الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السمة الثالثة عشرة
المواجهة الحاسمة في بدر، والفرقان فيها
يحدثنا الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى عن الفرقان ببدر فيقول: (ثم نقف كذلك أمام وصف الله - سبحانه - ليوم بدر بأنه يوم الفرقان {إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان (1)}.
لقد كانت غزوة بدر - التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده فرقانا بين الحق والباطل - كما يقول المفسرون إجمالا - وفرقانا بمعنى أشمل وأدق وأوسع وأعمق كثيرا.
كانت فرقانا بين الحق والباطل فعلا .. ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السموات والأرض. وقامت عليه فطرة الأحياء والأشياء .. الحق الذي يتمثل في تفرد الله - سبحانه - بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير، وفي عبودية الكون كله سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه، لهذه الألوهية المتفردة ولهذا السلطان المتوحد، ولهذا التدبير وهذا التقرير بلا معقب ولا شريك .. والباطل الزائف الطارىء الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك ويغشي على ذلك الحق الأصيل، ويقيم في الأرض طواغيت لتصرف في حياة عباد الله بما تشاء، وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء! فهذا الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر، حيث فرق بين ذلك الحق الكبير، وهذا الباطل الطاغي، وزيل بينهما فلم يعودا يلتبسان!
لقد كانت فرقانا بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق، على أبعاد وآماد: كانت فرقانا بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير .. فرقانا بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور، وفي الخلق والسلوك، وفي العبادة والعبودية، وبين الشرك في كل
(1) الأنفال من الآية 41.
صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات
…
وكانت فرقانا بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك .. فرقانا بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء، وللقيم والأوضاع، وللشرائع والقوانين، وللتقاليد والعادات
…
وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره، ولا متسلط سواه، ولا حاكم من دونه، ولا مشرع إلا إياه .. فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله، وتساوت الرؤوس فلا تخضع إلا لحاكميته وشرعه، وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة.
وكانت فرقانا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية: عهد المصابرة والصبر والتجمع والانتظار. وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع .. والإسلام بوصفه تصورا جديدا للحياة، ومنهجا جديدا للوجود الإنساني، ونظاما جديدا للمجتمع، وشكلا جديدا للدولة. بوصفه إعلانا عاما لتحرير الإنسان في الأرض بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته، ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته وحاكميته .. الإسلام بوصفه هذا لم يكن له بد من القوة والحركة والمبادأة والاندفاع، لأنه لم يكن يملك أن يقف كامنا منتظرا على طول الأمد، لم يكن يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه، تتمثل في شعائر تعبدية لله، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم. ولم يكن له بد أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد، والمنهج الجديد، والدولة الجديدة، والمجتمع الجديد، في واقع الحياة، وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تكبتها وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في حياة المسلمين أولا، ثم في حياة البشرية كلها أخيرا .. وهي لهذا التطبيق الواقعي جاءت من عند الله.
وكانت فرقانا بين عهدين في تاريخ البشرية. فالبشرية بمجموعها قبل قيام النظام الإسلامي هي غير البشرية بمجموعها بعد قيام هذا النظام .. هذا التصور الجديد الذي انبثق منه هذا النظام. وهذا النظام الجديد الذي انبثق من هذا التصور. وهذا المجتمع الوليد الذي يمثل ميلادا جديدا للإنسان.
وهذه القيم التي تقوم عليها الحياة كلها ويقوم عليها النظام الاجتماعي والتشريع القانوني على السواء.
هذا كله لم يعد ملكا للمسلمين وحدهم منذ غزوة بدر وتوكيد وجود المجتمع الجديد. اإنما صار - شيئا فشيئا - ملكا للبشرية كلها، تأثرت به سواء في دار الإسلام أو خارجها، سواء بصداقة الإسلام أم بعداوته! .. والصليبيون الذين زحفوا من الغرب ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه في ربوعه قد تأثروا بتقاليد هذا المجتمع الإسلامي الذي جاؤوا ليحطموه، وعادوا إلى بلادهم ليحطموا النظام الإقطاعى الذي كان سائدا عندهم، بعدما شاهدوا بقايا النظام الاجتماعي الإسلامي! والتتار الذين زحفوا من الشرق ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه - بإيحاء من اليهود والصليبيين من أهل دار الإسلام - قد تأثروا بالعقيدة الإسلامية في النهاية، وحملوها لينشروها في رقعة من الأرض جديدة، وليقيموا عليها خلافة ظلت من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين في قلب أوروبا .. وعلى أية حال فالتاريخ البشري كله - منذ وقعة بدر - متأثر بهذا الفرقان في أرض الإسلام، أو في الأرض التي تناهض الإسلام على السواء.
وكانت فرقانا بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة، فجرت - وكل عوامل النصر الظاهرية في صف المشركين، وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة، حتى لقال المنافقون والذين في قلويهم مرض: غر هؤلاء دينهم .. وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو، وهي المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة - لتكون فرقانا بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر والهزيمة، ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد، فتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية، لا لمجرد السلاح والعتاد، وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية، لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة، وأن هذا ليس كلاما يقال، إنما هو واقع متحقق للعيان.
وأخيرا فلقد كانت بدر فرقانا بين الحق والباطل بمدلول آخر، ذلك
المدلول الذي يوحي به قول الله تعالى في أوائل هذه السورة: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} ، لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين، إنما خرجوا يريدون عير أبي سفيان واغتنام القافلة. فأراد الله لهم غير ما أرادوا. أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان (غير ذات الشوكة) وأن يلاقوا نفير أبي جهل (ذات الشوكة) وأن تكون معركة وقتال وقتل وأسر، ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة! وقد قال الله - سبحانه - إنه صنع هذا:{ليحق الحق ويبطل الباطل} .
وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة .. إن الحق لا يحق وإن الباطل لا يبطل - في المجتمع الإنساني - بمجرد البيان النظري للحق والباطل. ولا بمجرد الاعتقاد النظري بأن هذا حق وهذا باطل .. إن الحق لا يحق، وإن الباطل لا يبطل ولا يذهب من دنيا الناس، إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا، ويهزم جند الباطل ويندحروا .. فهذا الدين منهج حركي واقعي، لا مجرد نظرية للمعرفة والجدل! أو لمجرد الاعتقاد السلبي!.
ولقد حق الحق وبطل الباطل بالموقعة، وكان هذا النصر العملي فرقانا واقعيا بين الحق والباطل بهذا الاعتبار الذي أشار إليه قول الله تعالى في معرض بيان إرادته - سبحانه - من وراء المعركة، ومن وراء إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته بالحق، ومن وراء إفلات القافلة (غير ذات الشوكة) ولقاء الفئة ذات الشوكة.
ولقد كان هذا كله فرقانا بين منهج هذا الدين ذاته، تتضح به طبيعة هذا المنهج وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم .. وإنه لفرقان ندرك اليوم ضرورته؟ حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدين من تميع في نفوس من يسمون أنفسهم مسلمين! حتى ليصل هذا التميع إلى مفهومات بعض من يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين! وهكذا كان يوم بدر (يوم الفرقان يوم
التقى الجمعان). بهذه المدلولات المنوعة الشاملة العميقة .. والله على كل شيء قدير. وفي هذا اليوم مثل من قدرته كل شيء .. مثل لا يجادل فيه مجادل، ولا يماري فيه ممار .. مثل من الواقع المشهود، الذي لا سبيل إلى تفسيره إلا بقدرة إله وأن الله على كل شيء قدير (1)).
وكانت بدر من حيث أثرها الخطير، ظاهرة كونية، فقد احتفل بها الإنس والجن والملائكة. ففي عالم الأرض وعالم البشر. نذكر أن سورة الروم عندما نزلت كانت تمثل آمال وطموحات عشرات المسلمين في مكة بأن ينتصر الروم أهل الكتاب في الأرض على الفرس الوثنيين في الأرض حيث كان الفرس والروم يقتسمون الأرض آنئذ. وكان هؤلاء العشرات من المسلمين والمئات من المشركين غفلا من التاريخ وأحداثه يتفرجون على صناعة الكبار في الأرض، ونذكر كيف تم الرهان بين أبي بكر رضي الله عنه وأحد المشركين على نصر الروم بعد بضع سنوات {الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله صلى الله عليه وسلم -نصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون (2)} . لقد كان أقصى ما يحلم به المسلمون آنذاك بعد بضع سنين أن ينتصر الروم على الفرس، وبذلك تقوى شوكة المسلمين إن انتصر أهل الكتاب الأقرب إلى المسلمين على الفرس الأقرب إلى المشركين.
وتحقق موعود الله جل شأنه فانتصر الروم بعد تسع سنين من هزيمتهم أمام الفرس. وفرح المؤمنون بنصر الله، وكان وعد الله الذي لا يخلف، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. هذا هو المدى الأقرب للآيات. أما المدى الأعمق فكان أكبر وأضخم في تاريخ البشرية، لقد فرح المؤمنون بنصر الله صلى الله عليه وسلم -وم بدر. ويوم نصرهم جاءت أخبار انتصار الروم على الفرس. لقد جاء خبر انتصار
(1) في ظلال القرآن، المجلد الثالث - ص 1521 - 1524.
(2)
سورة الروم الآيات من 1 - 7.
الروم هامشيا وثانويا أمام انتصار بدر. وكان فرح المؤمنين بنصر الله في بدر هو المدلول الأعمق للآية الكريمة، ولم يكن يدور بخلد عشرات المؤمنين في الأرض والآيات تنزل في مكة أنهم هم المعنون في النصر، وأانهم هم صناع الأحداث. وأن الروم والفرس غدوا على هامش التاريخ بعد أن أنزل الله تعالى ملائكته لنصر المؤمنين في بدر. وكان وعد الله الذي لا يخلف هو نصر محمد وحزبه لا نصر الروم فقط، ولكن أكثر الناس لا يعلمون حتى المؤمنون لا يحيطون بعلم الله عز وجل، وماذا يعد لهم من نصر، وماذا يعد بهم من حسم. {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادتونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون (1)} .
فالمسلمون حتى قبل بدر بأيام قلائل لم يكونوا يعلمون أنهم المعنون بنصر الله صلى الله عليه وسلم -نصر من يشاء وعد الله لا يخلف الله وعده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الخلق لم يكن يعلم أنه المقصود بنصر الله صلى الله عليه وسلم -نصر من يشاء. ومن أجل هذا كان يلح على ربه بالنصر يوم بدر حتى ليسقط رداؤه عن كتفيه. ويخشى أن تكون هذه المعركة نهاية العصبة المؤمنة في الأرض. (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض). لقد كان الرهان في عالم الأرض على افتتاح التاريخ بهذا النصر من أي الفريقين، فلقد كان أبو جهل يقول: والله لن نرجع حتى نرد بدرا. فننحر الجزر، ونشرب الخمر، وتعزف علينا القيان، ويعلم العرب بخروجنا هذا فلا يزالون يهابوننا أبدا).
فلقد كانت مطامح أبي جهل أن يكون مقود العرب بيده بعد بدر. ولا تزال تهابه أبدا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض)، وإذا بنصر الله صلى الله عليه وسلم -تنزل فتنقلب الموازين، ويتأرجح التاريخ، ويصبح مقوده بيد المسلمين ومن ذلك الوقت لم يعودوا على هامش
(1) سورة الأنفال، الآيات 5 - 8.
الأحداث يأملون ويدعون كما كانوا أيام انتصار الفرس على الروم. بل صاروا صناع أحداثه، في بدر وبعدها، وجاء هذا النصر من الحسم ومن الضخامة بحيث اجتث الباطل من جذوره. فلقد سقط قادة الكفر صرعى في هذه المعركة وهم الذين كانوا يحملون عبء الحرب ضد الدعوة خمسة عشر عاما أو تزيد، إنه جيل قادة كامل سقط على الساحة صريعا بين يدي هذه العصبة المؤمنة.
أما الجيل الجديد من القادة، والذي نجا يوم بدر فمعظمه كتب الله تعالى له الهداية فيما بعد وها نحن نستعرض هؤلاء القادة بشكل سريع: أبو جهل بن هشام المخزومي، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة الأمويان، وأمية ابن خلف الجمحي، وتبعهم بعدها، النضر بن الحارث العبدري، وعقبة بن أبي معيط الأموي، وأبو لهب الهاشمي. ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان. وقد عدد المقريزي أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبار في إمتاع الأسماع فكانوا سبعة وعشرين رجلا قتل منهم في بدر وبعدها بقليل قرابة العشرين. (وعن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث (1)). وكان من فضل الله تعالى على المؤمنين أن سقط بعض هؤلاء الأبطال صرعى بيد العتبان الشباب من الأنصار. مثل مقتل أبي جهل وأمية بن خلف، وعلى يد المستضعفين من المسلمين أمثال بلال وعبد الله بن مسعود تحقيقا لموعود الله عز وجل.
{ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون (2)} . فلقد سقط فرعون الأمة أبو جهل صريعا. وأخزاه الله على يد رويعي الغنم عبد الله بن مسعود، وكانت بدر في عالم الأرض عرسا للمؤمنين.
وكذلك كانت في عالم الجن.
(1) الرحيق المختوم المباركفوري عن مشكاة المصابيح متفق عليه.
(2)
القصص / 5 و 6.
فقد ذكر قاسم بن ثابث في - كتاب الدلائل - أن قريشا حين توجهت إلى بدر مر هاتف من الجن على مكة في اليوم الذي أوقع بهم المسلمون وهو ينشد بأنفذ صوت ولا يرى شخصه:
أزار الحنيفيون بدرا وقيعة
…
سينقض منها ركن كسرى وقيصرا
أبادت رجالا من لؤي وأبرزت
…
خرائد يضربن الترائب حسرا
فيا ويح من أمسى عدو محمد
…
لقد جار عن قصد الهدى وتحيرا (1)
ولقد أدرك المؤمنون من الجن أبعاد هذه المعركة وأنها ستطيح بعرش كسرى وقيصر. وبمقدار ما كان العرس في عالم الجن من المؤمنين بمقدار ما كان المأتم والويل والثبور عند كفار الجن وشياطينهم.
فلقد حدثنا مؤرخو السير عن اشتراك ابليس لعنه الله في التخطيط لبدر وفي آماله العراض بهزيمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف كان دوره في دفع قريش دفعا إلى المواجهة حين خافت من أن تغزوها بنو كنانة. فجاءهم على صورة سراقة بن مالك قائلا: أنا جار لكم من بني كنانة أن يأتوكم بشيء تكرهونه، وجاء حليفا لقريش ووضع يده بيد أبي جهل. وأخيه الحارث بن هشام. فلما رأى ما يفعل الملائكة بالمشركين فر ونكص على عقبيه، وتشبث به الحارث بن هشام. وهو يظنه سراقة - فوكز في صدر الحارث فألقاه، ثم خرج هاربا، وقال له المشركون: إلى أين يا سراقة؟ ألم تكن قلت: إنك جار لنا، لا تفارقنا؟ فقال: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب، ثم فر حتى ألقى نفسه في البحر.
وذكر القرآن الكريم هذا الحادث في قوله عز وجل، {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب (2)} .
(1) إمتاع الأسماع للمقريزي ص 72.
(2)
الأنفال، الآية 48.
وحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزي إبليس يوم بدر فقال: (ما رؤي الشيطان يوما فيه أصغر ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى فيه من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما رأى يوم بدر، فإنه رأى جبريل عليه السلام يزغ الملائكة (1)). لقد اندحر الشيطان وحزبه من الإنس والجن يوم بدر. وكانت الهزيمة الساحقة للشياطين في الأرض والكفار من الجن أشد هولا وأقسى مرارة منها على كفار قريش. بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما علمه من ربه - فلقد كانت أقسى هزيمة لإبليس على مدار تاريخه منذ خلقه إلى يوم يبعثون. فهو في أشنع هزائمه في كل سنة في عرفة حين تحبط مخططاته. ولكن هذا كله كان يهون عن هزيمة بدر حيث خطط لنصر حلفائه. فسقط مع حلفائه. حين جاء جبريل بنصر الله، وكانت عرسا في عالم الملائكة والملأ الأعلى، فلأول مرة يؤذن للملائكة، ولأميرهم جبريل عليه السلام أن يشترك مع ألف من سادة الملائكة في المعركة {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (2) وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم (3)} والله تعالى أصدر أوامره وتعليماته لهم بدخول المعركة السافرة. {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار (4)} .
وكانت فرحة الملائكة كبيرة بهزيمة المشركين، من الذين لم يحضروا المعركة، وارتفعت إليهم أرواح مجرمي قريش. {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (5)} . وبقي الملائكة الذين شهدوا
(1) رواه مالك مرسلا والبيهقي.
(2)
و (3) الأنفال، 9 و 10.
(4)
الأنفال 12 و 13 و 14.
(5)
الأنفال 50.