المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السمة الرابعة والعشرونالنصر الإلهي في قلب المحن - المنهج الحركي للسيرة النبوية - جـ ٢

[منير الغضبان]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌مواصفات المرحلة الأولى

- ‌السمة الأولىالهدنة مع الأعداء ما عدا قريشا وحلفاءها

- ‌السمة الثانيةبناء القاعدة الصلبة

- ‌السمة الثالثةإعلان إسلامية الدولة

- ‌السمة الرابعةلا خيار من المعركة

- ‌السمة السادسةتفتيت التجمع بالنزعة الوطنية والعشائرية

- ‌السمة السابعةمحاولة تفتيت الصف الإسلامي

- ‌السمة الثامنةالعدو يتنكر لقيمه من أجل مصلحته

- ‌السمة التاسعةالخطر على القيادة

- ‌السمة العاشرةحالة الحرب، وتجمع القوى كلها ضد المسلمين

- ‌السمة الحادية عشرةإعلان الحرب على العدو

- ‌السمة الثانية عشرةالتميز الإسلامي قبيل المواجهة

- ‌السمة الثالثة عشرةالمواجهة الحاسمة في بدر، والفرقان فيها

- ‌السمة الرابعة عشرةمعسكر المنافقين، بروزه وخطره وتحجيمه

- ‌السمة الخامسة عشرةالوجود اليهودي في المدينة وإنهاؤه

- ‌السمة السادسة عشرةليل المحنة الطويل وخطره

- ‌السمة السابعة عشرةتباشير النصر في قلب المحنة

- ‌السمة الثامنة عشرةعمليات الاغتيال وأثرها في بث الرعب في صفوف العدو

- ‌السمة التاسعة عشرةالحرب الإعلامية ودورها في المعركة

- ‌السمة العشرونازدياد العدد والعدة

- ‌السمة الحادية والعشرونالجهد البشري في البذل

- ‌السمة الثانية والعشروندور النساء في المعارك ومشاركتهن فيها

- ‌السمة الثالثة والعشرونعبقرية التخطيط القيادي

- ‌السمة الرابعة والعشرونالنصر الإلهي في قلب المحن

- ‌السمة الخامسة والعشرونالتربية الإلهية للنفوس عقب المعارك

الفصل: ‌السمة الرابعة والعشرونالنصر الإلهي في قلب المحن

وأذن له أن يقول. نقاط علامة ثلاث - كما رأينا - في غزوة الخندق حولت مجرى المعركة كاملا: فحفر الخندق أحبط الهجوم كله، وحصر خسائر المسلمين في ستة قتلى فقط. والثبات عند خبر بني قريظة والتكبير والبشارة بالنصر رفع المعنويات للجيش، وأي قائد غير رسول الله ما كان أمامه إلا إعلان الاستسلام، في الوقت الذي خطر الخبر على أركان جيشه فقط. لولا تسريب الخبر عن طريق اليهود للمنافقين (1).

وبقي الفكر البشري يجهد ويدأب، فاتجه إلى تحطيم الحصار عن طريق شق صف العدو بإعطائه ثلث ثمار المدينة، ثم التراجع عن الفكرة عند استعداد الجيش للتضحية. ولكن شق صف العدو بقي هدفا في حد ذاته وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي نعيم. حتى تحقق الهدف وحطم الحصار. وانجلى الموقف عن نصر مؤزر للمسلمين.

‌السمة الرابعة والعشرون

النصر الإلهي في قلب المحن

بعدما رأينا الجهد البشري في البذل رجالا ونساء، والجهد البشري في البناء والتخطيط، ووجدنا أنه المدى الأقصى الذي يملكه البشر في عالمهم. يصبح من المناسب جدا أن نتحدث عن سمة النصر الإلهي في قلب المحن، والعون الرباني في خضم المعارك، فالله تعالى لا يفعل بعذاب عباده شيئا، والله تعالى وعد بنصر جنده وعباده الصالحين.

{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات، ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا .. (2)} . {ولقد

(1) المقاطع الثلاثة من إمتاع الأسماع 1/ 219 - 220 و 229 - 230 و 235 - 236.

(2)

سور النور، من الآية 55.

ص: 416

سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون (1)}. {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} (2). ولنلحظ تحقيق هذه الإرادة الربانية في نصر هذا الدين من خلال النماذج التالية:

أ - في بدر:

الجيش الإسلامي الخارج للقاء العير تفرض عليه المعركة فرضا بإرادة ربانية أن تكون له ذات الشوكة. وحين أبدى استعداده للموت في سبيل الله، جاءه المدد الرباني أرسالا.

1 -

الملائكة: (وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان منذ رجوعه بعد تعديله الصفوف يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول: اللهم انجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، حتى إذا حمي الوطيس، واستدارت رحى الحرب بشدة، واحتدم القتال، وبلغت المعركة قمتها قال: اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا. وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه فرده عليه الصديق، وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك أود أن الله منجز ما وعدك).

وأغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة، ثم رفع رأسه فقال: أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع (أي الغبار) وفي رواية ابن إسحاق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بزمام فرسه يقود على ثناياه النقع .. (3)).

{إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين .. (4)} .

(1) سورة الصافات، الآيات 171 - 172 - 173.

(2)

سور القصص، الآيتان 5 و 6.

(3)

الرحيق المختوم 241.

(4)

الأنفال، الآية 9.

ص: 417

المطر والنعاس: وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان، وبعث الله السماء فأصاب المسلمين ما لبد الأرض ولم يمنع من السير، وأصاب قريشا من ذلك ما لم يقدروا على أن يرتحلوا منه، وإنما بينهم قوز من رمل، وكان مجيء المطر نعمة وقوة للمؤمنين، وبلاء ونقمة على المشركين. وأصاب المسلمين تلك الليلة نعاس ألقي عليهم فناموا حتى أن أحدهم تكون ذقنه بين ثدييه وما يشعر حتى يقع على جنبه، واحتلم رفاعة بن رافع بن مالك حتى اغتسل آخر الليل. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما فأطافا بالقوم، ثم رجعا فأخبراه أن القوم مذعورون، وأن السماح تسح عليهم (1)). {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام (2)} .

الملائكة تقاتل وتثبت: (.. وزادهم نشاطا وحدة أن رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول في حزم وصراحة (سيهزم الجمع ويولون الدبر) فقاتل المسلمون أشد القتال، ونصرتهم الملائكة، ففي رواية ابن سعد عن عكرمة قال: كان يومئذ يندر رأس الرجل لا يدري من ضربه، وتندر يد الرجل لا يدري من ضربها، وقال ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة. قال أبو داود المازني: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قد قتله غيري، وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب، أسيرا فقال العباس: إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق وما أراه في القوم. فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال: اسكت فقد أيدك الله بملك كريم (3)}.

(1) إمتاع الأسماع 1/ 78.

(2)

سورة الأنفال، الآية 11.

(3)

الرحيق المختوم للمباركفوري 243.

ص: 418

(فبينما هو جالس (أي أبو لهب) إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطب قد قدم فقال أبو لهب: هلم إلي فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكنافنا يقتلوننا كيف شاؤوا، ويأسروننا كيف شاؤوا. وايم الله مع ذلك ما لمت القوم، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء (1)) {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان (2)} .

القلة والكثرة: {إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور (3)} .

سيف عكاشة: وانقطع يومئذ سيف عكاشة بن محصن. فأعطاه النبي جذلا. من حطب: فقال: دونك هذا فلما أخذه عكاشة وهزه عاد في يده سيفا طويلا، فلم يزل عنده يقاتل به حتى قتل أيام أبي بكر، قتله طليحة الأسدي شهيدا (4)).

من المعجزات في أحد

النعاس: وأثناء هذا القتال المرير، كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله كما تحدث عنه القرآن. قال أبو طلحة: (كنت فيمن تغشاه النعاس

(1) المصدر نفسه 251.

(2)

سورة الأنفال الآية 12.

(3)

الأنفال / 43 و 44.

(4)

مختصر السيرة لابن محمد بن عبد الوهاب 187.

ص: 419

يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه (1)).

روى الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحد، وجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحث جحفته من النعاس.

{ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم .. (2)} .

عين قتادة: وأصيبت عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها وردها فعادت كما كانت ولم تضرب عليه بعدها وكان يقول بعدما أسن: هي أقوى عيني! وكانت أحسنهما (3)).

حنظلة غسيل الملائكة: وخرج حنظلة بن أبي عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوي الصفوف بأحد، فلما انكشف المشركون ضرب فرس أبي سفيان بن حرب فوقع على الأرض وصاح وحنظلة يريد ذبحه. فأدركه الأسود بن شعوب فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه - ومشى حنظلة إليه في الرمح وقد أثبته ثم ضربه الثانية فقتله؟ ونجا أبو سفيان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة. قال أبو أسيد الساعدي: فذهبنا إليه، فإذا رأسه يقطر ماء. فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أرسل إلى امرأته فسألها فأخبرته أنه خرج وهو جنب (4)).

حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم: في الصحيحين عن سعد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض، كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد، وفي رواية يعني جبريل وميكائيل (5).

(1) الرحيق المختوم 307 عن صحيح البخاري 2/ 582.

(2)

آل عمران من الآية 154.

(3)

إمتاع الأسماع 1/ 133.

(4)

إمتاع الأسماع 1/ 950.

(5)

الرحيق المختوم 301 عن صحيح البخاري 2/ 585.

ص: 420

وقال نافع بن جبير سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، ما معه أحد، ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، فخرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك (1).

سهم سعد: وفي مغازي الأموي أن المشركين صعدوا على الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: أجنبهم - يقول: أرددهم - فقال: كيف أجنبهم وحدي؟. فقال ذلك ثلاثا، فأخذ سعد سهما من كنانته، فرمى به رجلا فقتله، قال: ثم أخذت سهمي أعرفه فرميت به آخر، فقتلته، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته، فهبطوا من مكانهم، فقلت: هذا سهم مبارك، فجعلته في كنانتي، فكان عند سعد حتى مات، ثم كان عند بنيه (2).

من المعجزات في الخندق

في حفر الخندق: (إنا يوم خندق نحفر فعرضت علينا كدية شديدة فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر - ولبثنا ثلاثة لا نذوق ذواقا - فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب، فعاد كثيبا أهيل أو أهيم (أي صار رملا لا يتماسك (3)).

وقال البراء: لما كنا يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول. فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول فقال:

(1) المصدر نفسه عن زاد المعاد، 2/ 97.

(2)

المصدر نفسه عن زاد المعاد 2/ 95. ولقد رأيت بأم عيني قوس سعد وسهمه ضمن حاجز زجاجي في بيت خرب في المدينة المنورة عام 1493. ولعل الدار هدمت بعد ذلك وهي قريبة من المسجد النبوي.

(3)

المصدر نفسه عن البخاري 2/ 588.

ص: 421

بسم الله ثم ضرب ضربة وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام. والله إني لأنظر إلى قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله أكبر، أعطيت فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة، فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء مكاني (1).

جوع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين: كان المسلمون يعملون بهذا النشاط وهم يقاسون من شدة الجوع ما يفتت الأكباد. قال أنس: كان أهل الخندق يؤتوون بملء كفي من شعير. فيصنع لهم بإهالة سخنة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي لشعة في الحلق ولها ريح) (2).

وقال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين (3).

إطعام الله تعالى المسلمين ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم: وبهذه المناسبة وقع في حفر الخندق آيات من أعلام النبوة، رأى جابر بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفر، ورآه خميصا فأتى امرأته فأخبرها ما رأى من خمص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما عندنا شيء إلا هذه الشاة ومد من شعير، قال: فاطحني واصلحي. فطبخوا بعضها، وشووا بعضها، وخبزوا الشعير، ثم أتى جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد صنعت لك طعاما فأت أنت ومن أحببت من أصحابك. فشبك صلى الله عليه وسلم أصابعه بين أصابع جابر. ثم قال: أجيبوا جابرا يدعوكم. فاقبلوا معه، فقال جابر في نفسه: والله إنها الفضيحة! وأتى المرأة فأخبرها فقالت: أنت دعوتهم أم هو؟ فقال: بل هو دعاهم! قالت: دعهم، فهو أعلم، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه، وكانوا فرقا عشرة عشرة. ثم قال لجابر: اغرفوا وغطوا البرمة، وأخرجوا من التنور الخبز ثم غطوه ففعلوا، وجعلوا يغرفون ويغطون البرمة ثم يفتحونها فما يرونها نقصت

(1) المصدر نفسه عن سنن النسائي 2/ 56 وأحمد في مسنده.

(2)

الرحيق المختوم 341 عن صحيح البخاري 2/ 588.

(3)

المصدر نفسه عن البخاري 2/ 588.

ص: 422

شيئا؟ ويخرجون الخبز من التنور ويغطونه فما يرونه ينقص شيئا. فأكلوا حتى شبعوا وأكل جابر وأهله (1).

(وجاءت أخت النعمان بن بشير بحفنة من تمر إلى الخندق ليتغدى أبوه وخاله، فمرت برسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب منها التمر وبدده فوق ثوب، ثم دعا أهل الخندق فجعلوا يأكلون منه. وجعل التمر يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه وإنه يسقط من أطراف الثوب (2).

إسلام تميم بن مسعود وخطته الناجحة (3) -: ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعي الغطفاني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي. فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة. فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية، فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم؟ قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم ونساؤهم وأموالهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن أرادوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم دخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، يكونون بأبديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه، فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.

ثم خرج حتى أتى قريشا، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، إنه قد بلغني أمر قد رأيت

(1) إمتاع الأسماع 1/ 224 وقد أوردها البخاري في صحيحه 2/ 588، 589.

(2)

السيرة لابن هشام 3/ 228 - 229.

(3)

اعتبرنا إسلام نعيم من المعجزات الإلهية. لأن أي تخطيط بشري لا يضع في حسبانه انضمام قائد من أعدائه إليه، وتحطيم جيشه وجيش حلفائه. وذلك في قلب المعركة.

ص: 423

علي حقا أن أبلغكموه، نصحا لكم فاكتموا عني، فقالوا: نفعل؟ قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه، إنا قد ندمنا على ما فعلنا؟ فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم، فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من رقي منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: أن نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.

ثم خرج حتى حتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، إنكم أصلي وعشيرتي، وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني، قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، فما أمرك؟ ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم.

فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا، ونفرغ مما بيننا وبينه؟ فأرسلوا إليهم أن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا، فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا، حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب، واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك منه. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، وخلوا بينكم وبين

ص: 424

الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم وخذل الله بينهم (1).

الريح التي بعثها الله على الأحزاب والجنود التي لم يرها المؤمنون: وبعث الله عليهم الريح في ليالي شاتية باردة شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح أبنيتهم. فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم، وما فرق الله من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم، لينظر ما فعل القوم ليلا.

قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال:

قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، أرأيتم رسول الله وصحبتموه؟ قال: نعم، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد؟ قال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا. قال: فقال حذيفة: يا ابن أخى، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى رسول صلى الله عليه وسلم هويا من الليل ثم التفت إلينا فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع - يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة - أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من القوم، من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد، فلما لم يقم أحد، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني؟ فقال: يا حذيفة، إذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يصنعون، ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا. قال: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء. فقام أبو سفيان، فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه؟ قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان.

(1) السيرة لابن هشام 240 - 242.

ص: 425