الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى حين وفاته1. بل لقد شك بعض المستشرقين مثل "نولدكه" حتى في موضوع تملكه وتولية الحكم له على عرب الشأم2.
ونجد في خبر فتح دومة الجندل، رجلًا من غسان كان قد تزعم قومه وجاء في "طواف من غسان وتنوخ" لنجده أهل "دومة الجندل". وقد دعاه "الطبري"، "ابن الأيهم" ولم يشر إلى اسمه3.
ونجد في "العقد الفريد" وصفًا لمجلس "جبلة" ولمسكنه في القسطنطينية لا يخلو من مبالغة، وقد نسب وصفه إلى رسول ذكر أن الخليفة عمر كان قد أرسله إلى "هرقل" ليدعوه إلى الإسلام. ويذكر الرسول الموفد أن "هرقلًا" هو الذي أشار عليه بزيارة قصر "جبلة" فلما ذهب إليه، وجد على بابه من القهارمة والحجاب وكثرة الجمع مثل الذي على باب "هرقل"، ثم وصف مجلسه وأرائكه المرصعة بالجواهر، وغناء الجواري في مجلسه بغناء حسان بن ثابت مما يجعله في ثراء الملوك الحاكمين لا الملوك الفارين4.
واسم الرسول المذكور هو "جثامة بن مساحق الكناني"5. ويذكر بعض أهل الأخبار أن الخليفة معاوية أرسل "عبد الله بن مسعود الفزاري" إلى ملك الروم فوجد عنده "جبلة بن الأيهم"، فوصف مجلسه وما كان عليه من فاخر الملبس والمأكل والمسكن، وهو كلام فيه مبالغات وغلو في الكلام، على نمط ما رأيناه في وصف "جثامة"6. وهو يتفق معه في الخبر. والظاهر أن الرواة قد أخطئوا في هذا الخبر. فنسبوه مرة إلى رسول عمر، ونسبوه مرة أخرى إلى رسول معاوية.
1 العقد الفريد "1/ 188 وما بعدها".
2 غسان "ص45" من النص الألماني، provincia arabia ii، s. 174
4 الطبري "3/ 378""خبر دومة الجندل".
3 راجع الوصف في العقد الفريد "1/ 188 وما بعدها".
5 الأغاني "14/ 2 وما بعدها".
6 الأغاني "14/ 2 وما بعدها"، البرقوقي "234 وما بعدها"، ابن قتيبة، الشعر "223".
ملوك الغساسنة
وعدة ملوك الغساسنة على رواية حمزة اثنان وثلاثون ملكًا، ملكوا ستمائة وست عشرة سنة1. أما "المسعودي"، فجعل عددهم أحد عشر ملكًا2.
1 حمزة "ص81".
2 مروج "2/ 32""طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، ابن خلدون "2/ 281".
وقد رتب المسعودي أسماء الملوك على هذا النحو: "الحارث بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس"، ثم "الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو" ثم "النعمان بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن جفنة"، ثم "المنذر أبو شمر بن جبلة بن ثعلبة"، ثم "عوف بن أبي شمر"، ثم "الحارث بن أبي شمر" وكان ملكه حين بعث رسول الله، ثم جبلة بن الأيهم1.
والأسماء المذكورة هي أقل من الرقم المذكور كما نرى بكثير؛ إذ هي سبعة فقط، على حين يجب أن تكون بحسب روايته أحد عشر اسمًا.
وفي الذي ذكره حمزة عن مدة حكم الغساسنة مبالغة. فلو أخذنا بالعدد الذي ذكره لمجموع حكم ملوكهم، وهو ست عشرة وستمائة سنة، لوجب علينا القول بأن ابتداء حكمهم كان حوالي الميلاد. وهو قول لم يقله أحد، ولا يؤيده أي سند أو دليل. والذي نعرفه أن مدة حكمهم هي دون المدة المذكورة بكثير، كما أن في الترتيب الذي ذكره حمزة لملوكهم تكرارًا وزيادات. وهو يخالف ما نراه عند المؤرخين الآخرين الذي تعرضوا لآل غسان.
وتختلف قائمة "ابن قتيبة الدينوري" بأسماء ملوك غسان اختلافًا كبيرًا عن قائمة "حمزة" ومن قائمة "المسعودي". وقد ذكرت فيما مضى أنه جعل "الحارث بن عمرو" المعروف بمحرق أول ملك من ملوك غسان، ثم جعل من بعده الحارث الأعرج، ثم الحارث الأصغر، ثم النعمان، وهو شقيق الحارث الأصغر.
وقد ذكر أنه كان للنعمان بن الحارث ثلاثة بنين هم: حجر بن النعمان وبه كان يكنى، النعمان بن النعمان، وعمرو بن النعمان. وقال إن فيهم يقول حسان بن ثابت:
مَن يَغُرُّ الدَهرُ أَو يَأمَنُهُ
…
مِن قَبيلٍ بَعدَ عَمرٍو وَحُجُر
مَلَكا مِن جَبَلِ الثَلجِ إِلى
…
جانِبَي أَيلَةَ مِن عَبدٍ وَحُرّ2
وقال "ابن قتيبة الدينوري": ومن ولد الحارث الأعرج أيضًا عمرو بن الحارث، الذي كان النابغة صار إليه حين فارق النعمان بن المنذر، وفيه يقول النابغة:
1 مروج "2/ 30""طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، "2/ 83 وما بعدها"، "طبعة دار الأندلس".
2 المعارف "ص281".
عَلَيَّ لِعَمروٍ نِعمَةٌ بَعدَ نِعمَةٍ
…
لِوالِدِهِ لَيسَت بِذاتِ عَقارِبِ
قال: وكان يقال لعمرو أبو شمر الأصغر، ومن ولده المنذر بن الحارث، والأيهم بن الحارث، وهو والد جبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان1.
وقد ذكر في كتب السير والتواريخ اسم أمير غساني، هو الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الذي أرسل الرسول إليه شجاع بن وهب ليطلب إليه الدخول في الإسلام، وكان ملكه على ما يذكره الأخباريون في الشأم، وكان له قصر منيف وحجاب2. وذكر الطبري أنه كان "صاحب دمشق"3. وقد أدخله "محمد بن حبيب" في جملة "العرجان الأشراف"4. وقد عرف بـ"الحارث الأصغر" في شعر لحسان بن ثابت5.
وأرى أن الحارث بن أبي شمر هذا هو "الحارث" معاصر "جبلة بن الأيهم" الذي أشار حسان إليه.
وقد كان "حسان بن ثابت" زار الحارث بن أبي شمر الغساني، وكان النعمان بن المنذر اللخمي يساميه، فقال له وهو عنده: يابن الفريعة، لقد نبئت أنك تفضل النعمان عليَّ فقال: وكيف أفضله عليك ثم أخذ يشرح تفضيله له على النعمان حتى سر الحارث، ثم عاد حسان فنظم ما قاله نثرًا فيه في أبيات زادت من سروره، وحصل على جوائزه وعطاياه6.
وذكر أن حسان بن ثابت كان يفد على جبلة بن الأيهم سنة، ويقيم سنة في أهله. فقال:"لو وفدت على الحارث أبي شمر الغساني فإن له قرابة ورحمًا بصاحبي، وهو أبذل الناس للمعروف، وقد يئس مني أن أفد عليه لما يعرف من انقطاعي إلى جبلة". فخرج في السنة التي كان يقيم فيها بالمدينة، حتى قدم على الحارث، وقد هيأ له مديحًا. فقال له حاجبه وكان له ناصحًا: "إن الملك قد سر بقدومك عليه، وهو لا يدعك حتى تذكر جبلة. فإياك أن تقع فيه،
1 المعارف "ص281".
2 السيرة الحلبية "3/ 255"، "طبعة مصر" ابن خلدون "2/ 36".
3 الطبري "2/ 652""دار المعارف".
4 المحبر "ص304".
5 البرقوقي "ص182".
6 البرقوقي "ص181 وما بعدها"، مروج "2/ 31""طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".
فإنما يريد أن يختبرك، وإن رآك قد وقعت فيه زهد فيك، وإن رآك تذكر محاسنه ثقل عليه، فلا تبتدئ بذكره، وإن سألك عنه، فلا تطنب في الثناء عليه ولا تعيبه، امسح ذكره مسحًا وجاوزه إلى غيره" ثم نصحه بنصائح أخرى تنم عن سلوك الحارث، وقد أفادته كثيرًا. فلما دخل عليه، حسنت منزلته عنده وصار يدعوه، ثم جباه وأعطاه خمسمائة دينار وكسيّ وألطافًا وعاد إلى أهله1.
ولو صح هذا الخبر، فإنه يدل على أن أمر الغساسنة في هذا الوقت لم يكن واحدًا، وأن حكمهم كان قد تبدد وتشتت. وأن جبلة بن جبلة كان يحكم على جماعة من غسان، والحارث بن أبي شمر كان يحكم في الوقت نفسه على جماعة أخرى، وكل منهما كان يحلي نفسه بحلية الملك، ومن يدري فلعل أشخاصًا آخرين كانوا ينازعونهما الحكم أيضًا، ويحلون أنفسهم بلقب "ملك"، اللقب الحبيب الذي لم يكن يرتفع في الواقع عن درجة سيد قبيلة أو "شيخ" عشيرة في اصطلاحنا في الوقت الحاضر.
وقد ذكر أهل الأخبار اسم رجل قالوا إنه كان قائدًا من قواد "الحارث بن أبي شمر"، ودعوه بـ"النعمان بن وائل بن الجلاح الكلبي"، وذكروا أنه أغار على بني فزارة وبني ذبيان، فاستباحهم، وسبى سبيًا من غطفان. وأخذ "عقرب" بنت النابغة الذبياني. فلما سألها. فانتسبت إلى أبيها، منَّ عليها ثم أطلق له سبي غطفان. فلما سمع بذلك النابغة، مدحه بقصيدة2. وسبق أن تحدثت عن "النعمان بن الجلاح الكلبي" في أثناء كلامي على الملك "النعمان بن الحارث" حين أغار قوم النابغة على أعراب "النعمان بن الحارث" بوادي أقر، وكان النابغة قد نهى قومه وحذرهم من التحرش بهم، فخالفوا رأيه، فأوقع بهم "ابن الجلاح" خسائر فادحة.
وفي ديوان حسان قصيدة، مطلعها:
إِنّي حَلَفتُ يَمينًا غَيرَ كاذِبَةٍ
…
لَو كانَ لِلحارِثِ الجَفنِيِّ أَصحابُ
يذكر شراحها أن نظمها في رثاء "الحارث الجفني"، وقالوا: إن الحارث
1 الأغاني "14/ 2 وما بعدها".
2 الاشتقاق "2/ 316"، ديوان النابغة "ص32، 40".
الجفني المذكور هو الحارث بن أبي شمر الغساني. وقد ذكروا أن دافع فيها عن هزيمة أدركت الحارث في إحدى حروبه، فعاد ومن معه بغير أسلاب ولا أسرى بل يظهر من أبياتها أن العدو أوقع به فقتل من جمعه، وقد اعتذر الحارث بأن من معه لم يكونوا من "جذم غسان" وإنما كانوا من "مأشبة الناس" أي جماعة أوشاب الناس وأوباشهم أي الأخلاط التي تجتمع من كل أوب. ومثل هؤلاء لا تكرثهم الهزيمة، ولا يسألون بذلك؛ إذ لا أحساب لهم ولا شرف، فلا عجب أن أصيب بخيبة في هذه المعركة ومعه مثل هؤلاء الناس1.
ويظهر من القصيدة المذكورة، أن الحارث بن أبي شمر، كان قد توفي قبل "جبلة بن الأيهم". وذلك لرثاء حسان له ولإجماع أهل الأخبار على أن جبلة عاش أمدًا بعد ظهور الإسلام. وأنه مات في بلاد الروم بعيدًا عن بلاد الشأم وعن أرض آبائه وأجداده. وبدليل ما ورد في تأريخ الطبري من أن الرسول أرسل شجاعًا بن وهب إلى رجل من غسان اسمه "المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني". يدعوه إلى الإسلام2. وهذا الرجل هو أحد أبناء الحارث المذكور.
وذكر الأخباريون رجلًا آخر من غسان، دعوه "عديًا"، وقالوا: إنه ابن أخت الحارث بن أبي شمر الغساني، وإنه أغار على بني أسد، فلقيته "بنو سعد بن ثعلبة بن دودان" بالفرات، ورئيسهم "ربيعة بن حذار الأسدي"، فاقتتلوا قتالًا شديدًا. فقتلت بنو سعد عديًا3. وقد سمي "محمد بن حبيب" هذا اليوم الذي وقع فيه القتال "يوم الفرات"4.
وأشار الواقدي إلى ملك غساني اسمه "شرحبيل بن عمرو الغساني"، وذكر أنه قتل رسولَ رسولِ الله إلى ملك بصرى في مؤتة5. ويشك "نولدكه" في نسبة هذا الأمير إلى الغسانيين، وحجته في ذلك أن الواقدي ذكره في موضع آخر مع أخويه "سدوس" و"بر"، ونسبه في هذا الموضع إلى الأزد. ثم إنه لم يكن من عادة الغساسنة على رأيه ذكر لقب الغساني بعد الاسم6.
1 البرقوقي "ص29".
2 الطبري "2/ 652""دار المعارف".
3 الأغاني "11/ 199" طبعة دار الكتب المصرية".
4 المحبر "ص247".
5 الواقدي "ص309"، "طبعة ولهوزن"، السيرة الحلبية "3/ 66".
6 غسان "ص48".
وأشير في كتب الأدب إلى اسم ملك من ملوك "غسان" قالوا له "قرص"، لم يذكروا عنه شيئًا ذكروه في حديثهم عن "عدي" قالوا: إنه ابن "أخي قرص الغساني"، وكان "عدي" هذا قد غزا "بني أسد" فقتلوه، وأرادوا في ذلك شعرًا نسبوه إلى الغساني:
لعمرك ما خشيت على عدي
…
رماح بني مقيدة الحمار
ولكني خشيت على عدي
…
رماح الجن أواياك حار1
ولم يرد اسم هذا الملك في القوائم التي وضعها المؤرخون أمثال اليعقوبي والطبري والمسعودي وابن خلدون وأمثالهم لملوك غسان، وعدي المذكور في خبر "قرص" هو "عدي" المتقدم ولا شك.
وقد وفد "حسان بن ثابت" على "عمرو بن الحارث"، فاعتاص الوصول إليه، فلما طال انتظاره، قال للحاجب:"إن أذنت لي عليه، وإلا هجوت اليمن كلها، ثم انقلبت عنكم" فأذن له ودخل عليه، فوجد عنده "النابغة" وهو جالس عن يمينه، و"علقمه بن عبدة" وهو جالس عن يساره، فقال له "عمرو":"يابن الفريعة قد عرفت عيصك ونسبك في غسان فارجع، فإني باعث إليك بصلة سنية، ولا احتاج إلى الشعر، فإني أخاف عليك هذين السَّبُعين: النابغة وعلقمة، أن يفضحاك، وفضيحتك فضيحتي" ثم تلا عليه شعرًا مما قاله الشاعران في مدحه. فأبى إلا أن يقول شعرًا فيه، وطلب من الشاعرين أن يسمحا له بالقول، فقال فيه قصيدته التي تبدأ بقوله:
أَسَأَلتَ رَسمَ الدارِ أَم لَم تَسأَل
…
بَينَ الجَوابي فَالبُضَيعِ فَحَومَلِ2
وقد أورد في هذه القصيدة أسماء مواضع، منها:"الجوابي"، أي "جابية الجولان"، و"البضيع" أو "البصيع"، وهو جبل قصير أسود على تل بأرض البلسة فيما بين "سيل" و"ذات الصنمين" و"حومل" و"مرج الصفرين"، وهو موضع بغوطة دمشق، و"جاسم"، وهي قرية بينها وبين دمشق ثمانية فراسخ على يمين الطريق إلى طبرية، وكل هذه الأماكن التي ذكرها
1 ديوان حسان، "ص219"، البرقوقي"، "ص79 "هرشفلد".
2 ديوان حسان "ص305"، "البرقوقي".
هي منازل كانت لآل جفنة، إلا أنها خربت، وتركها أهلها حتى صارت دوارس تعاقبها الرياح1.
ثم تطرق إلى ذكر من كان يناديهم بـ"جلق"، وهو موضع قيل إنه يقرب دمشق، وقيل إنه "دمشق": كيف كانوا كرماء أجوادًا يجودون على من يفد عليهم، لا فرق عندهم بين غني وفقير، يمشون في الحلل القشيبة المضاعف نسجها، ويجيرون من يستجير بقبر أبيهم "ابن مارية الكريم المفضل"، فلا يخاف من عدو ولا يخشى من اعتداء يقع عليه. كلابهم لا تهر؛ لأنها ألفت الضيوف وأنست بهم من كثرة تدفقهم عليهم. يسقون ماءً باردًا من "البريص"، ومن "بردا"، وهما نهران بدمشق، ممزوجًا بالرحيق، ثم تذكر "قصر دومة" أي دومة الجندل، وكيف شرب الخمر في حانوتها من ساق منتطف، أي مقرط وضع القرط في أذنه، والمنطقة في وسطه2.
وجلق كما ذكرت موضع من مواضع الغساسنة، ويظهر أن سلطان البيزنطيين لم يكن كبيرًا عليه. وقد اشتهر ببساتينه وبكثرة أشجار الزيتون به، وبوفرة مياهه وقد تغنى به الشعراء في الإسلام، فورد ذكره في شعر أبي نواس3. وكان الغساسنة يدفنون فيه موتاهم. ولهم ضريح ضم رفات ملوكهم. ومع شهرة المكان فقد اختلف الناس في تثبيت موضعه وتعيينه. والرأي الغالب أنه ليس من أطراف دمشق كما ذهب إلى ذلك بعض أهل الأخبار4.
وقد ترك الروم ساقتهم بـ"ثنية جلق" وعليها صاحب الساقة، وذلك ليراقب المسلمين حينما تقدموا لطردهم من بلاد الشام. ولم يرد للغساسنة أي ذكر في الدفاع عن هذا المكان5.
ويظهر من نظم هذه القصيدة، ومن أسلوبها ونفسها، ومن تذكر "حسان" لآل جفنة بعد أن كبر وتقدمت بن السن، أن هذا الشعر هو من الشعر المتأخر،
1 ديوان حسان "ص307"، "البرقوقي"، "ص32"، "هرشفلد".
2 البرقوقي "ص308 وما بعدها".
3 اللسان، مادة "جلق"، البلدان، "جلق".
4 الموسوعة الإسلامية "7/ 86"، الأغاني "14/ 2" اللسان "10/ 36".
5 الطبري "3/ 392".
ولا أستبعد أن يكون قد نظمه بعد زوال ملك "الغساسنة"، وقد أنشده أمام أحد الغساسنة المتأخرين، ولم يكن ملكًا بالمعنى المفهوم من الملك.
وقد رثى حسان بن ثابت رجلًا من غسان قتله كسرى، ولم يذكر اسمه، ولا الأسباب التي حملت كسرى على قتله، ولا الأحوال التي قتل فيها1. ويظهر من سياق الشعر الذي رُثي به ذلك القتيل أن هذا القتيل قد وقع بعد أفول نجم آل غسان وإدبار الدنيا عنهم، ولعله كان قد قتله بعد احتلال الفرس لبلاد الشأم. فكان هذا الغساني من المعارضين للفرس المناوئين لهم، ولذلك قتلوه في فترة احتلالهم لها.
وقد أشار "أبو الفرج الأصبهاني" إلى أمير غساني سماه: "يزيد بن عمرو الغساني"، ذكر أنه قتل الحارث بن ظالم2. ولا نعرف من أمر هذا الأمير شيئًا يذكر. وهناك روايات أخرى تنسب قتل الحارث إلى "النعمان الغساني"، على حين تنسبه روايات ثالثة إلى آل لخم ويرجع نولدكه الرأي الأخير3.
وقد ورد في شعر لحسان بن ثابت هجاه لـ"سلامة بن روح بن زنباع الجذامي"، وكان يلي العشور للروم. ولا بد أن يكون ذلك في أيام الغساسنة المتأخرين. وقد شبهه بـ"دمية في لوح باب"، أي كأنه صورة مصورة، أو صنمًا معلقًا على لوح باب4.
ومن الأماكن التي وردت في شعر "حسان بن ثابت" على أنها من مواضع الغساسنة "الجواء" و"عذراء"، وهما موضوعان بالشأم بأكتاف دمشق. وإلى "عذراء" هذه يضاف "مرج عذراء"، وكانت في هذه المواضع منازل بني جفنة، لذلك ذكرها "حصان" في شعره5. وذكر كذلك "بطن جلق" و"البلقاء"، و"المحبس" ، و"السند" و"بُصرى" و"جبل الثلج"6.
أما ما يفهم من شعر "حسان" وغير حسان من شمول ملك الغساسنة مدينة
1 البرقوقي "ص387 وما بعدها".
2 الأغاني "10/ 28 وما بعدها".
3 غسان "ص48".
4 البرقوقي "ص219".
5 البرقوقي "ص1 وما بعدها".
6 البرقوقي "ص110".
"دمشق" أو تجاوزها ومن وصوله مواضع قريبة منها أو ملتصقة بها، فيجب أن تحمله محمل المجاز أو محمل مبالغات الشعراء في التفاخر والتباهي والمدح. فإذا استثنينا هذا الشعر لا نجد أي مورد تأريخي يقول باستيلاء الغساسنة على "دمشق" أو على مواضع متصلة بها. وكل ما نعرفه من الموارد التأريخية أن سلطانهم كان على أطراف بلاد الشأم، أي على المواضع التي رأى الروم أن من الأصلح لهم تركها إلى أمراء غسان، لصعوبة ضبطها من الوجهة العسكرية بالنسبة إليهم، ولعل ما يذكره أولئك الشعراء هو تعبير عن قصور وأملاك اشتراها ملوك الغساسنة وأمراؤهم في "دمشق" وفي مواضع حضرية أخرى لقضاء بعض الوقت فيها كما يفعل الأمراء في الزمن الحاضر من شراء بيوت وقصور في لبنان وفي أوروبة يقيمون فيها بعض الوقت للتسلية والراحة. فزارهم فيها أولئك الشعراء، ووصفوها وصفًا شاعريًّا، صور الشأم وما حولها كأنها ملك من أملاك الغساسنة.
لقد كان "آل جفنة" كلهم على النصرانية عند ظهور الإسلام، وكانوا أصحاب دين وعقيدة، يدافعون عن مذهبهم كما رأينا. وكانت لهم بيع وكنائس بنوها لهم ولرعيتهم. وقد أشير إلى رجل عرف بـ"أرطبان المرني"، قيل إنه كان "شماسًا" في "بيعة غسان"1، مما يدل على أنها كانت بيعة خاصة بآل غسان.
وقد نسب بعض أهل الأخبار أماكن أخرى إلى الغساسنة، وذلك بالإضافة إلى الأماكن التي سبق أن تحدثت عنها. ومن هذه الأماكن: صفين. وقد زعموا أن منزل "جبلة بن النعمان" كان به. وقد كان في الوقت نفسه صاحب عين أباغ2.
ومن الأماكن المنسوبة إلى الغساسنة موضع "حارب" وقد ورد اسمه في شعر ينسب إلى النابغة حيث يقول:
لئن كان للقرين قبر بجلق
…
وقبر بصيداء التي عند حارب3
وورد "قصر حارب". وقد نسبه "حمزة" إلى النعمان بن عمرو بن المنذر4.
1 الإصابة "1/ 102".
2 ابن خلدون: المجلد الثاني من القسم الأول، "ص586".
3 البلدان "2/ 183"، البكري، معجم "1/ 417"، المعاني الكبير "2/ 1015".
4 حمزة "ص79"، الهمداني، صفة "ص179".
ويذكر أهل الأخبار "السويداء" في جملة الأماكن التابعة للغساسنة. وقد رجع "حمزة" بناءها إلى "النعمان بن عمرو بن المنذر"1. وتقع في "حوران"2.
والرصافة من المواضع المهمة عند الغساسنة، ففيها مشهد القديس "سرجيوس" وهو من القديسين الجليلين عند الغساسنة، وكانوا يتبركون بزيارة قبره، ويتقربون إليه بالهدايا والنذور. وكان لآل جفنة مساكن فيها، وقد قاموا بإصلاح ما كان يتهدم منها. فقام "النعمان بن الحارث بن الأيهم" بإصلاح وترميم صهاريج المدينة. وكان "النعمان بن جبلة" فيمن أقام بها3.
أما حدود مملكة الغساسنة، فلم تكن على وجه العموم ثابتة، بل كانت تتبدل وتتغير بحسب تبدل سلطة الملوك، وتغيرها. وهي عادة نجدها لدى جميع الممالك والإمارات التي تكونت في البداية أو على أطراف البوادي. حيث تكون معرضة لغزو القبائل، ولنفوذ القبائل الفتية القوية التي تطمع في ملك الإمارات التي تجد فيها شيئًا من الوهن والضعف، وفي رؤسائها دعة أو حزمًا. ولهذا نجد ملك الغساسنة يتوسع ويتقلص بحسب الظروف فيصل إلى مقربة من دمشق، وإلى فلسطين الثانية و"الكورة العربية" و"فلسطين الثالثة" و"فينيقية لبنان". وإلى ولايات سوريا الشمالية في بعض الأحيان4. وفي مساحات شاسعة من البادية إلى المدى الذي يصل إليه سلاحهم. ثم نجده تارة أخرى أقل من ذلك بكثير؛ لضعف الأمير المالك ولطمع القبائل فيه ولاختلافه مع السلطات. ويظهر من شعر حسان بن ثابت أن ملك الغساسنة كان يمتد من حوران إلى "خليج العقبة"5.
وتعد منطقة الجولان من أشهر مناطق الغساسنة. وقد ورد ذكرها في الشعر العربي، وفيها قُبر بعض الأمراء الغسانيين. وهي من الأرضين التابعة لولاية فلسطين الثانية في التقسيم الإداري عند الروم. وبها كان في الغالب مقر آل غسان6.
وقد اشتهرت "الجابية" بأنها كانت مقر الملوك. ولذلك عرفت بجابية الملوك،
1 حمزة "ص79".
2 الحموي، المشترك "ص311"، مراصد الاطلاع "2/ 70 وما بعدها".
3 البلدان، مادة الرصافة، البكري، معجم، الرصافة.
4 غسان "ص51".
5 المشرق، السنة الأولى، حزيران 1898م "485".
6 غسان "ص51 وما بعدها" john of ephesus، 4، 22