه، فحوله إليه، وزوجه ابنته هند، ومنها ما ذكرت أن الحارث قتل النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن الشقيقة، وأن المنذر بن النعمان الأكبر فر ونجا بنفسه، وأن الحارث ملك بالقوة ما كان يملكه ملوك الحيرة وأن قباذ داراه واسترضاه لما وجد فيه من البأس. فماذا نستخلص من مجموع هذه الروايات؟
كل ما يستخلص منها أن الحارث استبد بملك آل لخم، في أيام قباذ، وكان مركز هذا الملك صعبًا بسبب ضعفه، وبسبب العقيدة التي قبلها، وهي عقيدة تناقض ما كان عليه الناس. وقد حكم أمدًا: يظهر أنه امتد مدة حكم قباذ، ثم
1 الطبري "2/ 89" وما بعدها".
2 ابن الأثير "1/ 175".
3 البلدان "4/ 127 وما بعدها".
تغيرت به الأحوال، فعاد أصحاب البيت إلى بيتهم، وهرب هو إلى من حيث جاء، ولا نعرف على وجه التحقيق متى ولي الحكم، ولا متى غادره.
لقد ذكرت أسماء الملوك الذي حكموا في أيام "قباذ" على رواية حمزة، وهي رواية تكاد تتفق مع القائمة التي دونها الطبري في آخر كلامه عن "كسرى أنو شروان" نقلًا عن هشام بن الكلبي لأسماء ملوك الحيرة ومدد حكمهم، وذلك قبل عهد "كسرى أنو شروان"1. فأي ملك من هؤلاء يمكن أن يكون هو الملك المقصود؟
لقد ذكر "بوشع العمودي""JOSHUA THE STYLITE" أن ملك الحيرة "النعمان" اشترك مع "قباذ" في المعارك التي وقت بينه وبين الروم، فأصيب النعمان بجروح بليغة على مقربة من "قرقيسياء""CLRCESLUM" قضت عليه، وذلك في سنة "503" للميلاد. ولقد انتهز عرب الروم المسمون بالثعلبيين. "بني ثعلبة" هذه الفرصة، فغزوا الحيرة، واضطرت القوة التي تركها النعمان في عاصمته إلى الفرار للبادية.
أفلا يجوز أن يكون هؤلاء الغزاة هم أعراب "الحارث الكندي"، انتهزوا هذه الفرصة فأغاروا على الحيرة واستولوا عليها، فصارت في قبضة "الحارث" على نحو ما رواه بعض الأخباريين؟ ثم ألا يجوز أن يكون بعض الرواة قد سمعوا بمقتل "النعمان"، فظنوا أن القائل هو "الحارث"، أو تعمدوا نسبة القتل إليه للرفع من شأن كندة ومن كان معها من قبائل2؟
ولكن من يثبت لنا أن هؤلاء الأعراب الثعلبيين، أي من "بني ثعلبة"، وهم من عرب الروم على حد قول "يوسع العمودي" هم من أتباع الحارث أو أنهم من "آل الحارث" أي من كندة، وأن العائلة الكندية المذكورة كانت تعرف بـ"بني ثعلبة". وليس في الذي بين أيدينا من موارد، مورد واحد يذكر بأن "آل آكل المرار" هم من "بني ثعلبة" أو أنهم كانوا قد عرفوا بـ"بني ثعلبة" في يوم من الأيام، أو أنهم كانوا قد خضعوا لسلطان الروم، لذلك لا أظن أن "يوشع العمودي" قصد بالثعلبيين عرب الروم، كندة،
1 الطبري "2/ 94".
2 "قرقيسياء"، البلدان "7/ 59"، OLINDER ، P. 59. ency، ii، p. 763، musll، euphrates، p. 334
وإنما قصد أعرابًا من أعراب الروم، كانوا يعرفون بـ"بني ثعلبة" أو "آل ثعلبة"، وكانوا يتمتعون باستقلالهم تحت حماية الروم. ولما وجدوها فرصة ما حل بالنعمان من جروح في الحرب التي خاضها مع الفرس على الروم، هاجموا الحيرة فانتهبوها، وكانت حاميتها ضعيفة ففرت إلى البادية، ولم يذكر المؤرخ مدة مكوث هؤلاء الأعراب في الحيرة، والظاهر أنها لم تكن سوى مدة قصيرة، وأنها كانت من نوع غارات الأعراب على المدن: غزو خاطف، يعقبه انسحاب عاجل لتأمين سلامة ما ينهبونه وإيصاله إلى ديارهم حتى لا تتمكن القوات التي ستأتي لمعاقبتهم من أخذ ما حصلوا عليه من غنائم وأموال.
ويظهر أن حكم كندة للحيرة لم يكن طويلًا، ويظن أنه كان بين سنة "525" وسنة "528" للميلاد، وذلك في أثناء ظهور فتنة المزدكية في إيران1. وليس بمستبعد أن يكون الحارث قد اتصل بالفرس قبل هذا الزمن. في أثناء صلح سنة "506" للميلاد، أو على أثر الفتور الذي طرأ على علاقاته بالبيزنطيين؛ لأنه وجد أن الاتفاق مع الفرس يعود عليه بفوائد ومنافع لا يمكن أن يغتنمها من الروم، ووجد بكرًا وتغلب قد زحفتا إذ ذاك من مواطنهما القديمة في اليمامة ونجد نحو الشمال تريدان النزول في العراق. وقد أقره الفرس على المناطق الصغيرة أو الواسعة التي استولى عليها لقاء جعل2.
لم يكن من مصلحة ملك الحيرة، بالطبع، الرضى بنزول منافس قوي أو منافسين أقوياء في أرضه أو في أرض مجاورة له. فلما ظهر الحارث في العراق، وعرف ملك الحيرة نياته وتقربه إلى الفرس، وملك الحيرة، هو باعتراف الفرس "ملك عرب العراق"، لم يكن من المعقول سكوته انتظارًا للنتائج. ومن هنا وقع الاختلاف3.
لم تكن العلاقات حسنة بين قباذ والمنذر ملك الحيرة، لسبب غير واضح لدينا وضوحًا تامًّا، قد يكون بسبب المزدكية، وقد يكون بسبب تقرب الحارث إلى الفرس وإقطاعهم إياه أرضًا وتودده الزائد إلى قباذ، وقد يكون لأسباب أخرى
1 Olinder، P. 65
2 O. Blau، Arabien in Sechsten Jahrhundert، in ZdMG. Bd، 23، (1869) ، S. 579
3 حمزة "ص65"، olinder، p. 65
مثل تردد ملك الفرس وضعفه، فلم تكن له خطة ثابتة مما أثر في وضع "ملك عرب العراق" على كل حال، فقد أدى هذا الفتور إلى استفادة الحارث منه واستغلاله، فتقرب إلى الفرس وتودد إليهم حتى آل الأمر بأن يأخذ ملك الحيرة أمدًا حتى تغيرت الأحوال في فارس بموت قباذ وتولي "كسرى أنو شروان" الملك من بعده، فعاد المنذر عندئذ إلى عرش الحيرة وأبعد الحارث عن ملكه.
وآراء الأخباريين متباينة كذلك في المكان الذي اختاره الحارث للإقامة فيه بعد اغتصابه ملك "آل لخم"، فبينما يفهم من بعض الروايات أنه استقر في الحيرة وأقام فيها، نرى بعضًا آخر يرى أنه أقام في الأنبار1. وبينما يذكر "حمزة" أن الحارث حينما بلغه خبر قدوم المنذر عليه واقترابه من الحيرة، هرب فتبعته خيل المنذر، مما يفهم أنه كان في الحيرة، نجده يقول في موضع آخر: "أن الحارث كان بمعزل عن الحيرة التي كانت دار المملكة، ولم يعرف له مستقر، إنما كان سيارة في أرض العرب"2. ونجد صاحب الأغاني يذكر في موضع أنه كان في الأنبار، ويشير في موضع آخر أنه كان في الحيرة3.
وتتفق روايات الأخباريين على أن مجيء "كسرى أنو شروان" كان شرًّا على الحارث، وخيرًا لآل لخم، فقد كانت سياسة "أنو شروان" مناقضة لسياسة قباذ بسبب المزدكية. وقد ظهر اختلافهما هذا في السنين الأخيرة من سني حكم قباذ4. وقد أدى هذا الاختلاف إلى محاربة المزدكية وسقوطها. ويحدثنا "ملالا""john malalas" أن سقوطها كان بعد وفاة "الحارث" وقبل غارة المنذر على بلاد الشأم5. وقد قام المنذر بها في شهر آذار من سنة "528" للميلاد على رواية "ثيوفانس"6 "theophanes". وكانت وفاة الحارث في أوائل سنة "528" للميلاد7. ومن رواية هذين الكاتبين يتبين أن الحارث كان قد قضى نحبه قبل
1 اليعقوبي "1/ 177"، ابن الأثير "1/ 209"، الأغاني "8/ 62""طبعة الساسي".
2 حمزة "ص72، 93"، rothstein، die dynastle der lakhmiden. s. 88
3 الأغاني "8/ 62".
4 Noldede، Die Sasaniden، S. 462، Christensen، Le Regne du Roi Kawadh I، et le Communisme Mazdaqit، PP. 124، Olinder، P. 65
5 John Malalas، Chronographia، Lib، XVIII، Col. 653 olinder، P
6 Olinder، P. 56، 65
7 Olinder، P. 56
القضاء على المزدكية بمدة غير طويلة، وأن المنذر كان في آذار سنة "528" للميلاد قد قام بغارته على بلاد الشأم1.
ويستدل من إشارة "ملالا" و"ثيوفانس" إلى موت الحارث في سنة "528م" ومن تلقيبه بلقب "فيلارخس" أي عامل، على أن علاقات الحارث بالروم في أواخر أيام حياته كانت حسنة. ومعنى هذا أن خلافًا أو فتورًا كان قد وقع فيما بينه وبين الفرس، دفعه على التقرب نحو خصوم الساسانيين وهم الروم، فاتصل بهم وذلك في أيام "قباذ"، أو في أيام، "كسرى أنو شروان"2.
ويظهر أن تودد "الحارث" إلى البيزنطيين لم يأت له بنتيجة أو بفائدة تذكر.
إذ يحدثنا الكاتبان "ملالا" و"ثيوفانس" أن قائد أن قائد فلسطين الرومي "ديوميدس""diomedos" أجبر سيد قبيلة يدعى "أريتاس""aritas"، أي "الحارث" على التراجع في اتجاه الهند "indica"، ويقصد بذلك جهة الجنوب أو الشرق، حيث كان يطلق البيزنطيون على العربية الجنوبية "الهند". فلما سمع بذلك "الموندارس""alamoundaros" أي "المنذر" رئيس العرب "السرسيني""saracens" الخاضعين لنفوذ الفرس، هجم على الحارث فقتله، وغنم أمواله وما ملكه وأسر أهله. فلما بلغ النبأ للقيصر "يوسطنيانوس""justinianus"، أمر حكام "فينيقية""phenicia" و"العربية""arabia" والجزيرة وعامل الحدود بتعقب المنذر ومهاجمته. وقد اشترك في هذه الحملة عدد من القادة والحكام، وفي جملتهم سيد قبيلة اسمه "أريتاس""aritas"، أي "الحارث". وهو الحارث بن جبلة الغساني على ما يظهر3.
ولم يتعرض الأخباريون للخبر الذي ذكره الكاتبان عن كيفية قتل "الحارث" ولا عن الأمر الذي أصدره القيصر بتعقب "المنذر"، والظاهر أنهم لم يقفوا عليه4.
غير أن للأخباريين رواياتهم الخاصة عن مصير صاحبنا "الحارث" الكندي.
حدث صاحب "الأغاني" أن "أنو شروان" حينما ملك، أمر بقتل الزنادقة،
1 Olinder، P. 65
2 Olindder، P. 66
3 Olinder، P. 53، Noldeke، Sasaniden، S. 171
4 Olinder، P. 66
أي أتباع مزدك، "فقتل منهم ما بين جازر1 إلى النهروان إلى المدائن في ضحوة واحدة مائة ألف زنديق وصلبهم"2، وأعاد المنذر إلى مكانه، وطلب "الحارث بن عمرو، فبلغه ذلك وهو بالأنبار وكان بها منزله
…
فخرج هاربًا في هجائنه وماله وولده، فمر بالثوبة3، وتبعه المنذر بالخيل من تغلب وبهراء وإياذ، فلحق بأرض كليب، فنجا وانتهبوا ماله وهجائنه، وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسًا من بني آكل المرار، فقدمت بهم على المنذر، فضرب رقابهم بـ"جفر الأملاك" في ديار بني مرينا العبادين بين دير هند والكوفة
…
"4.
وأضاف "ابن الأثير" إلى هذا الخبر أن "تغلب" قبضت على ولدين من أولاد الحارث هما: "عمرو" و"مالك" في جملة الثمانية والأربعين، فجاءت بهما إلى المنذر في "ديار بني مرينا" فقتلهم5.
ويحدثنا "ابن قتيبة" أن "المنذر" لما أقبل "من الحيرة هرب الحارث، وتبعته خيل فقتلت ابنه عمرًا، وقتلوا ابنه مالكًا بهيت، وصار الحارث بمسحلان فقتله كلب". وزعم غير ابن قتيبة أنه مكث فيهم حتى مات حتف أنفه6.
وذكر "حمزة" الروايات المدونة في كتاب "الأغاني" بحذف بعض كلماتها7.
ولم يشر اليعقوبي إلى من قتل "الحارث" من ملوك الحيرة، بل أوجز فقال: "
…
وكانوا يجاورون ملوك الحيرة، فقتلوا الحارث. وقام ولده بما كان في أيديهم، وصبروا على قتال المنذر حتى كافئوه8. ويشعر على كل حال
1 "جازر" قرية من نواحي النهروان من أعمال بغداد قرب المدائن، وهي قصبة طسوح الجازر، والبلدان "3/ 36"، الأغاني "9/ 80""طبعة دار الكتب المصرية"، "1936"، الأغاني "8/ 62""طبعة مطبعة التقدم"، وفيها أغلاط عديدة.
2 الأغاني "8/ 63"، "مطبعة التقدم"، "9/ 80""طبعة دار الكتب المصرية".
3 الثوبة: موضع قريب من الكوفة، وقيل خريبة إلى جانب الحيرة على ساعة منها.
وقيل إنه كان سجنًا للنعمان بن المنذر كان يحبس به من أراد قتله، البلدان "3/ 28".
4 الأغاني "8/ 62"، "9/ 80""طبعة دار الكتب المصرية".
5 ابن الأثير "1/ 209"، "جفر الأملاك"، البلدان "3/ 115"، ابن الأثير "1/ 304 وما بعدها""الطباعة المنيرية".
6 الأغاني "8/ 62"، musll، middle euphrates. p. 350
7 حمزة "ص93"، "مسجلان"، البلدان "8/ 51".
8 اليعقوبي "1/ 178".
من جملة "وصبروا على قتال المنذر" ومن روايات الأخباريين الأخرى أن القتل كان في أيام المنذر.
وفي رواية أخرى أن الحارث بقي في كلب حتى توفي فيما بينهم حتف أنفه1.
وقد أضافت الرواية التي تنسب إلى "أبي عبيدة" إلى هذا الخبر أنه دفن بـ"بطن عاقل"2. والظاهر أن إضافة "بطن عاقل" إنما وقعت سهوًا واشتباهًا من باب عدم التمييز فيما بين "حجر" الذي زعم أنه دفن بـ"بطن عاقل" وبين "الحارث"3.
وجاء في رواية أن الحارث خرج يتصيد، فرأى جماعة من حمر الوحش فشد عليها، وانفرد منها حمار فتتبعه، وأقسم ألا يأكل شيئًا قبل كبده، فطلبته الخيل ثلاثة أيام حتى أدركته، وأتي به، وقد كاد يموت من الجوع، ثم شوي على النار وأطعم من كبده وهي حارة؛ فمات4.
ولا تخلو هذه الروايات المتعلقة بموت "الحارث" ونهايته من مؤثرات العواطف القلبية التي صبغت كل الأخبار التي يرويها الأخباريون بهذه الصبغة. فكلب تدعي أنها هي التي قتلته، وكندة تنكر ذلك مدعية أنه مات كما يموت سائر الناس، وأهل الحيرة يقولون إنهم هم الذين قتلوه، قتلوه في حرب. وأبو الفرج الأصبهاني يقول:"فكلب يزعمون أنهم قتلوه، وعلماء كندة تزعم أنه خرج إلى الصيد فالظ بتيس من الظباء، فأعجزه فآلى أن لا يأكل أولًا إلا من كبده، فطلبته الخيل ثلاثًا، فأتي بعد ثالثة، وقد هلك جوعًا، فشوي له بطنه فتناول فلذة من كبده، فأكلها حارة فمات"5.
ولورود خبر مقتل "الحارث" مسجلًا تسجيلًا دقيقًا لدى الكاتبين المذكورين: "ملالا" و"ثيوفانس"، ومطابقته لرواية أهل الحيرة في النتيجة، وهو أن مقتله كان على أيدي "المنذر" وجماعته نرجح هذه الرواية على غيرها من الروايات.
1 وزعم ابن قتيبة أنه مكث فيهم حتى مات حتف أنفه" الأغاني "8/ 62"، أبو الفداء "1/ 74".
2 العقد الفريد "3/ 77"، نهاية الأرب "15/ 406"، العقد الفريد "6/ 87 وما بعدها""طبعة محمد سعيد العريان"، OLINDER، P. 68
3 OLINDER، P.68
4 أيام العرب "46".
5 الأغاني "8/ 62"، ابن الأثير "1/ 210".
ويظهر من غربلة الروايات التي. رواها أهل الأخبار عن نهاية "الحارث" أنها قد اختلفت فيما بينها وتضاربت في موضوع نهايته، فزعم بعض منها، أنه قتل وأن قاتله هو "المنذر بن ماء السماء"، وزعم بعض آخر أنه قتل، ولكنه لم يصرح باسم قاتله، وزعم بعض آخر أنه هلك، وأنه لم يقتل، وإنما مات حتف أنفه1. والذي أرجحه أنه قتل، قتل في أثناء المعارك التي وقعت من جراء تعقب المنذر بن ماء السماء له.
ولا نكاد نعرف شيئًا يذكر عن أعمال الحارث في أثناء توليه ملوكية قبائل "معد" غير ما ذكره الرواة من أنه وزع أولاده عليها، وجعلهم ملوكًا على تلك القبائل. كذلك لا نكاد نعرف شيئًا يذكر عن أعماله وهو ملك على الحيرة، فأصحابنا الأخباريون سكوت عن هذه الأمور. ويفهم من كلام بعض الأخباريين عن "الحارث" أنه حينما نزل ببكر بن وائل، أقام بـ"بطن عاقل"، ومنه غزا بهم ملوك الحيرة اللخميين، وملوك الشأم الغسانيين، وفيه كانت نهايته2.
ويفهم من بيت في ديوان "امرئ القيس" أن ملك الحارث قد امتد من العراق إلى عمان، ولا تعني أمثال هذه الأقوال امتلاكًا فعليًّا، بل كانت تتحدث في الواقع عن اتفاقات تعقد بين القبائل يعترف فيها بالرئاسة لمن له النفوذ الأكبر والمكانة، فإذا حدث حادث للرئيس الذي تمكن بمكانته ومنزلته من ضم هذه القبائل وتوحديها، انهد كيان ذلك الاتحاد وتشتت شمله، كالذي حدث بعد وفاة الحارث كما سنرى فيما بعد. وقد لا تعني هذه الأقوال سوى المبالغات والفخر، على نحو ما يرد في شعر غيره من الشعراء من امتلاكهم الدنيا ومن عليها، ومن تدويخهم القبائل والناس، وليس في الواقع أي شيء مما جاء في دعوى أولئك الشعراء المفتخرين.
ويحدثنا "أبي الكلبي" أنه كان للحارث زوجات ثلاث، هن: أم قطام بنت سلمة بن مالك بن الحارث بن معاوية، وأسماء، ورقية أمة أسماء. وقد زعم ابن الكلبي أن أم قطام وأسماء كانتا شقيقتين، وأما رقية، فكانت أمة لأسماء. وقيل أيضًا:"هن أخوات، فجمعهن جميعًا"3. وزوجه بعض
1 البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 208".
2 نهاية الأرب "15/ 406"، العقد الفريد "6/ 78""طبعة العريان".
3 المفضليات "ص429، 432".
الأخباريين بامرأة أخرى هي: "أم أناس" بنت "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان"، وهي والدة "عمرو بن الحارث" المعروف عندهم بـ"ابن أم أناس""ابن أم إياس"1. وفي رواية "ابن السكيت" أن "أم قطام بنت سلمى" هي امرأة من "عنزة"2.
وقد دون لنا الرواة أسماء جملة أولاد من أبناء "الحارث"، ذكروا منهم حجر وشرحبيل ومعديكرب وعبد الله وسلمة، ومحرق ومالك وعمر3. وأم "حجر" هي:"أم قطام"4.
ويذكر أهل الأخبار أنه كان للحارث ابن، حج ففقده، فاتَّهم به رجل من بني أسد يقال له حبال بن نصر بن غاضرة، فأخبر بذلك الحارث، فأقبل حتى ورد تهامة أيام الحج، وبنو أسد بها. فطلبهم، فهربوا منه. فأمر مناديًا فنادى من آوى أسديًّا فدمه جبار. ثم إن الملك عفا عنهم وأعطى كل واحد منهم عصا أمانًا له. وبنو أسد يومئذ قليل. فأقبلوا إلى تهامة ومع كل رجل منهم عصا. فلم يزالوا بتهامة حتى هلك الحارث، فأخرجتهم بنو كنانة، وسموا عبيد العصا، بالعصا التي أخذوها5.
ويذكر أهل الأخبار أنه كانت للحارث بن عمرو بنت اسمها هند، وقد تزوجها المنذر بن ماء السماء، وهي والدة الملك "عمرو بن هند" وشقيقة "قابوس" وعمه الشاعر امرئ القيس6.
وهم يذكرون أن ملك الحارث لما توسع واشتغل هو بالحيرة عما كان يراعيه من أمور البوادي، تفاسدت القبائل وفشا بينها الشر، فجاء أشرافها فشكوا ما حل بهم من غلبة السفهاء، وطلبوا إليه أن يملك عليهم أبناءه. فملك ابنه حجرًا على بني أسد وغطفان، وملك ابنه شرحبيل على بكر بن وائل بأجمعها وعلى
1 ابن الأثير "1/ 207".
2 الأغاني "8/ 61".
3 الأغاني "8/ 62 وما بعدها"، المفضليات "ص432، ابن الأثير "1/ 209".
4 شرح القصائد العشر، للزوزني "ص7".
5 ديوان بشر بن أبي خازم الأسدي "ص115 وما بعدها"، مجمع الأمثال، للميداني "2/ 19 وما بعدها".
6 الشعر والشعراء "1/ 50 وما بعدها"، "ص43"، "طبعة ليدن".
بني حنظلة بن مالك بن زيد مناة وطوائف من بني درام بن تميم والرباب، وملك ابنه معديكرب على بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة وطوائف من بني دارم بن حنظلة والصنائع، وهم بنو رقية: قوم كانوا يكونون مع الملوك من شذاذ العرب، وملك ابنه عبد الله على عبد القيس، وملك ابنه سلمة على قيس عيلان1. وقيل إن شرحبيل بن الحارث ملك في بكر بن وائل وحنظلة بن مالك وبني زيد بن تميم وبني أسيد وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب، ومعديكرب في قيس والصنائع، وهم بنو رقية، وسلمة في بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة2.
وقد اكتفى "حمزة" بقوله: "وانتشر ولده، فملكهم على بكر وتميم وقيس وتغلب وأسد"3. وهنالك روايات أخرى تختلف في التفاصيل وفي الأمور الثانوية عن هذه الروايات التي ذكرتها بعض الاختلاف4، سأشير إليها في أثناء البحث عن هؤلاء الأولاد.
وذكر "ياقوت الحموي، رواية رجعها إلى "أبي زياد الكلابي"، خلاصتها أن "مضر" و"ربيعة" اجتمعت على أن يجعلوا منهم ملكًا يقضي بينهم، فكلٌّ أراد أن يكون منهم، ثم تراضوا أن يكون من "ربيعة" ملك ومن "مضر" ملك، ثم أراد كل بطن من ربيعة ومن مضر أن يكون الملك منهم، ثم اتفقوا على أن يتخذوا ملكًا من اليمن. فطلبوا ذلك إلى "بني آكل المرار" من كندة، فملكت بنو عامر شراحيل بن الحارث الملك بن عمرو المقصور بن حجر آكل المرار. وملكت بنو تميم وضبة محرق بن الحارث، وملكت وائل شراحيل بن الحارث. وتختلف هذه الرواية كما ترى بعض الاختلاف عن رواية لـ"ابن الكلبي" ذكرها "ياقوت" أيضًا، هي أن سلمة بن الحارث ملك "بني تغلب" و"بكر بن وائل"، وأما "غلفاء" وهو "معديكرب" "معديكرب"، فقد ملك بقية "قيس"،
1 الأغاني "8/ 62 وما بعدها"، "9/ 82""طبعة دار الكتب المصرية"، البلدان "4/ 472""كلاب"، نقائض جرير والفرزدق "1/ 452""تحقيق بيفان""ليدن 1907".
2 المفضليات "ص428" Ency. ii. P. 1018
3 حمزة "ص92".
4 خزانة الأدب "2/ 500".
وأما "أسد" و"كنانة، فقد ملكت عليها "حجر بن الحارث"، أي والد امرئ القيس1.
أما "حجر"، فهو أكثر هؤلاء الأولاد ذكرًا عند الأخباريين. وهو والد الشاعر الجاهلي المعروف "امرئ القيس" وقد يعود الفضل إلى هذا الشاعر في ذيوع شهرة والده وانتشار خبره. وحفظ أخبار هذه الأسرة من كندة. وهو أكبر أولاد الحارث، وإليه انتقلت عامة كندة بعد وفاة والده2. وهو ابن "أم قطام بنت سلمة بن مالك بن الحارث بن معاوية" من كندة3.
ملك "الحارث" ابنه "حجرًا" كما ذكرت الأخبار على أسد وكنانة وهما قبيلتان من قبائل مضر. وتقع مواطن "أسد" الرئيسية في القرن السادس للميلاد في جنوب جبلي طيء "أجأ" و"سلمى"، ويسميان جبل شمر في الزمن الحاضر على جانبي بطن الرمة "وادي الرمة"، غير أن بطونها متفرعة منتشرة في مناطق واسعة تمتد من المدينة إلى نهر الفرات4، ولكنها لم تكن سيدة هذه الأرضين، بل كانت تعيش مع غيرها من القبائل متفرقة5. ويظن أنها "أستينوي" "asatynoi" الساكنة في أرض تسمى بهذا الاسم في "جغرافيا" بطليموس6. وتعد هذه القبيلة في عرف النسابين من نسل "أسد بن خزيمة بن مدركة بن مضر"، وهي شقيقة "الهون" و"كنانة"7.
وروى المؤرخ "ثيوفانس" أن "رومانس""romanus" حاكم فلسطين في أيام "أنسطاسيوس""anastastus"، هزم في سنة "490" للميلاد سيدي قبيلتين، هما:"جبلس""gabalas""jabalas" و"أوكاروس""ogaros" ابن "أرتاس""aretas"، أي الحارث من "آل ثعلبة""thalabanys"، ويظن أن "gabalas" هو "جبلة"، والد الحارث بن جبلة.
1 البلدان "3/ 429".
2 OLINDER، P.76
3 المفضليات "ص429".
4 O. Blay، Arabien Im Sechsten Jahrhundert، In ZDMG، BD، 23، S. 579، Olinder، P. 74
5 Olinder، P. 74 Ency، I، P. 474
6 Ency، I، P. 474
7 Pauly-Wissowa، Ogaros، Olinder، P. 51، Ency، II، P. 1019
الغساني. وأما "ogaros"، فيرى بعض المستشرقين أنه "حجر بن الحارث بن عمرو الكندي". وقد وقع أسيرًا في قبضة "رومانوس". ويرى "أوليندر" أن في تقدير هذا المؤرخ بعض الخطإ وأن التاريخ الصحيح هو سنة "497" للميلاد1. ثم أشار هذا المؤرخ إلى تحرش آخر قام به بعد أربع سنوات سيد قبيلة اسمه "madicaripos" "madikaripos" كان شقيقًا لـ"ogaros". أوغل في الغزو وأوقع الرعب في جند الروم. وقد قصد "ثيوفانس" بـ"madikaripos""معديكرب بن الحارث" شقيق حجر.
وكان من نتائج هذه الغارات كما يقول هذا المؤرخ أن عقد القيصر "أنسطاسيوس" صلحًا مع "aretas" أي الحارث، والد الأخوين المذكورين، فخيم الأمن بذلك على فلسطين والعربية وفينيقية2، وقد أشار إلى هذا الصلح المؤرخ "نونوسوس""nonnosus"، حيث ذكر أن القيصر "أنسطاسيوس" أرسل جده إلى "aretas" لمفاوضته في عقد صلح. ويظهر من قول هذا المؤرخ أن هاتين الغزوتين كانتا في حياة "aretas".
ولم يشر الأخباريون إلى هذه الغزوات التي قام بها "حجر" و"معديكرب" على حدود سورية وفلسطين في عهد "أنسطاسيوس" كما روى ذلك هذا المؤرخ3.
وورد أن حجرًا أغار على اللخميين في أيام امرئ القيس والد المنذر بن ماء السماء. ويظن "نولدكه" أن هذه الجملة التي لا نعرف من أمرها شيئًا إنما وقعت بعد وفاة الحارث، وقد قصد "حجر" منها استرجاع ما خسره أبوه، وأعادة نفوذ كندة إلى ما كان عليه.
لقد كانت نهاية "حجر" بأيدي "بني أسد"، ويظهر أنهم قبلوه ملكًا عليهم مكرهين. فلما حانت الفرصة قاموا عليه وقتلوه. حدث "ابن الكلبي" أنه كان لحجر على بني أشد إتاوة في كل سنة مؤقتة. فلما كان بتهامة، أرسل جابيه الذي كان يجيبهم، فمنعوه ذلك، وضربوا رسله وضرجوهم ضرجًا شديدًا قبيحًا، فبلغ ذلك حجرًا، فسار إليهم بجند من ربيعة وجند من جند أخيه من
1 Pauly-Wissowa، Ogaros، Olinder، P. 51، Ency، II، P. 1019.
2 Olinder، P. 51، 74.
3 Olinder، P. 75.
4 Olinder، P. 76، Noldeke Fur،f Mo'Allaqat، I، S. 80.
قيس وكنانة، فأتاهم وأخذ سراتهم، فضربهم بالعصا وأباح الأموال وصيرهم إلى تهامة، وحبس سيدهم "عمرو بن مسعود بن كندة بن فزارة الأسدي"، والشاعر "عبيد بن الأبرص"، فأثر ذلك في نفوس "بني أسد وأضمروا له الانتقام"1. ثم إن حجرًا وفد على أبيه الحارث في مرضه الذي مات فيه، وأقام عنده حتى هلك، ثم أقبل راجعًا إلى بني أسد، فلما دنا منهم، وقد بلغهم موت أبيه، طمعوا فيه، لما أظلهم وضربت قبابه، اجتمعت بنو أسد إلى "نوفل بن ربيعة"، فهجم على "حجر" ومن معه، فانهزم جيشه وأسر "حجر" وتشاور القوم في قتله، فقال لهم كاهنهم: لا تعجلوا بقتله حتى أزجر لكم، فلما رأى ذلك "علباء" خشي أن يتواكلوا في قتله، فحرض غلامًا من بني كاهل على قتله، وكان حجر قد قتل أباه، فدخل الخيمة التي احتبس حجر بها فطعنه طعنة أصابت مقتلًا2.
ويزعم أهل الأخبار أن "بني أسد" الذين عصوا حجرًا عرفوا منذ ضربهم حجر بالعصا بـ"عبيد العصا"، وقد أشير إلى هذه التسمية في الشعر، ويذكرون أيضًا أن "عبيد بن الأبرص"، وقف أمام الملك حجر، فقال شعرًا يستعطفه فيه على قومه، فرق لهم ورحمهم وعفا عنهم، وأرسل من يردهم إلى بلادهم، فلما صاروا على مسيرة يوم من تهامة تكهن كاهنهم وهو "عوف بن ربيعة بن عامر الأسدي"، بأنهم سيقتلون حجرًا وسينتقمون منه ومن أهله، فصدقوا بنبوءته وعادوا إلى موضع حجر فوجدوه نائمًا، فذبحوه، وشدوا على هجائنه فاستاقوها. وفي رواية أخرى، أنهم هجموا على عسكر حجر ودخلوا قبته، فطعنه علباء بن الحرث الكاهلي، فلما قتل، استصلحت أسد كنانة وقيسًا، ونهبوا ما كان في عسكر حجر وسلبوه، وأجار "عمرو بن مسعود" عيال حجر. وقيل أجارهم غيره، وبذلك تخلصت بنو أسد من حكم كندة3.
1 الأغاني "2/ 63"، ابن خلدون "2/ 274 وما بعدها"، ابن الأثير "1/ 210"، الأغاني "9/ 81""طبعة دار الثقافة، بيروت 1957"، ابن الأثير "1/304"، "الطباعة المنيرية 1348 هـ". البداية والنهاية. لابن كثير "2/ 218""القاهرة 1932".
2 أيام العرب "114 وما بعدها".
3 ابن قتيبة، الشعر والشعراء "1/ 50 وما بعدها"، "دار الثقافة بيروت، 1964"، الأغاني "8/ 6""التقدم"، البلدان "4/ 172 وما بعدها"، خزانة الأدب "1/ 159 وما بعدها".
وهناك روايات أخرى يرجع سندها إلى "ابن الكلبي" وإلى غيره مثل "أبو عمرو الشيباني" و"الهيثم بن عدي" و"يعقوب بن السكيت" وغيرهم تختلف فيما بينها بعض الاختلاف في كيفية قتل "حجر". وقد زعمت بعض الروايات بأن "علباء بن الحرث الكاهلي" هو الذي قتله، طعنه، فقضت طعنته هذه عليه، وكان "حجر" قد قتل أباه. وزعمت رواية أخرى أن الذي قتله هو ابن أخت "علباء"، وكان حجر قد قتل أباه، ضربه بحديدة كانت معه سببت وفاته1.
وتذكر رواية أن "حجرًا" لما علم أنه ميت أوصى ودفع كتابة إلى رجل أمره أن ينطلق إلى أكبر أولاده "نافع"، فإن بكى وجزع، فليذهب إلى غيره حتى يصل إلى أصغرهم وهو امرؤ القيس، فأيهم لم يجزع يدفع إليه الكتاب.
فكان ذلك الولد امرؤ القيس2.
ونجد في شعر "بشر بن أبي خازم الأسدي" فخرًا واعتزازًا بقتل أسد لحجر والد امرئ القيس، وقد دعاه بـ"ابن أم قطام" في إحدى قصائده، وقال إن قومه علوه بالسيوف البيض الذكور. وأم قطام هي بنت سلمة بن مالك بن الحارث بن معاوية3. ودعاه بـ"حجر" في قصيدة أخرى. وافتخر بأن قومه ضربوا رأس حجر بأسياف مهندة رقاق4. وذكر في قصيدة أخرى أن قومه ضربوا خيل حجر بجنب الردة. والردة موضع في ديار قيس. والظاهر أنهم قتلوا حجرًا بجنب الردة5.
وأما "شرحبيل"؛ فقد ملكه أبوه على "بكر بن وائل" و"حنظلة بن مالك" و"بني أسيد" و"الرباب"، أي على عدد من قبائل ربيعة ومضر، وكان نصيبه القسم الشرقي من مملكة كندة ما عدا البحرين6. وليس بين الذي
1 الكامل، لابن الأثير "1/ 301 وما بعدها"، الأغاني "8/ 64 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 276"، ابن حزم، جمهرة أنساب العرب "تحقيق عبد السلام هارون""دار المعارف بمصر 1962"، "ص427".
2 أيام العرب "115".
3 ديوان بشر بن أبي خازم، تحقيق الدكتور عزة حسن "ص91".
4 ديوان بشر "ص116".
5 ديوان بشر "ص22".
6 OLINDER، P. 82
يروي الأخباريون عنه شيء ذو بال، إلا ما ذكروه عن كيفية مقتله ونهايته، وهذا ملخصه:
لما هلك الحارث بن عمرو تشتت أمر أولاده، وتفرقت كلمتهم، ومشت الرجال بينهم، وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع وزحف إليه بالجيوش. وقد بلغت العداوة أشدها بين "شرحبيل" وسلمة، بسبب المنذر الذي عاد إلى الحيرة وأخذ يشعل نار الفتنة بين الأخوين. فسار شرحبيل ببكر بن وائل ومن معه من قبائل حنظلة ومن أسيد بن عمرو بن تميم وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب، فنزلت "الكلاب"، وهو ماء بين الكوفة والبصرة على بضع عشرة ليلة من اليمامة، وأقبل "سلمة" في بني تغلب وبهراء والنمر وأحلافها وسعد بن زيد مناة بن تميم ومن كان معهم من قبائل حنظلة وفي الصنائع يريدون الكلاب. وكان نصحاء شرحبيل وسلمة نهوهما عن الفساد والتحاسد، وحذروهما الحرب وعبراتها وسوء مغبتها، فلم يقبلا، ولم يتزحزحا، وأبيا إلا التتابع. فلما تلاقى الجمعان، اقتتلا قتالًا شديدًا. ثم خذلت بنو حنظلة وعمرو بن تميم والرباب بكر بن وائل، وانصرفت وثبتت بكر بن وائل، وانصرفت بنو سعد وألفافها عن بني تغلب، وصبرت تغلب، وساء أمر شرحبيل، فجاء إليه من عرف موضعه وقتله1.
ويذكر أهل الأخبار أن العداوة كانت شديدة بين الأخوين، حتى إن كل واحد منهما وضع جائزة لمن يأتي برأس أخيه، فذهب "أبو حنش" وهو عصم بن النعمان بن مالك "عصيم بن مالك الجشمي"، فطعن "شرحبيل"، واحتز رأسه وجاء به إلى أخيه، فطرحه أمامه. ويقال إن شرحبيل لما رأى "أبا حنش" يريد توجيه طعنة إليه قال له: يا أبا حنش اللبن اللبن، فقال أبو حنش: قد هرقت لنا لبنًا كثيرًا. فقال: يا أبا حنش أملك بسوقة2. وذلك أن دم الملوك
1 المفضليات "ص428 وما بعدها، 1072 وما بعدها"، النويري، نهاية الأرب "15/ 406 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "1/ 227"، العقد الفريد "6/ 78"، البلدان "3/ 269 وما بعدها"، نقائض جرير والفرزدق "1/ 452""ليدن 1907"، "تحقيق بيفان"، الكامل لابن الأثير "1/ 231""الطباعة المنيرية"، البكري: معجم "4/ 1132"، اليعقوبي "1/ 183 وما بعدها" العقد الفريد "5/ 222""لجنة"، نقائض "2/ 1073"، الكامل لابن الأثير "1/ 379".
2 نقائض جرير والفرزدق "1/ 452""بيفان"، أيام العرب "47".
فوق دم العامة، وهم السوقة. وإن الملك لا يقتل بسبب قتله رجلًا من سواء الناس.
ويظن أن "يوم الكلاب" كان قد وقع سنة "612" للميلاد1.
ويقول الرواة إن "بني تغلب" أخرجت "سلمة"، فلجأ إلى "بني بكر بن وائل"، فانضم إليهم، ولحقت تغلب بالمنذر بن امرئ القيس. وتذكر رواية من الروايات التي يقصها أهل الأخبار عن كيفية نهاية ملوك كندة. أن الأمر لما اشتد على أولاد الحارث، جمع "سلمة" جموع اليمن، فسار ليقتل نزارًا. وبلغ ذلك نزارًا، فاجتمع منهم "بنو عامل بن صعصعة" وبنو وائل: تغلب وبكر، وقيل: بلغ ذلك كليب وائل، فجمع ربيعة، وقدم على مقدمته السفاح التغلبي وأمره أن يعلو "خزازا"2 فيوقد عليه نارًا ليهتدي الجيش بها، وقال له: إن غشيك العدو فأوقد نارين. وبلغ سلمة اجتماع ربيعة ومسيرها فأقبل ومعه قبائل مذحج، وهجمت مذحج على خزاز ليلًا، فرفع السفاح نارين، فأقبل كليب في جموع ربيعة إليهم، فالتقوا بخزاز، فاقتتلوا قتالًا شديدًا فنهزمت جموع اليمن. وفي رواية "أبي زياد الكلابي"، إن الذي أوقد النار على خزاز "خزازا" هو الأحوص بن جعفر بن كلاب، وكان على روايته هذه رئيسًا على نزار كلها. ويذكر الكلابي أن أهل العلم من الذين أدركهم ذكروا له أنه كان على نزار "الأحوص بن جعفر". ثم ذكر ربيعة أخيرًا من الدهر أن "كليبًا" كان على نزار3. أما "محمد بن حبيب" فيروي أن "كليب وائل" هو الذي قاد جموع "ربيعة" و"مضر" و"قضاعة" في يوم خزاز إلى اليمن4.
وقال بعض الأخباريين: كان كليب على ربيعة، والأحوص على مضر5.
1 Naval ، p. 233
2 ويعرف أيضًا بيوم خزازا، ويوم خزازي، البلدان "3/ 430"، البلدان "3/ 430" النقائض "ص887"، البكري: معجم "106، 303، 563"، ابن الأثير "1/ 310"، العقد الفريد "6/ 97""العريان"، نهاية الأرب "15/ 420 وما بعدها"، "طبعة دار الكتب".
3 البلدان "3/ 430".
4 المحبر "ص249".
5 البلدان "3/ 430".
ويعود سبب هذا الاختلاف في روايات الرواة إلى النزعات القبلية التي كان يحملها الرواة. فـ"أبو زياد الكلابي" يتعصب كما نرى لـ"بني كلاب"، فيرجع الرئاسة إليهم؛ لأنه منهم، وهذا مما يأباه رواة ربيعة وينكرونه عليه إذ يرون أن الرئاسة فيهم. وتوسط رواة بين رواة ربيعة ورواة مضر حسمًا للنزاع على ما يظهر، فقالوا بالرئاستين: رئاسة كليب على ربيعة، ورئاسة الأحوص على مضر وبذلك أصلحوا ذات البين.
وقد ذكر "أبو زياد الكلابي" أن يوم "خزاز" أعظم يوم التقت فيه العرب في الجاهلية وأنه أول يوم استنصفت فيه نزار من اليمن، وأنها لم تزل منذ هذا اليوم ممتنعة قاهرة لليمن في كل يوم يلتقونه حتى جاء الإسلام1.
وذكر "الأصمعي" أن يوم خزاز كان للمنذر بن ماء السماء ولبني تغلب وقضاعة على "بني آكل المرار" من كندة وعلى بكر بن وائل، وأن المنذر وأصحابه من بني تغلب أسروا في هذا اليوم خمسين رجلًا من بني آكل المرار.
ويفهم من شعر لـ"عمرو بن كلثوم" قيل إنه قاله متذكرًا هذا اليوم، أن رهطه وهم من بني تغلب آبوا بالنهاب وبالسبايا وبالملوك مصفدين. ولم يشر الشاعر إلى هوية هؤلاء الملوك المأسورين، ولكن "الأصمعي" يقول: إنه قصد بقوله: "وأُبنا بالملوك مصفدينا""بني آكل المرار"2.
فيظهر من الرواية المتقدمة أن يوم خزاز، كان بين سلمة ومن جاء من اليمن وبين تغلب ومن انضم إليها من قبائل ربيعة ومضر. ويظهر من رواية الأصمعي أن ذلك اليوم كان بين المنذر بين ماء السماء وتغلب وقضاعة من جهة وبين "بني آكل المرار"، وبكر بن وائل من جهة أخرى. وهناك روايات أخرى تذكر أن هذا اليوم، إنما كان قد وقع بين ملك من ملوك اليمن وبين قبائل معد، ولا علاقة له بسلمة وببني آكل المرار أو المنذر بن ماء السماء في هذا اليوم، الذي أدى إلى انتصار بني معد على أولاد قحطان3.
1 البلدان "3/ 430 وما بعدها".
2 النقائض "ص887"، من بيت لعمرو بن كلثوم:
وَآبوا بِالنِهابِ وَبِالسبايا
…
وَأُبنا بِالمُلوكِ مُصَفَّدينا
3 ابن الأثير "1/ 310"، العقد الفريد "3/ 364"، نقائض جرير والفرزدق "2/ 193"، البكري، معجم "2/ 496".
ويذكر بعض أهل الأخبار أنه: "لولا عمرو بن كلثوم ما عرف يوم خزاز".
وأم عمرو بن كلثوم، هي ابنة "كليب بن ربيعة"، المعروف بـ"كليب وائل"1 فذكره في شعره لذلك اليوم ساعد ولا شك في إبقاء اسمه في ذاكرة الناس، حتى دون خبره في الإسلام.
وليوم "أوارة" الأول علاقة وصلة بـ"سلمة بن الحارث" وبـ"المنذر بن ماء السماء" على ما يرويه بعض أهل الأخبار، فهم يذكرون أن تغلب لما أخرجت "سلمة" عنها، التجأ إلى "بكر بن وائل"، فلما صار عند بكر بن وائل أذعنت له، وحشدت عليه، وقالت: لا يملكنا غيرك. فبعث إليهم المنذر يدعوهم إلى طاعته، فأبوا ذلك، فحلف المنذر ليسيرن إليهم، فإن ظفر بهم فليذبحنهم على قلة جبل أوارة. وسار إليهم في جموعه، فالتقوا بأوارة، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وأجلت الواقعة عن هزيمة بكر وأسر "يزيد بن شرحبيل الكندي"، فأمر المنذر بقتله وبقتل عدد كبير من بكر2.
وأما "شراحيل بن الحارث"، فقد قتله "بنو جعدة بن كعب بن ربيعة بن صعصعة"3.
ويحدثنا "يعقوب بن السكيت" أنه كان لحجر والد امرئ القيس جملة أولاد أكبرهم "نافع" وأصغرهم "امرؤ القيس"، وبين الأكبر والأصغر جملة أولاد، غير أنه لم يذكر أسماءهم4. وقد ورد اسم "نافع" في بيت شعر لامرئ القيس5.
وذكر "ياقوت" ولدًا لـ"سلمة بن الحارث" سماه "قيسًا" قال: إنه أغار على "ذي القرنين المنذر بن النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي" فهزمه، حتى أدخله الخورنق ومعه ابناه قابوس وعمرو. فمكث ذو القرنين حولًا، ثم أغار عليهم بـ"ذات الشقوق"، فأصاب منهم اثني عشر شابًّا من بني حجر بن عمرو وكانوا يتصيدون، وأفلت منهم امرؤ القيس على فرس شقراء، فطلبه
1 البكري، معجم "2/ 496".
2 ابن الأثف "1/ 228".
3 البلدان "3/ 438 وما بعدها".
4 الأغاني "8/ 65".
5 الأغاني "8/ 65" OLINDER ، P. 94
القوم فلم يقدروا عليه. وقدم المنذر الحيرة بالفتية فحبسهم بالقصر الأبيض شهرين ثم أمر بضرب أعناقهم فضربت عند "الجفر"، فعرف منذ ذلك الحين بـ"جفر الأملاك"، وهو موضع "دير بني مرينا". وقد أشير إلى مقتلهم في شعر لامرئ القيس1.
1 البلدان "4/ 127 وما بعدها"، "2/ 648""طبعة وستنفلد"، التاج "9/ 353".
كندة تلحق بحضرموت:
وقد ذكر الرواة أن ملك كندة لما انخرق، وهلك من هلك منهم، قام "عمرو أقحل بن أبي كرب بن قيس بن سلمة بن الحارث، الملك، فقال: يا معشر كندة. إنكم قد أصبحتم بغير دار مقام. وقد ذهب أشرافكم وانخرق ملككم، ولا آمن العرب عليكم، فالحقوا بحضرموت"1.
ويذكر الرواة أن الملك خرج من "بني آكل المرار" وساد بنو الحارث بن معاوية فأول من ساد منهم "قيس بن معديكرب"، ثم ابنه الأشعث بن قيس، وهو الذي أتى النبي في ستين أو سبعين راكبًا من أشراف كندة فأسلموا. أسلم الأشعث، وكانت كندة قد توجته عليها2.
ويذكر "حمزة"، أن المنذر بن ماء السماء تتبع غابرهم، فقتل عامتهم، وصارت رياسة كندة في "بني جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين"، ثم في "معديكرب بن جبلة"، ثم في "قيس بن معديكرب"، وعلى عهده قام الإسلام بمكة، ثم في "الأشعث بن قيس"3.
وقد ذكر "ابن حبيب"، "الأشعث بن قيس بن معديكرب" في جملة الجرارين من اليمن4. والجرارون من كان يرأس ألفًا5 ولا بعد الرجل جرارًا
1 المحبر "ص370".
2 الطبري "3/ 139"، المفضليات "ص441". حمزة "ص93".
3 حمزة "ص93".
4 المحبر "ص251".
5 المحبر "ص246".
حتى يقود ألفًا1. وذكره في باب "أعرق العرب في الغدر". فقال عنه إنه غدر بـ"بني الحارث بن كعب". وكان بينهم عهد وصلح، فغزاهم فأسروه، ففدى نفسه بمائتي قلوص، فأدى مائة، ولم يؤد البقية حتى جاء الإسلام، فهدم ما كان في الجاهلية. وغدر الأشعث أيضًا فارتد عن الإسلام.
وقال عن والده "قيس بن معديكرب بن معاوية بن جبلة الكندي"، أنه كان من "أعرق العرب في الغدر" كذلك، وكان بينه وبين مراد ولث إلى أجل، فغزاهم في آخر يوم الأجل غادرًا. "وكان ذلك اليوم يوم الجمعة. فقالوا له: إنه قد بقي من الأجل اليوم. وكان يهوديًّا. فقال: أنه لا يحمل لي القتال غدًا. فقاتلهم، فقتلوا وهزموا جيشه. وكان معديكرب عقد لمهرة صلحًا، فغزاهم غادرًا بالعهد، فقتلوه وشقوا بطنه، فملئوه حصى"2.
وقد لقب "قيس" بالأشج، لأثر شج في وجه، وعرف بالأعشى كذلك وقيل له:"بطريق اليمن". وذكر بعض الرواة أن كلمة "بطريق" تعني الحاذق في الحرب وأمورها3.
وفي حق "قيس" هذا قال "الحارث بن حلزة اليشكري" في جملة ما قاله في قصيدته مفتخرًا بقومه:
حَولَ قَيسٍ مُستَلئِمِينَ بِكَبشٍ
…
قَرَظِيٍّ كَأَنَّهُ عَبلاءُ
وقد قال الشراح إن قيسًا جاء على رأس جيش لجب ومعه راياته متحصن بسيد من بلاد القرظ، وبلاد القرظ اليمن، كأنه في منعته وشوكته هضبة من الهضاب، قد لبسوا الدروع، فردتهم "يشكر" قوم الشاعر، وقتلوا منهم4.
ويذكر أهل الأخبار أن الشاعر الأعشى كان ممن يفد على "قيس بن معديكرب"
1 المحبر "ص253".
2 المحبر "ص244 وما بعدها".
3
قيس أو الأشعث بطريق اليمن
…
لا يسأل السائل عنه ابن من
اللسان "10/ 21""طبعة بيروت" الأغاني "8/ 78"، البيان والتبيين "1/ 18"، الأغاني "11/ 126"، الأمالي للقالي "1/ 92".
4 المعلقات السبع، للزوزني "ص164""طبعة صادر، بيروت" ابن قتيبة، كتاب المعاني الكبير "ص943".