الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يحرص على أن يبث عملاءه في الصفوف ليؤكدوا أن الحرب والدماء والخوف قد نشأ من وجود المجاهدين وعملياتهم ضد السلطة الباغية، وحرص عوام الناس على أمنهم ومصالحهم القريبة يدفعهم إلى الاستجابة لمثل هذه الدعايات، وأن يقفوا في صف السلطة الباغية ضد إخوتهم المجاهدين، وبهذا المنطق استطاع عبد الله بن أبي أن يجمع هؤلاء الناس ويحرضهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
السمة السادسة
تفتيت التجمع بالنزعة الوطنية والعشائرية
(
…
فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم فقال: لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم. فلما سمعوا ذلك من النبي تفرقوا (1)). وكم نحن بحاجة إلى الوقوف أمام هذا المعنى، وهو المعنى الذي يمكن أن نسميه فقه سياسة النبوة. لقد كان لهذا الموقف صورة مشابهة نقلها لنا البخاري رحمه الله حول الصورة السابقة من لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي.
وفي الرواية (
…
وأردف أسامة بن زيد وراءه وفيه
…
وذلك قبل وقعة بدر وقبل أن يسلم عبد الله، وفيه: فلما غشيت القوم عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغيروا علينا، وفيه: فاستب المسلمون والمشركرن واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخففهم حتى سكنوا. وفيه: قال سعد بن عبادة: اعف عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يتوجوه فيعصبونه بالعصابة فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
(1) أبو داود، خبر بني النضير.
(2)
مختصر السيرة. ص 170.
لقد كانت المواجهة الأولى بين المسلمين والمشركين في المدينة في الحادثة المذكورة، ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الأمر لعواطف المسلمين، وهم ما ثاروا إلا غضبا لله ورسوله، لوقعت الحرب الضروس، وتزعزع إيمان بعض المؤمنين، وانضموا إلى معسكر عبد الله بن أبي، وأعيدت حرب بعاث من جديد.
وضاعت فيها معالم الحق وسط نتن العصبية وتزلزلت دولة الإسلام في مراحلها الأولى.
فلقد استل رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب المسلمين، ولو كان غضبهم لله ورسوله، وكان يهدىء العواطف الثائرة، دون أن ينحاز لأحد الطرفين، واستجاب المسلمون لأمر قائدهم واستبعدت المعركة.
أما الصورة الجديدة التي بين يدينا فهي في ظاهرها غير ممكنة التلافي. إذ قد عمد الوثنيون إلى سلاحهم لمواجهة المسلمين، وتبدو صعوبتها أكثر حين نتصور أن الأيدي الخفية التي تحركها من الخارج. واستطاعت الدعاية الخارجية أن تجعل الأمر في أذهان المشركين أمر مصير محتوم لا خيار فيه. فإما قتل محمد وأصحابه وطردهم، وإما احتلال المدينة واستباحتها من أهل مكة.
ونقف هنيهة لنرى كيف استل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتيل الانفجار من المشركين. وكيف أنه اعتمد عليه الصلاة والسلام التركيز على الوتر الذي ركزت عليه قريش. فأعاد السحر على الساحر، واستعمل الأسلوب نفسه الذي استعملته قريش. لأن هذا هو المنطق الذي يمكن أن يفهم الوثنيون فيه، طالما أن الإسلام لا يجمع الفريقين.
إن الذي يتبادر لذهن الشباب المسلم في هذه العجالة هو الجهاد في سبيل الله، والابتداء مباشرة بحرب هؤلاء فهم العدو الداخلي، قبل الابتداء بقريش، وحتى لا يكون لدينا هوادة في دين الله، وحتى لا نخاف في الله لومة لائم. فلا بد من حرب هؤلاء الوثنيين، وكسر شوكتهم والقضاء على هذا الجيب الداخلي، إلى آخر هذا النغم الذي يعتبر التخلي عن المعركة جبنا وهوادة في دين الله ومداهنة على حساب العقيدة.
كم نتمنى أن يتروى الشباب المسلم هذا الموقف، ويتعلموا من سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فن التعامل مع العدو، وتحديد المعركة، وطبيعة مصلحة الجماعة في المعركة. وأن يتركوا لقيادتهم حرية الحركة في هذه الأمور، وهي التي تضطلع بعبء المواجهة، وتعرف من تصالح، ومن تحارب، ومن تهادن، ومن تحالف، ومتى تقاتل، ومتى تسالم لأنها هي مناط الحركة والمسؤولية.
لقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسلوب الوطني، الأسلوب العشائري في فضحه هذا التجمع، وإنهاء المعركة دون قتال، وتفتيت التجمع دون دماء بكلمات بسيطة معبرة، عميقة، خالدة على مدى الزمن، وممن؟. من رسول البشرية، ومن نبي الإسلام: قال: لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ
…
ولقد حرك بهذه الفقرة جانبا نفسيا عندهم يأبونه، وهو الخوف من قريش، ومهما كان العربي فحين تستفز كوامن قوته، وكوامن بطولته يأبى أن يعير بالجبن، أو الخوف، أو الخور.
(
…
ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون إن تكيدوا به أنفسكم
…
). وبعد الضرب على الوتر الحساس الأول، وتر البطولة والشجاعة. عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحرك وترا نفسيا آخر. هو الترهيب من تآمر العدو الخارجي على أهل المدينة أصحاب المصير المشترك الواحد. فليس هذا الموقف جبنا فقط، ولكنه غفلة وسذاجة وجهالة، ولا يرضى العربي مهما كان أن يتهم بهذا الاتهام، أن يتهم بأنه لا يدرك كيد عدوه، ولا يعرف مخططاته، ولا يفقه ألاعيبه. فلقد هيج هذا المعنى في أنفسهم شعورا جديدا من النفرة لاستجابة دعوة قريش البعيدة المعادية. ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم راح يدعوهم لإلقاء السلاح باسم الإسلام لأحس الوثنيون اليثربيون أنهم أقرب إلى قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتهيج في نفسهم شعور الاعتزاز بالوثنية ضد هذا الدين الجديد، ولهم مع قريش قاسم مشترك، إذ عندها البيت الحرام ومقام إبراهيم والحج لبيت الله. فلا غرو أن يتساقطوا جميعا صرعى ضد محمد ودينه ومع قريش.
إن عظمة القيادة النبوية وهي تركز على هذه المعاني لتقذف بالكيد في صدر أصحابه وتجعل الإحباط سمة لهذا الكيد. (
…
تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم ..). ياشباب الدعوة هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس قول متهم في دينه يريد أن يبرر مسالمته لعدو كافر.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب هؤلاء الوثنيين بالأسلوب الذي يفهمونه ويركز على أخوة النسب، وهو الذي جاء إلى البشرية جميعها بأخوة العقيدة، ويركز على رابطة الماء والطين، وهو الذي جاء رحمة للعاملين، ويركز على شعور القوم والأهل والوطن بين من؟! بين المسلمين والمشركين. لماذا؟ ليحبط كيدا أكبر من عدو أعظم، ليضيق هوة المعركة، ليخذل بين الأعداء جميعهم، فيجعلهم حلفاءه ضد عدو مشترك واحد.
لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الوثنيين الذين حملوا السلاح ضد المسلمين أن المسلمين أبناؤهم وإخوانهم. ولا ضير في ذلك إن كان فيه تأجيل لمعركة ضارية داخلية بينما تقتضي المصلحة في وقت متقدم التركيز على البراءة من عاطفة الأخوة والقرابة والأبوة وذلك في معركة بدر.
وباء تخطيط قريش بالخذلان والخسران، وحيث توقعوا أن ينتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم على يدي المشركين في المدينة. إذ بهم يلقون السلاح جميعا، وينقلبون نادمين على حمله في وجه إخوانهم وأبنائهم.
ونود لشباب الدعوة الإسلامية أن يدركوا هذا المعنى النبوي ويفقهوه. حين يرون قيادة الدعوة في مرحلة من المراحل تبحث عن قاسم مشترك بينها وبين بعض أعدائها لتجعلهم يقفون في صفها ضد عدو أخطر وأكبر. وحين يرون قيادتهم تقبل الحديث عن عاطفة الوطن وعاطفة الأمة، أو يتحدثون عن الضعفاء من الفئات المظلومة. بحيث يمثل القاسم المشترك نقاط لقاء مرحلي مع هذا العدو ضد عدو آخر.